موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (90-96)

ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات:

يَنْبُوعًا: أي: عَينًا تَنبُعُ منها الماءُ؛ مِن نَبَعَ الماءُ: إذا ظَهَر .
كِسَفًا: أي: قِطَعًا، جَمعُ كِسْفةٍ: وهي القِطعةُ مِن الشَّيءِ، وأصلُ (كسف): يَدُلُّ على قَطعِ شَيءٍ مِن شَيءٍ .
قَبِيلًا: أي: مُقابَلةً عِيانًا، وأصلُ (قبل): يدُلُّ على مُواجَهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .
زُخْرُفٍ: أي: ذَهَبٍ، وأصلُ الزُّخرُفِ والزَّخْرفةِ: الزِّينةُ .

المعنى الإجمالي:

ذكر الله تعالى بعضَ ما طلَبه المشركونَ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن مطالبَ مُتعنِّتةٍ، فقال: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ: لن نُصَدِّقَك -يا مُحمَّدُ- حتى تُفَجِّرَ لنا مِن أرضِ «مكَّةَ» عَينًا جاريةً غزيرةَ الماءِ، أو تكونَ لك حَديقةٌ مِنَ النَّخيلِ والأعنابِ، وتجعَلَ الأنهارَ تَجري في وسَطِها بغَزارةٍ، أو تُسقِطَ السَّماءَ علينا قِطَعًا كما زَعَمْتَ، أو تأتيَ لنا باللهِ ومَلائكَتِه فنُشاهِدَهم عِيانًا، أو يكونَ لك بَيتٌ مِن ذَهَبٍ، أو تصعَدَ في دَرَجٍ إلى السَّماءِ، ولن نُصَدِّقَك في صُعودِك حتى تنَزِّلَ علينا كِتابًا مِن اللهِ نَقرأُ فيه أنَّك رَسولٌ من عند اللهِ!
ثمَّ أمرَ الله نبيَّه أن يردَّ عليهم قائلًا له: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: سُبحانَ رَبِّي! هل أنا إلَّا بَشَرٌ مِثلُكم مُرسَلٌ مِن عندِ الله؟! فكيف أقدِرُ على فِعْلِ ما تَطلُبونَ؟
ثمَّ ذكَر الله تعالى شبهةً أُخرَى مِن شبهاتِهم، فقال: وما منَعَ الكُفَّارَ مِن الإيمانِ باللهِ حين جاءَهم الهُدى مِن عندِ اللهِ إلَّا قَولُهم جَهلًا: أبعَثَ اللهُ رَسولًا بشرًا مِثلَنا؟!
قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: لو كان في الأرضِ مَلائِكةٌ يَمشُونَ عليها مُستَقرِّين كالبشَرِ، لأرسَلْنا إليهم رَسولًا ملَكًا مِن جِنسِهم؛ ليتمَكَّنوا مِن مخالطتِه والتلقِّي عنه، قُلْ لهم: كفى باللهِ شَهيدًا بيني وبينَكم يعلَمُ صِدْقي وحَقيقةَ نبُوَّتي؛ إنَّه سُبحانَه خَبيرٌ بأحوالِ عِبادِه، بصيرٌ بأعمالِهم، وسيُجازيهم عليها.

تفسير الآيات:

وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تحَدَّى اللهُ تعالى الكافِرينَ بأن يأتُوا بمِثلِ هذا القُرآنِ، فتَبَيَّنَ عَجزُهم عن ذلك وإعجازُه، وانضَمَّت إليه مُعجِزاتٌ أُخَرُ، وبَيِّناتٌ واضِحةٌ، فلَزِمَتهم الحُجَّةُ وغُلِبوا- أخَذوا يتعَلَّلونَ باقتِراحِ آياتٍ، فِعلَ الحائِرِ المَبهوتِ المَحجوجِ، فقالوا ما حكاه اللهُ عنهم .
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90).
أي: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ: لن نُصَدِّقَك -يا مُحمَّدُ- فيما تقولُ حتى تَفجُرَ لنا مِن أرضِ مَكَّةَ المُجدِبةِ عَينًا تَنبُعُ بمِياهٍ جاريةٍ غَزيرةٍ .
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91).
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ.
أي: أو يكونَ لك في مَكَّةَ -يا مُحمَّدُ- بُستانٌ مِن أشجارِ النَّخيلِ والعِنَبِ .
فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا.
أي: فتُجري الأنهارَ وسْطَ ذلك البستانِ بقوةٍ .
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا انتِقالٌ مِن تحَدِّي النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخوارِقَ فيها منافِعُ لهم إلى تَحدِّيه بخوارِقَ فيها مَضَرَّتُهم، يريدون بذلك التَّوسيعَ عليه، أي: فلْيأتِهم بآيةٍ على ذلك ولو في مَضَرَّتِهم .
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا.
أي: أو تُسقِطَ السَّماءَ علينا قِطَعًا كما وعَدْتَنا، فعَجِّلْ لنا هذا العذابَ حتَّى نُصدِّقَك !
قال تعالى حاكيًا قولَ قَومِ شُعَيبٍ له: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 185 - 189] .
أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.
أي: أو تأتيَ -يا مُحمَّدُ- باللهِ والمَلائكةِ، فنُقابِلَهم ونَراهم عِيانًا !
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21] .
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93).
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ.
أي: أو يَكونَ لك بَيتٌ مِن ذهَبٍ، كاملُ الحُسنِ والزِّينةِ .
أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ.
أي: أو تَصعَدَ في السَّماءِ درجةً درجةً، ونحن ننظرُ إليك .
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ.
أي: ولن نُؤمِنَ -يا مُحمَّدُ- بأنَّك رَسولُ الله؛ بمجَرَّدِ صُعودِك في السَّماءِ حتى تُنَزِّلَ علينا كِتابًا مِن عندِ اللهِ نَقرأُ فيه أمْرَنا باتِّباعِك والإيمانِ بك !
قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ قَالَ بلَفظِ الماضي على الحِكايةِ عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
2- قراءةُ قُلْ بلَفظِ الأمرِ، أي: إنَّ اللهَ أمَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ: سُبحانَ رَبِّي .
قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: أُنزِّهُ ربِّي عن كُلِّ ما لا يَليقُ به مِن النَّقصِ والعَجزِ، ومِن ذلك تَنزيهُه عن العَجزِ عن فِعلِ ما اقتَرَحتُم؛ فهو قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ، وتَنزيهُه عن أن تكونَ آياتُه تابعةً لأهوائِكم، وأن يتقَدَّمَ أحَدٌ بين يديه في أمرٍ مِن أمورِ سُلطانِه ومَلَكوتِه، بل هو الفعَّالُ لِما يشاءُ، إن شاء أجابَكم إلى ما سألتُم، وإن شاءَ لم يُجبْكم، فما أنا إلَّا بَشَرٌ مِثلُكم، ليس في قُدرتِي الإتيانُ بتلك الآياتِ التي تَطلُبونَها، فلا يأتي بها إلَّا اللهُ وحْدَه، وما أنا إلَّا رَسولٌ منه إليكم، وقد بلَّغتُكم رسالتَه .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110] .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا حكَى اللهُ تعالى أشكالَ عنادِ الكافرينَ، ومظاهرَ تكذيبِهم، وشُبهتَهم في اقتراحِ المُعجِزاتِ الزَّائدةِ، حكَى عنهم شُبهةً أُخرَى، وهي العلةُ الأصليةُ التي تبعثُ على الجحودِ في جميعِ الأممِ، وهي أنَّ القَومَ استَبعَدوا أن يَبعَثَ اللهُ إلى الخَلقِ رَسولًا مِن البَشَرِ، بل اعتَقَدوا أنَّ اللهَ تعالى لو أرسل رَسولًا إلى الخَلقِ، لوجب أن يكونَ ذلك الرَّسولُ مِن الملائكةِ، فأجاب اللهُ تعالى عن هذه الشُّبهةِ .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).
أي: وما مَنعَ الكُفَّارَ أن يُؤمِنوا بالحَقِّ حين جاءَهم الهُدى مِن عِندِ اللهِ إلَّا قَولُهم -جَهْلًا منهم على وجهِ التعَجُّبِ والاستِغرابِ-: أأَرسَلَ اللهُ إلينا بما له مِن العَظَمةِ والجَلالِ بَشَرًا مِثْلَنا؟! فهلَّا بعَث إلينا ملَكًا رَسولًا !
كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [يونس: 2] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا [التغابن: 5، 6].
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء الكافرينَ الذين امتَنَعوا عن الإيمانِ بك؛ استِنكارًا منهم لِأَنْ يَبعَثَ اللهُ بَشرًا رَسولًا: لو كان في الأرضِ مَلائِكةٌ يَمشُونَ عليها كالآدَميِّينَ، ويَسكُنونَها وادِعينَ فيها ومُستَقِرِّينَ؛ لأرسَلْنا إليهم مِنَ السَّماءِ مَلَكًا مِن جِنسِهم ليُمكِنَهم مُخالطتُه ورُؤيتُه، ويتيسَّرَ لهم مُعاشَرتُه والتلقِّي عنه، وفَهمُ حَديثِه، كما تَقتَضيه الحِكمةُ .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام: 8-9].
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7] .
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا دعا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكافرينَ إلى الإيمانِ، وتحَدَّى على صِدقِ نُبُوَّتِه بالمُعجِزِ المُوافِقِ لدَعْواه؛ أمَرَه تعالى أن يُعْلِمَهم بأنَّه تعالى هو الشَّهيدُ بينه وبينهم على تَبليغِه وما قام به مِن أعباءِ الرِّسالةِ، وعَدَمِ قَبولِهم، وكُفرِهم، وما اقتَرَحوا عليه مِن الآياتِ على سَبيلِ العِنادِ، وأردَفَ ذلك بما فيه تَهديدٌ، وهو قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا .
وأيضًا فبعدَ أنْ خَصَّ اللهُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَلقينِ الحُجَّةِ القاطِعةِ للضَّلالةِ؛ أردَفَ ذلك بتَلقينِه أيضًا ما لقَّنَه الرُّسُلَ السَّابِقينَ مِن تفويضِ الأمرِ إلى الله تعالى، وتحكيمِه في أعدائِه .
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
أي: قُلْ لهم- يا مُحمَّدُ: يكفيني اللهُ شاهِدًا عليَّ وعليكم، وهو يعلَمُ صِدقي ويُؤَيِّدُني بالمُعجِزاتِ، ويُنَزِّلُ عليَّ الآياتِ، ويَنصُرُني على مَن عاداني، ولو كُنتُ كاذِبًا عليه لانتَقَمَ مني .
كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 79] .
وقال سُبحانَه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرعد: 43] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44 - 47] .
إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.
أي: ويكفي اللهُ شاهِدًا على ذلك؛ لأنَّه خَبيرٌ بأحوالِ عِبادِه وأعمالِهم ونيَّاتِهم، يَعلَمُ المُهتديَ منهم والضَّالَّ، ومَن يَستَحِقُّ منهم الهِدايةَ، ومَن يَستَحِقُّ الإضلالَ، بصيرٌ بهم، وبتَدبيرِهم كيف يشاءُ، وسيُجازيهم جميعًا على أعمالِهم خَيرِها وشَرِّها .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- الرُّسُلُ صلواتُ الله وسلامُه عليهم لا يَملِكونَ أن يأتُوا بالآياتِ أو بالوحيِ؛ فهم يتلقَّونَ مِنَ اللهِ، حتى الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا طُلِبَ منه الآياتُ لا يستطيعُ أن يأتيَ بها؛ ولهذا لَمَّا اقتَرَح المُكَذِّبونَ عِدَّةَ آياتٍ، قال تعالى له: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هُلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [العنكبوت: 50] ، أي: فلا أملِكُ أن آتِيَ بالآياتِ .
2- اقتضت حكمةُ الله ألَّا يُرسِلَ بالآياتِ التي اقترَحها الكفارُ، وإلَّا فلو جاءَتْهم ولم يُؤمِنوا أتاهم عذابُ الاستِئصالِ، وأيضًا فهي ممَّا لا يصلُحُ الإتيانُ بها؛ فإنَّ قولَهم: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا يقتضي تفجيرَ اليَنبوعِ بأرضِ مكَّةَ فيصيرُ واديًا ذا زرعٍ، واللهُ مِن حِكمتِه جَعلُ بيتِه بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ؛ لئلَّا يكونَ عنده ما ترغَبُ النفوسُ فيه من الدُّنيا فيكونَ حَجُّهم للدُّنيا لا لله، وإذا كان له جَنَّةٌ مِن نخيلٍ وأعنابٍ يُفجِّرُ الأنهارَ خلالَها تفجيرًا، كان في هذا من التوسُّعِ في الدُّنيا ما يقتضي نَقصَ دَرجتِه وانخفاضَ منزلتِه، وكذلك إذا كان له بيتٌ مِن زُخرفٍ. وأمَّا إسقاطُ السَّماءِ كِسَفًا فهذا لا يكونُ إلا يومَ القيامةِ، وهو لم يخبِرْهم أنَّ هذا لا يكونُ إلَّا يومَ القيامةِ، فقَولُهم كَمَا زَعَمْتَ كَذِبٌ عليه إلَّا أن يريدوا التَّمثيلَ فيكونَ القياسُ فاسِدًا .
3- التعَنُّتُ والعنادُ العظيمُ الذي ذكَرَه جلَّ وعلا عن الكُفَّارِ هنا بيَّنَه في مواضِعَ أُخرَ، وبيَّن أنَّهم لو فعل الله ما اقتَرَحوا ما آمَنوا؛ لأنَّ مَن سبق عليه الشَّقاءُ لا يؤمِنُ، كقَولِه تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] ، وقَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام: 111] ، وقَولِه تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر: 14، 15] ، وقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97]، والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا دَلالةٌ على أنَّ الإقرارَ بالرَّبِّ وملائكتِه مَعروفٌ عند عامَّةِ الأُمَمِ .
5- ممَّا استشكلوه قولُه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا مع قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [الكهف: 55]؛ فإنَّه يدُلُّ على حَصرِ المانعِ مِن الإيمانِ في أحَدِ هذين الشَّيئينِ، فظاهرُهما التعارُضُ.
 وأجيبَ عن ذلك: بأنَّ معنى آية سورة (الكهف): «وما منع النَّاسَ أن يؤمنوا إلَّا إرادةُ أن تأتيَهم سنَّةُ الأوَّلين مِن الخسفِ أو غيرِه، أو يأتيَهم العذابُ قُبلًا في الآخرةِ» فأخبر أنَّه أراد أن يصيبَهم أحدُ الأمرين، ولا شَكَّ أنَّ إرادة الله مانعةٌ مِن وقوع ما ينافي المرادَ، فهذا حصرٌ في السبَبِ الحقيقيِّ؛ لأنَّ الله هو المانِعُ في الحقيقةِ، ومعنى آيةِ سورة (الإسراء): «وما منع الناسَ أن يؤمنوا إلَّا استغرابُ بَعثِه بشَرًا رَسولًا»؛ لأنَّ قولَهم ليس مانِعًا مِن الإيمانِ؛ لأنَّه لا يصلُحُ لذلك، وهو يدُلُّ على الاستغرابِ بالالتزامِ، وهو المناسِبُ للمانعيَّةِ، واستغرابُهم ليس مانعًا حقيقيًّا، بل عاديٌّ؛ لجوازِ وجودِ الإيمانِ معه بخلافِ إرادة الله تعالى، فالحَصرُ في آية (الإسراء) حصرٌ في المانِعِ العادي، والحصرُ في آية (الكهف) في المانِعِ الحقيقيِّ، فلا تنافيَ ، فالمانِعُ المذكور هنا في سورة (الإسراءِ) عاديٌّ؛ لأنَّه جرت عادةُ جميعِ الأُمَمِ باستغرابِهم بَعْثَ الله رسُلًا من البشَرِ، كقَولِه: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الآية [إبراهيم: 10] ، وقولِه: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا الآية [المؤمنون: 47] ، وقَولِه: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 24]، وقولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن: 6] ، وقَولِه: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون: 34] إلى غير ذلك مِن الآياتِ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا فيه إعلامٌ مِنَ اللَّهِ سبحانَه بأنَّ الرُّسلَ ينبغي أن تكونَ مِنْ جنسِ المرسَلِ إليهم، فكأنَّه سبحانَه اعْتَبَر في تنزيلِ الرَّسولِ مِنْ جنسِ الملائكةِ أمرينِ:
الأوَّلُ: كونُ سُكَّانِ الأرضِ ملائكةً.
والثَّاني: كونُهم ماشينَ على الأقدامِ غيرَ قادرينَ على الطَّيرانِ بأجْنِحَتِهم إلى السَّماءِ، إذْ لو كانوا قادرينَ على ذلك لَطاروا إليها، وسَمِعوا من أهلِها ما يَجِبُ مَعْرِفَتُه وسماعُه، فلا يكونُ في بعثةِ الملائِكَةِ إليهم فائدَةٌ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا عطْفٌ على جُملةِ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، أي: كَفَروا بالقُرآنِ، وطالَبوا بمُعجزاتٍ أُخرى. وضَميرُ الجمْعِ عائدٌ إلى أكثرِ النَّاسِ الَّذين أبَوا إلَّا كُفورًا، باعتبارِ صُدورِ هذا القولِ بينهم وهم راضونَ به، ومُتمالِئون عليه متى عَلِموه، فلا يلزَمُ أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ منهم قال هذا القولَ كلَّه، بل يكونُ بعضُهم قائلًا جميعَه، أو بعضُهم قائلًا بعضَه. ولمَّا اشتمَلَ قولُهم على ضمائرِ الخطابِ تعيَّنَ أنَّ بعضَهم خاطَبَ به النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُباشرةً؛ إمَّا في مقامٍ واحدٍ، وإمَّا في مقاماتٍ .
- قولُه: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا تعريفُ الْأَرْضِ للعهدِ؛ إذ المُرادُ بها أرضُ مكَّةَ، ووجْهُ تَخصيصِها: أنَّ أرضَها قليلةُ المياهِ، بعيدةٌ عن الجنَّاتِ .
- قولُه: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال: تَفْجُرَ بالتَّخفيفِ، وقال في الآيةِ الَّتي بعدها: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا [الإسراء: 91] ، وكذلك قال في سُورةِ (الكهفِ): وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا [الكهف: 33] بالتَّشديدِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ التَّفجيرَ مصدَرُ (فجَّرَ) بالتَّشديدِ؛ مُبالغةً في الفَجْرِ، وهو الشَّقُّ باتِّساعٍ؛ فالتَّفجيرُ أشدُّ من مُطلَقِ الفَجْرِ، وهو تَشقيقٌ شديدٌ باعتبارِ اتِّساعِه؛ ولذلك ناسب اليَنبوعُ هنا، والنَّهرُ في قولِه تعالى: وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا [الكهف: 33] ، وقولِه: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ .
2- قَولُه تعالى: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا
- قولُه: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ خَصُّوا هذه الجنَّةَ بأنْ تكونَ له؛ لأنَّ شأْنَ الجنَّةِ أنْ تكونَ خاصَّةً لملِكٍ واحدٍ مُعيَّنٍ، فأرَوه أنَّهم لا يَبْتغون من هذا الاقتراحِ نفْعَ أنفُسِهم، ولكنَّهم يَبْتغون حُصولَه ولو كان لفائدةِ المُقترَحِ عليه. والمُقترَحُ هو تَفجيرُ الماءِ في الأرضِ القاحلةِ، وإنَّما ذَكَروا وُجودَ الجنَّةِ؛ تَمهيدًا لتفجيرِ أنهارٍ خِلالَها، فكأنَّهم قالوا: حتَّى تفجُرَ لنا يَنبوعًا يَسْقي النَّاسَ كلَّهم، أو تُفجِّرَ أنهارًا تَسْقي جنَّةً واحدةً، تكونُ تلك الجنَّةُ وأنهارُها لك، فنحن مُقتنِعون بحُصولِ ذلك لا بُغيةَ الانتفاعِ منه .
- وفي قولِه: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ذكَرَ المفعولَ المُطلَقَ بقولِه: تَفْجِيرًا للدَّلالةِ على التَّكثيرِ؛ لأنَّ تُفَجِّرَ قد كَفى في الدَّلالةِ على المُبالغةِ في الفَجْرِ، فتعيَّنَ أنْ يكونَ الإتيانُ بمفعولِه المُطلَقِ للمُبالغةِ في العدَدِ، كقولِه تعالى: وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] ، وهو المُناسِبُ لقولِه: خِلَالَهَا؛ لأنَّ الجنَّةَ تتخلَّلُها شُعَبُ النَّهرِ لسَقْيِ الأشجارِ، فجمَعَ الْأَنْهَارَ باعتبارِ تشعُّبِ ماءِ النَّهرِ إلى شُعَبٍ عديدةٍ .
3- قولُه تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أي: فليأْتِهم بآيةٍ على ذلك ولو في مَضرَّتِهم. ولعلَّهم أرادوا به الإغراقَ في التَّعجيبِ من ذلك، فجَمَعوا بين جعْلِ الإسقاطِ لنفْسِ السَّماءِ، وعزَّزوا تَعجيبَهم بالجُملةِ المُعترِضةِ، وهي كَمَا زَعَمْتَ؛ إنباءً بأنَّ ذلك لا يُصدِّقُ به أحدٌ .
4- قَولُه تعالى: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا
- قولُه: تَرْقَى فِي السَّمَاءِ إنَّما عُدِّيَ الفعلُ بحرفِ (في) الظَّرفيَّةِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ الرُّقِيَّ تدرُّجٌ في السَّمواتِ كمَن يصعَدُ في المِرقاةِ والسُّلَّمِ .
- قولُه: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا لمَّا كان اقتراحُهم اقتراحَ مُلاجَّةٍ وعِنادٍ، أمَرَه اللهُ بأنْ يُجيبَهم بما يدُلُّ على التَّعجُّبِ من كلامِهم بكلمةِ سُبْحَانَ رَبِّي الَّتي تُستعمَلُ في التَّعجُّبِ، ثمَّ بالاستفهامِ الإنكاريِّ، وصِيغَةِ الحصرِ (هل... إلَّا) المُقتضيةِ قصْرَ نفْسِه على البشريةِ والرِّسالةِ قصرًا إضافيًّا، أي: لستُ ربًّا مُتصرِّفًا أخلُقُ ما يُطلَبُ منِّي؛ فكيف آتي باللهِ والملائكةِ، وكيف أخلُقُ في الأرضِ ما لم يُخْلَقْ فيها ؟!
5- قَولُه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا
- قولُه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا الهمزةُ في أَبَعَثَ اللَّهُ للإنكارِ . ووُرودُ هذا الكلامِ بصِيغَةِ الحصْرِ (ما... إلَّا)، وأداةِ العُمومِ، جعَلَه تذييلًا لِما مَضى من حكايةِ تفنُّنِهم في أساليبِ التَّكذيبِ والتَّهكُّمِ؛ فالظَّاهرُ حمْلُ التَّعريفِ في النَّاسَ على الاستغراقِ، أي: ما منَعَ جميعَ النَّاسِ أنْ يؤمنوا إلَّا ذلك التَّوهُّمُ الباطِلُ ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.
- وقد حصَرَ المانعَ من الإيمانِ فيما ذُكِرَ مع أنَّ لهم موانعَ شَتَّى؛ لأنَّه مُعظَمُها، أو لأنَّه هو المانعُ بحسَبِ الحالِ، أي: عند سماعِ الجوابِ بقولِه تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا؛ إذ هو الَّذي يتشبَّثونَ به حينئذٍ من غيرِ أنْ يخطُرَ ببالِهم شُبهةٌ أُخرى من شُبَهِهم الواهيةِ. وفيه إيذانٌ بكَمالِ عِنادِهم، حيث يشيرُ إلى أنَّ الجوابَ المذكورَ مع كونِه حاسمًا لموادِّ شُبَهِهم، مُلجِئًا إلى الإيمانِ، يعكِسونَ الأمْرَ، ويَجْعلونه مانِعًا منه .
- قولُه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا، وقال في سُورةِ (الكهفِ): وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الكهف: 55] ؛ فورَدَ في الثَّانيةِ: وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ولم يَرِدْ في الأُولى؛ وفي ذلك مُناسبةٌ حَسنةٌ، وهي أنَّ المعنى هنا: ما منَعَهم عن الإيمانِ بمُحمَّدٍ إلَّا قولُهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا هلَّا بَعَثَ مَلَكًا! وجَهِلوا أنَّ التَّجانسَ يُورِثُ التَّوانسَ، والتَّغايُرَ يُورثُ التَّنافُرَ، والمعنى في (الكَهفِ): ما منَعَهم عن الإِيمانِ والاستِغفارِ إلَّا إتيانُ سُنَّةِ الأوَّلينَ؛ فزاد فيها وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ [الكهف: 55] ؛ لاتِّصالِه بقولِه: سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ وهم قومُ نوحٍ، وهودٍ، وصالحٍ، وشُعيبٍ، حيثُ أُمِروا بالاستغفارِ ، وقيل غيرُ ذلك .
6- قَولُه تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
- الباءُ الدَّاخلةُ على اسمِ الجلالةِ في قولِه: بِاللَّهِ لتأكيدِ لُصوقِ فعْلِ كَفَى بفاعلِه، وأصْلُه: كفى اللهُ شهيدًا .
- وقولُه: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وإنَّما لم يقُلْ: (بيننا)؛ تحقيقًا للمُفارقةِ، وإبانةً للمُباينةِ .
- قولُه: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا أُريدَ بالشَّهيدِ هنا الشَّهيدُ للمُحقِّ على المُبطِلِ؛ فهو كِنايةٌ عن النَّصيرِ والحاكمِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ سبَبُ الحكمِ، والقرينةُ قولُه: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؛ لأنَّ ظرفَ (بين) يُناسِبُ معنى الحُكمِ. وهذا بمعنى قولِه تعالى: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف: 87] ، وقولِه: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 3] .
- وجُملةُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا تَعليلٌ للاكتفاءِ به تعالى ، وفيه تَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتهديدٌ للكُفَّارِ .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بتقديمِ شَهِيدًا على بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وقال في سُورةِ (العنكبوتِ): قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [العنكبوت: 52] بالعكسِ؛ لأنَّ ما هنا جاء على الأصْلِ من تَقديمِ المفعولِ، وما في العنكبوتِ جاء على خلافِ الأصْلِ؛ ليتَّصِلَ وصْفُ الشَّهيدِ به، وهو قولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [العنكبوت: 52] ؛ لأنَّه لمَّا وصَفَه بقولِه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طال، فلم يَجُزِ الفصْلُ به .