موسوعة التفسير

سورةُ الشُّعَراءِ
الآيات (123-140)

ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ

غَريبُ الكَلِماتِ:

رِيعٍ: أي: مكانٍ مُرتَفعٍ مِن الأرضِ، وأصلُ (ريع): يدُلُّ على ارتِفاعٍ وعُلوٍّ .
آَيَةً: أي: بناءً عاليًا، وأعلامًا طِوالًا، وأصلُ الآيةِ: العَلامةُ
تَعْبَثُونَ: أي: تَلعَبون، وأصلُ (عبث): يدُلُّ على الخَلطِ .
مَصَانِعَ: أي: مَنازِلَ، وحُصونًا، وقُصورًا مُشَيَّدةً، وقيل: صهاريجُ أحواض عَميقةٌ تُتَّخَذُ للماءِ، وأصلُ (صنع): يدُلُّ على عَمَلِ الشَّيءِ .
تَخْلُدُونَ : أي: تُقيمون فلا تموتونَ، وأصلُ (خلد): يدُلُّ على الثَّباتِ والمُلازَمةِ .
بَطَشْتُمْ: أي: عاقبتُم وضَربتُم، وأصلُ (بطش): يدُلُّ على أخذِ الشَّيءِ بقَهرٍ وغَلَبةٍ .
جَبّارينَ: أي: قتَّالينَ بغيرِ حَقٍّ، وأصلُ (جبر): يدُلُّ على العُلُوِّ والقَهرِ .
أَوَعَظْتَ: الوَعظُ: زجْرٌ مُقترِنٌ بتخويفٍ، وتذكيرٌ بالخَيرِ وما يَرِقُّ له القَلبُ .
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ: أي: عادتُهم وشأنُهم ودينُهم، وأصلُ (خلق) هنا: تقديرُ الشَّيءِ .

المعنى الإجماليُّ:

يحكي الله تعالى تعالى جانبًا مِن قصةِ هودٍ عليه السلامُ معَ قومِه، فيقولُ: كذَّبَتْ قبيلةُ عادٍ رُسلَ اللهِ بتكذيبِهم رَسولَهم هودًا -فتَكذيبُهم له تكذيبٌ لِغَيرِه- حينَ قال لهم هودٌ، وهو أخوهم في النَّسَبِ: ألَا تتَّقون اللهَ، إنِّي لكم رسولٌ مِن اللهِ، أمينٌ على وَحيِه، فاتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعِقابَه، وأطيعوني، وما أطلُبُ منكم على نُصحي لكم ثوابًا ولا جزاءً؛ فما ثوابي إلَّا مِن اللهِ رَبِّ العالَمينَ.
 أتَبْنون بكُلِّ مَكانٍ مُرتَفِعٍ مِن الأرضِ بناءً عاليًا؛ عَبَثًا وفَخرًا، وتَصنَعون بناياتٍ مُحكَمةً كأنَّكم تَخلُدونَ في الدُّنيا، وإذا أخَذتُم النَّاسَ آذَيْتُموهم ظُلمًا وعُدوانًا! فاتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعِقابَه وأطيعوني، واتَّقوا اللهَ الذي أعطاكم ما تَعلَمونَ مِن النِّعَمِ؛ أعطاكم أنعامًا وبنينَ، وبَساتينَ وعيونَ ماءٍ، إنِّي أخافُ عليكم مِن الله عذابَ يومٍ عَظيمِ الأهوالِ.
فقال له قَومُه: سواءٌ عندَنا وَعْظُك لنا وعَدَمُه، فلن نؤمِنَ بك، ما هذا الذي نحن عليه إلَّا عادةُ آبائِنا الأوَّلينَ، ونحن تابِعونَ لهم، وما نحن بمعَذَّبينَ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى إصرارَهم على التكذيبِ، وسوءَ عاقبتِهم، فيقولُ: فكذَّب هؤلاء المُشرِكون رَسولَهم، فأهلَكْناهم أجمَعينَ. إنَّ في إهلاكِنا قَومَ هُودٍ لَعِظةً وعِبرةً، وما كان أكثَرُ قَومِ هودٍ مُؤمِنينَ، وإنَّ ربَّك -يا مُحمَّدُ- لهو العزيزُ المنتَقِمُ مِن أعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يعاجِلُهم بعذابِه.

تَفسيرُ الآياتِ:

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) .
أي: كذَّبَتْ قبيلةُ عادٍ بجَميعِ رُسُلِ الله .
كما قال تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هود: 59] .
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124).
أي: كذَّبوا هودًا -وهو أخوهم في النَّسَبِ- حينَ قال لهم: ألَا تتَّقون اللهَ، وتحذَرون عِقابَه، فتُوحِّدوه، وتَتركوا عبادةَ الأصنامِ ؟
كما قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65] .
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125).
أي: إنِّي لكم رَسولٌ مِن اللهِ، أمينٌ على وَحيِه الذي بعثَني به إليكم، فأبَلِّغُكم رسالتَه بلا زيادةٍ ولا نَقصٍ .
كما قال تعالى: وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 67-68] .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126).
أي: فاتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعِقابَه، وأطيعوني فيما آمُرُكم به، وأنهاكم عنه .
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127).
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.
أي: وما أطلُبُ منكم على نُصحي لكم أيَّ ثوابٍ وجَزاءٍ .
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أي: ما أرجو ثَوابي إلَّا مِن الله الخالِقِ الرَّازِقِ، المالِكِ المدَبِّرِ لجميعِ العالَمينَ دونَ غَيرِه .
كما قال تعالى: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ [هود: 51] .
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا فَرَغَ مِن الدُّعاءِ إلى الأصلِ -وهو الإيمانُ بالرَّسولِ والمُرسِلِ-؛ أتبَعَه إنكارَ بعضِ ما هم عليه ممَّا أوجبَه الكفرُ، وأوجبَ الاشتغالُ به الثباتَ على الغَيِّ، فقال :
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128).
أي: قال هودٌ لِقَومِه: أتَبْنونَ بكُلِّ مَكانٍ مُرتَفِعٍ بناءً عاليًا مُرتَفِعًا ؛ دَلالةً على قوَّتِكم وشِدَّتِكم، وتتَّخِذونَ ذلك فَخرًا وإظهارًا للقُدرةِ والعَظَمةِ، مِن غيرِ حاجةٍ ونفعٍ حقيقيٍّ يعودُ عليكم ؟!
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((مرَّ علَيَّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونحن نعالجُ خُصًّا لنا وَهَى ، فقال: ما هذا؟ فقُلْنا: خُصٌّ لنا وهَى، فنحن نُصلِحُه، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما أرَى الأمرَ إلَّا أعجَلَ مِن ذلك )) .
وعن قيسِ بن أبي حازمٍ، قال: (دخَلْنا على خَبَّابٍ نَعودُه، وقد اكتوى سَبْعَ كَيَّاتٍ، فقال: إنَّ أصحابَنا الذينَ سَلَفوا مَضَوا ولم تَنقُصْهم الدُّنْيا، وإنَّا أصَبْنا ما لا نجِدُ له مَوضِعًا إلَّا التُّرابَ، ولولا أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهَانا أن ندعوَ بالموتِ لدَعوتُ به. ثمَّ أتَيْناه مرَّةً أخرى وهو يَبني حائِطًا له، فقال: إنَّ المُسلِمَ لَيُؤجَرُ في كُلِّ شَيءٍ يُنفِقُه، إلَّا في شَيءٍ يَجعلُه في هذا التُّرابِ) .
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129).
أي: وتَصنَعونَ بِناياتٍ مُحكَمةً ، ..........................................
كأنَّكم تَخلُدونَ في الدُّنيا !
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ أنَّ عمَلَهم عمَلُ مَن لا يترقَّبُ الموتَ؛ أتبَعَه ما يدُلُّ على أنَّهم لا يَظنُّونَ الجزاءَ، فقال :
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130).
أي: وإذا أخَذْتُم النَّاسَ وقَهَرْتُموهم، فإنَّكم تُفرِطون في أذيَّتِهم عُدوانًا وظُلمًا، كأنْ يَقتُلوهم، أو يَضرِبوهم بقَسوةٍ بغيرِ حَقٍّ .
كما قال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 15] .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131).
أي: فاتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعِقابَه، وأطيعوني فيما آمُرُكم به وأنهاكم عنه؛ فقد بانَ لكم صِدقي .
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132).
أي: واتَّقوا الله الذي أعطاكم ما تعلَمونَ مِن النِّعَمِ والخَيراتِ المُتتابِعةِ .
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133).
أي: أعطاكم اللهُ ما تَعلمونَ مِن المواشي ، والأبناءِ الذُّكورِ .
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134).
أي: وأعطاكم اللهُ ما تعلمون مِنَ البساتينِ، وعُيونِ الماءِ .
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135).
أي: إنِّي أخافُ أن يُصيبَكم مِنَ الله عذابُ يومٍ عظيمِ الأهوالِ، إنْ أصرَرْتُم على الكُفرِ والتَّكذيبِ .
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136).
أي: قال قَومُ هودٍ لِنبيِّهم: يستوي عندَنا وَعْظُك لنا وتَركُك له، فلن نؤمِنَ بك، ولن نترُكَ دينَنا .
كما قال تعالى: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود: 53] .
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ خَلْقُ قيل: بمعنى: كَذِب، أي: ما هذا الذي أتَيْتَنا به مِن الدِّينِ ووعَدْتَنا مِن البَعثِ والعذابِ إلَّا كَذِبُ الأوَّلينَ، ومِن أحاديثِهم المُختَلَقةِ. وقيل: المرادُ إنكارُهم البَعثَ، أي: خُلِقْنا كما خُلِق الأوَّلون مِن قَبْلِنا، فنحنُ مِثلُهم نحيا ونموتُ ولا نُبعَثُ !
2- قِراءةُ خُلُقُ بمعنى: عادةِ آبائِنا الأوَّلينَ .
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137).
أي: ما هذا الذي نحن عليه إلَّا عادةُ آبائِنا الأوَّلين، ونحنُ تابعونَ لهم، سالِكونَ وراءَهم .
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138).
أي: ولن يُعَذِّبَنا اللهُ في الدُّنيا، ولن يبعَثَنا بعدَ مَوتِنا لِيُعذِّبَنا في الآخرةِ .
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139).
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ.
أي: فكذَّب المُشرِكون مِن قَومِ عادٍ رَسولَهم هودًا، فأهلَكْناهم في الدُّنيا .
كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت: 16].
وقال سُبحانَه: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة: 6 - 8] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.
أي: إنَّ في إهلاكِ قَومِ هُودٍ لَعِظةً وعِبرةً ودَلالةً واضِحةً على صِدقِ رسولِه .
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: ولم يكُنْ أكثَرُ قَومِ هُودٍ مُؤمِنينَ حقًّا، معَ وجودِ الآياتِ المُقتَضيةِ لإيمانِهم .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140).
أي: وإنَّ رَبَّك -يا مُحمَّدُ- لهو العزيزُ القاهِرُ الغالِبُ، المنتَقِمُ مِن أعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يعاجِلُهم بعَذابِه، ومِن رحمتِه أنَّه يُرسِلُ رُسُلًا، ويُنزِلُ معهم ما يُبَيِّنُ به ما يُرضيه وما يُسخِطُه، فلا يُهلِكُ قومًا إلَّا بعد إعذارِهم، ومِن رحمتِه أنَّه يُنجِّي أتْباعَ رُسُلِه .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يكونَ غرَضُه مِن عمَلِه -ولا سيَّما العمَلِ الجبَّارِ العظيمِ- أنْ يكونَ غرضُه غرَضًا صحيحًا، لا عبثًا ومُباهاةً؛ لِقَولِه: تَعْبَثُونَ، وهذا هو مَحَطُّ الانتقادِ، ليس بأنْ يَبنوا بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً، ولكنْ كَوْنُ ذلك عبثًا هو مَحَلُّ الانتقادِ، ومَحَطُّ اللَّومِ .
2- في قَولِه تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ حاصلُ الأمرِ في هذه الأمورِ الثلاثةِ: أنَّ اتِّخاذَ الأبنيةِ العاليةِ يدُلُّ على حُبِّ العُلوِّ، واتخاذَ المصانعِ يدُلُّ على حُبِّ البقاءِ، والجبَّاريَّةَ تدُلُّ على حُبِّ التفَرُّدِ بالعُلوِّ، فيَرجِعُ الحاصلُ إلى أنَّهم أحَبُّوا العلوَّ، وبقاءَ العلوِّ، والتفرُّدَ بالعلوِّ، وهذه صفاتُ الإلهيَّةِ، وهي ممتنعةُ الحصولِ للعبدِ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ حُبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيثُ استغرَقوا فيه، وخرَجوا عن حَدِّ العبوديَّةِ، وحاموا حولَ ادِّعاءِ الرُّبوبيَّةِ، وكلُّ ذلك يُنَبِّهُ على أنَّ حُبَّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ، وعنوانُ كلِّ كُفرٍ ومَعصيةٍ .
3- إنَّ اتخاذَ المباني الفَخمةِ للفَخرِ والخُيَلاءِ والزِّينةِ، وقَهرَ العبادِ بالجَبَروتِ: مِن الأمورِ المذمومةِ الموروثةِ عن الأُمَمِ الطَّاغيةِ، كما قال اللهُ في قِصَّةِ عادٍ، وإنكارِ هودٍ عليهم؛ قال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ .
4- في قَولِه تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أنَّ الدَّاعِيةَ ينبغي له أنْ يُذَكِّرَ المدعوَّ بنِعَمِ اللهِ عليه، والحكمةُ مِن تذكيرِه بالنِّعَمِ: أنَّ النِّعَمَ تستوجِبُ الشكرَ، وطاعةَ الرحمنِ، وتَضمَنُ ذلك عقلًا؛ لأنَّ مَن أَحسَنَ إليك، فإنَّه مِن المستحسَنِ عقلًا أنْ تُطيعَه بما يأمُرُك به .
5- ينبغي للدَّاعِيةِ -مع قَرْنِ دعوتِه بذِكرِ النِّعَمِ- أنْ يَقْرِنَها بالتَّخويفِ، ويُؤخَذُ مِن قولِه: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وينبغي إذا كان المقامُ أنسَبَ أنْ يكونَ غيرَ مُصَرِّحٍ بذلك؛ لقَولِه: إِنِّي أَخَافُ كالمتوقِّعِ له غيرِ الجازمِ به، فلم يَقُلْ: إنَّكم ستُصابونَ بيومٍ عظيمٍ؛ لأنَّ المقامَ يقتضي ذلك، ولكلِّ مقامٍ مقالٌ ، وأيضًا أبرَزَ تحذيرَهم من عذابِ اللهِ في صُورةِ الخوفِ لا على سَبيلِ الجزمِ؛ إذْ كان راجيًا لإيمانِهم .
6- في قَولِه تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ أنَّ التكذيبَ سببٌ للإهلاكِ، فينبغي للمؤمنِ الذي يَعتبرُ بقَصصِ الأنبياءِ السابقينَ أنْ يَحذرَ مِن هذا التكذيبِ؛ لأنَّه إنْ فعَلَ أُهلِكَ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ جوازُ وصفِ الإنسانِ بالثَّناءِ على نَفْسِه للمَصلحةِ، وهذا أيضًا وَرَدَ عن النَّبِيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ أنَّه قال: ((أنا سيِّدُ ولدِ آدَمَ يومَ القيامةِ )) ، وورَدَ أيضًا عنِ الصحابةِ مِثلُ هذا المَدحِ في قولِ ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (لو أعلَمُ أحدًا أعلَمَ مِنِّي بكتابِ اللهِ -تَبلُغُه الإبلُ- لرَكِبتُ إليه) ، لكنْ بشرطِ أنْ يكونَ غرضُ الإنسانِ مِن ذلك المصلحةَ .
2- في قَولِه تعالى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ دليلٌ على إخلاصِ الرُّسُلِ للهِ .
3- في قَولِه تعالى: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الاحتِسابُ؛ احتسابُ الإنسانِ عَمَلَه على اللهِ، فليس هذا للإدلالِ على اللهِ بهذا العَمَلِ، والمِنَّةِ عليه به، ولكنَّ الاحتسابَ به عليه لرَجاءِ ثوابِه .
4- في قَولِه تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ دليلٌ على أنَّ كلَّ مَن عَمِيَ عن الحُجَّةِ، وترَكَ تَبَصُّرَ البَيانِ، وعَوَّلَ على عَقْلِ غيرِه: أهلَكَه؛ إذْ لا يُعلَمُ أحَدٌ مِمَّن هَلَكَ مِن القرونِ الخاليةِ إلَّا صادًّا عن بيانِ الرُّسُلِ، مُعَوِّلًا على الآباءِ الماضِينَ، واختيارِ عقولِهم على عقولِ أنفُسِهم، ألَا ترى أنَّ عادًا أَهملوا مَوعِظةَ هودٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَركوا الإصغاءَ إليه مُطْمَئنِّينَ إلى ما كان آباؤُهم يقولونَ؟! ويأمُلون أنَّهم إذا ماتوا لم يُبعَثوا، ولم يُحاسَبوا !
5- قال الله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ، في قوله: تَعْبَثُونَ أنَّ هؤلاء الذين يحاولون أنْ يَصِلوا إلى الكواكبِ مثلُ قومِ عادٍ تمامًا، فالطريقةُ هي الطريقةُ -وإنْ كان الأسلوبُ مختلفًا-، يعني: يفعلون هذه الأشياءَ عبثًا؛ إِذْ لا يستفيدونَ منها فيما خُلِقَ لهم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، فالذي في الأرضِ هو الذي خُلِق لنا، فانتفِعوا به مباشرةً، أمَّا الذي في السماءِ فمُسَخَّرٌ لمصالِحِنا؛ ولكنَّنا لا ننتفعُ به مباشرةً! فالذي يُنتفعُ به مباشرةً هو ما في الأرضِ، ولهذا يقولُ بعضُ الناسِ: «لماذا تحاولونَ أنْ تَصِلوا للسَّماءِ، وأنتم عاجزونَ عن حَلِّ مشاكلِكم في الأرضِ؟!»، وهذا صحيحٌ، لكنَّهم يعملونَ هذا لمجرَّدِ العَبَثِ والفخرِ؛ وأنَّهم أقوياءُ، مع أنَّ قومَ هودٍ -وهؤلاءِ القومُ أيضًا المعاصرون- يَخسَرون لأجْلِ هذه الأمورِ خسائرَ باهظةً! فصارت عبثًا؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ يُتعِبُ الإنسانُ فيه جسْمَه ومالَه وفِكْرَه بدونِ فائدةٍ فهو عبثٌ، ولا فائدةَ منه .
6- البِناياتُ للقُصورِ والحُصونِ والدُّورِ وغَيرِها مِن الأبنيةِ: إمَّا أن تُتَّخَذَ مساكِنَ للحاجةِ إليها، والحاجاتُ تتنوَّعُ وتختَلِفُ، فهذا النوعُ مِن الأمورِ المباحةِ، وقد يُتوسَّلُ به بالنيَّةِ الصالحةِ إلى الخيرِ، وإمَّا أن تكونَ البناياتُ حُصونًا واقيةً لشُرورِ الأعداءِ، وثُغورًا تُحفَظُ بها البلادُ ونحوُها مما ينفَعُ المسلمينَ، ويقيهم الشَّرَّ؛ فهذا النوعُ يدخُلُ في الجهادِ في سَبيلِ الله، وهو داخِلٌ في الأمرِ باتِّخاذِ الحَذَرِ مِن الأعداءِ، وإمَّا أن تكونَ للفَخرِ والخُيَلاءِ والبَطشِ بعبادِ اللهِ، وتبذيرِ الأموالِ التي يتعيَّنُ صَرفُها في طُرُقٍ نافعةٍ؛ فهذا النوعُ هو المذمومُ الذي أنكرَه اللهُ على عادٍ وغَيرِهم؛ قال الله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ .
7- هذه النِّعَمُ التي يُمِدُّ اللهُ بها العبدَ تستوجِبُ تقوى اللهِ؛ لقولِه: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، فقولُه: الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ كالتَّعليلِ للأمرِ بالتقوى، أتَى به إقامةً للحُجَّةِ عليهم؛ لأنَّ مَن أمَدَّك بهذه النِّعمِ كان أولَى بأنْ تتَّقِيَه .
8- قَولُه تعالى: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يدُلُّ على أنَّ هذا الرَّبعَ الخاليَ الآنَ من الماءِ أنَّه كان فيه بساتينُ، وكان فيه أنهارٌ، ولعَلَّ هذا يُوحي به أيضًا قَولُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((لا تقومُ السَّاعةُ حتى تعودَ أرضُ العَرَبِ مُروجًا وأنهارًا )) ، فإنَّ قَولَه: ((حتى تعودَ )) العَودُ بعْدَ البَدءِ، فهذه الجنَّاتُ ليست مجرَّدَ بساتينَ فقط؛ لأنَّه لا يُسمَّى البُستانُ جنَّةً إلَّا إذا كان كثيرَ الأشجارِ والزُّروعِ، حيث يَجُنُّ مَن فيه ويَستُرُه .
9- الإنسانُ قد لا يَكتَرِثُ بالواعِظِ؛ لكَوْنِه مِن غيرِ أهلِه، وقد لا يَكتَرِثُ به عِنادًا، وهؤلاء لَمَّا قالوا: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ دلَّ ذلك على أنَّهم مُعانِدونَ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافَ تَعدادٍ لأخبارِ التَّسليةِ للرَّسولِ، وتَكريرِ الموعظةِ للمُكذِّبينَ بعْدَ جُملةِ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] .
2- قولُه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيه حَذْفُ ياءِ وَأَطِيعُونِ؛ لمراعاةِ الفاصلةِ .
3- قولُه تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ
- الاستِفهامُ في قولِهِ: أَتَبْنُونَ استفهامُ إنكارٍ وتَوْبيخٍ ، ولَمَّا صار أثَرُ البِناءِ شاغِلًا عن المقصدِ النافِعِ للحياةِ في الآخرةِ، نُزِّلَ فِعلُهمُ المُفْضي إلى العَبَثِ منزلةَ الفِعلِ الذي أُريدَ منه العبثُ عندَ الشُّروعِ فيه؛ فأنكَرَ عليهِمُ البِناءَ بإدخالِ همزةِ الإنكارِ على فعْلِ (تَبْنُونَ)، وقُيِّدَ بجملةِ ? التي هي في موضِعِ الحالِ مِن فاعِلِ (تَبْنُونَ)، مع أنَّهم لَمَّا بَنَوْا ذلك ما أرادوا بفِعلِهم عبثًا؛ فمَناطُ الإنكارِ مِنَ الاستفهامِ الإنكاريِّ هو البِناءُ المُقَيَّدُ بالعبَثِ؛ لأنَّ الحُكمَ إذا دخَلَ على مُقَيَّدٍ بقَيْدٍ انصرَفَ إلى ذلك القَيْدِ، وكذلك المعطوفُ على الفعلِ المستفهَمِ عنه -وهو جملةُ ?  ?- هو داخِلٌ في حَيِّزِ الإنكارِ، ومُقَيَّدٌ بجملةِ الحالِ المُقَيَّدِ بها المعطوفُ عليه .
4- قولُه تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ
- قولُه: مَصَانِعَ مصدرٌ ميميٌّ وُصِفَ به؛ للمبالَغةِ .
- قولُه: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ على القولِ بأنَّ (لعلَّ) على بابِها مِنَ الرَّجاءِ، فكأنَّه تعليلٌ للبِناءِ والاتِّخاذِ. وقيل: معناهُ الاستفهامُ على سبيلِ التوبيخِ والهُزْءِ بهم، أي: هل أنتم تَخْلُدون ؟!
5- قولُه تعالى: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ وقَعَ فِعلُ بَطَشْتُمْ الثاني جوابًا لـ (إذا)، وهو مُرادفٌ لفِعلِ شرْطِها؛ لحُصولِ الاختلافِ بيْنَ فعلِ الشرطِ وفعلِ الجوابِ بالعُمومِ والخُصوصِ، وإنَّما يُقصَدُ مِثلُ هذا النَّظْمِ لإفادةِ الاهتمامِ بالفِعلِ؛ إذْ يحصُلُ مِن تكريرِه تأكيدُ مدلولِه . وقيل: أتَى بالجَزاءِ نفْسَ الشرْطِ؛ للمبالَغةِ .
6- قولُه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- لَمَّا أفاد الاستِفهامُ في قولِه: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً [الشعراء: 128] معنى الإنكارِ على ما قارَنَ بِناءَهُمُ الآياتِ واتِّخاذَهُمُ المصانِعَ وعلى شِدَّتِهم على الناسِ عِندَ الغضبِ؛ فرَّعَ عليه أمْرَهم باتِّقاءِ اللهِ، وحصَلَ معَ ذلك التفريعِ تكريرُ جملةِ الأمرِ بالتَّقْوى والطاعَةِ .
- وحَذْفُ ياءِ المتكلِّمِ مِن أَطِيعُونِ؛ لرِعايةِ الفاصلةِ .
7- قولُه تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ
- أُعيدَ فِعلُ وَاتَّقُوا وهو مُستغنًى عنه لوِ اقتُصِرَ على المَوصولِ وصفًا لاسمِ الجلالةِ؛ لأنَّ ظاهِرَ النَّظْمِ أنْ يُقالَ: (فاتَّقوا اللهَ الذي أمَدَّكم بما تعلمونَ)؛ فعُدِلَ عن مُقتضى الظاهِرِ، وبُنِيَ الكلامُ على عطْفِ الأمرِ بالتَّقوى على الأمرِ الذي قبْلَه؛ تأكيدًا له، واهتمامًا بالأمرِ بالتقْوى، مع أنَّ ما عرَضَ مِنَ الفصلِ بيْنَ الصِّفةِ والموصوفِ بجملةِ وَأَطِيعُونِ قضَى بأنْ يُعادَ اتِّصالُ النَّظمِ بإعادةِ فِعلِ (اتَّقُوا) .
- وقيل: إنَّما أُتِيَ بفعلِ (اتَّقُوا) مَعطوفًا، ولم يُؤْتَ به مَفصولًا -أي: غيرَ مَعطوفٍ-؛ لِمَا في الجُملةِ الثانيةِ مِنَ الزِّيادةِ على ما في الجُملةِ الأولى مِنَ التذكيرِ بإنعامِ اللهِ عليهم؛ فعُلِّقَ بفِعلِ التقْوى في الجُملةِ الأُولى اسمُ الذاتِ المقدَّسةِ؛ للإشارةِ إلى استحقاقِه التقْوى لِذاتِه، ثمَّ عُلِّقَ بفعلِ التقوى في الجملةِ الثانيةِ اسمُ الموصولِ بصِلَتِه الدالَّةِ على إنعامِه؛ للإشارةِ إلى استحقاقِه التقوى؛ لاستحقاقِه الشكرَ على ما أنعَمَ به .
- ولَمَّا نبَّهَهم ووَبَّخَهم على أفعالِهِمُ القبيحةِ، أمَرَهم ثانيًا بتقوى اللهِ وطاعةِ نبيِّهِ، ثمَّ أمَرَهم ثالثًا بالتقوى؛ تنبيهًا لهم على إحسانِه تعالى إليهم، وسُبوغِ نعمتِه عليهم، وأبرَزَ صِلةِ (الذي) مُتعلِّقةً بعِلْمِهم؛ تنبيهًا لهم وتحريضًا على الطاعةِ والتقْوى؛ إذْ شُكْرُ المحسِنِ واجبٌ، وطاعتُه مُتعيِّنةٌ، ومُشيرًا إليهم بأنَّ مَن أمَدَّ بالإحسانِ هو قادرٌ على سَلْبِه، وعلى تعذيبِ مَن لم يَتَّقِهِ؛ إذْ هذا الإمدادُ ليس مِن جِهتِكم، وإنَّما هو مِن تفَضُّلِه تعالى عليكم؛ بحيثُ أتبعَكم إحسانَه شيئًا بعْدَ شيءٍ .
8- قولُه تعالى: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
- أجْمَلَها أوَّلًا، ثمَّ فصَّلها بقولِه: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ... بإعادةِ الفعلِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ؛ فإنَّ التَّفصيلَ بعْدَ الإجمالِ والتَّفسيرَ إثْرَ الإبهامِ أدْخَلُ في ذلك . وهذا التفصيلُ بعْدَ الإجمالِ واردٌ على المبالَغةِ في التنبيهِ على نِعَمِ اللهِ تعالى .
- وقد جاء في ذِكْرِ النِّعمةِ بالإجمالِ الذي يُهيِّئُ السامِعينَ لتلقِّي ما يَرِدُ بعْدَه؛ فقال: الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، ثمَّ فصَّلَ بقولِه: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وأُعيدَ فِعلُ أَمَدَّكُمْ في جُملةِ التفصيلِ؛ لزِيادةِ الاهتمامِ بذلك الإمدادِ؛ فهو للتوكيدِ اللَّفظيِّ، وهذه الجملةُ بمنزلةِ بَدَلِ البعضِ مِن جُملةِ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ؛ فإنَّ فعلَ أَمَدَّكُمْ الثاني وإنْ كان مُساويًا لـ أَمَدَّكُمْ الأوَّلِ؛ فإنَّما صار بدلًا مِنه باعتبارِ ما تعلَّقَ به مِن قولِه: بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ... إلخ الذي هو بعضٌ ممَّا تعلمونَ، وكِلا الاعتبارَيْنِ -التوكيدُ والبدلُ- يَقتضي الفَصْلَ؛ فلأجْلِه لم تُعطَفِ الجملةُ .
- وبَدَأَ تَعدادَ النِّعَمِ بذِكْرِ الأَنعامِ؛ لأنَّها أجَلُّ نعمةٍ على أهلِ ذلك البلدِ؛ لأنَّ منها أقواتَهم ولِباسَهم، وعليها أسفارَهم، وكانوا أهلَ نُجْعةٍ ؛ فهي سببُ بقائِهم، وعطَفَ عليها البنينَ؛ لأنَّهم نعمةٌ عظيمةٌ؛ بأنَّها أُنْسُهم وعَوْنُهم على أسبابِ الحياةِ، وبقاءِ ذِكْرِهم بعْدَهم، وكثرةِ أُمَّتِهم . وقيل: قَرَنَ البَنينَ بالأنعامِ؛ لأنَّهُمُ الذينَ يُعينونَهم على حِفْظِها، والقِيامِ عليها .
9- قولُه تعالى: وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- بالَغَ في تَنبيهِهم على نِعَمِ اللهِ؛ حَيثُ أَجْمَلَها، ثمَّ فصَّلَها مُستشِهدًا بعِلْمِهم؛ وذلك أنَّه أيقظَهم عن سِنَةِ غفلتِهم عنها حينَ قال: أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، ثمَّ عدَّدَها عليهم، وعرَّفَهُمُ المُنعِمَ بتَعديدِ ما يَعلَمونَ مِن نِعمتِه، وأنَّه كما قدَّرَ أنْ يتفضَّلَ عليكم بهذه النِّعمةِ، فهو قادرٌ على الثَّوابِ والعِقابِ؛ فاتَّقُوهُ .
- قولُه: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ كرَّرَه مُرتَّبًا على إمدادِ اللهِ تعالى إيَّاهم بما يَعرِفونَه مِن أنواعِ النِّعَمِ؛ تَعليلًا وتنبيهًا على الوعْدِ عليه بدَوامِ الإِمدادِ، والوَعيدِ على تركِه بالانقطاعِ، ثمَّ فصَّلَ بعضَ تِلك النِّعَمِ، كما فصَّلَ بعضَ مَساويهِمُ المدلولِ عليها إجمالًا بالإنكارِ في أَلَا تَتَّقُونَ؛ مُبالَغةً في الإيقاظِ، والحثِّ على التقوى؛ فقال: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ثمَّ أَوْعَدَهم فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فإنَّه كما قَدَرَ على الإنعامِ قَدَرَ على الانتقامِ .
- وعطَفَ الجنَّاتِ والعُيونَ على الأنعامِ والبَنينَ؛ لأنَّها بها رفاهيةُ حالِهم، واتِّساعُ رِزْقِهم، وعَيْشُ أنعامِهم ، والإمدادُ بها مِن إتمامِ النِّعمةِ .
10- قولُه تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تعليلٌ لإنكارِ عدَمِ تَقْواهم .
11- قولُه تعالى: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ
- قولُه: أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ آثَرَ ذلِك التعبيرَ ولم يقُلْ: (أَوَعَظْتَ أمْ لم تَعِظْ)، مع أنَّه أَخْصَرُ والمعنى واحدٌ في الظاهِرِ؛ لأنَّ المعنى ليس بواحدٍ، وبيْنَهما فَرْقٌ؛ لأنَّ المرادَ: سَواءٌ علينا أَفَعَلْتَ هذا الفِعلَ الذي هو الوعْظُ، أم لم تكُنْ أصلًا مِن أهلِه ومُباشِريهِ؛ فهو أبلَغُ في قِلَّةِ اعتِدادِهم بوعظِه مِن قولِكَ: أمْ لم تَعِظْ ؛ فأَتَوْا في طرَفِ الإثباتِ بالفعلِ الصَّريحِ الذي دَلَّ على حُصولِه منه مرَّةً، وفي النَّفيِ باسمِ الفاعلِ على الاستغراقِ؛ نَفَوْا أنْ يَكونَ مِن زُمْرةِ مَن حصَلَ منهم هذا الفِعلُ، واستَهْزَؤوا فيه، أي: سَواءٌ علينا أَجَدَّدْتَ الوعْظَ، أمِ اسْتمرَرْتَ على ما كُنتَ عليه مِنَ الإمساكِ عنه، والخُمولِ فيه .
- وتقديرُ الكلام: (أَوَعَظْتَ أمْ لم تَعِظْ، أو أَكُنْتَ واعظًا تَستحِقُّ أنْ يَنصرِفَ الناسُ إليك، ويأخُذوا مِنكَ، أم لم تكُنْ واعِظًا)، فحذَفَ مِن كلِّ واحدةٍ ما يُقابِلُها؛ اختِصارًا للوُضوحِ، وهذه غايةُ ما يكونُ مِن بلاغةِ القرآنِ، وبالنِّسبةِ لهم غايةُ ما يكونُ مِنَ الاستكبارِ، وعدَمِ الاكتراثِ بوعظِهم .
- وقيل: عَادَلَ أَوَعَظْتَ بقولِه: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ، وإنْ كان قد يُعادِلُه: أمْ لم تَعِظْ، كما قال: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا [إبراهيم: 21] ؛ لأجْلِ الفاصلةِ، كما عادَلَتْ في قولِه: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ [الأعراف: 193] ، ولم يأتِ الترَّكيبُ: أمْ صَمَتُّمْ، وكثيرًا ما يَحْسُنُ مع الفواصلِ ما لا يَحْسُنُ دونَه .
- وجعَلوا قولَه وعْظًا؛ إذْ لم يَعتقِدوا صِحَّةَ ما جاء به، وأنَّه كاذبٌ فيما ادَّعاهُ، وقولُهم ذلك على سبيلِ الاستِخفافِ، وعدَمِ المبالاةِ بما خوَّفَهم به .
12- قولُه تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تعليلٌ لمضمونِ جُملةِ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ .
13- قولُه تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
- الفاءُ في فَكَذَّبُوهُ فَصيحةٌ، أي: فتبيَّنَ أنَّهم بقوِلهم: سَواءٌ علينا ذلكَ أَوَعَظْتَ... إلخ، قد كذَّبوه؛ فأهلَكْناهُم .