موسوعة التفسير

سورةُ فُصِّلَت
الآيات (13-18)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ

غريب الكلمات:

صَاعِقَةً: الصَّاعِقةُ: هي الصَّوتُ الشَّديدُ مِن الجوِّ، ثمَّ يكونُ منه نارٌ فقط، أو عذابٌ، أو موتٌ، وقيل: الصَّاعقةُ: كلُّ عَذابٍ مُهلِكٍ، أو: هي اسمٌ للعذابِ على أيِّ حالٍ كان، وأصلُ (صعق): يدُلُّ على شِدَّةِ الصَّوتِ [189] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 49)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/285)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1079)، ((البسيط)) للواحدي (2/206)، ((المفردات)) للراغب (ص: 484- 485)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/32). قال ابن جرير: (وأصْلُ الصَّاعِقةِ: كُلُّ أمْرٍ هائِلٍ رآه أو عايَنَه أو أصابَه، حتى يَصيرَ مِن هَوْلِه وعَظيمِ شَأْنِه إلى هَلاكٍ وعَطَبٍ، وإلى ذَهابِ عَقلٍ وغُمورِ فَهْمٍ، أو فَقْدِ بَعضِ آلاتِ الجِسمِ، صَوتًا كان ذلك، أو نارًا، أو زَلزَلةً، أو رَجْفًا). ((تفسير ابن جرير)) (1/690). .
صَرْصَرًا: أي: شَديدةَ البَردِ والصَّوتِ، والصَّرصَرُ: الرِّيحُ العاصِفةُ التي يكونُ لها صَرصَرةٌ، أي: دَوِيٌّ في هُبوبِها؛ مِن شِدَّةِ سُرعةِ تنقُّلِها، مأخوذٌ مِن الصِّرِّ: وهو البَردُ الذي يَصُرُّ، أي: يَجمَعُ ويَقبِضُ [190] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 388)، ((تفسير ابن جرير)) (20/397)، ((المفردات)) للراغب (ص: 482)، ((تفسير الزمخشري)) (2/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/259). .
نَحِسَاتٍ: أي: نَكِداتٍ مَشؤوماتٍ، وأصلُ (نحس): يدُلُّ على خِلافِ السَّعدِ [191] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 388)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 467)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/401)، ((المفردات)) للراغب (ص: 794)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 337). .
الْخِزْيِ: أي: الهَوانِ والذُّلِّ، وأصلُ الخِزْيِ: الإبعادُ [192] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 61)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 215)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/179)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (5/3330)، ((المفردات)) للراغب (ص: 281)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .
الْهُونِ: أي: الهَوانِ والخِزْيِ والذُّلِّ، وأصْلُ (هون) هنا: يدُلُّ على الذُّلِّ [193] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/21)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 99)، ((تفسير القرطبي)) (16/200)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 962). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُهدِّدًا المشركينَ: فإنْ أعرَضَ مُشرِكو قَومِك -يا مُحمَّدُ- عن الحَقِّ الذي دَعَوتَهم إليه، فقُلْ لهم: أنذَرْتُكم عَذابًا شَديدًا يَستأصِلُكم، كالعَذابِ الذي أهلَكَ اللهُ به عادًا وثَمودَ حينَ جاءَتْهم رُسُلُ اللهِ مِن كلِّ جانبٍ، واجتَهدوا في تبلِيغهم مِن كلِّ جِهةٍ بألَّا تَعبُدوا إلَّا اللهَ وَحْدَه لا شَريكَ له. قالوا: لو شاء ربُّنا عِبادَتَه وَحْدَه لأرسَلَ إلينا مَلائِكةً مِن السَّماءِ يأمُرونَنا بذلك، فإنَّا كافِرونَ بتَوحيدِ الله الذي أرسَلَكم به!
ثمَّ يقولُ تعالى -مُفصِّلًا حالَ كلٍّ مِن عادٍ وثمودَ-: فأمَّا عادٌ فتكَبَّروا في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ، وقالوا: لا أحَدَ أشَدُّ مِنَّا قُوَّةً!
ثمَّ يردُّ اللهُ تعالى عليهم، فيقولُ: أوَلَم يرَوا أنَّ اللهَ الذي خلَقَهم من العَدَمِ هو أشَدُّ منهم قُوَّةً؟! وكان أولئك الكُفَّارُ جاحِدينَ بآياتِ اللهِ.
ويَذكُرُ سبحانَه ما نزَل بهم مِن العذابِ، فيقولُ: فأرسَلْنا عليهم رِيحًا عظيمةً شَديدةَ البَردِ والصَّوتِ في أيَّامٍ مَشؤُوماتٍ عليهم؛ لكي نُذيقَهم العذابَ الذي يُهينُهم ويُذِلُّهم في الحياةِ الدُّنيا، ولَعَذابُ الآخِرةِ أشَدُّ خِزيًا وإهانةً وإذلالًا لهم!
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى حالَ ثمودَ وما نزَل بهم مِن العذابِ، فيقولُ: وأمَّا ثَمودُ فأرشَدْناهم إلى طَريقِ الحَقِّ فآثَروا الكُفرَ على الإيمانِ، والضَّلالَ على الهُدى؛ فأهلَكَهم اللهُ بصَيحةِ العَذابِ المُذِلِّ المُهينِ؛ بسَبَبِ ما كانوا يَكسِبونَه مِن الآثامِ، ونجَّينا مِن العَذابِ صالِحًا والمؤمِنينَ معه المتَّقينَ رَبَّهم بامتِثالِ ما أمَرَ، واجتنابِ ما نهى.

تفسير الآيات:

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الكلامَ إنَّما ابتُدِئَ مِن قَولِه تعالَى: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [فصلت: 6] ، واحتَجَّ عليه بقَوِله تعالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] ، وحاصِلُه أنَّ الإلهَ الموصوفَ بهذه القُدرةِ القاهِرةِ كيف يجوزُ الكُفرُ به، وكيف يجوزُ جَعْلُ هذه الأجسامِ الخَسيسةِ شُرَكاءَ له في الإلهيَّةِ؟! ولَمَّا تَمَّم تلك الحُجَّةَ قال: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وبيانُ ذلك أنَّ وظيفةَ الحُجَّةِ قد تمَّتْ على أكمَلِ الوُجوهِ، فإنْ بَقُوا مُصِرِّينَ على الجَهلِ، لم يَبقَ حينئذٍ عِلاجٌ في حَقِّهم إلَّا إنزالُ العذابِ عليهم [194] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/551). .
وأيضًا بعدَ أنْ أنكَرَ اللهُ عليهم عِبادةَ الأندادِ والأوثانِ، وطَلَب إليهم ألَّا يَعبُدوا إلَّا اللهَ الَّذي خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ، إلى غيرِ ذلك مِمَّا ذَكَر مِن دَلائِلِ ألوهيَّتِه ووَحدانيَّتِه، ثمَّ أعرَضوا عن كُلِّ ذلك؛ لم يَبقَ حينئذٍ طَريقٌ للعِلاجِ، ومِن ثَمَّ أمَرَ رَسولَه أن يُنذِرَهم بحُلولِ شَديدِ النِّقَمِ بهم إنْ هم أصَرُّوا على عِنادِهم [195] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (24/114). .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13).
أي: فإنْ أعرَضَ مُشرِكو قَومِك -يا مُحمَّدُ- عن الحَقِّ فلم يُؤمِنوا، وأصَرُّوا على باطِلِهم بعدَ هذا البَيانِ التَّامِّ في هذه الآياتِ التي دَلَّت على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وكَمالِ عِلمِه وقُدرتِه، وغَيرِها مِن صِفاتِ كَمالِه؛ فقُلْ لهم: حَذَّرْتُكم وخَوَّفْتُكم عَذابًا شَديدًا وَقعُه، فيُهلِكُكم ويَستأصِلُكم كالعَذابِ الذي أهلَكَ اللهُ به عادًا وثَمودَ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/395)، ((تفسير القرطبي)) (15/346)، ((تفسير ابن كثير)) (7/168)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/158-159)، ((تفسير الشوكاني)) (4/583)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 88). ممَّن اختارَ في الجُملةِ أنَّ الـمُرادَ بالصَّاعِقةِ هنا: العَذابُ الشَّديدُ والهَلاكُ: مقاتِل بن سُليمان، والسَّمرقندي، وابن أبي زَمنين، والواحدي، والسمعاني، والبَغوي، والزَّمخشري، وابن الجوزي، والرَّسْعني، والقُرطبي، والبقاعي، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/737)، ((تفسير السمرقندي)) (3/221)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/148)، ((الوسيط)) للواحدي (4/28)، ((تفسير السمعاني)) (5/44)، ((تفسير البغوي)) (4/127)، ((تفسير الزمخشري)) (4/191)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/48)، ((تفسير الرسعني)) (7/13)، ((تفسير القرطبي)) (15/346)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/159)، ((تفسير العليمي)) (6/148)، ((تفسير الشوكاني)) (4/583)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746). قال الشوكاني: (والمرادُ بالصَّاعقةِ العذابُ المُهْلِكُ مِنْ كلِّ شيءٍ). ((تفسير الشوكاني)) (4/583). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/48). وذكَر الزمخشري أنَّ الصَّاعِقةَ: العذابُ الشَّديدُ الوقْعِ الَّذي كأنَّه صاعِقةٌ. ((تفسير الزمخشري)) (4/191). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/13)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/159). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذكرُه: ...فقُلْ لهم: أنْذَرْتُكم أَيُّها النَّاسُ صاعقةً تُهْلِكُكم مِثْلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ، ومعنَى الصَّاعِقَةِ: كلُّ ما أفسَد الشَّيءَ وغيَّرَه عن هَيْئَتِه. وقيل: في هذا الموضعِ عُنِي بها وقيعَةٌ مِن اللَّهِ وعذابٌ). ((تفسير ابن جرير)) (20/395) بتصرف. وقال ابن عُثَيمين: (الـمِثْلِيَّةُ هنا لا تَقتَضي -واللهُ أعلَمُ- الـمُماثَلةَ مِن كُلِّ وَجْهٍ، بل مِثليَّةٌ في أصْلِ الهَلاكِ، أو في مَآلِ العَذابِ، ويَحتَمِلُ أنَّ اللهَ تعالى أنذَرَهم مِثلَ صاعِقةِ عادٍ وثَمودَ، وصاعِقةُ عادٍ وثَمودَ نوعان: الرَّجفةُ والرِّيحُ الشَّديدةُ. الذين أُهلِكوا بالرِّيحِ الشَّديدةِ هُم عادٌ، والذين أُهلِكوا بالرَّجفةِ والصَّيحةِ هُم ثَمودُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 88). .
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14).
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
أي: وذلك حينَ جاءتْ عادًا وثمودَ رُسُلُ اللهِ مِن كلِّ جانبٍ، واجتَهدوا في دَعوتِهم مِن كلِّ جِهةٍ بألَّا تَعبُدوا إلَّا اللهَ وَحْدَه لا شَريكَ له [197] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/68)، ((تفسير ابن جزي)) (2/239، ((تفسير العليمي)) (6/148)، ((تفسير الشوكاني)) (4/583). ممَّن اختار المعنى المذكورَ في قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ: الزمخشريُّ، والرَّسْعني، والنَّسَفي، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/191)، ((تفسير الرسعني)) (7/14)، ((تفسير النسفي)) (3/230)، ((تفسير العليمي)) (6/148)، ((تفسير الشوكاني)) (4/583)، ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/253). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الرُّسل الَّذين أُرسلوا إلى آبائِهم مِن قَبْلهم، وأنَّ قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني مِن بَعدِ الرُّسلِ الذين أُرسلوا إلى آبائِهم، وهُم الرُّسُل الذين أُرسلوا إليهم (هود وصالح، عليهما السلام، وغيرهما): ابن جرير، والثعلبي، والبغوي، وابن الجوزي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/395)، ((تفسير الثعلبي)) (8/288)، ((تفسير البغوي)) (4/127)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/48)، ((تفسير الخازن)) (4/84). وعلى هذا القولِ فالضميرُ في قولِه تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، لعادٍ وثمودَ، وفي قولِه: وَمِنْ خَلْفِهِمْ للرسلِ. قال ابن عطية: (أما الطبري فقال: الضميرُ في قَولِه: وَمِنْ خَلْفِهِمْ عائدٌ على الرسلِ، والضميرُ في قَولِه: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ على الأممِ، وتابَعه الثعلبيُّ، وهذا غيرُ قويٍّ؛ لأنَّه يُفرِّقُ الضمائرَ ويُشعِّبُ المعنى). ((تفسير ابن عطية)) (5/8). وقيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني: مِن قَبْل عادٍ وثمودَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني: مِن بَعدِ عادٍ وثمودَ. وممن اختاره مقاتل بن سليمان، والسمرقندي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/738)، ((تفسير السمرقندي)) (3/221). قال البيضاوي في بيانِ هذا الوجهِ: (أو: مِن قبلِهم ومِن بعدِهم؛ إذ قد بلَغهم خبرُ المتقدِّمينَ، وأخبَرهم هودٌ وصالحٌ عن المتأخرينَ، داعينَ إلى الإِيمانِ بهم أجمعينَ). ((تفسير البيضاوي)) (5/68). وقال الرازي: (فإنْ قِيلَ: الرُّسلُ الَّذينَ جاؤوا مِن قَبْلِهم ومِنْ بعدِهم، كيفَ يمكنُ وصفُهم بأنَّهم جاؤوهم؟ قُلْنا: قدْ جاءَهم هودٌ وصالحٌ داعِيَيْنِ إلى الإيمانِ بهما وبجَميعِ الرُّسلِ، وبهذا التَّقديرِ فكأنَّ جميعَ الرُّسلِ قدْ جاؤوهم). ((تفسير الرازي)) (27/551). وقيل: المعنى: أنذَرُوهم عَذابَ الدُّنيا وعذابَ الآخِرَةِ، وممَّن اختاره: ابنُ أبي زَمنين. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/148). وقال ابنُ عطية: (قولُه: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي: قد تقدَّموا في الزَّمنِ، واتَّصلتْ نذارتُهم إلى أعمارِ عادٍ وثمودَ، وبهذا الاتصالِ قامت الحُجَّةُ. وقولُه: «مِنْ خَلْفِهِمْ»، أي: جاءهم رسولٌ بعدَ اكتِمالِ أعمارِهم، وبعدَ تقدُّم وجودِهم في الزمنِ؛ فلذلك قال: وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وجاء مِن مجموعِ العِبارةِ إقامةُ الحُجَّةِ عليهم في أنَّ الرِّسالةَ والنِّذارةَ عمَّتهم خبرًا ومُباشَرةً، ولا يتوجَّهُ أنْ يُجعَلَ وَمِنْ خَلْفِهِمْ عِبارةً عمَّا أتَى بعدَهم في الزمنِ؛ لأنَّ ذلك لا يَلحقُهم منه تقصيرٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/8). وقال الألوسي: (قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ متعلِّقٌ بـ جَاءَتْهُمُ، والضميرُ المضافُ إليه لعادٍ وثمودَ... وجُوِّز كونُ الضميرِ المضافِ إليه للرُّسلِ، والمرادُ: جاءتهم الرُّسُلُ المتقدِّمونَ والمتأخِّرونَ، على تنزيلِ مجيءِ كلامِهم ودعوتِهم إلى الحقِّ منزلةَ مجيءِ أنفسِهم... وقال الطبريُّ: الضميرُ في قولِه تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لعادٍ وثمودَ، وفي قولِه تعالى: وَمِنْ خَلْفِهِمْ للرُّسلِ، وتعقَّبه في البحرِ). ((تفسير الألوسي)) (12/362). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/395)، ((تفسير أبي حيان)) (9/293). وقال البيضاوي: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أتَوْهُم مِن جميعِ جوانبِهم، واجتَهدوا بهم مِن كلِّ جهةٍ، أو مِن جهةِ الزمنِ الماضي بالإنذارِ عمَّا جرَى فيه على الكُفَّارِ، ومِن جِهةِ المستقبلِ بالتحذيرِ عمَّا أُعِدَّ لهم في الآخِرةِ، وكلٌّ مِن اللفظينِ يَحتِملُهما، ... ويَحتِملُ أنْ يكونَ عِبارةً عن الكثرةِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/68). .
كما قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65] .
وقال سُبحانَه: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 73] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [الأحقاف: 21] .
قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً.
أي: قال كُفَّارُ عادٍ وثَمودَ لِرُسُلِهم حينَ دَعَوهم إلى تَوحيدِ اللهِ تعالى: لو شاء رَبُّنا أنْ يأمُرَنا بعِبادتِه وَحْدَه لأرسَلَ إلينا مَلائِكةً مِن السَّماءِ يأمُرونَنا بذلك، ولم يُرسِلْ إلينا بَشَرًا مِثْلَنا [198] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/396)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/255). !
كما قال تعالى عن قَومِ نوحٍ عليه السَّلامُ: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 24] .
وقال عزَّ وجلَّ: كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا [التغابن: 6] .
فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ.
أي: فإنَّا -إذَنْ- كافِرونَ بتَوحيدِ اللهِ الذي زعَمْتُم أنَّه أرسَلَكم به، ولا نَتَّبِعُكم وأنتم بشرٌ مِثلُنا [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/397)، ((تفسير ابن عطية)) (5/8)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169). !
كما قال تعالَى عن عادٍ قَومِ هُودٍ عليه السَّلامُ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [الأعراف: 66] .
وقال سُبحانَه عن ثمودَ قَومِ صالحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف: 75، 76].
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ: 34].
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
بعْدَ أنْ حَكَى عن عادٍ وثَمودَ ما اشتَرَكَ فيه الأُمَّتانِ مِن المُكابَرةِ والإصرارِ على الكُفْرِ؛ فصَّلَ هنا بعضَ ما اختَصَّتْ به كلُّ أُمَّةٍ منهما مِن صُورةِ الكُفْرِ، وذكَرَ مِن ذلك ما له مُناسَبةٌ لِمَا حَلَّ بكلِّ أُمَّةٍ منهما مِن العذابِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/255). .
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: فأمَّا عادٌ فتكَبَّروا وتجَبَّروا وعَتَوْا في الأرضِ ظُلمًا دونَ أن يكونَ لهم الحَقُّ في ذلك [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/397)، ((تفسير القرطبي)) (15/347)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/256). .
كما قال اللهُ سبحانَه حاكيًا ما قال لهم رسولُهم هودٌ عليه السلامُ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء: 128 - 130] .
وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر لهم هذا الذَّنبَ العَظيمَ -وهو الاستِكبارُ- وكان فِعلًا قَلبيًّا؛ ذكَرَ ما ظَهَر عليهم مِن الفِعلِ اللِّسانيِّ المعَبِّرَ عَمَّا في القَلبِ، فقال [202] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/295). :
وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً.
أي: وقالوا -ظَنًّا منهم أنَّهم يَمتَنِعونَ بقُوَّتِهم مِن عذابِ اللهِ، وأنَّه لا يَغلِبُهم أحَدٌ-: لا أحَدَ أشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/397)، ((تفسير القرطبي)) (15/347)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/256)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 98). !
فقال الله تعالى، ردًّا عليهم [204] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/28). :
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
أي: أوَلَم يرَ كُفَّارُ عادٍ أنَّ اللهَ الَّذي خَلَقَهم مِنَ العَدَمِ -حيثُ لم يكونوا شَيئًا-، وأعطاهم ما أعطاهم مِنَ القُوَّةِ: هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/397)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/162)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 99). قال السعدي: (فلولا خَلْقُه إيَّاهم لم يُوجَدوا، فلو نَظَروا إلى هذه الحالِ نظَرًا صَحيحًا لم يغتَرُّوا بقُوَّتِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 746). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: إنكارُ عَدَمِ عِلمِهم بأنَّ اللهَ أشَدُّ منهم قُوَّةً، حيثُ أعرَضوا عن رِسالةِ رَسولِ رَبِّهم وعن إنذارِه إيَّاهم إعراضَ مَن لا يكتَرِثُ بعَظَمةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّهم لو حَسَبوا لذلك حِسابَه لتوقَّعَوا عذابَه، فلأقبَلوا على النَّظَرِ في دلائِلِ صِدقِ رَسولِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (24/257). ؟!
وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ.
أي: وكان كُفَّارُ عادٍ مُصِرِّينَ على الجُحودِ بآياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على صِدقِ رُسُلِه فيما دَعَوْهم إليه مِنَ الحَقِّ [206] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/397)، ((تفسير القرطبي)) (15/347)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/258)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 99). .
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16).
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ.
أي: فأرسَلْنا عليهم رِيحًا عَظيمةً بارِدةً، شَديدةَ الصَّوتِ والهُبوبِ، في أيَّامٍ مَشؤوماتٍ عليهم، أصابَهم فيها سُوءٌ وعَذابٌ شَديدٌ؛ فأُهلِكوا فيها [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/397، 398، 401)، ((تفسير القرطبي)) (15/347)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/163)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/259)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/16، 17). قال ابنُ عاشورٍ: (المرادُ: أنَّ تلك الأيَّامَ بخُصوصِها كانتْ نحسًا، وأنَّ نَحْسَها عليهم دونَ غَيرِهم من أهلِ الأرضِ؛ لأنَّ عادًا هم المقصودونَ بالعَذابِ، وليس المرادُ أنَّ تلك الأيَّامَ مِن كُلِّ عامٍ هي أيَّامُ نَحسٍ على البَشَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/259). ويُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/194)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/18). وقال ابنُ عاشور أيضًا: (وُصِفتْ تِلك الأيَّامُ بأنَّها نَحِساتٌ؛ لِأنَّها لم يَحدُثْ فيها إلَّا السُّوءُ لهم مِن إصابةِ آلامِ الهَشمِ المُحَقَّقِ إفضاؤُه إلى المَوتِ، ومُشاهَدةِ الأمواتِ مِن ذَويهم، ومَوتِ أنعامِهم، واقتِلاعِ نَخيلِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (24/260). .
كما قال تبارَك وتعالَى: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 24، 25].
وقال سُبحانَه: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42].
وقال تعالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 19، 20].
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ [الحاقة: 6، 7].
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: عَذَّبْناهم بذلك؛ لكي نُذيقَهم العذابَ الذي يُهينُهم ويُذِلُّهم ويَفضَحُهم في الحياةِ الدُّنيا [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/402)، ((تفسير القرطبي)) (15/348)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/165)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 101). .
وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ.
أي: ولَعذابُ الآخِرةِ أشَدُّ خِزْيًا، وأعظَمُ إهانةً وإذلالًا لهم، ولا يَنصُرُهم مِنَ اللهِ ناصِرٌ؛ فيدفَعَ عنهم عذابَه، أو يُنقِذَهم منه [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/402)، ((تفسير القرطبي)) (15/348)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 746)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/261). !
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17).
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ.
أي: وأمَّا ثَمودُ فأرشَدْناهم ودَلَلْناهم على طَريقِ الحَقِّ [210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/402)، ((تفسير القرطبي)) (15/349)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/156)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/37)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/19). قال ابنُ عاشور: (لَمَّا كان حالُ الأُمَّتَيْنِ واحِدًا في عدَمِ قَبولِ الإرشادِ مِن جانِبِ اللهِ تعالى، كما أشار إليه قَولُه تعالى: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [فصلت: 14]، كان الإخبارُ عن ثمودَ بأنَّ اللهَ هداهم مُقتَضيًا أنَّه هدَى عادًا مِثلَما هدَى ثمودَ، وأنَّ عادًا استحَبُّوا العَمى على الهُدى مِثلَما استحبَّت ثمودُ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/262). .
كما قال تعالَى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت: 38] .
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.
أي: فاختاروا وآثَرُوا الكُفرَ على الإيمانِ، والضَّلالَ على الهُدَى، مع تَبَيُّنِ الحَقِّ لهم [211] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/403)، ((تفسير القرطبي)) (15/349)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/19، 20). !
فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
أي: فأهَلَكهم اللهُ بصَيحةِ عَذابٍ أذَلَّهم وأهانَهم بسَبَبِ ما كانوا يَكسِبونَه مِنَ الآثامِ؛ بكُفرِهم باللهِ، ومَعصيتِهم له، وتَكذيبِهم رَسولَه، وعَقْرِهم النَّاقةَ [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/404، 405)، ((تفسير القرطبي)) (15/349)، ((تفسير ابن كثير)) (7/169)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/21، 23، 24). .
كما قال تعالَى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود: 67، 68].
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر: 31].
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللَّهُ سُبحانَه الوَعيدَ أرْدَفه بالوَعدِ [213] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/554). ، فقال تعالى:
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18).
أي: ونَجَّينا مِن العَذابِ صالِحًا والمؤمِنينَ به مِن قَومِه الَّذين كانوا يَعبُدونَ اللهَ وَحْدَه، ويَمتَثِلونَ أمْرَه، ويجتَنِبونَ الشِّركَ به ومَعصيتَه [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/405)، ((تفسير القرطبي)) (15/349)، ((تفسير ابن كثير)) (7/170)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747). وممَّن قال بأنَّ المرادَ هنا: نجاةُ المؤمِنينَ مِن قومِ ثمودَ؛ صالِح عليه السَّلامُ ومَن اتَّبَعه مِن المؤمنينَ: القرطبيُّ، والخازن، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/349)، ((تفسير الخازن)) (4/86)، ((تفسير ابن كثير)) (7/170)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/24). وقيل: المرادُ بالآيةِ: إنجاءُ المؤمِنينَ مِن عادٍ وثمودَ. وممَّن قال بهذا: البقاعي، وابن عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) (17/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/263). .
كما قال تعالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود: 66] .

الفوائد التربوية:

في قولِ اللهِ تعالَى: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إثباتُ أنَّ العَمَلَ كَسْبٌ للإنسانِ؛ لِقَولِه تعالَى: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: أنَّه إذا كان العَمَلُ كَسْبًا للإنسانِ فإنَّه يَجِبُ عليه بمُقتَضى العَقلِ -كما هو مُقتَضى الشَّرعِ- أنْ يَسعَى إلى الكَسبِ المفيدِ، لا إلى الكَسْبِ الضَّارِّ، كما كان يَفعَلُ في أُمورِ الدُّنيا؛ ولهذا ضَلَّ مَن ضَلَّ في عَقْلِه ودِينِه مَنِ احتجَّ بالقَدَرِ على معاصي اللهِ، ولم يَحتَجَّ بالقَدَرِ على أُمورِ الدُّنيا؛ ففي أمورِ الدُّنيا يَعمَلُ ويَكدَحُ ويَسعَى لِمَا فيه المَنفعةُ والمصلَحةُ، لكنْ في أُمورِ الآخِرةِ يَتكاسَلُ مُحتَجًّا بالقَدَرِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 113). ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فيه سُؤالٌ: كيف يَجوزُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُنذِرَ قَومَه مِثلَ صاعِقةِ عادٍ وثَمودَ، مع العِلمِ بأنَّ ذلك لا يَقَعُ في أُمَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقدْ صَرَّح اللهُ تعالَى بذلك في قَولِه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] ، وجاء في الأحاديثِ الصَّحيحةِ أنَّ اللهَ تعالَى رفَعَ عن هذه الأُمَّةِ هذه الأنواعَ مِن الآفاتِ [216] يُنظر: ما أخرجه مسلمٌ (2889) من حديث ثوبان، و(2890) من حديث سعدِ بن أبي وقَّاص. وما أخرجه أحمد (21053) والنسائي (1638) من حديث خبَّاب بن الأرَتِّ. ؟
الجوابُ: أنَّ سورةَ الأنفالِ مَدنيَّةٌ، وهذه مَكِّيَّةٌ [217] يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (6/52). .
وقيل: إنَّهم لَمَّا عَرَفوا كَونَهم مُشارِكينَ لعادٍ وثَمودَ في الكُفرِ، عَرَفوا كَونَهم مُشارِكينَ لعادٍ وثَمودَ في استِحقاقِ مِثلِ تلك الصَّاعِقةِ، وأنَّ السَّبَبَ المُوجِبَ للعَذابِ واحِدٌ، ورُبَّما يكونُ العَذابُ النَّازِلُ مِن جِنسِ ذلك العَذابِ، وإنْ كان أقَلَّ دَرَجةً منهم، وهذا القَدرُ يَكفي في التَّخويفِ [218] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/554)، ((تفسير الشربيني)) (3/512) . .
ويُمكِنُ القولُ بأنَّ آيةَ الأنفالِ أخبرَتْ عن امتِناعِ العذابِ وهو بيْنَ أَظْهُرِهم، أو وهُمْ يَستغفرون، فإذا خرَج مِن بيْنَ أظْهُرِهم وانتفَى الاستِغفارُ منهم حَلَّ بهم العذابُ.
2- في قَولِه تعالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إثباتُ القِياسِ؛ لأنَّ إنذارَ المكذِّبِين إذا لم يكُنِ المرادُ بذلك قِياسَ حالِ المكذِّبِين للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم على حالِ المكذِّبِين لهودٍ وصالحٍ؛ لم يكُنْ لهذا الإنذارِ فائدةٌ! إذنْ ففيه جوازُ القِياسِ والاعتبارِ بالنظيرِ والمماثِلِ، ولقدْ قال اللهُ تعالَى في آيةٍ أُخرَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف: 111] ، وإثباتُ القِياسِ دليلًا هو مِن محاسِنِ الشَّريعةِ؛ لأنَّ ذلك مُقتضَى العقلِ السَّليمِ؛ إذْ إنَّ العقلَ لا يمكنُ أبدًا أنْ يُفَرِّقَ بينَ متماثِلَينِ، وعلى هذا؛ فالَّذين أَنكروا القياسَ؛ وقالوا: لا قِياسَ في الشريعةِ خالفوا الدَّليلَ السَّمعيَّ، والدَّليلَ العَقليَّ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 93). .
3- في قَولِه تعالى: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أنَّ الرُّسُلَ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم أتَوْا بتحقيقِ التوحيدِ، وهذا هو الأصلُ الأصيلُ الذي دَعَتْ إليه الرُّسُلُ جميعًا [220] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 94). .
4- في قَولِه تعالى: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إنْ قِيل: الرُّسلُ الذين مِن قبْلِهم ومِن بَعدِهم -على قولٍ- كيفَ يُوصَفونَ بأنَّهم جاؤوهم، وكيف يُخاطِبونَهم بقولِهم: فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، أيْ: نَكفُرُ بما جاءَ به كُلُّ الرُّسُلِ، مع أنَّ اللهَ أرسَلَ إليهم هُودًا وصالِحًا فَقَطْ؟
فالجوابُ: أنَّه قد جاءهم هُودٌ وصالِحٌ داعيَيْنِ إلى الإيمانِ بهما وبجَميعِ الرُّسُلِ مِمَّن جاؤوا مِن بَينِ أيديهم، أيْ: مِن قَبلِهم، ومِمَّن يَجيءُ مِن خَلفِهم، أيْ: مِن بَعدِهم، فكَأنَّ الرُّسُلَ جَميعًا قد جاؤوهم، وقَولُهم: فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ خِطابٌ منهم لِهُودٍ وصالِحٍ ولسائِرِ الأنبياءِ الذين دَعَوْا إلى الإيمانِ بهم [221] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/192)، ((تفسير البيضاوي)) (5/86)، ((تفسير أبي حيان)) (9/295)، ((تفسير أبي السعود)) (8/8). .
5- أنَّ الملائكةَ يُقِرُّ بها عامَّةُ الأممِ؛ كما ذَكَر اللهُ عن قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ -مع شِرْكِهم وتكذيبِهم بالرُّسُلِ- أنهم كانوا يَعرفون الملائكةَ، قال قومُ نوحٍ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [المؤمنون: 24] ، وقال تعالى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [222] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/319). .
6- قال اللهُ تعالَى: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً هذه الشُّبهةُ لم تَزَلْ مُتوارَثةً بينَ المكَذِّبينَ مِنَ الأُمَمِ، وهي مِن أَوهَى الشُّبَهِ؛ فإنَّه ليس مِن شَرطِ الإرسالِ أنْ يكونَ المُرسَلُ مَلَكًا، وإنَّما شَرطُ الرِّسالةِ أنْ يأتيَ الرَّسولُ بما يدُلُّ على صِدقِه؛ فلْيَقدَحوا إنْ استَطاعوا في صِدْقِهم بقادِحٍ عَقليٍّ أو شَرعيٍّ، ولنْ يَستطيعوا إلى ذلك سَبيلًا [223] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 746). ! وهذه الشُّبهةُ ليستْ بحُجَّةٍ؛ بدليلِ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ في آيةٍ أخرى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] ، وحِينئذٍ لو أنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ مَلَكًا لَجَعَله رجُلًا ولعادَتِ الشُّبهةُ [224] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 94). ، فلو بعَثَ اللهُ إلى البشَرِ رسولًا مَلَكيًّا لكان على هيئةِ الرجُلِ؛ لتُمْكِنَهم مُخاطَبَتُه، والانتفاعُ بالأخذِ عنه؛ لأنَّهم لا يستطيعونَ النَّظرَ إلى الملائكةِ مِن شِدَّةِ النُّورِ، ولو كان كذلك لالْتبَس عليهم الأمرُ، كما هم يَلْبِسون على أنفُسِهم في قَبولِ رِسالةِ الرَّسولِ البشَريِّ. وهذه الآيةُ الكريمةُ مِن سورةِ (الأنعامِ) تدُلُّ على أنَّ الرسولَ يَنبغي أن يكونَ مِن نَوعِ المُرسَلِ إليهم، كما أشار تعالى إلى ذلك أيضًا بقولِه: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [225] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/472) و (3/186) و (6/335-337). [الإسراء: 95] .
7- أنَّ المُقِرَّ بالرُّبوبيَّةِ لا يُعَدُّ مُؤمِنًا حتَّى يُقِرَّ بالأُلوهيَّةِ؛ لقولِهم: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، وهكذا الكُفَّارُ الَّذين بُعِثَ فيهم الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا مُقِرِّينَ بالرُّبوبيَّةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ، ولكنَّ الإيمانَ بالرُّبوبيَّةِ لا يَكفي في كونِ الإنسانِ مُسلِمًا! لا بُدَّ مِن الإيمانِ بالأُلوهيَّةِ إضافةً إلى الإيمانِ بالرُّبوبيَّةِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 95). .
8- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَولُه تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ هذه ليسَتْ صِفةً مُقَيِّدَةً، ولكِنَّها صِفَةٌ كاشِفَةٌ؛ لأنَّ كُلَّ استكبارٍ في الأرضِ هو بغيرِ الحقِّ؛ فالاستكبارُ لا يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ، بل هو قِسْمٌ واحِدٌ، ويُسمَّى مِثْلُ هذا القَيدِ صِفةً كاشِفَةً، أي: تَكْشِفُ ما سَبَقَ، وتُبَيِّنُ حَقيقتَه [227] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 97). .
9- مَجامِعُ الخِصالِ الحَميدةِ: الإحسانُ إلى الخَلْقِ، والتَّعظيمُ لِلخالِقِ؛ فقَولُه: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مُضادٌّ لِلإحسانِ إلى الخَلْقِ، وقَولُه: وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ مُضادٌّ لِلتَّعظِيمِ لِلخالِقِ، وإذا كان الأمْرُ كذلك، فهُم قدْ بَلَغوا في الصِّفاتِ المَذمومةِ المُوجِبةِ لِلهَلاكِ والإبطالِ إلى الغايةِ القُصْوى؛ فلهذا المعنَى سَلَّطَ اللهُ العَذابَ عليهم، فقال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا [228] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/553). .
10- في قَولِه تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ حِكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ بأخْذِهم بالعذابِ، حيثُ أُخِذوا بما هو ألطفُ الأشياءِ، وهو الرِّيحُ، الرِّيحُ اللَّطيفةُ الَّتي يكونُ بها إنعاشُ البَدَنِ وتقويتُه ونشاطُه؛ هي التي أَهْلَكَ بها عادًا؛ لأنَّهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [229] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 103). .
11- قَولُه تعالَى: وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وقَولُه تعالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً فيه الاستِدلالُ بالأثَرِ على المُؤَثِّرِ وأنَّه أكمَلُ، وهكذا كُلُّ ما في المَخلوقاتِ مِن قُوَّةٍ وشِدَّةٍ تَدُلُّ على أنَّ اللهَ أقوى وأشَدُّ، وما فيها مِن عِلمٍ يَدُلُّ على أنَّ اللهَ أعلَمُ، وما فيها مِن حَياةٍ يَدُلُّ على أنَّ اللهَ أَوْلَى بالحَياةِ [230] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/357). .
12- قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً فيه جَوازُ عَقْدِ المفاضَلةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ في مَقامِ المُحاجَّةِ؛ لِقَولِه تعالى: أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً مع أنَّه سُبحانَه أَشَدُّ مِن كلِّ أحدٍ، لكِنَّ المقامَ مَقامُ مُحَاجَّةٍ، ومقامُ المُحَاجَّةِ لا بأس أنْ تُذكَرَ فيه المفاضَلةُ بين المُفَضَّلِ والمُفَضَّلِ عليه، ونظيرُ هذا -بل أبلغُ منه- قولُ اللهِ تعالى: آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59] ، وليس في أصنامِهم خيرٌ، لكنْ هذا مِن بابِ المُحَاجَّةِ، وأنَّ الإنسانَ يُحَاجُّ الخَصْمَ بما يُقِرُّ به [231] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 103). .
13- في قَولِه تعالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ إضافةُ النَّحْسِ إلى الأيامِ، وأنَّه لا بأسَ به، كما قال لوطٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77] ، وهذا إذا كان المرادُ به مُجَرَّدَ الخَبرِ، كما هنا، وأمَّا إذا كان المرادُ به العَيبَ والسَّبَّ فإنَّه لا يَجوزُ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 101). وينظر ما أخرجه البخاري (6181) (6182) ومسلم (2246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن سب الدهر. .
14- قال اللهُ تعالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، وقال أيضًا: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19] ما يَذكُرُه بَعضُ أهلِ العِلمِ مِن أنَّ يَومَ النَّحسِ المُستَمِرِّ هو يومُ الأربعاءِ الأخيرِ مِن الشَّهرِ، أو يَومُ الأربعاءِ مُطلَقًا، حتَّى إنَّ بَعضَ المُنتَسِبينَ لطَلَبِ العِلمِ، وكثيرًا مِن العوامِّ صاروا يتشاءَمونَ بيَومِ الأربِعاءِ الأخيرِ مِن كلِّ شَهرٍ، حتَّى إنَّهم لا يُقدِمونَ على السَّفَرِ والتزَوُّجِ ونحوِ ذلك فيه، ظانِّينَ أنَّه يَومُ نَحسٍ وشُؤمٍ، وأنَّ نَحسَه مُستَمِرٌّ على جميعِ الخَلقِ في جميعِ الزَّمَنِ: لا أصلَ له ولا مُعَوَّلَ عليه، ولا يَلتَفِتُ إليه مَن عِندَه عِلمٌ؛ لأنَّ نَحْسَ ذلك اليَومِ مُستَمِرٌّ على عادٍ فقط، الذين أهلَكَهم اللهُ فيه؛ فاتَّصَل لهم عذابُ البَرزخِ والآخِرةِ بعَذابِ الدُّنيا، فصار ذلك الشُّؤمُ مُستَمِرًّا عليهم استِمرارًا لا انقِطاعَ له [233] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/18). .
15- قال اللهُ تعالَى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى هذا هُدًى بعدَ البَيانِ والدَّلالةِ، وهو شَرْطٌ، لا مُوجِبٌ؛ فإنَّه إنْ لم يقتَرِنْ به هُدًى آخَرُ بَعدَه لم يَحصُلْ به كَمالُ الاهتِداءِ، وهو هُدى التَّوفيقِ والإلهامِ [234] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/66). ؛ فهدايةُ البيانِ والدَّلالةِ -التي أقام اللهُ بها حُجَّتَه على عِبادِه- لا تَسْتَلْزِمُ الاهتداءَ التَّامَّ [235] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/84). .
16- قَولُ اللهِ تعالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ عِقابُهم كان عِقابًا مُناسِبًا للجُرْمِ؛ لأنَّهم استَحَبُّوا الضَّلالَ الذي هو مِثلُ العَمَى، فمَن يَستَحِبَّه فشَأنُه أن يُحِبَّ العَمَى، فكان جزاؤُهم بالصَّاعِقةِ؛ لأنَّها تُعمي أبصارَهم في حينِ تُهلِكُهم؛ قال تعالَى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/262). [البقرة:20] .
17- قَولُ اللهِ تعالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ عبَّرَ عن الهلاكِ الذي أهلَكَ به ثَمودَ بعِباراتٍ مُختَلفةٍ؛ فذَكَرَه هنا باسمِ (الصَّاعِقةِ)، وكذا في قَولِه: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] ، وعَبَّرَ عنه أيضًا بالصَّاعقةِ في قولِه تعالَى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الذاريات: 43، 44]، وعبَّرَ عنه بالصَّيحةِ في آياتٍ أُخرَى مِن كِتابِه، كقَولِه تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود: 67، 68]، وعَبَّرَ عنه بالرَّجفةِ في قَولِه تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف: 77، 78]، وعبَّرَ عنه بالتَّدميرِ في قولِه سُبحانَه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل: 51]، وعبَّرَ عنه بالطَّاغيةِ في قولِه عزَّ وجلَّ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] ، وعبَّرَ عنه بالدَّمدَمةِ في قولِه تعالَى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس: 14] ، وعبَّرَ عنه بالعَذابِ في قولِه جلَّ شأنُه: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ [الشعراء: 157، 158]، ومعنى هذه العِباراتِ كُلِّها راجِعٌ إلى شَيءٍ واحِدٍ، وهو أنَّ الله أرسَلَ عليهم صَيحةً أهلَكَتْهم، والصَّيحةُ: الصَّوتُ المُزعِجُ المُهلِكُ. والصَّاعِقةُ تُطلَقُ أيضًا على الصَّوتِ المُزعِجِ المُهلِكِ، وعلى النَّارِ المُحرِقةِ، وعليهما معًا؛ ولشِدَّةِ عِظَمِ الصَّيحةِ وهَولِها مِن فَوقِهم رَجَفَت بهم الأرضُ مِن تحتِهم، أي: تحَرَّكَت حَرَكةً قَويَّةً؛ فاجتمع فيها أنَّها صَيحةٌ وصاعِقةٌ ورَجفةٌ، وكونُ ذلك تدميرًا واضِحٌ. وقيل لها: طاغِيةٌ؛ لأنَّها واقِعةٌ مُجاوِزةٌ للحَدِّ في القُوَّةِ وشِدَّةِ الإهلاكِ [237] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/21-22). .
18- قَولُ اللهِ تعالَى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى فيه الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ الذين قالوا: إنَّ الإنسانَ مُجبَرٌ على عَمَلِه؛ ؛ لأنَّ «استحَبُّوا» تدلُّ على اختيارِهم لهذا الشَّيءِ، وأنَّهم آثَرُوه على الهُدى [238] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 111). .
19- قولُه تعالَى: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه إثباتُ الأسبابِ؛ والباءُ هنا للسَّبَبِيَّةِ. واعلمْ أنَّ اللهَ تعالَى لن يَحْكُمَ حُكْمًا شرعيًّا ولا حُكْمًا قَدَرِيًّا ولا حُكْمًا جزائيًّا إلَّا لسببٍ، وهذه قاعِدةٌ: لن يَحْكُمَ حُكْمًا شرعيًّا -كالإيجابِ والتحريمِ والإباحةِ-؛ ولا قَدَرِيًّا -كالخَلْقِ والتكوينِ-؛ ولا جزائيًّا إلَّا لسببٍ، نَعْلَمُ ذلك عِلْمَ اليقينِ، ونأخذُه مِن أنَّ اللهَ تعالى حَكيمٌ؛ والحَكيمُ هو الذي يَضَعُ الأشياءَ مواضعَها، لا يمكنُ أنْ يكونَ فِعْلُ اللهِ فَلْتَةً ولا صُدْفَةً، ولا لَغْوًا ولا لَعِبًا، بل لا بُدَّ له مِن سببٍ اقتضاه، لكنْ ليس كلُّ سَبَبٍ اقتضَى حُكْمَ اللهِ يكونُ معلومًا للخَلْقِ! لأنَّ الخَلْقَ أَعْجَزُ مِن أنْ يُدْرِكوا حِكمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وكم مِن أحكامٍ شرعيةٍ وكونيةٍ وجزائيةٍ لا نَعْلَمُ حِكْمَتَها؛ لأنَّنا أَقْصَرُ مِن أنْ نُحِيْطَ بحكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 112). !
20- في قَولِه تعالى: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ أنَّ الإيمانَ والتقوَى سببٌ للنَّجاةِ، ومثلُه قولُه تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ [الزمر: 61]، وفيه أيضًا أنَّ الإيمانَ وحدَه لا يكفي؛ بل لا بُدَّ مِن إيمانٍ وتقوَى [240] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 114). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ مُتَّصِلٌ بقَولِه تَعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ ... إلخ، أيْ: فإنْ أعرَضُوا عنِ التَّدَبُّرِ فيما ذُكِر مِن عَظائِمِ الأُمورِ الدَّاعيةِ إلى الإيمانِ، أو عنِ الإيمانِ بَعدَ هذا البَيانِ، فقُلْ لهم: أنْذَرْتُكم [241] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/7). .
- وبَعدَ أنْ قَرَعَتْهم الحُجَّةُ التي لا تَترُكُ لِلشَّكِّ مَسرَبًا إلى النُّفوسِ بَعدَها في أنَّ اللهَ مُنفَرِدٌ بالإلهيَّةِ؛ لأنَّه مُنفَرِدٌ بإيجادِ العَوالِمِ كُلِّها، وكانَ ثُبوتُ الوَحدانيَّةِ مِن شَأنِه أنْ يُزيلَ الرِّيبةَ في أنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن عِندِ اللهِ؛ لِأنَّهم ما كَفَروا به إلَّا لِأجْلِ إعلانِه بنَفْيِ الشَّريكِ عنِ اللهِ تَعالى، فلَمَّا استَبانَ ذلك كان الشَّأنُ أنْ يَفِيئوا إلى تَصديقِ الرَّسولِ والإيمانِ بالقُرآنِ، وأنْ يُقلِعوا عن إعراضِهم المَحكيِّ عنهم بقَولِه في أوَّلِ السُّورةِ: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ... [فصلت: 4] إلخ؛ فلذلك جُعِلَ استِمرارُهم على الإعراضِ بَعدَ تلك الحُجَجِ أمْرًا مَفروضًا كما يُفرَضُ المُحالُ؛ فجِيءَ في جانِبِه بحَرفِ (إنْ) الذي الأصْلُ فيه أنْ يَقَعَ في المَوقِعِ الذي لا جَزمَ فيه بحُصولِ الشَّرطِ؛ فمَعنى فَإِنْ أَعْرَضُوا: إنِ استَمَرُّوا على إعراضِهم بَعدَما هَدَيتَهم بالدَّلائِلِ البَيِّنةِ وكابَروا فيها؛ فالفِعلُ مُستَعمَلٌ في مَعنى الاستِمرارِ [242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/252). .
- وفي قَولِه: فَإِنْ أَعْرَضُوا التِفاتٌ؛ فقد خاطَبَهم أوَّلًا بقَولِه: أَئِنَّكُمْ بَيْدَ أنَّهم لم يَأْبَهوا لخِطابِه، ولم يَستَوعِبُوا نُصحَه؛ فالتَفَتَ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيبةِ؛ لأنَّهم فَعَلوا الإعراضَ، فليس له إلَّا أنْ يُعرِضَ عن خِطابِهم؛ لِيَصِحَّ التَّلاؤُمُ، ويُناسِبَ اللَّفظُ المَعنى، وهذا مِن أرفَعِ أنواعِ البَلاغةِ وأرقاها، وكم لِلالتِفاتِ مِن أسرارٍ [243] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/293)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/543). !
- وعُدِلَ عنِ المُضارِعِ المُستَقبَلِ إلى الماضي في قَولِه: أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ؛ لِلدَّلالةِ على أنَّ ما يُنذِرُهم به أمْرٌ مُتَحقِّقٌ لا مَندوحةَ عنه [244] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/7)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/543). .
- قَولِه: أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ حَقيقةُ الصَّاعِقةِ: نارٌ تَخرُجُ مع البَرقِ تُحرِقُ ما تُصيبُه، وتُطلَقُ على الحادِثةِ المُبيرةِ - أي: المُهْلِكة- السَّريعةِ الإهلاكِ، ولَمَّا أُضيفَتْ صَاعِقَةً هنا إلى عادٍ وثَمودَ، وعادٌ لم تُهلِكْهمُ الصَّاعِقةُ وإنَّما أهلَكَهمُ الرِّيحُ، وثَمودُ أُهلِكوا بالصَّاعِقةِ؛ فَقَدِ استعمَلَ الصَّاعِقةَ هنا بالمَعنيَينِ السابقَيْن؛ لقَصْدِ الإيجازِ، ولِيَقَعَ الإجمالُ ثم التَّفصيلُ بَعدُ بقَولِه: فَأَمَّا عَادٌ [فصلت: 15] إلى قَولِه: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/253). [فصلت: 17] .
- وفي قولِه: مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ خُصَّ بالذِّكرِ مِنَ الأُمَمِ المُهلَكةِ: عادٌ وثَمودُ؛ لِعِلْمِ قُرَيشٍ بحالِهما، ولِوقوعِهم على بِلادِهم في (اليَمَنِ) وفي (الحِجْرِ) [246] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/294). .
2- قولُه تعالَى: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
- الضَميرُ في جَاءَتْهُمُ عائِدٌ إلى عادٍ وثَمودَ باعتِبارِ عَدَدِ كُلِّ قَبيلةٍ منهما. وجَمْعُ الرُّسُلُ هنا مِن بابِ إطلاقِ صِيغةِ الجَمعِ على الاثنَيْنِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، والقَرينةُ واضحةٌ، وهو استِعمالٌ غيرُ عَزيزٍ، وإنَّما جاءهمْ رَسولانِ: هودٌ، وصالحٌ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/253). .
- وقولُه: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ تَمثيلٌ لحِرْصِ رَسولِ كُلٍّ منهم على هُداهم، بحيثُ لا يَترُكُ وَسيلةً يَتَوسَّلُ بها إلى إبلاغِهم الدِّينَ إلَّا تَوَسَّلَ بها، فمُثِّلَ ذلك بالمَجيءِ إلى كُلٍّ منهم تارةً مِن أمامِه وتارةً مِن خَلفِه، لا يَترُكُ له جِهةً، كما يَفعَلُ الحَريصُ على تَحصيلِ أمْرٍ أنْ يَتَطلَّبَه ويُعيدَ تَطَلُّبَه، ويَستَوعِبَ مَظانَّ وُجودِه أو مَظانَّ سَماعِه. وقيل: أي: أنْذَروهم مِن وَقائعِ اللهِ فيمَن قبْلَهم مِن الأُمَمِ وعَذابِ الآخِرةِ؛ لأنَّ الرُّسُلَ إذا حَذَّروهم مِن وقائِعِ اللهِ فيمَن قَبلَهم مِنَ الأُمَمِ، وحَذَّروهم مِن عَذابِ الآخِرةِ، فقد جاؤوهم بالوَعظِ مِن جِهةِ الزَّمَنِ الماضي، وما جَرى فيه على الكُفَّارِ، ومِن جِهةِ المُستَقبَلِ وما سَيَجْري عليهم. وقِيل: بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، أي: تَقدَّموا في الزَّمنِ، واتَّصلَت نِذارتُهم إلى أعمارِ عادٍ وثَمودَ، وبهذا الاتِّصالِ قامَتِ الحُجَّةُ. و(مِنْ خَلْفِهِمْ)، أي: جاءهمْ رسولٌ بعْدَ تَقدُّمِ وُجودِهم في الزَّمنِ، وجاءَ مِن مَجموعِ العِبارةِ إقامةُ الحُجَّةِ عليهم في أنَّ الرِّسالةَ والنِّذارةَ عَمَّتْهم خَبَرًا ومُباشَرةً [248] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/191)، ((تفسير البيضاوي)) (5/68)، ((تفسير أبي حيان)) (9/293)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/253). .
- وهذا التَّمثيلُ نَظيرُ الَّذي في قولِه تعالى حِكايةً عن الشَّيطانِ: ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف: 17] . وإنَّما اقتُصِرَ في هذه الآيةِ على جِهتَينِ، ولم تَستوعِبِ الجِهاتِ الأربعَ، كما مُثِّلَ حالُ الشَّيطانِ في وَسوستِه؛ لأنَّ المقصودَ هنا تَمثيلُ الحِرصِ فقطْ، وقد حصَلَ، والمَقصودُ في الحِكايةِ عن الشَّيطانِ تَمثيلُ الحِرصِ مع التَّلهُّفِ؛ تَحذيرًا منه، وإثارةً لِبُغْضِه في نُفوسِ النَّاسِ [249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/253، 254). .
- قولُه: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ حِكايةٌ لِجوابِ عادٍ وثَمودَ لِرَسولَيْهم، وقد كانَ جَوابًا مُتَماثِلًا؛ لأنَّه ناشِئٌ عن تَفكيرٍ مُتَماثِلٍ؛ فإنَّهم يَتصَوَّرونَ صِفاتِ اللهِ تعالَى وأفعالَه على غَيرِ كُنهِها، ويَقيسونَها على أحوالِ المَخلوقاتِ؛ ولذلك يَتَماثَلُ في هذا حالُ أهلِ الجَهالةِ؛ كما قال تعالَى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 52، 53]، أي: بلْ هم مُتماثِلون في الطُّغيانِ، أي: الكُفرِ الشَّديدِ، فتُمْلي عليهم أوهامُهم قَضايا مُتماثِلةً. ولكَونِ جَوابِهم جَرى في سياقِ المُحاوَرةِ أتَتْ حِكايةُ قَولِهم غَيرَ مَعطوفةٍ بأُسلوبِ المُقاوَلةِ؛ فإنَّ قَولَ الرُّسلِ لهم: (لا تَعبُدوا إلَّا اللهَ) قد حُكِيَ بفِعلٍ فيه دَلالةٌ على القولِ، وهو فِعلُ جَاءَتْهُمُ؛ فقَولُهم: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً يَتَضمَّنُ إبطالَ رِسالةِ البَشَرِ عنِ اللهِ تَعالى [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/254، 255). .
- ومَفعولُ شَاءَ في قولِه: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَحذوفٌ؛ دلَّ عليه السِّياقُ، والتقديرُ: لو شاء ربُّنا أنْ يُرسِلَ إلينا لَأنزَلَ مَلائكةً مِن السَّماءِ مُرسَلينَ إلينا. أو: لو شاء ربُّنا إنزالَ ملائكةٍ بالرِّسالةِ منه إلى الإنسِ لأَنزلَهم بها إليهم، وهذا أبلغُ في الامتِناعِ من إرسالِ البَشرِ؛ إذ عَلَّقوا ذلك بأقوالِ المَلائكةِ، وهو لم يَشأْ ذلك؛ فكيف يشاءُ ذلك في البَشرِ؟! وقيل: التقديرُ: لوْ شاءَ رَبُّنا أنْ نُوحِّدَه، ولا نَعْبُدَ مِن دُونِه شَيئًا غَيرَه، لَأنزَلَ إلينا مَلائِكةً من السماءِ رُسلًا بما تَدْعونَنا أنتُم إليه، ولم يُرسِلْكم وأنتُم بشرٌ مِثلُنا، ولكنَّه رضِيَ عِبادتَنا ما نَعبُدُ؛ فلذلك لم يُرسِلْ إلينا بالنَّهيِ عن ذلك مَلائكةً، وهذا حذْفٌ خاصٌّ هو غيرُ حَذْفِ مَفعولِ فِعلِ المَشيئةِ الشَّائعِ في الكلامِ؛ لأنَّ ذلك فيما إذا كان المَحذوفُ مَدلولًا عليه بجوابِ (لو)، كقولِه تعالى: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 149]، ونُكتتُه: الإبهامُ ثمَّ البَيانُ. وأمَّا الحذْفُ في هذه الآيةِ فهو لِلاعتِمادِ على قَرينةِ السِّياقِ والإيجازِ، وهو حذْفٌ عَزيزٌ لِمَفعولِ فِعلِ المَشيئةِ [251] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/294، 295)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/255). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/396)، ((تفسير الزمخشري)) (4/191، 192). .
- وقَولُهم: أُرْسِلْتُمْ بِهِ ليس بإقرارٍ بالإرسالِ، وإنَّما هو على كَلامِ الرُّسُلِ، وفيه تَهَكُّمٌ، أي: بما أُرسِلْتُم على زَعْمِكم، كما قالَ فِرعَونُ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [252] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/192)، ((تفسير البيضاوي)) (5/86)، ((تفسير أبي حيان)) (9/295)، ((تفسير أبي السعود)) (8/8). [الشعراء: 27] .
3- قولُه تعالَى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
- الفاءُ في قولِه: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ تَفريعٌ على جُملةِ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [فصلت: 14] المُقتضيةِ أنَّهم رَفَضوا دَعوةَ رَسُولَيهم ولم يَقبَلوا إرشادَهما واستِدلالَهما [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/256). .
- وبدأ بقِصَّةِ عادٍ؛ لأنَّها أقدَمُ زمانًا [254] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/296). .
- قولُه: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً الاستِكبارُ: المُبالَغةُ في الكِبرِ، أيْ: التَّعاظُمُ واحتِقارُ الناسِ؛ فالسَّينُ والتاءُ فيه لِلمُبالَغةِ، والتَّعريفُ في الْأَرْضِ لِلعَهدِ، أيْ: أرضِهم المَعهودةِ، وإنَّما ذَكَر مِن مَساويهم الاستِكبارَ؛ لأنَّ تَكَبُّرَهم هو الذي صَرَفَهم عنِ اتِّباعِ رَسولِهم، وعن تَوَقُّعِ عِقابِ اللهِ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/256). .
- وقولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيادةُ تَشنيعٍ لِاستِكبارِهم؛ فإنَّ الاستِكبارَ لا يَكونُ بِحَقٍّ؛ إذْ لا مُبَرِّرَ لِلكِبْرِ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ؛ لأنَّ جَميعَ الأُمورِ المُغْرِياتِ بالكِبْرِ، مِن العِلمِ، والمالِ، والسُّلطانِ، والقوَّةِ، وغيرِ ذلك؛ لا تُبلِغُ الإنسانَ مَبلَغَ الخُلوِّ عن النَّقصِ، وليس للضَّعيفِ الناقصِ حقٌّ في الكِبْرِ؛ ولذلك كان الكِبرُ مِن خَصائصِ اللهِ تعالى [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/256). .
- ولَمَّا كانَ اغتِرارُهم بقُوَّتِهم هو باعِثَهم على الكُفرِ، وكانَ قَولُهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً دَليلًا عليه، خُصَّ بالذِّكرِ، وإنَّما عُطِفَ بالواوِ مع أنَّه كالبَيانِ لِقَولِه: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ إشارةً إلى استِقلالِه بكَونِه مُوجِبَ الإنكارِ عليهم؛ لأنَّ قَولَهم ذلك هو بمُفرَدِه مُنكَرٌ مِن القَولِ، فذُكِرَ بالعَطفِ على فِعلِ (استَكبَروا)؛ لأنَّ شَأنَ العَطفِ أنْ يَقتَضيَ المُغايَرةَ بيْن المَعطوفِ والمَعطوفِ عليه، ولِيُعلَمَ أنَّه باعِثُهم على الاستِكبارِ بالسِّياقِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/256). .
- وجُملةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً جُملةٌ مُعتَرِضةٌ، والواوُ اعتِراضيَّةٌ، والرُّؤيةُ عِلميَّةٌ. والاستِفهامُ إنكاريٌّ، والمَعنى: إنكارُ عَدَمِ عِلْمِهم بأنَّ اللهَ أشَدُّ منهم قُوَّةً؛ حيثُ أعْرَضوا عن رِسالةِ رَسولِ رَبِّهم، وعن إنذارِه إيَّاهم، إعراضَ مَن لا يَكتَرِثُ بعَظَمةِ اللهِ تَعالى؛ لِأنَّهم لو حَسَبوا لذلك حِسابَه، لَتَوقَّعوا عَذابَه؛ فلَأقبَلوا على النَّظَرِ في دَلائِلِ صِدقِ رَسولِهم [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/257). . وقيل: الهَمزةُ للاستِفهامِ الإنكاريِّ، والواوُ حرْفُ عَطفٍ، وجُملةُ (لمْ يَرَوْا) مَعطوفةٌ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ السِّياقُ، أي: أغفَلُوا وضَلُّوا ولمْ يَرَوْا [259] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/542). .
- وإجراءُ وَصْفِ الَّذِي خَلَقَهُمْ على اسمِ الجَلالةِ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِنَ الإشارةِ إلى وَجهِ الإنكارِ عليهم؛ لِجَهلِهم بأنَّ اللهَ أقوى منهم؛ فإنَّ كَونَهم مَخلوقينَ مَعلومٌ لهم بالضَّرورةِ؛ فكانَ العِلْمُ به كافيًا في الدَّلالةِ على أنَّه أشَدُّ منهم قُوَّةً، وأنَّه حَقيقٌ بأنْ يَحسِبوا لِغَضَبِه حِسابَه؛ فيَنظُروا في أدِلَّةِ صِدقِ رَسولِه إليهم [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/257). . فأتَى بالموصولِ وصِلَتِه كالتعليلِ والدَّلالةِ على ضعفِهم أمامَ اللهِ عزَّ وجلَّ [261] يُنظر: ((تفسير سورة العنكبوت)) لابن عثيمين (ص: 97). .
- والضَميرُ (هو) في قولِه: هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ ضَميرُ فَصلٍ، وهو يُفيدُ تقويةَ الحُكمِ، بمَعنى وُضوحِه، وإذا كانَ ذلك الحُكمُ مُحَقَّقًا كانَ عَدَمُ عِلْمِهم بمُقتَضاه أشنَعَ، وعُذرُهم في جَهلِه مُنتَفيًا [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/257). .
- قولُه: وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ دَلَّ فِعلُ (كانوا) على أنَّ التَّكذيبَ بالآياتِ مُتَأصِّلٌ فيهم، ودَلَّتْ صِيغةُ المُضارِعِ في قَولِه: يَجْحَدُونَ على أنَّ الجَحدَ مُتَكَرِّرٌ فيهم مُتَجَدِّدٌ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/258). .
4- قولُه تعالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ
- قولُه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا أشارَتِ الفاءُ إلى أنَّ عِقابَهم كانَ مُسَبَّبًا على حالةِ كُفرِهم بصِفَتِها؛ فإنَّ باعِثَ كُفرِهم كانَ اغتِرارَهم بقُوَّتِهم، فأهلَكَهمُ اللهُ بما لا يَترَقَّبُ الناسُ الهَلاكَ به؛ فإنَّ الناسَ يَقولونَ لِلشَّيءِ الذي لا يُؤبَهُ به: هو رِيحٌ؛ لِيُرِيَهم أنَّ اللهَ شَديدُ القُوَّةِ، وأنَّه يَضَعُ القُوَّةَ في الشَّيءِ الهَيِّنِ مِثلَ الرِّيحِ؛ لِيَكونَ عَذابًا وخِزيًا، أيْ: تَحقيرًا، كما قال: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وأيُّ خِزيٍ أشَدُّ مِن أنْ تَتَراماهم الرِّيحُ في الجَوِّ كالرِّيشِ، وأنْ تُلقيَهم هَلْكى على التُّرابِ عن بَكْرةِ أبيهم، فيُشاهِدَهمُ المارُّونَ بدِيارِهم جُثَثًا صَرْعى قد تَقَلَّصتْ جُلودُهم وبَليَتْ أجسامُهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/258، 259). [الحاقة: 7] ؟!
- قولُه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ الصَّرصَرُ: الرِّيحُ العاصِفةُ التي يَكونُ لها صَرصَرةٌ -أيْ: دَويٌّ في هُبوبِها- مِن شِدَّةِ سُرعةِ تَنَقُّلِها، وتَضعيفُ عَينِه (الراء)؛ لِلمُبالَغةِ في شِدَّتِها بيْن أفرادِ نَوعِها [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/259). .
- قولُه: نَحِسَاتٍ جمعُ (نَحِسةٍ) بكسرِ الحاءِ، صِفةٌ مشبَّهةٌ مِنْ (نَحِس) إذا أصابَه النَّحْسُ إصابَةَ سُوءٍ أوْ ضُرٍّ شَديدٍ، وقُرِئَ بالسُّكونِ نَحْسَاتٍ [266] قرأ ابنُ كثيرٍ ونافعٌ وأبو عمرٍو ويعقوبُ نَحْسَاتٍ ساكنةَ الحاءِ، وقرأ الباقون نَحِسَاتٍ بكسرِ الحاءِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/366). ، فاحتَمل أنْ يكونَ مصدرًا وُصِف به مبالغةً، واحتَمل أنْ يكونَ صفةً مخفَّفًا مِن (فَعْلٍ)، كـ (صَعْبٍ) [267] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/9)، ((تفسير الألوسي)) (12/365). .
- قولُه: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا اللَّامُ في لِنُذِيقَهُمْ للتَّعليلِ، وهي مُتعَلِّقةٌ بـ (أرسَلْنا) [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/260). .
- والخِزْيُ: الذُّلُّ. وإضافةُ عَذَابَ إلى الْخِزْيِ مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى الصِّفةِ؛ بدَليلِ مُقابَلتِه بقَولِه: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى، أي: أشدُّ إخْزاءً مِن إخزاءِ عَذابِ الدُّنيا، وذلك باعتِبارِ أنَّ الخِزْيَ وصْفٌ للعَذابِ مِن بابِ الوَصْفِ بالمَصدرِ، أو اسمِ المَصدرِ؛ للمُبالَغةِ في كَونِ ذلك العذابِ مُخزِيًا للذي يُعذَّبُ به. ومعنى كَونِ العذابِ مُخزِيًا: أنَّه سبَبُ خِزْيٍ. ويُقدَّرُ قبْلَ الإضافةِ: لِنُذيقَهم عَذابًا خِزْيًا، أي: مُخزِيًا؛ فلمَّا أُرِيدَت إضافةُ المَوصوفِ إلى صِفَتِه، قِيل: عَذَابَ الْخِزْيِ للمُبالَغةِ أيضًا؛ لأنَّ إضافةَ المَوصوفِ إلى الصِّفةِ مُبالَغةٌ في الاتِّصافِ، حتَّى جُعِلَت الصِّفةُ بمَنزلةِ شَخصٍ آخَرَ يُضافُ إليه الموصوفُ، وهو قَريبٌ مِن مُحسِّنِ التَّجريدِ [269] التجريد: هو اعتقادُ أنَّ في الشيءِ مِن نفْسِه معنًى آخَرَ كأنَّه مُبايِنٌ له، فيخرجُ ذلك إلى ألفاظِه بما اعتقَد ذلك؛ كقولِهم: لئن لقيتَ زيدًا لتلقيَنَّ معه الأسدَ؛ فظاهرُ هذا أنَّ فيه مِن نفْسِه أسدًا، وهو عينُه هو الأسدُ، لا أنَّ هناك شيئًا منفصلًا. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/448)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 243، 244). ؛ فحصَلَت مُبالَغتانِ في قولِه: عَذَابَ الْخِزْيِ: مُبالغةُ الوَصفِ بالمَصدرِ، ومُبالغةُ إضافةِ الموصوفِ إلى الصِّفةِ [270] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/193)، ((تفسير البيضاوي)) (5/69)، ((تفسير أبي حيان)) (9/296)، ((تفسير أبي السعود)) (8/9)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/260)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/543، 544). .
- وجُملةُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى احتِراسٌ؛ لِئَلَّا يَحسَبَ السَّامِعونَ أنَّ حَظَّ أولئك مِنَ العِقابِ هو عَذابُ الإهلاكِ بالرِّيحِ؛ فعَطَفَ عليه الإخبارَ بأنَّ عَذابَ الآخِرةِ أخْزى، أيْ: لهم ولِكُلِّ مَن عُذِّبَ عَذابًا في الدُّنيا؛ لِغَضَبِ اللهِ عليه [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/261). .
- وجُملةُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ تَذييلٌ، أيْ: لا يَنصُرُهم مَن يَدفَعُ العَذابَ عنهم، ولا مَن يَشفَعُ لهم، ولا مَن يُخرِجُهم منه بَعدَ مُهلةٍ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/261). .
5- قولُه تعالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
- قولُه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ مَعطوفٌ على قولِه: وَأَمَّا عَادٌ، وهما تَفصيلٌ لِمَا أُجمِلَ، ونَشرٌ لِمَا لُفَّ [273] اللَّف والنَّشْر: هو ذِكرُ شَيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلفظٍ يَشتملُ على متعدِّدٍ- ثم يذكرُ أشياءَ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّم، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به؛ فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مِثل قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يدخُلَ الجنةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنةَ إلَّا النَّصارى، وهذا لفٌّ ونَشْر إجمالي. واللَّفُّ المُفصَّل يأتي النشرُ اللَّاحقُ له على وجهَيْن؛ الوجهُ الأوَّل: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّف، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنشر المرتَّبَ». الوجه الآخَر: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّف والنَّشر المُشَوَّش»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). في قَولِه: أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت: 13، 14]؛ فإنَّ قَولَه: فَهَدَيْنَاهُمْ في مُقابِلِ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ [فصلت: 14] ، وقَولَه: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى في مُقابِلِ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً ... [فصلت: 14] ، الآيةَ. والفاءُ في قَولِه: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فَصيحةٌ تُفصِحُ عن مَحذوفٍ، أيْ: فهَدَيْناهُم فاستَكبَروا؛ بدَلالةِ قَرينَتِها [274] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/591، 592)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/262). .
- وإنَّما نَصَّ على ثمودَ وإنْ كان جميعُ الأُمَمِ المُهلَكةِ قد قامتْ عليهم الحُجَّةُ، وحَصَل لهم البيانُ؛ لأنَّ آيةَ ثَمودَ آيةٌ باهِرةٌ قد رآها صَغيرُهم وكَبيرُهم، وذَكَرُهم وأُنثاهم، وكانتْ آيةً مُبصِرةً؛ فلهذا خَصَّهم بزيادةِ البَيانِ والهُدى [275] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 746). .
- قولُه: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى مَعناه: أحَبُّوا؛ فالسِّينُ والتَّاءُ لِلمُبالَغةِ، أيْ: كانَ العَمى مَحبوبًا لهم [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/262). .
- وضُمِّنَ (استَحَبُّوا) مَعنى: فَضَّلُوا، وهَيَّأ لهذا التَّضمينِ اقتِرانُه بالسِّينِ والتَّاءِ؛ لِلمُبالَغةِ؛ لأنَّ المُبالَغةَ في المَحبَّةِ تَستَلزِمُ التَّفضيلَ على بَقيَّةِ المَحبوباتِ؛ فلذلك عُدِّيَ (استَحَبُّوا) بحَرفِ (على)، أيْ: رَجَّحوا باختيارِهم، وتَعليقُ عَلَى الْهُدَى بفِعلِ (استَحَبُّوا)؛ لِتَضمينِه مَعنى: فَضَّلوا وآثَروا [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/262). .
- وفي قَولِه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى شَبَّهَ الكُفرَ بالعَمى؛ لأنَّ الكافِرَ ضالٌّ عنِ القَصدِ، مُتَعسِّفٌ الطَّريقَ كالأعمى، وشَبَّهَ الإيمانَ بالهُدى؛ لأنَّ المُؤمِنَ مُهتَدٍ إلى مَحَجَّةِ القَصدِ وسَواءِ السَّبيلِ، ثُمَّ حَذَفَ المُشَبَّهَ في كِلَيْهما، وأثبَتَ المُشَبَّهَ به [278] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/544). .
- وقولُه: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ مُفَرَّعٌ على قَولِه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فعُجِّلت العقوبةُ لهم؛ فالفاءُ للتَّرتيبِ والتَّعقيبِ، هذا وجهٌ، ووجهٌ آخرُ: أنَّ الفاءَ هنا للسَّبَبِيَّةِ؛ والمُسَبَّبُ يَعْقُبُ السَّبَبَ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 112). .
- وإضافةُ صَاعِقَةُ إلى الْعَذَابِ في قولِه: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ؛ للدَّلالةِ على أنَّها صاعِقةٌ تُعَرَّفُ بطَريقِ الإضافةِ؛ إذْ لا يُعرَّفُ بها إلَّا ما تُضافُ إليهِ، أيْ: صاعِقةٌ خارِقةٌ لِمُعتادِ الصَّواعِقِ؛ فهي صاعِقةٌ مُسَخَّرةٌ مِنَ اللهِ لِعَذابِ ثَمودَ؛ فإنَّ أصْلَ معنى الإضافةِ أنَّها بتَقديرِ لامِ الاختِصاصِ؛ فتَعريفُ المُضافِ لا طَريقَ له إلَّا بَيانُ اختصاصِه بالمُضافِ إليه [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/263). .
- قولُه: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ الهُونُ: الهوانُ؛ وُصِفَ العَذابُ بـ الْهُونِ؛ للمُبالَغةِ، أو أُبْدِلَ منه، ووَجهُ كَونِ العذابِ هَوانًا: أنَّه إهلاكٌ فيه مَذَلَّةٌ؛ إذِ استُؤصِلوا عن بَكرةِ أبيهم، وتُرِكوا صَرْعى على وَجهِ الأرضِ، أيْ: أخَذَتْهمُ الصَّاعِقةُ بسَبَبِ كَسبِهم في اختِيارِهمُ البَقاءَ على الضَّلالِ بإعراضِهم عن دَعوةِ رَسولِهم، وعن دَلالةِ آياتِه [281] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/194)، ((تفسير البيضاوي)) (5/69)، ((تفسير أبي السعود)) (8/9)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/263). .
- ويُعلَمُ مِن قَولِه في شَأنِ عادٍ: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى [فصلت: 16] أنَّ لِثَمودَ عَذابًا في الآخِرةِ؛ لأنَّ الأُمَّتَيْنِ تَماثَلَتا في الكُفرِ؛ فلم يُذكَرْ ذلك هنا؛ اكتِفاءً بذِكرِه فيما تَقَدَّمَ، وهذا مُحَسِّنُ الاكتِفاءِ [282] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضي المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّة؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذف، على سبيلِ الاكتفاءِ؛ إذِ التَّقْديرُ: تقيكُمُ الْحَرَّ والْبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ، وهو مُحَسِّنٌ يَرجِعُ إلى الإيجازِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/263). .
6- قولُه تعالَى: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ قيل: إنَّه عَطفٌ على التَّفصيلِ في قَولِه: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ [فصلت: 15] ، وما عُطِفَ عليه مِن قَولِه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت: 17] ؛ لِأنَّ مَوقِعَ هاتِه الجُملةِ المُتَضمِّنةِ إنجاءَ المُؤمِنينَ مِنَ العَذابِ بَعدَ أنْ ذَكَرَ عَذابَ عادٍ وعَذابَ ثَمودَ؛ يُشيرُ إلى أنَّ المعنَى إنجاءُ الذين آمَنوا مِن قَومِ عادٍ وقَومِ ثَمودَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فمَضمونُ هذه الجُملةِ فيه مَعنى استِثناءٍ مِن عُمومِ أُمَّتَيْ عادٍ وثَمودَ، فيَكونُ لها حُكمُ الاستِثناءِ الوارِدِ بَعدَ جُمَلٍ مُتَعاقِبةٍ؛ أنَّه يَعودُ إلى جَميعِها [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/263، 264). .
- وقَولُه: وَكَانُوا يَتَّقُونَ، أيْ: كان سُنَّتُهم اتِّقاءَ اللهِ، والنَّظَرَ فيما يُنَجِّي مِن غَضَبِه وعِقابِه، وهو أبلَغُ في الوَصفِ مِن أنْ يُقالَ: والمُتَّقينَ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/264). .