موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (42 - 55)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ

غريب الكلمات:

تَنِيَا: أي: تَفتُرا، وتُقَصِّرا، وتَضعُفا، وأصلُ (وني): يدُلُّ على ضَعْفٍ [347] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 279)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/146)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 229)، ((تفسير ابن كثير)) (5/294)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975). .
يَفْرُطَ: أي: يبادِرَ ويَعجَلَ، والفَرَطُ: التقَدُّمُ والسَّبقُ، وأصلُه يدُلُّ على إزالةِ شَيءٍ مِن مكانِه، وتَنحيتِه عنه [348] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 279)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 514)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 631)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 229)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
يَطْغَى: أي: يستعصي ويتَعَدَّى، وأصلُ الطُّغيانِ: مجاوزةُ الحَدِّ في العِصيانِ [349] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 229)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988). .
بَالُ: أي: حالُ وشَأنُ، والبالُ: الحالةُ التي يُكتَرَثُ لها [350] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 279)، ((المفردات)) للراغب (ص: 155)، ((تفسير القرطبي)) (11/205). .
مَهْدًا: أي: فِراشًا قَرارًا ثابِتَةً، والمهدُ والمِهادُ: المكانُ المُمَهَّدُ الموطَّأُ، وأصلُ (مهد): يدُلُّ على توطئةٍ، وتسهيلٍ للشَّيءِ [351] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780)، ((تفسير ابن جزي)) (2/9)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219). .
وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا: أي: سهَّل لكم طرُقًا داخِلةً في الأرض مُتَخَلِّلةً فيها. والسَّلْكُ: إدخالُ الشَّيءِ في الشَّيءِ، والنُّفوذُ فيه، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتدادِ شَيءٍ [352] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/129)، ((البسيط)) للواحدي (14/420)، ((المفردات)) للراغب (ص: 421)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/296)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/237). .
أَزْوَاجًا: أي: أنواعًا وأصنافًا، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ [353] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/35)، ((المفردات)) للراغب (ص: 385)، ((تفسير القرطبي)) (11/209)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/101). .
نَبَاتٍ شَتَّى: أي: مختَلِفِ الألوانِ والطُّعومِ والأنواعِ، وشتَّى جمعُ شتيتٍ، والشَّتيتُ: المتفرِّقُ، وأصلُ (شتت): يدُلُّ على تفَرُّقٍ وتزَيُّلٍ [354] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 288)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/177)، ((المفردات)) للراغب (ص: 385، 445)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/23). .
لِأُولِي النُّهَى: أي: لأصحابِ العُقولِ. وواحِدُ النُّهى نُهيَةٌ؛ سمِّيَ بذلك لأنَّه يُنتهَى به عن القَبائِحِ، وأصلُه يدُلُّ على الحَبسِ [355] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/20)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 279)، ((البسيط)) للواحدي (14/422). .
تَارَةً أُخْرَى: أي: مرةً أُخرَى، قيل: هو مِن تار الجرحُ: الْتَأم. وقيل: الفعلُ منها: أترت، أي: أعدتُ، تارةً، وتارتينِ، وتِيَرًا [356] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 146)، ((البسيط)) للواحدي (13/400)، ((المفردات)) للراغب (ص: 169)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 318). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
قَولُه: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى في هذه الآيةِ وَجهانِ: أحدُهما: أن يكونَ كُلَّ مفعولًا أولَ، و خَلْقَهُ مَفعولًا ثانيًا، على معنى: أعطى كلَّ شيءٍ صورتَه وشكلَه الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ به، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصُّورةِ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه، ولا ما هو مخالِفٌ لخَلْقِه. والثاني: أن يكونَ كُلَّ مَفعولًا ثانيًا مُقَدَّمًا، وخَلْقَهُ مَفعولًا أوَّلَ مُؤخَّرًا، والمعنى: أعطى خليقتَه كلَّ شيءٍ يحتاجونَ إليه ويَرتفِقونَ به [357] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/1537)، ((التبيان)) للعكبري (2/892)، ((تفسير أبي حيان)) (7/340)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/46). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى مبينًا ما كلَّف به موسَى وهارونَ عليهما السلامُ: اذهَبْ -يا موسى- أنت وأخوك هارونُ بأدلَّتي ومُعجِزاتي الدالَّةِ على صِدقِكما، ولا تَضْعُفا عن ذِكري، بل داوما عليه. اذهبَا معًا إلى فِرعَونَ؛ لأنَّه قد جاوز الحَدَّ في الكُفرِ والظُّلمِ والعِصيانِ، فقُولا له قَولًا لَطيفًا لا غلظةَ فيه؛ وأنتما ترجوانِ أن يتذكَّرَ أو يخافَ حلولَ العذابِ فيطيعَ ربَّه.
ثمَّ يحكي الله تعالى ما قاله موسَى وهارونُ عندما كلَّفهما بما كلَّفهما به، فيقولُ تعالى: قال موسى وهارونُ: ربَّنا إنَّنا نخافُ أن يُعاجِلَنا بالعُقوبةِ، أو أن يتمَرَدَّ على الحَقِّ فلا يقبَلَه.
قال الله لِموسى وهارونَ مثبتًا لهما: لا تخافَا مِن فِرعَونَ؛ فإنَّني معكما بالنَّصرِ والإعانةِ والحِفظِ، أسمَعُ وأرى.
 ثمَّ بيَّن الله تعالى لهما طريقةَ دعوةِ فرعونَ، فقال: فاذهبَا إليه وقولَا له: إنَّنا رسولانِ إليك من رَبِّك، فأطلِقْ بني إسرائيلَ ولا تُعَذِّبْهم، قد أتيناك بمُعجزةٍ مِن رَبِّك تدُلُّ على صِدقِنا، والسَّلامةُ مِن عذابِ اللهِ تعالى لِمَن اتَّبَع هُداه. إنَّ الله قد أوحَى إلينا أنَّ عذابَه على مَن كذَّب، وأعرَضَ عن اتِّباعِ الحَقِّ.
ثمَّ ذكَر الله تعالى جانبًا مِن الحوارِ الذي دارَ بينَهما وبينَ فرعونَ، فقال تعالى: قال فِرعَونُ لهما: فمَن ربُّكما يا موسى؟ قال له موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ مخلوقٍ صورتَه وشكلَه اللَّائِقَ به، وأعطاهم كلَّ ما يَحتاجونَه، ثمَّ هدى كلَّ مخلوقٍ إلى الانتِفاعِ بما خلَقَه الله له. قال فِرعَونُ لِموسى: فما شأنُ القُرونِ الماضيةِ، الذين لم يؤمِنْ أهلُها باللهِ؟ قال موسى لفِرعَونَ: عِلْمُ تلك القرونِ الماضيةِ وأعمالُ أهلِها كُلُّها مكتوبةٌ عند ربِّي في اللَّوحِ المحفوظِ، ولا عِلْمَ لي بهم، لا يخطئُ رَبِّي في أفعالِه وأحكامِه وتدبيرِ خَلقِه، ولا ينسى شيئًا مِن أعمالِ عبادِه، ولا يتركُ ما هو حكمةٌ وصوابٌ.
هو الذي جعل لكم الأرضَ مُمهَّدةً تَسكُنونَ عليها، وميسَّرةً للانتِفاعِ بها، وجعلَ لكم فيها طرُقًا كثيرةً، وأنزلَ مِن السَّماءِ مَطَرًا، فأخرجَ به أنواعًا مختلفةً مِن النَّباتِ.
كُلُوا -أيُّها النَّاسُ- من طيِّباتِ ما أنبَتْنا لكم، وارعَوا فيها بَهائِمَكم، إنَّ في كلِّ ما ذُكِرَ لَعلاماتٍ لذوي العُقولِ على قُدرةِ الله ورحمتِه واستحقاقِه للعبادةِ.
 مِن هذه الأرضِ خَلَقْنا أباكم آدَمَ، الذي هو أصلُكم، وإليها تعودونَ بعدَ مَوتِكم، ومِنها تُبعَثونَ للحِسابِ والجزاءِ يومَ القيامةِ.

تفسير الآيات:

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا عَدَّد اللهُ سُبحانَه وتعالى على موسى -عليه السَّلامُ- المِنَنَ الثَّمانيةَ [358] قال الرازي: (المِنَّةُ الأولَى: قولُه: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ... المِنَّةُ الثَّانيةُ: قولُه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي... المِنَّةُ الثَّالثةُ: قولُه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي... المِنَّةُ الرَّابعةُ: قولُه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ... والمِنَّةُ الخامسةُ: قولُه: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ... المِنَّةُ السَّادسةُ: قولُه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا... المِنَّةُ السَّابعةُ: قولُه تعالَى:فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى... المِنَّةُ الثَّامنةُ: قولُه تعالَى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). ((تفسير الرازي)) (22/46). في مقابلةِ الالتماساتِ الثمانيةِ، رَتَّب على ذِكرِ ذلك أمرًا ونهيًا [359] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢٢/٥١-52). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى أمَرَ موسى -عليه السَّلامُ- بالذَّهابِ إلى فِرعَونَ، فلمَّا دعا ربَّه وطلب منه أشياءَ، كان فيها أن يُشرِكَ أخاه هارونَ، فذَكَرَ اللهُ أنَّه آتاه سُؤلَه، وكان منه إشراكُ أخيه، فأمَرَه هنا وأخاه بالذَّهابِ [360] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/336). .
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي.
أي: اذهَبْ أنت وأخوك هارونُ إلى فِرعَونَ بأدلَّتي وحُجَجي ومُعجِزاتي الدالَّةِ على صِدقِكما [361] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/72، 73)، ((تفسير البيضاوي)) (4/28)، ((تفسير ابن كثير)) (5/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506). قال أبو السعود: (أي: بمُعجِزاتي التي أريتُكَها من اليدِ والعصا؛ فإنَّهما وإن كانتا اثنتينِ لكِنْ في كلٍّ منهما آياتٌ شتَّى، كما في قَولِه تعالى: فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران: 97] ؛ فإنَّ انقلابَ العصا حيوانًا آيةٌ، وكَونَها ثعبانًا عَظيمًا لا يُقادَرُ قَدرُه آيةٌ أخرى، وسُرعةَ حَركتِه مع عِظَمِ جِرْمِه آيةٌ أخرى، وكَونَه مع ذلك مُسَخَّرًا له عليه السَّلامُ... آيةٌ أخرى، ثمَّ انقِلابَها عصًا آيةٌ أخرى، وكذلك اليَدُ؛ فإنَّ بياضَها في نفسِه آيةٌ، وشُعاعَها آيةٌ، ثمَّ رُجوعَها إلى حالتِها الأولى آيةٌ أخرى). ((تفسير أبي السعود)) (6/17). وقال الشنقيطي: (قال بَعضُ أهلِ العِلمِ: المرادُ بالآياتِ في قَولِه هنا: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي الآياتُ التِّسعُ المذكورةُ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101] ، وقَولِه: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ [النمل: 12] ، والآياتُ التِّسعُ المذكورةُ هي: العصا، واليدُ البيضاءُ... إلى آخِرِها). ((أضواء البيان)) (4/14). ويُنظر:  ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/289-290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا [الفرقان: 35، 36].
وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي.
أي: ولا تَضعُفا، ولا تَفتُرا عن ذِكري، بل لازِماه واستَمِرَّا عليه [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/73)، ((تفسير ابن كثير)) (5/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/14). وممن اختار المعنى المذكورَ: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر المصادر السابقة. قال ابنُ كثير: (والمرادُ أنهما لا يفتُرانِ في ذكرِ الله، بلْ يذكرانِ الله في حالِ مواجهةِ فِرعَونَ، ليكونَ ذكرُ الله عونًا لهما عليه، وقوةً لهما، وسلطانًا كاسرًا له). ((تفسير ابن كثير)) (5/294). وقال الرسعني: (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي أي: لا تَفْتُرا... المعنى: لا تنسياني، وليكنْ دأبُكما وشعارُكما ذِكْري. وقيل: المعنى: لا تَنِيَا في تبليغِ رسالتي، وهو يدخلُ في القولِ الأوَّلِ؛ لأنَّ تبليغَ الرسالةِ مِن جملةِ ذِكرِ الله تعالى). ((تفسير الرسعني)) (4/510). .
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43).
أي: اذهَبا إلى فِرعَونَ؛ لأنه تمرَّدَ وتجاوَز الحَدَّ في الكفرِ والعِصيانِ، والتكَبُّرِ والعُدوانِ [363] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 695)، ((تفسير ابن كثير)) (5/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/224). .
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44).
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا.
أي: فقُولا له عندَ دعوتِه إلى الله قولًا رقيقًا لطيفًا، لا غِلظةَ فيه، ولا تنفيرَ [364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/74)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 695)، ((تفسير ابن كثير)) (5/294، 295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/225)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/15). قال السعدي: (وقد فُسِّر القولُ الليِّنُ في قولِه: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 18، 19] فإنَّ في هذا الكلامِ مِن لطفِ القول، وسهولتِه، وعدمِ بشاعته ما لا يخفَى على المتأمِّلِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 506). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةِ أبي صالحٍ عنه، ومقاتلٌ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/28)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/160). وقيل غير ذلك في تفسيرِ القولِ اللينِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/160). .
كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19].
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.
أي: اذهَبا إلى فِرعَونَ وأنتما تَرجُوانِ [365] قال الشنقيطي: («لعلَّ» في القرآنِ بمعنى التعليلِ، إلا التي في سورةِ «الشعراء» : وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء: 129] فهي بمعنى كأنَّكم... وقال بعضُ أهلِ العلمِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى معناه على رجائِكما وطمعِكما، فالترجِّي، والتوقعُ المدلولُ عليه بـ «لعلَّ» راجعٌ إلى جهةِ البشرِ. وعزا القرطبيُّ هذا القولَ لكبراءِ النحويينَ، كسيبويه، وغيرِه). ((أضواء البيان)) (4/16). وقال الرسعني: (وقال الفراءُ وكثيرٌ مِن المفسرينَ والنَّحْويينَ : «لعله» بمعنى: لكي). ((تفسير الرسعني)) (4/512). وممَّن قال بأنَّ لعلَّ هنا تعني الرَّجاءَ الصَّادر من موسى وهارون: الواحدي، وابنُ عطية، والقرطبي وأبو حيان، ومحمد رشيد رضا. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 696)، ((تفسير ابن عطية)) (4/46)، ((تفسير القرطبي)) (11/200- 201)، ((تفسير أبي حيان)) (7/337)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (1/156). قال ابن عاشور: (الترجِّي المستفادُ مِن «لَعَلَّ» إما تمثيلٌ لشأنِ الله في دعوةِ فِرعَون بشأنِ الراجي، وإما أن يكون إعلامًا لموسى وفِرعَونَ بأن يرجوا ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (16/225). قال ابنُ القَيِّم: (التَّعليلُ بـ «لعلَّ»، وهي في كلامِ اللهِ سُبحانَه وتعالى للتَّعليلِ مجَرَّدةً عن معنى الترجِّي؛ فإنَّها إنَّما يقارنُها معنى الترجِّي إذا كانت مِنَ المخلوقِ، وأمَّا في حَقِّ مَن لا يصِحُّ عليه الترجِّي؛ فهي للتَّعليلِ المحضِ، كقَولِه تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ...، ومنه قَولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وقَولُه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وقَولُه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى؛ فـ «لعَلَّ» في هذا كُلِّه قد أُخلِصَت للتَّعليلِ، والرَّجاءُ الذي فيها متعَلِّقٌ بالمُخاطَبينَ). ((شفاء العليل)) (ص: 196). قال ابنُ جرير: (قولُه: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى اختُلِفَ في معنى قَولِه: لَعَلَّهُ في هذا الموضِعِ، فقال بعضُهم: معناها هاهنا الاستفهامُ، كأنَّهم وجَّهوا معنى الكلامِ إلى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا فانظُرا هل يتذكَّرُ ويُراجِعُ، أو يخشى اللهَ فيرتَدِعَ عن طُغيانِه... وقال آخرون: معنى «لعل» هاهنا «كي»، ووجَّهوا معنى الكلامِ إلى اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فادعُواه وعِظاه ليتذَكَّرَ أو يخشى، كما يقولُ القائِلُ: اعمَلْ عَمَلَك؛ لعلَّك تأخذُ أجرَك، بمعنى: لتأخُذَ أجرَك، وافرُغْ مِن عَمَلِك لعلَّنا نتغَدَّى، بمعنى: لنتغَدَّى، أو حتى نتغَدَّى، ولكلا هذين القولينِ وجهٌ حَسَنٌ، ومذهبٌ صَحيحٌ). ((تفسير ابن جرير)) (16/75). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/201). بقَولِكما اللَّيِّنِ أن يتذكَّرَ ما هو غافِلٌ عنه مِن التَّوحيدِ الموافِقِ لِما في فطرتِه مِن العِلمِ الذي يَعرِفُ به رَبَّه، ويَعرِفُ إنعامَه عليه وإحسانَه إليه، وافتقارَه إليه، فيَدعُوَه ذلك إلى الإيمانِ باللهِ والرُّجوعِ عن ضلالِه؛ أو يخشى حُلولَ العَذابِ فيَترُكَ طغيانَه، ويُطيعَ ربَّه [366] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/75)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/338)، ((تفسير ابن كثير)) (5/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/226). وقال ابنُ كثير: (التَّذكُّرُ: الرُّجوعُ عن المحذورِ، والخشيةُ: تحصيلُ الطَّاعةِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/295). وقال الشوكاني: (والتذكيرُ: النَّظَرُ فيما بَلَّغاهُ مِن الذكرِ، وإمعانُ الفكرِ فيه حتَّى يكونَ ذلك سببًا في الإجابةِ، والخشيةُ هي خشيةُ عقابِ اللَّهِ الموعودِ به على لسانِهما. وكلمةُ «أو» لمنعِ الخلُوِّ دونَ الجمعِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/433). قال البقاعي: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ما مرَّ له من تطويرِ الله له في أطوارٍ مختلفةٍ، وحمله فيما يكرهُ على ما لم يقدِرْ على الخلاصِ منه بحيلةٍ، فيعلمُ بذلك أنَّ الله ربُّه، وأنَّه قادرٌ على ما يريدُ منه، فيرجع عن غيِّه فيؤمن أَوْ يَخْشَى أي: أو يصلُ إلى حالِ مَن يخافُ عاقبةَ قولِكما لتوهُّمِ الصدقِ). ((نظم الدرر)) (12/290). وقال ابنُ عاشور: (أي: لعلَّه ينظرُ نظرَ المتبصرِ فيعرف الحقَّ، أو يخشَى حلولَ العقابِ به فيطيعُ عن خشيةٍ لا عن تبصُّرٍ...، فالتذكُّر: أن يعرفَ أنه على الباطلِ، والخشية: أن يترددَ في ذلك فيخشى أن يكونَ على الباطلِ، فيحتاطُ لنفسِه بالأخذِ بما دعاه إليه موسَى). ((تفسير ابن عاشور)) (16/226). .
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45).
أي: قال موسى وهارونُ: ربَّنا إنَّنا نخافُ مِن فِرعونَ أن يعجِّلَ بعُقوبتِنا قبلَ أن نَدعُوَه إلى ما أمَرْتَنا به، أو أن يتكبَّرَ ويتمرَّدَ على طاعتِك [367] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/76)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 696)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/227). .
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46).
قَالَ لَا تَخَافَا.
أي: قال اللهُ لهما: لا تخافَا مِن فِرعَونَ [368] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/77)، ((تفسير ابن كثير)) (5/296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506). .
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.
أي: إنَّني معكما بالنَّصرِ والإعانةِ والحِفظِ والتَّأييدِ، أسمَعُ كلامَكما وكلامَ فِرعَونَ، وأراكم وأرى أفعالَكم وأحوالَكم جميعًا؛ فاطمَئِنَّا ولا تخافا منه [369] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/77)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 696)، ((تفسير القرطبي)) (11/203)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/104)، ((تفسير ابن كثير)) (5/296)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/471)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506). .
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47).
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ.
أي: فاذهَبا إلى فِرعَونَ فقولا له: إنَّا رَسولانِ إليك مِن رَبِّك الذي خلَقَك وربَّاك [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/77، 78)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/292)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/16). .
كما قال تعالى: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 16، 17].
فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ.
أي: فأطلِقْ بني إسرائيلَ لِيذهَبوا معنا، ولا تُعَذِّبْهم باستعبادِهم، وتَذبيحِهم، وتكليفِهم الأعمالَ الشاقَّةَ [371] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/46)، ((تفسير الرسعني)) (4/513)، ((تفسير ابن جزي)) (2/8)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/292)، ((تفسير الشوكاني)) (3/435). وممن اختار المعنى المذكورَ في قولِه: وَلَا تُعَذِّبْهُمْ: ابنُ عطيةَ، والرسعني، وابنُ جُزي، والبقاعي، والشوكاني. يُنظر المصادر السابقة. قال الشنقيطي: (العذابُ الَّذي نهَى اللَّهُ فرعونَ أنْ يفعلَه ببني إسرائيلَ: هو المذكورُ في سورةِ «البقرةِ» في قولِه: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49]، وفي سورةِ «إبراهيمَ» في قولِه تعالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [إبراهيم: 6] ، وفي سورةِ «الأعرافِ» في قولِه تعالَى: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [الأعراف: 141]، وفي سورةِ «الدُّخانِ» في قولِه: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان: 30-31]، وفي سورةِ «الشُّعراءِ» في قولِه: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 22] ). ((أضواء البيان)) (4/16). وممن اقتصر في تفسيرِ العذابِ على السخرةِ والأعمالِ الشاقةِ: ابنُ جريرٍ، والواحدي، والقرطبي، والعليمي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/78)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 696)، ((تفسير القرطبي)) (11/203)،  ((تفسير العليمي)) (4/297)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/229). .
قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ.
أي: قد أتيناك بمعجزةٍ من ربِّك تدلُّ على صِدقِنا [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/78)، ((تفسير ابن كثير)) (5/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506). قال الشنقيطي: (قولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ يرادُ به جنسُ الآيةِ الصَّادِقُ بالعصا واليد وغيرِهما؛ لدَلالةِ آياتٍ أُخَرَ على ذلك). ((أضواء البيان)) (4/17). .
كما قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 30 - 33] .
وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
أي: والسَّلامةُ مِن سَخَطِ الله وعذابِه في الدُّنيا والآخرةِ لِمن اتَّبَعَ هدى اللهِ الَّذي شرَعَه لعبادِه [373] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/78)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/358)، ((تفسير ابن كثير)) (5/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506). .
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48).
أي: إنَّا قد أوحَى اللهُ إلينا أنَّ عذابَه في الدُّنيا والآخرةِ [374] قال القرطبي: (يعني الهلاكَ والدَّمارَ في الدنيا، والخلودَ في جهنَّمَ في الآخرة). ((تفسير القرطبي)) (11/204). على من كذَّب بالحَقِّ، فلم يؤمِنْ باللهِ وما جاءَتْ به رسُلُه، وأعرَض عن اتِّباعِ الحَقِّ، وطاعةِ اللهِ [375] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/78)، ((تفسير القرطبي)) (11/204)، ((تفسير ابن كثير)) (5/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506). .
كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14-16] .
وقال سُبحانَه: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة: 31 - 35] .
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49).
أي: فلمَّا أتَى موسَى وهارونُ إلى فِرعَونَ، وكلَّماه بما أمَرَهما الله، قال فِرعَونُ: فمَنْ ربُّكما الذي تعبُدانِه -يا موسى- وتَزعُمانِ أنَّه أرسَلَكما إليَّ [376] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/79)، ((تفسير البغوي)) (3/264)، ((تفسير ابن كثير)) (5/297)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/18). ؟
كما قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] .
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50).
أي: قال موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ مخلوقٍ صُورتَه التي تمَيِّزُه، وشَكلَه الذي يناسِبُه، وأعطى كلَّ ذكَرٍ وأنثَى الشَّكلَ المُناسِبَ له من جِنسِه في المناكحةِ، والأُلفةِ والاجتِماعِ، وأعطاهم كلَّ ما يحتاجونَه، ثمَّ هدى كلَّ مخلوقٍ إلى تحصيلِ مَنافِعِه، والحَذَرِ مِن مضارِّه [377] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/47)، ((تفسير القرطبي)) (11/204، 205)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 66، 78، 79)، ((تفسير ابن كثير)) (5/297، 298)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 506)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/232)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/19، 20). قال الماوَردي: (قَولُه تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى فيه ثلاثةُ تأويلاتٍ: أحدُها: أعطى كُلَّ شَيءٍ زَوجَه مِن جِنسِه، ثمَّ هداه لنِكاحِه. قاله ابنُ عبَّاسٍ والسُّدِّي. الثَّاني: أعطى كلَّ شَيءٍ صُورتَه، ثمَّ هداه إلى معيشتِه ومَطعَمِه ومَشرَبِه. قاله مجاهِدٌ... الثَّالثُ: أعطى كُلًّا ما يُصلِحُه، ثمَّ هداه له. قاله قتادةُ. ويحتَمِلُ رابعًا: أعطى كلَّ شَيءٍ ما ألهَمَه مِن عِلمٍ أو صناعةٍ، وهداه إلى مَعرفتِه). ((تفسير الماوردي)) (3/406). وقال الرسعني: (وقد رُوي عن ابنِ عبَّاسٍ معنيان: أحدُهما: أعطى كلَّ حَيوانٍ شَكْلَه وصُورتَه؛ فأعطى الرَّجُلَ المرأةَ، وأعطى البَعيرَ النَّاقةَ، وأمثالُ ذلك. والثاني: أعطى كلَّ نوعٍ مِن أنواعِ الحيوانِ صُورةً مختَصَّةً به مُغايِرةً لسائِرِ أنواعِ الحيوانِ؛ فصورةُ الآدميِّ ليست كصورةِ الفَرَس، وليست كصورةِ الجَمَل، ونحوُ ذلك). ((تفسير الرسعني)) (4/514). قال ابن جزي: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ المعنى: أنَّ الله أعطَى خلقَه كلَّ شيءٍ يحتاجونَ إليه، فـ خَلْقَهُ على هذا بمعنى المخلوقينَ، وإعرابُه مفعولٌ أولُ، وكُلَّ شَيْءٍ مفعولٌ ثانٍ. وقيل: المعنى أعطَى كلَّ شيءٍ خلقتَه وصورتَه، أي: أكملَ ذلك وأتقنَه، فالخلقُ على هذا بمعنى الخِلقةِ، وإعرابُه مفعولٌ ثانٍ، وكُلَّ شَيْءٍ مفعولٌ أولُ. والمعنى الأولُ أحسنُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/8). وقال ابنُ القَيِّم: (أي: أعطى كلَّ شَيءٍ صُورتَه التي لا يَشتَبِهُ فيها بغيرِه، وأعطى كلَّ عُضوٍ شَكلَه وهَيئتَه، وأعطى كُلَّ موجودٍ خَلْقَه المختَصَّ به، ثمَّ هداه إلى ما خَلَقَه له من الأعمالِ، وهذه هدايةُ الحيوانِ المتحَرِّك بإرادتِه إلى جَلبِ ما ينفَعُه، ودَفعِ ما يضُرُّه، وهدايةُ الجَمادِ المسَخَّر لما خُلِقَ له، فله هدايةٌ تليقُ به كما أنَّ لكُلِّ نَوعٍ مِن الحيوانِ هِدايةً تليقُ به، وإن اختَلَفَت أنواعُها وصُوَرُها، وكذلك كُلُّ عُضوٍ له هِدايةٌ تَليقُ به؛ فهدى الرِّجلينِ للمَشي، واليدينِ للبَطشِ والعَمَل، واللِّسانَ للكلام، والأذُنَ للاستِماعِ، والعينَ لِكَشفِ المرئيَّات، وكلَّ عُضوٍ لما خُلِق له، وهدى الزَّوجينِ مِن كُلِّ حَيوانٍ إلى الازدواجِ والتناسُلِ وتربيةِ الولد، وهدى الولدَ إلى التقامِ الثَّديِ عند وَضعِه، وطَلَبِه، ومراتِبُ هدايتِه سُبحانَه لا يُحصيها إلَّا هو، فتباركَ اللهُ رَبُّ العالمينَ!). ((بدائع الفوائد)) (2/35). قال ابنُ الجوزي: وفي قَولِه: (ثُمَّ هَدَى ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: هدى كيف يأتي الذَّكَرُ الأُنثى. رواه الضحَّاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ، وبه قال ابنُ جُبَير. والثاني: هدى للمَنكَحِ والمَطعَمِ والمَسكَنِ. رواه ابنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ. والثالثُ: هدى كلَّ شَيءٍ إِلى معيشتِه. قاله مجاهِدٌ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/161). وقال الشنقيطي: (لا مانعَ من شمولِ الآيةِ الكريمةِ لجميعِ الأقوالِ المذكورة؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ الله أعطى الخلائقَ كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريقِ الانتفاعِ به. ولا شكَّ أنه أعطى كلَّ صنفٍ شكلَه وصورتَه المناسبةَ له، وأعطَى كلَّ ذكرٍ وأنثى الشكلَ المناسبَ له من جنسِه في المناكحةِ، والألفةِ، والاجتماعِ. وأعطَى كلَّ عضوٍ شكلَه الملائمَ للمنفعةِ المنوطةِ به، فسبحانه جلَّ وعلا! ما أعظمَ شأنَه وأكملَ قدرتَه!). ((أضواء البيان)) (4/20). .
كما قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .
وقال سُبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 2، 3].
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا استدَلَّ موسى عليه السَّلامُ بالدَّلالةِ القاطِعةِ على إثباتِ الصَّانعِ؛ قدحَ فِرعَونُ في تلك الدَّلالةِ بقَولِه: إن كان الأمرُ في قُوَّةِ هذه الدَّلالةِ على ما ذكَرْتَ، وجبَ على أهلِ القُرونِ الماضيةِ ألَّا يكونوا غافِلينَ عنها، فعارَضَ الحُجَّةَ بالتَّقليدِ [378] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/59). .
وأيضًا فإنَّ موسَى عليه السلامُ هدَّد بالعذابِ أوَّلًا في قَولِه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48]، فقال فِرعَون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؛ فإنَّها كذَّبتْ، ثمَّ إنَّهم ما عُذِّبوا [379] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/59). ؟
وأيضًا لمَّا أجابَهُ مُوسى بجوابٍ مُسْكِتٍ، ولم يقدِرْ فِرعونُ على مُعارضَتِه فيه؛ انتقَلَ إلى سُؤالٍ آخرَ، وهو: ما حالُ مَن هلَكَ من القُرونِ؟ وذلك على سَبيلِ الرَّوغانِ عن الاعترافِ بما قال مُوسى عليه السَّلامُ، وما أجابَه به، والحَيدةِ، والمُغالَطةِ [380] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/340). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (22/59). .
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51).
أي: قال فِرعَونُ: فما شأنُ القُرونِ الماضيةِ مِن قَبلِنا، الذين لم يؤمِنْ أهلُها باللهِ، وعَبَدوا غَيرَه؟ فلو كان ما تقولُه حَقًّا، لم يخْفَ على القُرونِ الأُولى ولم يُهمِلوه [381] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/82)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 79)، ((تفسير ابن كثير)) (5/298). وقال السعدي: (أي: ما شأنُهم، وما خبَرُهم؟! وكيف وصلَت بهم الحالُ وقد سبقونا إلى الإنكارِ والكُفرِ والظُّلمِ والعِناد؟ ولنا فيهم أُسوةٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 506). .
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52).
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ.
أي: قال له موسى: عِلمُ القُرونِ الماضيةِ وأعمالُ أهلِها كُلُّها مكتوبةٌ عندَ رَبِّي في اللَّوحِ المحفوظِ [382] ممن اختار أنَّ الكتابَ هنا المرادُ به: اللوحُ المحفوظُ: مقاتلُ بنُ سليمان، والسمرقندي، والثعلبي، والواحدي، والبغوي، والثعالبي، والقرطبي، والعليمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/29)، ((تفسير السمرقندي)) (2/402)، ((تفسير الثعلبي)) (6/247)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 697)، ((تفسير البغوي)) (3/264)، ((تفسير الثعالبي)) (4/57)، ((تفسير القرطبي)) (11/205)، ((تفسير العليمي)) (4/298)، ((تفسير الشوكاني)) (3/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507). وقال ابنُ عطية: (وقوله: فِي كِتَابٍ يريدُ في اللوحِ المحفوظِ، أو فيما كتَبه الملائكةُ مِن أحوالِ البشرِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/47). وقال ابنُ كثيرٍ: (وهو اللَّوحُ المحفوظُ وكِتابُ الأعمالِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/298). وقال ابن القيم: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي أي: أعمالُ تلك القُرونِ وكُفرُهم وشِركُهم معلومٌ لرَبِّي، قد أحصاه وحَفِظَه وأودَعَه في كتابٍ، فيُجازيهم عليه يومَ القيامةِ، ولم يُودِعْه في كتابٍ خَشيةَ النِّسيانِ والضَّلالِ؛ فإنَّه سُبحانَه لا يَضِلُّ ولا ينسى، وعلى هذا فالكِتابُ هاهنا كتابُ الأعمالِ، وقال الكلبي: «يعني به اللَّوحَ المحفوظَ»، وعلى هذا فهو كتابُ القَدَرِ السَّابق، والمعنى على هذا أنَّه سبحانَه قد عَلِمَ أعمالَهم وكَتَبَها عنده قبل أن يَعمَلوها، فيكونُ هذا من تمامِ قَولِه: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى فتَأمَّلْه). ((شفاء العليل)) (ص: 79). ، فهم إنْ لم يُؤمِنوا باللهِ ويَعبُدوه وَحدَه، فسيُجازيهم على ذلك ولا علمَ لي بهم [383] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/82، 83)، ((تفسير القرطبي)) (11/205)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 79)، ((تفسير ابن كثير)) (5/298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507). .
لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى.
أي: لا يَشِذُّ عن عِلمِ رَبِّي شَيءٌ، ولا يفوتُه صَغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا ينسَى شيئًا، فلا يُخطئُ في أفعالِه وتدبيرِ خَلقِه [384] قال ابن جرير: (فإن كان عَذَّب تلك القرونَ في عاجلٍ، وعَجَّل هلاكَها؛ فالصَّوابُ ما فعَلَ، وإن كان أخَّرَ عِقابَها إلى القيامةِ، فالحَقُّ ما فَعَل؛ هو أعلَمُ بما يَفعَلُ، لا يُخطِئُ رَبِّي). ((تفسير ابن جرير)) (16/83). ، ولا ينسى شيئًا مِن أعمالِ عبادِه وأحوالِهم وأخبارِهم، ولا يَترُكُ فِعلَ ما هو حِكمةٌ وصَوابٌ [385] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/83، 84)، ((تفسير ابن كثير)) (5/298)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507). .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53).
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا.
أي: اللهُ الذي جعَل لكم الأرضَ مُمهَّدةً تَسكُنونَ عليها، وتستَقِرُّونَ بها، وتَمشونَ وتُسافِرونَ على ظَهرِها، وتتمكَّنونَ مِن زَرعِها وغَرسِها، والبناءِ عليها وغيرِ ذلك [386] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/236)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/21). قيل: هذه الآيةُ معترضةٌ في أثناء قِصَّة موسى، وليست من كلامِه، وممن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ القيمِ، وابنُ كثير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((التبيان)) لابن القيم (ص: 263)، ((تفسير ابن كثير)) (5/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/235). قال الشنقيطي: (والتَّحقيقُ أنَّه يَتَعَيَّنُ كونُه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ [أي: هو الَّذِي جَعَل لكم الأرضَ]؛ لأنَّه كلامٌ مستأْنفٌ مِن كلامِ اللَّهِ. ولا يصِحُّ تَعَلُّقُه بقولِ مُوسَى لَا يَضِلُّ رَبِّي؛ لأنَّ قولَه: فَأَخْرَجْنَا يُعَيِّنُ أنَّه مِن كلامِ اللَّهِ، كما نَبَّهَ عليه أبو حَيَّانَ في «البحرِ»، والعلمُ عندَ اللَّهِ تعالَى). ((أضواء البيان)) (4/21). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/61)، ((تفسير أبي حيان)) (7/343). وقيل: بل كلامُ موسى مستمِرٌّ إلى قَولِه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، ثم قال الله تعالى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ. وممن ذهب إلى هذا القول: الواحدي، والقرطبي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 697)، ((تفسير القرطبي)) (11/209). وقيل: يحتملُ أنْ يكونَ فَأَخْرَجْنَا مِن كلامِ موسَى حكايةً عن اللَّهِ تعالَى على تقديرِ: يقولُ عزَّ وجلَّ: فَأَخْرَجْنَا. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/9). .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22].
وقال سُبحانه: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48].
وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15] .
وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النبأ: 6] .
وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا.
أي: وجعل اللهُ لأجْلِكم في الأرضِ بينَ أوديَتِها وجِبالِها طُرُقًا كثيرةً تَمشونَ فيها [387] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/85)، ((تفسير البغوي)) (3/264)، ((تفسير ابن كثير)) (5/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/237)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/23). .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف: 10] .
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.
مناسبتُها لما قبلَها:
لَمَّا ذَكَر مِنَّةَ خَلْقِ الأرضِ؛ شَفَعها بمِنَّةِ إخراجِ النَّباتِ منها بما ينزِلُ عليها مِن السَّماءِ مِن ماءٍ [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/237). ، فقال تعالى:
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً.
أي: وأنزل اللهُ من السَّماءِ مَطرًا [389] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/85)، ((البسيط)) للواحدي (14/420)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507). .
فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.
أي: فأخرَجْنا بسَبَبِ المطَرِ أصنافًا من النَّباتاتِ المختلفةِ الألوانِ، والأشكالِ، والرَّوائِحِ، والطُّعومِ، والمنافِعِ [390] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/85)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 697)، ((تفسير ابن كثير)) (5/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/22). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 99] .
وقال سُبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10، 11].
وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج: 63].
وقال جلَّ جلاله: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان: 10] .
وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر: 27] .
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54).
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ.
أي: كلُوا -أيُّها النَّاسُ- مِن طَيِّبِ ما أنبَتْنا لكم من الأرضِ مِن الحُبوبِ والثِّمارِ، وارعَوا فيها إبِلَكم وبَقَرَكم وغنَمَكم [391] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/86)، ((تفسير ابن كثير)) (5/299)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 410)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/23). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] .
وقال سُبحانَه: أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة: 27] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.
أي: إنَّ في ذلك [392] قال أبو حيان: (وأشار بقولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ للآياتِ السَّابقةِ مِن جَعلِ الأرضِ مَهدًا، وسَلْكِ سُبُلِها، وإنزالِ الماءِ، وإخراجِ النباتِ). ((تفسير أبي حيان)) (7/344). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/437). لعَلاماتٍ لأُولي العُقولِ تدُلُّهم على وحدانيَّةِ اللهِ، وقُدرتِه، ورَحمتِه، وأنَّه المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحدَه لا شريكَ له [393] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/86)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/436)، ((تفسير ابن كثير)) (5/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/24). .
كما قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4] .        
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 24] .
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه منافِعَ الأرضِ والسَّماءِ؛ بيَّنَ أنَّها غيرُ مَطلوبةٍ لِذاتِها، بل هي مطلوبةٌ لِكَونِها وسائِلَ إلى منافِعِ الآخرةِ [394] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/62). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ كَرَمَ الأرضِ، وحُسْنَ شُكرِها؛ لِما يُنزِلُه الله عليها مِنَ المطرِ، وأنَّها بإذنِ رَبِّها تُخرِجُ النَّباتَ المختَلِفَ الأنواعِ؛ أخبَرَ أنَّه خلَقَنا منها [395] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 507-508). ، فقال:
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ.
أي: مِن تُرابِ الأرضِ خَلَقْنا -أيُّها النَّاسُ- أباكم آدَمَ الذي هو أصلُكم، وأنتم ذريَّتُه [396] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/87)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/359)، ((تفسير الزمخشري)) (3/69)، ((تفسير ابن عطية)) (4/48)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/162)، ((تفسير ابن كثير)) (5/299)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/24). قال الشنقيطي: (التحقيقُ أن معنى خلْقِه تعالى النَّاسَ من ترابٍ أنَّه خلق أباهم آدَمَ منها... وما يزعُمُه بعضُ أهلِ العلم من أنَّ معنى خَلْقِهم من ترابٍ أنَّ النطفةَ إذا وقَعَت في الرَّحِمِ انطلق المَلَك الموكَّلُ بالرَّحِمِ فأخذ من ترابِ المكانِ الذي يُدفَنُ فيه فيَذُرُّه على النطفةِ، فيَخلُقُ اللهُ النَّسَمةَ مِن النطفةِ والترابِ معًا؛ فهو خلافُ التحقيقِ؛ لأنَّ القرآن يدُلُّ على أنَّ مرحلةَ النطفةِ بعدَ مرحلةِ الترابِ بمُهلةٍ... وكذلك ما يزعُمُه بعضُ المفَسِّرينَ مِن أنَّ معنى خَلقِهم من ترابٍ أنَّ المرادَ أنَّهم خُلِقوا من الأغذيةِ التي تتولَّدُ من الأرضِ؛ فهو ظاهِرُ السُّقوطِ كما ترى). ((أضواء البيان)) (4/24-25). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] .
 وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج: 5] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
وقال عزَّ مِن قائلٍ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7- 8] .
وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ.
أي: وفي الأرضِ نُعيدُكم بعدَ مَوتِكم، وتَصيرونَ تُرابًا في قُبورِكم، كما كنتُم قبل إنشائِنا لكم بشرًا سَوِيًّا [397] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/87)، ((تفسير ابن كثير)) (5/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507). .
وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى.
أي: ومِن الأرضِ نَبعَثُكم أحياءً مرَّةً أُخرَى، كما كنتُم قَبلَ مَماتِكم أحياءً، فنُنشِئُكم منها كما أنشَأناكم أوَّلَ مَرَّةٍ، فتَخرُجونَ منها يومَ القيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ [398] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/87)، ((تفسير القرطبي)) (11/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 507). .
كما قال تعالى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 25] .
وقال سُبحانَه: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 25] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 42 - 44] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى دَلالةٌ على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكرِ لا بُدَّ أنْ يكونَ بالحِكمةِ والرِّفقِ واللِّينِ [399] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم:110). ، وأنَّه يستحبُّ إلانةُ القَولِ للظَّالمِ عند وَعظِه؛ لعلَّه يَرجِعُ [400] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 176). ، فإذا كان موسى أُمِرَ بأن يقولَ لفِرعونَ قولًا لَيِّنًا، فمَن دونَه أحرى بأن يَقتَدِيَ بذلك في خطابِه، وأمْرِه بالمعروفِ في كلامِه. وقد قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] [401] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/200). ، والدعوةُ إلى اللهِ كذلك يجِبُ أن تكونَ بالرِّفقِ واللِّينِ، لا بالقَسوةِ والشِّدَّةِ والعُنفِ [402] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/15). .
2- قال الله تعالى لموسى وهارونَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى هذه الآيةُ فيها عِبرةٌ عظيمةٌ، وهي أنَّ فِرعَونَ في غايةِ العُتُوِّ والاستكبارِ، وموسى صَفوةُ اللهِ مِن خَلقِه إذ ذاك، ومع هذا أُمِرَ ألَّا يُخاطِبَ فِرعَونَ إلَّا بالملاطفةِ واللِّينِ، كما قال يزيدُ الرقاشيُّ عند قولِه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا: (يا من يتحَبَّبُ إلى مَن يُعاديه، فكيف بمن يتولَّاه ويُناديه؟!) [403] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/294). . وقرأ رجلٌ عندَ يحيى بنِ معاذٍ هذه الآيةَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، فبكَى يحيى، وقال: (إلهي هذا رِفقُك بمن يقولُ: أنا الإلهُ، فكيف رفقُك بمن يقولُ: أنت الإلهُ؟!) [404] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/263). .
3- في قَولِه تعالى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى إرشادٌ إلى أنَّ الذي معه اللهُ لا يخافُ، وأنه لا بُدَّ أنْ يكونَ مَنصورًا [405] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 16). .
4- إذا استحضَر العبدُ اطِّلاعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عليه في حالِ العَمَلِ له، وتحمُّلِ المشاقِّ لأجلِه؛ وتيقَّنَ أنَّ البلاءَ بِعَينِ مَن يحبُّه، هان عليه الألمُ؛ كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقولِه لموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، وقولِه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [406] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/19). [الطور: 48].
5- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى يدُلُّ على أنَّ المحِقَّ يجِبُ عليه استِماعُ كَلامِ المُبطِلِ، والجوابُ عنه مِن غيرِ إيذاءٍ ولا إيحاشٍ، كما فعَلَ موسى عليه السَّلامُ بفِرعَونَ هاهنا، وكما أمَرَ الله تعالى رسولَه في قَولِه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] وقال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [407] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/56). [التوبة: 6] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى والفائدةُ في إرسالِهما، والمُبالَغةِ عليهما في الاجتهادِ، مع عِلْمِه بأنَّه لا يُؤمِنُ: إلْزامُ الحُجَّةِ وقطْعُ المَعذرةِ [408] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/28)، ((تفسير أبي حيان)) (7/337)، ((تفسير أبي السعود)) (6/18). ، وإظهارُ ما حدَثَ في تَضاعيفِ ذلك من الآياتِ [409] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/28). .
2- في قَولِه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى دليلٌ على المنعِ مِن فِعْلِ ما يؤدِّي إلى الحرامِ، ولو كان جائزًا في نفْسِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ موسى وهارون -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنْ يُلِينَا القولَ لأعظمِ أعدائِه، وأشدِّهم كُفرًا، وأعتاهم عليه؛ لئلَّا يكونَ إغلاظُ القولِ له -معَ أنَّه حقيقٌ به- ذريعةً إلى تنفيرِه، وعَدَمِ صبرِه لقيامِ الحُجَّةِ، فنهاهما عن الجائِزِ؛ لئلَّا يترتبَ عليه ما هو أكرهُ إليه تعالى [410] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/111). . وقيل: إنَّه أُمِر باللينِ معَ هذا الكافرِ الجاحدِ؛ لأنَّه عليه السلامُ كان قد ربَّاه فِرعَونُ، فأمَره أن يخاطبَه بالرفقِ؛ رعايةً لتلك الحقوقِ، وهذا تنبيهٌ على نهايةِ تعظيمِ حقِّ الأبوينِ [411] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢٢/52). .
3- قال الله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى التذكُّرُ سببُ الخشيةِ؛ والخشيةُ حاصلةٌ عن التذكُّرِ، فذَكَر التذكُّرَ الذي هو السببُ؛ وذَكَر الخشيةَ التي هي النتيجةُ -وإنْ كان أحدُهما مستلزِمًا للآخر- كما قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] ، وكما قال أهلُ النارِ: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] ، وقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، فكلٌّ مِن النوعينِ يحصلُ به النجاةُ؛ لأنَّه مستلزمٌ للآخرِ [412] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/181). .
4- قال الله تعالى لموسى وهارونَ: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وليس المرادُ منه النهيَ عن الخوفِ؛ لأنَّه من حيثُ كونُه أمرًا طبيعيًّا لا مدخلَ للاختيارِ فيه، لا يدخلُ تحت التكليف ثبوتًا وانتفاءً، بل المرادُ به التسلِّي بوعدِ الحفظِ والنصرةِ، كما يدلُّ عليه قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا بكمالِ الحفظِ والنُّصرةِ [413] يُنظر: ((روح البيان)) للخلوتي الحنفي (5/391). والقاعدةُ: أنَّه إذا كان متعلَّقُ الخطابِ مقدورًا حُمِل عليه، وإن كان غيرَ مقدورٍ صُرف الخطاب لثمرته أو سببه. يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (2/784). ، فالخوفُ الطبيعيُّ مِن الخلقِ، لا ينافي الإيمانَ، ولا يُزيلُه [414] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 618). ، والخوفُ من الأعداءِ سُنَّةُ اللهِ في أنبيائِه وأوليائِه معَ معرفتِهم به، وثِقَتِهم [415] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/202). .
5- المعيَّةُ نوعانِ: مَعيَّةٌ عامَّةٌ تقتضي الإحاطةَ بالخَلقِ عِلمًا وقُدرةً، وسَمعًا وبَصَرًا، وسُلطانًا وتدبيرًا، وغيرَ ذلك مِن معاني رُبوبيَّتِه، كقَولِه تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] ، وقَولِه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] .
ومعيَّةٌ خاصَّةٌ قد خُصَّت بشَخصٍ أو وَصفٍ، فهي تقتضي -مع ما سبَقَ- النَّصرَ والتأييدَ، والتَّوفيقَ والتَّسديدَ.
مِثالُ المَخصوصةِ بشَخصٍ: قَولُه تعالى لموسى وهارونَ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، وقَولُه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] .
ومثالُ المخصوصةِ بوَصفٍ: قَولُه تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، وأمثالُها في القرآنِ كثيرةٌ [416] يُنظر: ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 97). .
6- قولُه تعالى: أَسْمَعُ وَأَرَى جملةٌ استئنافيةٌ لبيانِ مُقتضَى هذه المعيَّةِ الخاصَّةِ إِنَّنِي مَعَكُمَا وهو السَّمعُ والرؤيةُ، وهذا سَمْعٌ ورؤيةٌ خاصَّانِ يقتضيانِ النَّصرَ والتأييدَ والحمايةَ مِن فِرعَونَ الذي قالا عنه: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [417] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/414). . ولو قال قائلٌ: كيفَ يسمعُ، وكيفَ يرَى؟
فالجوابُ: السمعُ والبصرُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ [418] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/310)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/85). .
7- في قَولِه تعالى: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والجهميَّةِ في تأويلِهم صِفَتَي السَّمعِ والبَصَرِ إلى العِلْمِ والإحاطةِ؛ إِذْ لو كان معنى السَّمعِ والبَصرِ معنى العِلْمِ والإحاطةِ، لاقتصرَ -واللهُ أعلمُ- على: إِنَّنِي مَعَكُمَا ولم يقُلْ: أَسْمَعُ، كما قال في سورةِ (المجادلةِ): مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] ، فلمَّا قال: أَسْمَعُ وَأَرَى بعد تمامِ المعنى الذي يشيرونَ إليه، أزال كلَّ ريبٍ، وكشَفَ كلَّ غُمةٍ عن أنَّه يَسمَعُ بسَمعٍ، ويرى ببَصرٍ غيرِ مخلوقَينِ [419] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/288). .
8- قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فتأمَّلْ حُسنَ سِياقِ هذه الجُمَلِ، وترتيبَ هذا الخِطابِ، ولُطفَ هذا القَولِ اللَّيِّنِ الذي سلَبَ القُلوبَ حُسنُه وحلاوتُه، مع جلالتِه وعَظَمتِه؛ كيف ابتدأ الخِطابَ بقَولِه: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ وفي ضِمنِ ذلك: إنَّا لم نأتِك لِنُنازِعَك مُلكَك، ولا لِنَشرَكَك فيه، بل نحن عبدانِ مأمورانِ مُرسَلانِ مِن رَبِّك إليك. وفي إضافةِ اسمِ الرَّبِّ إليه هنا دونَ إضافتِه إليهما استِدعاءٌ لِسَمعِه وطاعتِه وقَبولِه، كما يقولُ الرَّسولُ للرَّجُلِ مِن عِندِ مَولاه: أنا رَسولُ مَولاك إليك وأستاذِك، وإن كان أستاذَهما معًا، ولكن ينَبِّهُه بإضافتِه إليه على السَّمعِ والطَّاعةِ له.
ثمَّ إنَّهما طَلَبا منه أن يُرسِلَ معهما بني إسرائيلَ، ويُخَلِّيَ بينهم وبينهما ولا يُعَذِّبَهم، ومن طلَبَ مِن غَيرِه تَركَ العُدوانِ والظُّلمِ وتَعذيبِ مَن لا يَستَحِقُّ العذابَ، فلم يَطلُبْ منه شَطَطًا، ولم يُرهِقْه من أمرِه عُسرًا، بل طلبَ منه غايةَ النَّصَفِ.
 ثمَّ أخبرَه بعد الطَّلَبِ بثلاثةِ إخباراتٍ: أحَدُها: قَولُه تعالى: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ؛ فقد بَرِئْنا مِن عُهدةِ نِسبَتِك لنا إلى التقَوُّلِ والافتراءِ، بما جئناك به مِنَ البُرهانِ والدَّلالةِ الواضِحةِ، فقد قامت الحُجَّةُ، ثمَّ بعدَ ذلك للمُرسَلِ إليه حالتانِ: إمَّا أن يَسمَعَ ويُطيعَ فيكونَ مِن أهلِ الهُدى، والسَّلامُ على مَن اتَّبَع الهُدى، وإمَّا أن يُكَذِّبَ ويتولَّى، فالعذابُ على مَن كذَّب وتولَّى؛ فجَمَعَت الآيةُ طَلَبَ الإنصافِ، وإقامةَ الحُجَّةِ، وبيانَ ما يَستحِقُّ السَّامِعُ المطيعُ، وما يَستَحِقُّه المكَذِّبُ المتولِّي؛ بألطَفِ خطابٍ، وأليقِ قَولٍ، وأبلغِ ترغيبٍ وترهيبٍ [420] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/170). .
9- قال الله تعالى حِكايةً عن موسى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إن قيل: ما الحِكمةُ في تسليمِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على مَن اتَّبَع الهُدَى في كتابِه إلى هِرَقلَ بلَفظِ النَّكِرةِ، ((سلامٌ على من اتَّبَعَ الهُدى))، وتسليمِ موسى عليهم هنا بلَفظِ المعرِفةِ؟
 فالجوابُ عنه: أنَّ تَسليمَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تسليمٌ ابتدائيٌّ؛ ولهذا صدَّرَ به الكتابَ، حيث قال: ((مِن محمَّدٍ رَسولِ اللهِ إلى هِرَقلَ عَظيمِ الرُّومِ، سلامٌ على من اتَّبع الهُدى )) [421] أخرجه مطولًا البخاري (7)، ومسلم (1773) واللَّفظُ له، مِن حديثِ أبي سفيانَ، رضي الله عنه. ؛ وتختصُّ النكرةُ بابتداءِ المكاتبةِ والمعرفةُ بآخرِها [422] والحكمة في ذلك هو أنَّ السَّلامَ دُعاءٌ وطَلَبٌ، وهم في ألفاظِ الدُّعاءِ والطَّلَبِ إنَّما يأتونَ بالنَّكِرةِ إمَّا مَرفوعةً على الابتداءِ، أو منصوبةً على المصدَرِ؛ فمِنَ الأوَّلِ: وَيلٌ له. ومِن الثاني: خيبةً له، وهذا في الدُّعاءِ عليه. وفي الدُّعاءِ له: سَقيًا وكرامةً ومَسَرَّةً؛ فجاء (سلامٌ عليكم) بلفظِ النَّكِرةِ كما جاء سائِرُ ألفاظِ الدُّعاءِ، وسِرُّ ذلك أنَّ هذه الألفاظَ جرت مجرى النُّطقِ بالفِعلِ؛ ألا ترى أنَّ (سَقيًا) جرى مجرى: (سقاك اللهُ)، وكذلك (سلامٌ عليك) جارٍ مجرى: (سلَّمك اللهُ)، والفِعلُ نَكِرةٌ؛ فأحبُّوا أن يجعلوا اللَّفظَ الذي هو جارٍ مَجراه وكالبَدلِ منه: نَكِرةً مِثلَه. يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/154). ، وأمَّا قَولُ موسى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى؛ فليس بسلامِ تحيَّةٍ؛ فإنَّه لم يبتدِئْ به فِرعَونَ، بل هو خبَرٌ محضٌ؛ فإنَّ مَن اتَّبَع الهدَى له السَّلامُ المُطلَقُ دونَ مَن خالفَه؛ فإنَّه قال له: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 47، 48]؛ أفلا ترَى أنَّ هذا ليس بتحيَّةٍ في ابتداءِ الكلامِ ولا خاتمتِه، وإنَّما وقع متوسِّطًا بينَ الكلامَينِ إخبارًا مَحضًا عن وقوعِ السَّلامةِ وحُلولِها على مَن اتَّبَع الهُدى؛ ففيه استدعاءٌ لفِرعَونَ، وترغيبٌ له بما جُبِلت النُّفوسُ على حُبِّه وإيثارِه مِنَ السَّلامةِ، وأنَّه إنِ اتَّبَع الهُدى الذي جاءَه به، فهو من أهلِ السَّلامِ. والله تعالى أعلَمُ [423] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/169-170). .
10- لا يجوزُ السلامُ على المُسْلِم بلفظ: «السلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهدَى»؛ وذلك لأنَّه ما صَدَر مِن موسَى عليه السلامُ إلَّا في سَلامِ الكفَّارِ، كما في قولِه لفرعونَ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وكذلك ما صدَر مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا في سَلامِ الكفارِ [424] يُنظر: ((الكنز الثمين في سؤالات ابن سنيد لابن عثيمين)) (ص: 160). .
11- قولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فيه من تَرغيبِه في اتِّباعِهما على ألْطَفِ وجْهٍ ما لا يَخْفى [425] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/19). . وكذلك قولُه: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فيه من التَّلطيفِ في الوعيدِ -حيث لم يُصرَّحْ بحُلولِ العذابِ به- ما لا مَزِيدَ عليه [426] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/19). .
12- في قَولِه تعالى: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قال ابنُ عبَّاسٍ: (هذه أرجَى آيةٍ للمُوحِّدينَ؛ لأنَّهم لم يكَذِّبوا، ولم يتولَّوا) [427] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/204). .
13- قولُ الله تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فيه دليلٌ على مَنعِ السَّلامِ على الكافِرِ، وأنَّه إذا احتيجَ إليه في خِطابٍ أو كتابٍ يُؤتى بهذه الصِّفةِ [428] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 176-177). .
14- قولُ الله تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى هذا مِن أقوى الدَّلائِلِ على أنَّ عِقابَ المؤمِنِ لا يدومُ؛ ذلك لأنَّ الألفَ واللَّامَ في قَولِه: الْعَذَابَ تفيدُ الاستِغراقَ، أو تفيدُ الماهيَّةَ، وعلى التَّقديرَينِ يقتضي انحصارَ هذا الجِنسِ فيمن كذَّب وتولَّى، فوجَبَ في غير المكَذِّبِ المتولِّي ألَّا يَحصُلَ هذا الجِنسُ أصلًا [429] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/55). .
15- قال الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى مع أنَّ فِرعَون كان شديدَ القُوَّةِ، عَظيمَ الغَلَبةِ، كثيرَ العَسكَرِ؛ لكِنْ لَمَّا دعاه موسى عليه السَّلامُ إلى اللهِ تعالى لم يَشتَغِلْ معه بالبَطشِ والإيذاءِ، بل خرج معه في المناظَرةِ؛ وذلك لأنَّه لو شَرَع أوَّلًا في الإيذاءِ لَنُسِبَ إلى الجهلِ والسَّفاهةِ؛ فاستنكفَ مِن ذلك وشرَعَ أولًا في المناظَرةِ؛ وذلك يدُلُّ على أنَّ السَّفاهةَ مِن غيرِ الحُجَّةِ شَيءٌ ما كان يرتضيه فِرعَونُ مع كمالِ جَهلِه وكُفرِه؛ فكيف يليقُ ذلك بمن يدَّعي الإسلامَ والعِلمَ [430] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/56). ؟!
16- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى يدُلُّ على أنَّه يجوزُ حِكايةُ كَلامِ المُبطِل؛ لأنَّه تعالى حكى كلامَ فِرعَونَ في إنكارِه الإلهَ، وحكى شُبُهاتِ مُنكري النبُوَّةِ، وشُبُهاتِ مُنكري الحَشرِ، إلَّا أنَّه يجِبُ أنَّك متى أوردْتَ السُّؤالَ، فاقرِنْه بالجوابِ؛ لئلَّا يبقَى الشَّكُّ، كما فعَلَ اللهُ تعالى في هذه المواضِعِ [431] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/56). .
17- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى خُصَّ موسى بالذِّكرِ، قيل: لأنَّه في وَقتِ الكلامِ إنَّما يتكلَّمُ واحِدٌ، فإذا انقطع وازَرَه الآخَرُ وأيَّدَه؛ فموسى وهارونُ جميعًا بلَّغا الرِّسالةَ، وإن كان هارونُ ساكِتًا، فصار لنا في هذا البِناءِ فائِدةُ عِلمٍ: أنَّ الاثنينِ إذا قُلِّدا أمرًا فقام به أحدُهما، والآخَرُ شَخصُه هناك موجودٌ، مُستغنًى عنه في وقتٍ دونَ وَقتٍ: أنَّهما أدَّيا الأمرَ الذي قُلِّدا، وقاما به واستوجَبا الثَّوابَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، وقال: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ، وقال: فَقُولَا لَهُ فأمرَهما جميعًا بالذَّهابِ وبالقَولِ، ثمَّ أعلَمَنا في وقتِ الخِطابِ بقَولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا أنَّه كان حاضِرًا مع موسى [432] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/204). .
18- قال اللهُ تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى جمع جلَّ وعلا في هذه الآيةِ بين الخَلقِ والهِدايةِ، وهو سُبحانَه في القرآنِ كثيرًا ما يجمَعُ بينهما، كقَولِه في أوَّلِ سورةٍ أنزَلَها على رَسولِه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]، وقوله: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن: 1-4]، وقوله: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 8-11] ، وقوله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2، 3]، وقوله: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ... [النمل: 60] الآيات، ثم قال: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [النمل: 63] فالخَلقُ إعطاءُ الوجودِ العينيِّ الخارجيِّ، والهُدى إعطاءُ الوجودِ العلميِّ الذِّهنيِّ؛ فهذا خَلقُه، وهذا هُداه وتَعليمُه [433] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 79). .
19- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى دَلالةٌ على تمامِ عنايةِ الخالقِ سُبحانَه بخَلْقِه، وهدايتِه العامَّةِ [434] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/644). ، فهذه هي الهدايةُ العامةُ المشاهَدةُ في جميعِ المخلوقاتِ، فكلُّ مخلوقٍ تجدُه يسعَى لما خُلِق له مِن المنافعِ، وفي دفعِ المضارِّ عنه [435] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 507). .
20- قولُ الله تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ هذا أحسَنُ استنباطٍ لكتابةِ الحَديثِ والعِلمِ [436] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 177). ، قال أبو المليحِ [437] أبو المَلِيحِ: هو الحسنُ بنُ عُمرَ الرَّقِّيُّ، الإمامُ، المحدِّثُ، وَثَّقه أحمدُ بنُ حنبلٍ، وأبو زُرْعَةَ، توفِّي سنةَ إحدَى وثمانينَ ومائةٍ. يُنظر: ((تهذيب الكمال)) للمزي (6/280)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/194). : (يَعيبونَ علينا الكتابَ، واللَّهُ يقولُ: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ) [438] أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (5/583). .
21- قال الله تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى في ذلك إشارةٌ إلى تبكيتِ اليَهودِ بأنَّ ثُبوتَ النبُوَّةِ إن كان يتوقَّفُ على أن يخبِرَ النبيُّ عن كلِّ ما يُسأَلُ عنه، لَزِمَ أن يتوقَّفوا في نبُوَّةِ نَبيِّهم عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لم يُخبِرْ فِرعَونَ عما سألَه عنه مِن أمرِ القُرونِ [439] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/296). .
22- قال الله تعالى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى لِكمالِ عِلمِه وحِفظِه [440] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1444). ، فهو يَصِفُ علمَه تعالى بأنَّه بكُلِّ شَيءٍ مُحيطٌ، وأنَّه لا ينسى شيئًا، تبارك وتعالى وتقَدَّس، فإنَّ عِلمَ المخلوقِ يَعتريه نُقصانانِ: أحدُهما: عدَمُ الإحاطةِ بالشَّيءِ، والآخَرُ: نسيانُه بعد عِلمِه، فنَزَّه نفسَه عن ذلك [441] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/298). .
23- قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ لذلك كان بنو آدمَ كالأرضِ تمامًا: فيهم الحَزْنُ الصُّلْبُ الشَّديدُ، وفيهم السَّهْلُ، وفيهم ما بينَ ذلك، وفيهم الأبيضُ، وفيهم الأحمرُ، وفيهم الأسودُ؛ لأنَّ الأراضيَ تختَلِفُ هكذا [442] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 236). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي بَيانٌ لجُملةِ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه: 24] . أو هي استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] يُؤذِنُ بأنَّه اختارَهُ وأعَدَّهُ لأمْرٍ عظيمٍ [443] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/223). .
- والباءُ في بِآَيَاتِي للمُصاحَبةِ؛ لقصْدِ تَطمينِ مُوسى بأنَّه سيكونُ مُصاحِبًا لآياتِ اللهِ [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/223). ؛ فالمُرادُ ذَهابُهما إلى فرْعونَ مُتلبِّسينَ بالآياتِ، مُتمسِّكينَ بها في إجْراءِ أحكامِ الرِّسالةِ، وإكْمالِ أمْرِ الدَّعوةِ، لا مُجرَّدُ إذْهابِها، وإيصالِها إليه [445] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/17). .
2- قولُه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى لمَّا حذَفَ مَن يُذْهَبُ إليه في قولِه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ، نَصَّ عليه في هذا الأمْرِ الثَّاني، فقِيلَ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [446] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/336). .
وقيل: قولُه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي يحتَمِلُ أن يكونَ كُلُّ واحدٍ منهما مأمورًا بالذَّهابِ على الانفرادِ، فقيل مَرَّةً أُخرى: اذْهَبَا؛ ليعرفا أنَّ المرادَ منه أن يشتغِلا بذلك جميعًا، لا أن ينفرِدَ به هارونُ دونَ موسى. وقيل: إنَّ قَولَه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي أمرٌ بالذَّهابِ إلى كُلِّ النَّاسِ مِن بني إسرائيلَ وقَومِ فِرعَونَ، ثمَّ إنَّ قَولَه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ أمرٌ بالذَّهابِ إلى فِرعَونَ وَحدَه [447] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢٢/52). .
- وجمَعَهما في صِيغَةِ أمْرِ الحاضرِ مع غَيبةِ هارونَ إذ ذاك؛ للتَّغليبِ [448] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/17). .
- وقولُه: إِنَّهُ طَغَى تَعليلٌ للأمْرِ بأنْ يَذْهبا إليه؛ فعُلِمَ أنَّه لقصْدِ كَفِّه عن طُغيانِه [449] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/336)، ((تفسير أبي السعود)) (6/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/224). .
3- قولُه تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
- الفاءُ في قولِه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لتَرتيبِ ما بعْدَها على طُغيانِه؛ فإنَّ تَلْيِينَ القولِ ممَّا يَكسِرُ سَوْرةَ عِنادِ العُتاةِ، ويُلِينُ عَريكةَ الطُّغاةِ [450] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/17). .
- قولُه: قَوْلًا لَيِّنًا شبَّهَ الكلامَ المُشتمِلَ على المعاني الحَسنةِ بالشَّيءِ اللَّيِّنِ [451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/225). .
- قولُه: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فيه تَقديمُ التَّذكُّرِ على الخَشيةِ؛ لأنَّ التَّذكُّرَ للمُتحقِّقِ، والخَشيةَ للمُتوهِّمِ؛ فقدَّمَ الأوَّلَ، أي: إنْ لم يَتحقَّقْ صِدْقُكما ولم يَتذكَّرْ؛ فلا أقَلَّ مِن أنْ يَتوهَّمَه فيَخْشى [452] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/28). .
4- قولُه تعالى: قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى
- قولُه: قَالَا رَبَّنَا أُسْنِدَ القولُ إليهما، مع أنَّ القائلَ حقيقةً هو مُوسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بطَريقِ التَّغليبِ؛ إيذانًا بأصالتِه في كلِّ قوْلٍ وفِعْلٍ، وتَبعيَّةِ هارونَ عليه السَّلامُ له في كلِّ ما يأْتي ويذَرُ [453] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/18). .
- ولم يَذْكُرا مُتعلِّقَ يَطْغَى -وهو (عليك)- بمعنى القولِ فيك بما لا يَنْبغي، وذكَرَا مُتعلِّقَ يَفْرُطَ -وهو عَلَيْنَا-؛ لأنَّ مَعَرَّتَه عائدةٌ إليهما؛ إجْلالًا للهِ تعالى، وتَهيُّبًا من عِزَّتِه، واستزادةً لِرَأفَتِه، واستِنْزالًا لرَحمتِه؛ فقولُه: أَوْ أَنْ يَطْغَى، أي: يقولَ فيك ما لا يَنْبغي، وفي المَجِيءِ به هكذا على الإطلاقِ، وعلى سَبيلِ الرَّمزِ: بابٌ من حُسْنِ الأدبِ، وتَحاشٍ عن التَّفوُّهِ بالعظيمةِ. وقيل: حُذِفَ مُتعلِّقُ يَطْغَى؛ لدَلالةِ نَظيرِه عليه، وهو قولُه: عَلَيْنَا، وأُوثِرَ بالحذْفِ؛ لرِعايةِ الفواصلِ. والتَّقديرُ: أو أنْ يَطْغى علينا. وإظْهارُ كَلمةِ (أنْ) مع سَدادِ المعنى بدُونِها؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بالأمْرِ، والإشعارِ بتَحقُّقِ الخوفِ من كلٍّ منهما [454] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/66)، ((تفسير البيضاوي)) (4/28)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/178)، ((تفسير أبي حيان)) (7/338)، ((تفسير أبي السعود)) (6/18)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/227- 228). .
5- قولُه تعالى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على السُّؤالِ النَّاشىءِ من النَّظْمِ الكريمِ، ولعلَّ إسنادَ الفِعْلِ إلى ضَميرِ الغَيبةِ؛ للإشعارِ بانتقالِ الكلامِ من مَساقٍ إلى آخَرَ [455] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/18). .
- وقولُه: لَا تَخَافَا نهْيٌ مُكَنًّى به عن نفْيِ وُقوعِ المَنْهيِّ عنه [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/228). .
- وقولُه: إِنَّنِي مَعَكُمَا تَعليلٌ للنَّهيِ عن الخوفِ الَّذي هو في مَعنى النَّفيِ، ومَزيدُ تَسليةٍ لهما [457] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/18)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/225). .
- ونُزِّلَ فِعْلَا أَسْمَعُ وَأَرَى مَنزِلةَ اللَّازمينِ؛ إذ لا غرَضَ لِبَيانِ مَفْعولِهما، بل المقصودُ: إنِّي لا يَخْفى عليَّ شَيءٌ، وفرَّعَ عليه إعادةَ الأمْرِ بالذَّهابِ إلى فِرْعونَ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا ... [458] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/228). .
6- قولُه تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى
- قولُه: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا ... أُمِرَا بإتيانِه الَّذي هو عبارةٌ عن الوُصولِ إليه بعْدَما أُمِرَا بالذَّهابِ؛ فلا تَكْرارَ، وهو عطْفٌ على لَا تَخَافَا باعتبارِ تَعليلِه بما بعْدَه. أُمِرَا بـ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ؛ تَحقيقًا للحقِّ من أوَّلِ الأمْرِ؛ ليَعرِفَ الطَّاغيةُ شأْنَهما، ويَبْني جَوابَه عليه، وكذا التَّعرُّضُ لرُبوبيَّتِه تعالى له [459] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/18-19). .
- قولُه: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ أمَرَهما أنْ يُخاطِباهُ بقولِهما: رَبِّكَ؛ تَحقيرًا له، وإعلامًا أنَّه مَربوبٌ مَملوكٌ؛ إذ كان هو يَدَّعي الرُّبوبيَّةَ [460] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/338). ، أو خَصَّا الرَّبَّ بالإضافةِ إلى ضَميرِ فِرْعونَ قَصْدًا لأقْصى الدَّعوةِ؛ لأنَّ كونَ اللهِ ربَّهما معلومٌ من قولِهما: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وكونُه ربَّ النَّاسِ معلومٌ بالأحْرى؛ لأنَّ فِرعونَ علَّمَهم أنَّه هو الرَّبُّ [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/229). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وقال في سُورةِ (الشُّعراءِ): إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] . ووجْهُه: أنَّ الرَّسولَ سُمِّيَ به، فحيثُ وحَّدَه حُمِلَ على المصدرِ، وحيث ثَنَّى حُمِلَ على الاسمِ. ويجوزُ أنْ يُقالَ: حيث وحَّدَ حُمِلَ على الرِّسالةِ؛ لأنَّهما أُرْسِلَا لشَيءٍ واحدٍ، وحيث ثَنَّى حُمِلَ على الشَّخصينِ [462] ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/315). .
- والفاءُ في قولِه تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها؛ فإنَّ كونَهما رسولَيْ ربِّهِ ممَّا يُوجِبُ إرسالَهم معهما. أو لأنَّ المُرسَلَ منَ اللهِ تجِبُ طاعتُه. وقيل: أدخَلَ فاءَ التَّفريعِ على طلَبِ إطلاقِ بني إسرائيلَ؛ لأنَّه جعَلَ طلَبَ إطلاقِهم كالمُستقِرِّ المعلومِ عندَ فِرْعونَ؛ إمَّا لأنَّه سبَقَتْ إشاعةُ عَزْمِهما على الحُضورِ عندَ فِرعونَ لذلك المطلَبِ، وإمَّا لأنَّه جعَلَه -لأهميَّتِه- كالمُقرَّرِ [463] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/19)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/229). .
- وجُملةُ: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ جاريةٌ من الجُملةِ الأُولى -وهي إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ- مَجْرى البَيانِ والتَّفسيرِ؛ لأنَّ دَعوى الرِّسالةِ لا تثبُتُ إلَّا بِبَيِّنَتِها الَّتي هي المَجِيءُ بالآيةِ. أو تَقريرٌ لِمَا تَضمَّنَه الكلامُ السَّابقُ من دَعوى الرِّسالةِ، وتَعليلٌ لوُجوبِ الإرسالِ؛ فإنَّ مَجِيئَهما بالآيةِ من جِهَتِه تعالى ممَّا يُحقِّقُ رِسالتَهما ويُقرِّرُها، ويُوجِبُ الامتثالَ بأمْرِهما [464] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/66-67)، ((تفسير البيضاوي)) (4/29)، ((تفسير أبي حيان)) (7/338)، ((تفسير أبي السعود)) (6/19)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/229). .
- إنَّما وحَّدَ قولَه: بِآَيَةٍ ولم يُثَنِّ، ومعه آيتانِ؛ لأنَّ المُرادَ في هذا الموضعِ تَثبيتُ الدَّعوى ببُرْهانِها، فكأنَّه قال: قد جِئْناك بمُعْجِزةٍ وبُرْهانٍ وحُجَّةٍ على ما ادَّعيناهُ من الرِّسالةِ [465] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/66-67)، ((تفسير البيضاوي)) (4/29)، ((تفسير أبي حيان)) (7/338)، ((تفسير أبي السعود)) (6/19). ، فمعنى الآيةِ الإشارةُ إلى جنسِ الآياتِ، كأنَّه قال: قد جئناك ببيانٍ مِن عندِ الله. ثم يجوزُ أن يكونَ ذلك حجةً واحدة أو حججًا كثيرة [466] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢٢/55). .
- قولُه: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فيه إظهارُ اسمِ الرَّبِّ في مَوضِعِ الإضمارِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِ المُخاطَبِ؛ لتأكيدِ ما ذُكِرَ من التَّقريرِ والتَّعليلِ [467] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/19). .
- وفي قولِه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى عُبِّر بـ (عَلَى) للتَّمكُّنِ، أي: سَلامةُ مَن اتَّبَع الهُدى ثابتةٌ لهم دونَ رَيبٍ، وهذا احتراسٌ ومُقدِّمةٌ للإنذارِ الَّذي في قولِه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى؛ فقولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَعريضٌ بأنْ يَطلُبَ فِرعونُ الهُدى الَّذي جاء به مُوسى عليه السَّلامُ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/230). ؛ ففيه إشارةٌ إلى التَّعريضِ؛ فاللَّامُ للجنْسِ، كأنَّه قال: جِنْسُ السَّلامِ على مَن اتَّبَعَ الهُدى؛ ففيه تَعريضٌ بأنَّ ضِدَّه عليكم [469] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/180). .
7- قولُه تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى لعلَّ تَغييرَ النَّظمِ والتَّصريحَ بالوعيدِ والتَّوكيد فيه؛ لأنَّ التَّهديدَ في أوَّلِ الأمْرِ أهَمُّ وأنجَعُ، وبالواقعِ ألْيَقُ [470] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/29). ، وفيه تَعريضٌ لإنذارِه على التَّكذيبِ قبْلَ حُصولِه منه؛ ليُبَلِّغَ الرِّسالةَ على أتَمِّ وجْهٍ قبْلَ ظُهورِ رأْيِ فِرعونَ في ذلك؛ حتَّى لا يُجابِهَه بعْدَ ظُهورِ رأْيِه بتَصريحِ تَوجيهِ الإنذارِ إليه [471] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/230). .
- وبُنِيَ أُوحِيَ لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه، ولم يُذْكَرِ المُوحِي؛ لأنَّ فِرعونَ كانت له بادرةٌ [472] البادِرةُ: الحِدَّةُ. يُقالُ: بَدَرَت منه بوادِرُ غَضَبٍ، أي: سَقَطاتٌ وخَطَأٌ عندما احتَدَّ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 30). ؛ فرُبَّما صدَرَ منه في حَقِّ المُوحِي ما لا يَلِيقُ به [473] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/339). .
- ولمَّا دَلَّ قولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى على التَّوبيخِ لِمَكانِ التَّعريضِ، كان قولُه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا استِئنافًا مُنْطويًا على تَعليلِ ذلك المفهومِ المقصودِ في الإيرادِ؛ كأنَّه قِيلَ: العذابُ على مَن كذَّبَ وتولَّى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أوْحَى إلينا ذلك [474] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/180). .
- وإطْلاقُ السَّلامِ والعذابِ دونَ تَقييدٍ بالدُّنيا أو الآخرةِ: تَعميمٌ للبِشارةِ والنِّذارةِ [475] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/231). .
8- قولُه تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى
- في الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فأَتَيَا فِرعونَ، وقالا له ما أمَرَهما اللهُ أنْ يُبلِّغاهُ، فقال:...، وإنَّما طُوِيَ ذِكْرُه للإيجازِ، والإشعارِ بأنَّهما كما أُمِرَا بذلك سارَعَا إلى الامتثالِ به من غيرِ تَلعثُمٍ، وبأنَّ ذلك منَ الظُّهورِ بحيثُ لا حاجةَ إلى التَّصريحِ به [476] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/29)، ((تفسير أبي حيان)) (7/339)، ((تفسير أبي السعود)) (6/19)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/231). .
- والفاءُ في قولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؛ لتَرتيبِ السُّؤالِ على ما سبَقَ مِن كونِهما رسولَيْ ربِّهما، أي: إذا كُنْتُما رسولَيْ ربِّكما، فأخْبِرَا مَن ربُّكما الَّذي أرسلَكُما [477] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/19). .
- وجاء خِطابُه في قولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى للاثنينِ، ووجَّهَ النِّداءَ إلى أحدِهما، وهو مُوسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه الأصْلُ في النُّبوَّةِ، وهارونُ وَزيرُه وتابِعُه [478] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/67)، ((تفسير البيضاوي)) (4/29)، ((تفسير أبي حيان)) (7/339)، ((تفسير أبي السعود)) (6/20)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/231). ، ولأنَّه صاحبُ الرِّسالةِ والكلامِ والآيةِ [479] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/204). ، أو لأنَّ المُجاوَبةَ إنَّما تكونُ من الواحدِ، وإنْ كان الخِطابُ بالجماعةِ لا من الجَميعِ [480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/79). .
- وفي قولِ فِرعونَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى لم يُضِفِ الرَّبَّ إلى نفْسِه ولو بطَريقِ حِكايةِ ما في قولِه تعالى: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وقولِه تعالى: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ؛ لِغايةِ عُتوِّهِ ونِهايةِ طُغيانِه، بل أضافَه إليهما؛ لِمَا أنَّ المُرسِلَ لا بُدَّ أنْ يكونَ ربًّا للرَّسولِ، أو لأنَّهما قد صرَّحَا برُبوبيَّتِه تعالى للكلِّ، بأنْ قالا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] كما وقَعَ في سُورةِ (الشُّعراءِ) [481] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/19). . وقيل: أعرَضَ عنِ الاعترافِ بالمَرْبوبيَّةِ ولو بحِكايةِ قولِهما؛ لئلَّا يقَعَ ذلك في سمْعِ أتْباعِه وقومِه، فيَحسِبوا أنَّه مُتردِّدٌ في مَعرفةِ ربِّه، أو أنَّه اعترَفَ بأنَّ له ربًّا [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/232). . أو: لم يقُلْ: رَبِّي؛ حَيدةً عن سواءِ النَّظرِ، وصرفًا للكلامِ على الوجهِ الموضِّحِ لخِزيِه [483] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/294). .
9- قولُه تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
- جَوابُ مُوسى عليه السَّلامُ بقولِه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى سلَكَ فيه طَريقَ الإرشادِ والأُسلوبِ الحكيمِ، حيث كان الظَّاهرُ أنْ يقولَ: (ربُّ العالمينَ)؛ فما أخصَرَه وما أجمَعَه! وما أبْيَنَه لمَن ألْقَى الذِّهنَ، ونظَرَ بعَينِ الإنصافِ، وكان طالِبًا للحقِّ؛ فهو جَوابٌ في غايةِ البَلاغةِ؛ لاختصارِه، وإعرابِه عن الموجوداتِ بأسْرِها على مَراتبِها، ودَلالتِه على أنَّ الغَنِيَّ القادرَ بالذَّاتِ، المُنعِمَ على الإطلاقِ هو اللهُ تعالى، وأنَّ جميعَ ما عداهُ مُفتقِرٌ إليه، مُنْعَمٌ عليه في حَدِّ ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه؛ ولذلك بُهِتَ الَّذي كفَرَ، فلم يَرَ إلَّا صَرْفَ الكلامِ عنه [484] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/67)، ((تفسير البيضاوي)) (4/29)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/182)، ((تفسير أبي حيان)) (7/339). . وأيضًا أجاب مُوسى عليه السَّلامُ بإثباتِ الرُّبوبيَّةِ للهِ لجَميعِ الموجوداتِ، وفِرعونُ من جُملتِها، فهو داخلٌ في عُمومِها [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/232). ، ولقد ساق عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جَوابَه على نمَطٍ رائقٍ، وأُسلوبٍ لائقٍ، وضَمَّنَه أنَّ إرسالَه تعالى إلى الطَّاغيةِ من جُملةِ هِداياتِه تعالى إيَّاهُ، بعْدَ أنْ هَداهُ إلى الحقِّ بالهداياتِ التَّكوينيَّةِ؛ حيث ركَّبَ فيه العقْلَ، وسائرَ المشاعرِ، والآلاتِ الظَّاهرةِ والباطنةِ [486] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/20). .
- ولم يُريدَا بضَميرِ المُتكلِّمِ رَبُّنَا أنفُسَهما فقط، حسْبَما أرادَ اللَّعينُ، بل جميعَ المخلوقاتِ؛ تَحقيقًا للحقِّ، ورَدًّا عليه، كما يُفْصِحُ عنه ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ، أي: هو ربُّنا الَّذي أعْطَى كلَّ شَيءٍ مِن الأشياءِ خَلْقَه [487] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/20). .
- قولُه: ثُمَّ هَدَى لمَّا كان الخلْقُ مُتقدِّمًا على الهدايةِ وُسِّطَ بينهما كَلِمةُ التَّراخي (ثُمَّ) [488] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/20). ، وفيه إيجازٌ بليغٌ؛ لأنَّه حذَفَ جُمَلًا لا يقَعُ عليها الحصْرُ؛ لأنَّه ليس بالمُتاحِ إحصاءُ المخلوقاتِ الحيَّةِ وغيرِ الحيَّةِ، العاقلةِ وغيرِ العاقلةِ الَّتي خلَقَها اللهُ [489] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/201). .
10- قولُه تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى
- إيثارُ كَلِمةِ (البال) هنا من دَقيقِ الخصائصِ البلاغيَّةِ؛ أراد فِرعونُ أنْ يُحاجَّ مُوسى بما حصَل للقُرونِ الماضيةِ الَّذين كانوا على مِلَّةِ فِرعونَ، أي: ما حالُهم؛ أفتزْعُمُ أنَّهم اتَّفَقوا على ضَلالةٍ؟! وهذه طبيعةُ مَن لا يَجِدُ حُجَّةً، فيَعمِدُ إلى التَّشغيبِ بتَخييلِ استبعادِ كَلامِ خَصْمِه. ويجوزُ أنَّ فِرعونَ أراد التَّشغيبَ على مُوسى حين نهَضَتْ حُجَّتُه بأنْ يَنقِلَه إلى الحديثِ عن حالِ القُرونِ الأُولى: هل هم في عذابٍ؟ بمُناسَبةِ قولِ مُوسى: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] ، فإذا قال: إنَّهم في عذابٍ، ثارتْ ثائرةُ أبنائِهم، فصاروا أعداءً لمُوسى، وإذا قال: هم في سَلامٍ، نهَضَتْ حُجَّةُ فِرعونَ؛ لأنَّه مُتابِعٌ لِدينِهم، ولأنَّ مُوسى لمَّا أعلَمَه برَبِّه، وكان ذلك مُشعِرًا بالخلْقِ الأوَّلِ؛ خطَرَ ببالِ فِرعونَ أنْ يسأَلَه عن الاعتقادِ في مَصيرِ النَّاسِ بعدَ الفَناءِ، فسأَلَ: ما بالُ القُرونِ الأُولى؟ ما شأْنُهم؟ وما الخبَرُ عنهم؟ وهو سُؤالُ تَعجيزٍ وتَشغيبٍ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/233-234). .
11- قولُه تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى
- قولُه: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فيه إظهارُ رَبِّي في مَوقعِ الإضمارِ؛ للتَّلذُّذِ بذِكْرِه، ولزِيادةِ التَّقريرِ والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ الرُّبوبيَّةَ ممَّا يَقْتضي عدَمَ الضَّلالِ والنِّسيانِ حتْمًا [491] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/21). .
- والغرَضُ من قولِه: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ التَّوكيدُ بأنَّ أسرارَها مَعلومةٌ له، لا يَزولُ شَيءٌ منها، ويتأكَّدُ هذا بقولِه: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى  [492] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/342). .
- وقولُه: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى فيه تعريضٌ بفرعونَ يستلزمُ إبطالَ دعواه الربوبيةَ [493] يُنظر: ((حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي)) (6/206). .
12- قولُه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى استئنافٌ ابتدائيٌّ على عادةِ القُرآنِ مِن تفنُّنِ الأغراضِ؛ لتَجديدِ نَشاطِ الأذهانِ. وتَعريفُ جُزأَيِ الجُملةِ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ يُفِيدُ الحصْرَ، أي: الجاعِلُ الأرضَ مِهادًا؛ فكيف تَعْبُدون غيرَه؟! وهذا قصْرٌ حَقيقيٌّ، غيرُ مَقصودٍ به الرَّدُّ على المُشرِكين، ولكنَّه تَذكيرٌ بالنِّعمةِ، وتَعريضٌ بأنَّ غيرَه ليس حَقِيقًا بالإلهيَّةِ [494] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/235-236). .
- وفي قولِه: فَأَخْرَجْنَا بِهِ انتقَلَ من لفْظِ الغَيبةِ الَّذِي جَعَلَ إلى لفْظِ المُتكلِّمِ المُطاعِ؛ للافتنانِ، وللتَّنبيهِ على ظُهورِ ما فيهِ منَ الدَّلالةِ عَلى كَمالِ القُدرةِ والحِكمةِ، والإيذانِ بأنَّه مُطاعٌ تَنقادُ الأشياءُ المُختلِفةُ لأمْرِه، وتُذعِنُ الأجناسُ المُتفاوِتةُ لمَشيئتِه، لا يَمتنِعُ شَيءٌ على إرادتِه [495] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/68)، ((تفسير البيضاوي)) (4/30)، ((تفسير أبي حيان)) (7/343)، ((تفسير أبي السعود)) (6/21)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/202). . وفي هذا الالْتِفاتِ تَخصيصٌ أيضًا بأنَّا نحن نقْدِرُ على مثْلِ هذا، ولا نَدخُلُ تحتَ قُدرةِ أحَدٍ [496] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/68-69)، ((تفسير أبي حيان)) (7/343). . وأيضًا هذا الالتفاتُ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ بصِيغةِ التعظيمِ يدلُّ على تَعظيمِ شأنِ إنباتِ النباتِ؛ لأنَّه لو لم يَنزِلِ الماءُ، ولم يَنبُتْ شيءٌ، لهَلَك الناسُ جُوعًا وعطشًا؛ فهو يدلُّ على عَظمتِه جلَّ وعلا، وشِدَّةِ احتياجِ الخَلقِ إليه، ولُزومِ طاعتِهم له جلَّ وعلا [497] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/22). . وحسَّنَ هذا الالْتِفاتَ: أنَّه بعْدَ أنْ حَجَّ المُشرِكينَ بحُجَّةِ انفِرادِه بخلْقِ الأرضِ، وتَسخيرِ السَّماءِ ممَّا لا سَبيلَ بهم إلى نُكرانِه؛ ارْتَقَى إلى صِيغَةِ المُتكلِّمِ المُطاعِ؛ فإنَّ الَّذي خلَقَ الأرضَ، وسخَّرَ السَّماءَ حَقيقٌ بأنْ تُطِيعَه القُوى والعناصِرُ، فهو يُخرِجُ النَّباتَ من الأرضِ بسبَبِ ماءِ السَّماءِ، فكان تَسخيرُ النَّباتِ أثَرًا لتَسخيرِ أصْلِ تَكوينِه من ماءِ السَّماءِ وتُرابِ الأرضِ [498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/237-238). .
- قولُه: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا كِنايةٌ عن كثْرَتِها في جِهاتِ الأرضِ [499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/237). .
- قولُه: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى لمَّا ذكَرَ مِنَّةَ خلْقِ الأرضِ، شفَعَها بمِنَّةِ إخراجِ النَّباتِ منها بما يُنزِلُ عليها من السَّماءِ من ماءٍ. وتلك مِنَّةٌ تُنْبِئُ عن خلْقِ السَّمواتِ؛ حيث أجْرى ذِكْرَها لقصْدِ ذلك التَّذكيرِ؛ ولذا لم يقُلْ: وصبَبْنا الماءَ على الأرضِ، كما في آيةِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 25، 26]. وهذا إدماجٌ بَليغٌ [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/237). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا، وقال في سُورةِ الزُّخرفِ: وَجَعَلَ [الزخرف: 10]. ووجْهُه: أنَّ لفْظَ السُّلوكِ مع السَّبيلِ أكثرُ استعمالًا، فخُصَّت به سُورةُ (طه)، وخُصَّت سُورةُ الزُّخرفِ بـ (جَعَل)؛ ازدواجًا للكلامِ، ومُوافقةً لِمَا قبْلَها وما بعْدَها [501] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/314)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 365). .
13- قولُه تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى مقولُ قَولٍ مَحذوفٍ هو حالٌ من ضَميرِ فَأَخْرَجْنَا، والتَّقديرُ: قائلينَ: كُلوا وارْعَوا أنعامَكم، والأمْرُ للإباحةِ، مُرادٌ به المِنَّةُ، والتَّقديرُ: كُلوا منها، وارْعَوا أنعامَكم منها، وهذا مِن مُقابَلةِ الجمْعِ -في قولِه: نَبَاتٍ شَتَّى- بالجمْعِ؛ لقصْدِ التَّوزيعِ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/239). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى جُملةٌ مُعترِضةٌ مُؤكِّدةٌ للاستدلالِ. وتأكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلَةَ المُنكرينَ؛ لأنَّهم لم يَنْظروا في دَلالةِ تلك المخلوقاتِ على وَحدانيَّةِ اللهِ، وهم يَحْسبون أنفُسَهم من أُولي النُّهى [503] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/239-240). .
- واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من شُؤونِه تعالى وأفعالِه، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتْبتِه، وبُعْدِ مَنزلتِه في الكَمالِ [504] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/22). .
- وتَنكيرُ لَآَيَاتٍ؛ للتَّفخيمِ كمًّا وكَيفًا، أي: لآياتٍ كثيرةً جَليلةً، واضحةَ الدَّلالةِ على شُؤونِ اللهِ تعالى في ذاتِهِ وصِفاتِه وأفعالِه، وعلى صِحَّةِ نُبوَّةِ مُوسى وهارونَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ. وتَخصيصُ كونِها آياتٍ بأُولي النُّهَى-مع أنَّها آياتٌ للعالمينَ- باعتبارِ أنَّهم المُنتفِعونَ بها [505] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/22). .
14- قولُه تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى مُستأنفٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وهذا إدماجٌ [506] الإدماجُ، لُغةً: الإدخالُ؛ يُقال: أدْمَجَ الشيءَ في ثَوبٍ، إذا لَفَّه فيه. واصطلاحًا: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعل المتكلِّمُ الكلامَ الذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة: البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427).. للتَّذكيرِ بالخلْقِ الأوَّلِ؛ ليكونَ دَليلًا على إمكانِ الخلْقِ الثَّاني بعْدَ الموتِ [507] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/240). .
- وقُدِّمَتِ المجروراتُ الثَّلاثةُ -مِنْهَا وَفِيهَا وَمِنْهَا- على مُتعلِّقاتِها؛ فأمَّا المجرورُ الأوَّلُ والمجرورُ الثَّالثُ فَلِلاهتمامِ بكونِ الأرضِ مبدَأَ الخلْقِ الأوَّلِ، والخلْقِ الثَّاني. وأمَّا تَقديمُ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ فَلِلْمُزاوجةِ [508] المُزاوجَةُ لُغةً: مصدرُ: زاوَجَ بين الشَّيئينِ؛ قرَنَ بينهما. واصطلاحًا: أنْ يُجمَعَ بين الشَّرطِ والجزاءِ في ترتُّبِ لازمٍ من اللَّوازمِ عليهما معًا، نحوُ قولِ الشاعرِ: إذا ما بَدَتْ فازدادَ منهما جمالُها          نظَرْتُ لها فازداد مِنِّي غرامُها فقد زاوَجَ بين معنيينِ؛ هما: بُدُوُّها وظُهورُها ونظَرُه لها في الشَّرطِ والجزاءِ، في أنْ رتَّبَ عليهما لُزومَ شَيءٍ، وهو ازديادُ الجمالِ وازديادُ الغرامِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/323)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 325)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/436). مع نَظيرَيْه [509] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/240). .
- قولُه: وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ إيثارُ كَلِمةِ (في) على كَلمةِ (إلى)؛ للدَّلالةِ على الاستقرارِ المَديدِ فيها [510] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/22). .
- قولُه: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ فيه إيماءٌ إلى أنَّ إخراجَ الأجسادِ من الأرضِ بإعادةِ خلْقِها كما خُلِقَت في المرَّةِ الأُولى [511] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/241). .
- والآيةُ كالتَّتميمِ للآيةِ الأُولى، والتَّكميلِ للمنافِعِ المنوطةِ بالأرضِ [512] التَّتميم: من أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التتميمِ قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال : بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. والتكميلُ هو الاحتراسُ، والفَرقُ بينه وبين التَّتميم: أنَّ الاحتراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التتميم فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بينهما -إذن- هي التباينُ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240 - 241). ؛ دلَّتِ الأُولى على بَيانِ مَرافقِهم وأصنافِ انتفاعِهم، وهذه على أنَّها أصْلُهم، وفيها تقلُّبُهم أحياءً وأمواتًا [513] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (1/186). .