موسوعة التفسير

سورةُ الشُّعَراءِ
الآيات (176-191)

ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْأَيْكَةِ: أي: الشَّجَرِ المُلتَفِّ المُجتَمِعِ، وأصلُ (أيك): يدُلُّ على اجتماعِ شَجَرٍ [961] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 377)، ((تفسير ابن جرير)) (14/99)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 72)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/165)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 225).   .
الْمُخْسِرِينَ: أي: النَّاقِصينَ الكَيلَ، وأصلُ (خسر): يدُلُّ على نَقصٍ [962] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/182)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 271)، ((تفسير القرطبي)) (13/135).   .
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ: أي: المِيزانِ العَدلِ السَّوِيِّ، وأصلُ (قسط) هنا: يدُلُّ على العَدلِ [963] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/591)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/85، 86)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 741).   .
وَلَا تَبْخَسُوا: أي: لا تَنقُصوا، والبَخسُ: نَقصُ الشَّيءِ على سَبيلِ الظُّلمِ، وأصلُ (بخس): يدُلُّ على نَقصٍ [964] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/541)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/205)، ((المفردات)) للراغب (ص: 110)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975).   .
تَعْثَوْا: أي: تُفسِدُوا، مِن العُثُوِّ: وهو أشَدُّ الفَسادِ [965] يُنظر:((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 50)، ((تفسير ابن جرير)) (2/10)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/230)، ((المفردات)) للراغب (1/546).   .
وَالْجِبِلَّةَ: أي: الخَلْقَ، يُقالُ: جُبِلَ فُلانٌ على كذا، أي: خُلِقَ [966] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 320)، ((تفسير ابن جرير)) (17/635)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/502)، ((البسيط)) للواحدي (17/119)، ((المفردات)) للراغب (ص: 186).   .
كِسَفًا: أي: قِطَعًا، الواحِدةُ كِسْفةٌ، وأصلُ (كسف): يدُلُّ على قَطعِ شَيءٍ مِن شَيءٍ [967] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 261)، ((تفسير ابن جرير)) (15/81)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 397)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/177).   .
يَوْمِ الظُّلَّةِ: الظُّلَّةُ: سحابةٌ تُظِلُّ، وأكثرُ ما يُقالُ فيما يُستوخَمُ ويُكرهُ، أرسَل اللهُ سُبحانَه سحابةً فهَرَبوا إليها لِيَستظِلُّوا بها، فلمَّا صاروا تحتَها صِيحَ بهم فهَلَكوا، وأصلُ (ظلل): يدُلُّ على سَترِ شَيءٍ لِشَيءٍ [968] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/637)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 325)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/461)، ((تفسير القرطبي)) (13/137)، ((تفسير ابن كثير)) (3/449).   .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
إِنْ مخفَّفةٌ مِن الثَّقيلةِ، واللامُ في لَمِنَ هي الفارِقةُ -أي: تفرقُ بينَ (إن) النافيةِ و(إن) المخفَّفةِ مِن الثقيلةِ-، أي: وإنَّ الشَّأنَ نظُنُّك مِن الكاذبينَ في الدعوى. خلافًا للكوفيِّينَ؛ فـ إِنْ عندَهم نافيةٌ بمعنى (ما)، واللامُ في لَمِنَ بمعنى (إلَّا) أي: ما نظُنُّك إلَّا مِنَ الكاذبينَ. وعلى كِلا الوَجهينِ فـ (مِنَ الكاذبينَ) متعلِّقٌ بمحذوفٍ مَفعولٌ به ثانٍ لـ (نظُنُّ) [969] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/187)، ((تفسير الألوسي)) (10/117)، ((الجدول)) لمحمود صافي (19/120).   .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ شُعَيبٍ عليه السلامُ، وهي آخرُ القصصِ المذكورةِ في هذه السورةِ، فيقولُ: كذَّب أصحابُ الشَّجَرِ الملتَفِّ المُرسَلينَ، حينَ قال لهم رَسولُهم شُعَيبٌ: ألَا تتَّقونَ الله، وتَحذَرونَ سَخَطَه؟! إنِّي لكم رسولٌ مِن الله، أمينٌ على وحيِه، فأبلِّغُكم به بلا زيادةٍ ولا نقصٍ، فاتَّقوا عِقابَ الله وأطيعوني، وما أطلُبُ منكم على نُصحي لكم ثوابًا ولا جَزاءً، ما ثوابي إلَّا على اللهِ رَبِّ العالَمينَ.
ثمَّ يَذكرُ الله تعالى أنَّ نبيَّه شعيبًا عليه السلامُ نهَى قومَه عن أبرزِ الرذائلِ المتفشِّيةِ فيهم، وأنَّه قال لهم: أَتِمُّوا -أيُّها النَّاسُ- الحَقَّ كاملًا عندَ الكَيلِ، ولا تكونوا ممَّن يَنقُصُ النَّاسَ حُقوقَهم، وَزِنوا للنَّاسِ بالميزانِ العادِلِ المُستقيمِ الذي لا انحرافَ فيه، ولا تَنقُصوا النَّاسَ شَيئًا مِن حُقوقِهم، ولا تُفسِدوا في الأرضِ، واتَّقوا اللهَ الذي خلَقَكم أنتم والخَلقَ الأوَّلينَ مِن قَبْلِكم.
قال قومُ شُعَيبٍ له: إنَّما أنت مِن المسحورينَ، فتَهذِي بما لا معنى له، وما أنت إلَّا بشَرٌ مِثلُنا، وإنَّا لَنظُنُّك مِن الكاذبينَ في زَعمِك أنَّك مُرسَلٌ مِن عندِ اللهِ، فأنزِلْ علينا قِطَعًا مِن السَّماءِ تُهلِكُنا إن كنتَ صادِقًا فيما تقولُ!
قال شُعَيبٌ لهم: ربِّي أعلَمُ بما تَعمَلونَه مِن الشِّركِ والمعاصي، وهو مُجازيكم عليها، ومُعَذِّبُكم بها إنْ شاء.
فكذَّب قَومُ شُعَيبٍ نبيَّهم، فأخَذَهم اللهُ بعذابٍ أظَلَّهم فهَلَكوا مِن تحتِه، إنَّ ذلك العذابَ كان عذابَ يومٍ شَديدِ الأهوالِ.
إنَّ في إهلاكِ قَومِ شُعَيبٍ لَدَلالةً واضِحةً على صِدقِ شُعَيبٍ، وعِبرةً وعِظةً لِمن يعتبِرُ، وما كان أكثَرُ قَومِ شُعَيبٍ مُؤمِنينَ، وإنَّ ربَّك -يا مُحمَّدُ- لهو العزيزُ القاهِرُ لأعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يُعاجِلُهم بعذابِه.

تَفسيرُ الآياتِ:

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176).
أي: كذَّب أصحابُ الشَّجَرِ المُلتَفِّ [970] قال القرطبي: (الأيْكُ: الشجَرُ الملتَفُّ الكثيرُ، الواحدةُ: أَيْكةٌ. ومَن قرأ: «أصحابُ الأيْكةِ» فهي الغَيْضةُ. ومَن قرأ: «لَيْكة» فهو اسمُ القريةِ. ويُقالُ: هما مِثلُ بَكَّةَ ومكَّةَ، قاله الجوهريُّ). ((تفسير القرطبي)) (13/134). وقال أيضًا: (لا نعلَمُ بيْنَ أهلِ اللغةِ اختلافًا أنَّ الأَيْكةَ الشَّجَرُ الملتَفُّ). ((تفسير القرطبي)) (13/135).   بجَميعِ رُسُلِ اللهِ [971] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/632)، ((تفسير القرطبي)) (13/134)، ((تفسير ابن كثير)) (6/158)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 596). قال ابن تيميَّةَ: (ذكَرَ اللهُ سُبحانه وتعالى قِصَّةَ شُعَيبٍ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غيرِ موضعٍ مِن كتابِه، وإرسالَه إلى أهلِ مَدْيَنَ، وقال في موضعٍ آخَرَ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 176] ، فأكثَرُ الناسِ يقولون: إنَّهم أهلُ مَدْيَنَ، ومِن الناسِ مَن يَجعلُها قصَّتينِ). ((جامع الرسائل)) (1/61). وممَّن قال بأنَّ أصحابَ الأيْكةِ هم أهلُ مَدْيَنَ: ابنُ كثيرٍ، والسعديُّ. وعزاه الشنقيطيُّ إلى أكثرِ أهلِ العلمِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/158، 159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 596)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/572). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/633). قال ابن كثير: (أصحابُ الأيكةِ هم أهلُ مَدْيَنَ على الصَّحيحِ، وكان نبيُّ الله شعيبٌ مِن أنفُسِهم، وإنَّما لم يقُلْ هنا: «أخوهم شعيبٌ»؛ لأنَّهم نُسِبوا إلى عبادةِ الأيْكةِ، وهي شجرةٌ. وقيل: شجَرٌ ملتَفٌّ كالغَيضةِ كانوا يَعبُدونها... والصَّحيحُ أنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ، وُصِفوا في كلِّ مقامٍ بشَيءٍ؛ ولهذا وعَظَ هؤلاء وأمَرَهم بوفاءِ المكيالِ والميزانِ، كما في قصَّةِ مَدْيَنَ سواءً بسواءٍ؛ فدلَّ ذلك على أنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ). ((تفسير ابن كثير)) (6/158، 159). وقال أيضًا: (لَمَّا قال: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، لم يقُلْ: «إذْ قال لهم أخوهم شُعَيبٌ»، وإنَّما قال: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ، فقطَع نِسبةَ الأُخوَّةِ بيْنَهم؛ للمعنى الذي نُسِبوا إليه، وإن كان أخاهم نسَبًا. ومِن الناسِ مَن لم يتفطَّنْ لهذه النكتةِ، فظنَّ أنَّ أصحابَ الأيْكةِ غيرُ أهلِ مَدْيَنَ، فزعَم أنَّ شُعَيبًا عليه السَّلامُ بعَثه اللهُ إلى أُمَّتينِ). ((تفسير ابن كثير)). (6/158، 159). وممَّن قال بأنَّ أصحابَ الأيْكةِ هم غيرُ أهلِ مَدْيَنَ، وقد أُرسِل شعيبٌ إلى هؤلاء وهؤلاء: مقاتلُ ابنُ سليمانَ، واستظهره ابنُ عاشور، ورجَّحه ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/183)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الشعراء)) (ص: 274). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: قتادةُ، والربيعُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/2811). قال ابن عاشور: (الأظهرُ أنَّ أهلَ الأيْكةِ قبيلةٌ غيرُ مَدْيَنَ... والذي يشهدُ لذلك ويرجِّحُه أنَّ القرآنَ لَمَّا ذكَر هذه القصةَ لأهلِ مَدْيَنَ وصَف شعيبًا بأنَّه أخوهم، ولَمَّا ذكَرها لأصحابِ الأيْكةِ لم يَصِفْ شعيبًا بأنَّه أخوهم؛ إذ لم يكنْ شعيبٌ نسيبًا ولا صهرًا لأصحابِ الأيْكةِ، وهذا إيماءٌ دقيقٌ إلى هذه النكتةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/183، 184). وقال ابن عثيمين: (وممَّا يدُلُّ على أنَّهم ليسوا أصحابَ مَدْيَنَ أنَّ العذابَ الذي أُخِذوا به غيرُ العذابِ الذي أُخِذ به أصحابُ مَدْيَنَ؛ فأصحابُ مَدْيَنَ أُخِذوا بالصَّيحةِ، وهؤلاء أُخِذوا بعذابِ الظُّلَّةِ... وهل معنى هذا أنَّ شعيبًا أُرسِلَ مرَّتينِ؟ الجوابُ: لا، بل أُرسِلَ مرَّةً واحدةً، لكِنْ إلى قومَينِ؛ إلى هؤلاء وهؤلاء، ويجوزُ أن يكونَ هذا مِن بابِ التَّبَعِ، يعني: هذه القريةُ صغيرةٌ مثلًا، وكانت تابعةً لبلدتِه، ويدُلُّك على هذا أنَّ عمَلَهم واحدٌ؛ عَمَل هؤلاء، وعَمَل أهلِ مَدْيَنَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 274). .
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177).
أي: حينَ قال لهم شُعَيبٌ: ألَا تتَّقونَ اللهَ، وتَحذَرونَ عِقابَه [972] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/633)، ((تفسير القرطبي)) (13/119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 596).   ؟
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) .
أي: إنِّي لكم رَسولٌ مِن اللهِ، أمينٌ على وَحيِه الذي بعَثَني به إليكم، فأبلِّغُكم ما أُرسِلتُ به إليكم بلا زيادةٍ ولا نَقصٍ [973] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/633)، ((تفسير ابن كثير)) (6/151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 595).   .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179).
أي: فاتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعِقابَه، وأطيعوني فيما آمُرُكم به، وأنهاكم عنه [974] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/633)، ((تفسير القرطبي)) (13/119)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 595).   .
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَدَّمَ ما هو المقصودُ بالذاتِ، عَطَفَ على خبرِ «إنَّ» قولَه: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ؛ نفيًا لِمَا يُنَفِّرُ عنه [975] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/86).   .
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.
أي: وما أطلُبُ منكم على نُصحي لكم أيَّ ثوابٍ وجَزاءٍ [976] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((تفسير ابن كثير)) (6/151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 595).   .
  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أي: ما أرجو ثوابي إلَّا مِن اللهِ الخالِقِ الرَّازِقِ، المالِكِ المدَبِّرِ لجميعِ العالَمينَ دونَ خَلقِه [977] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((تفسير القرطبي)) (13/119)، ((تفسير ابن كثير)) (6/151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/86).   .
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181).
أَوْفُوا الْكَيْلَ .
أي: قال شُعَيبٌ لِقَومِه: أتِمُّوا للنَّاسِ حقَّهم كامِلًا عندَ الكَيلِ [978] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((تفسير ابن كثير)) (6/159)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/184).   .
وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَهم بالإيفاءِ؛ نهاهم عن النقصِ على وجْهٍ أعمَّ، فقال [979] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/87).   :
وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ.
أي: ولا تكونوا ممَّن يَنقُصُ النَّاسَ حُقوقَهم [980] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((تفسير ابن كثير)) (6/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597). قال البقاعي: (مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي: الذين يُخسِرون... بنَقصِ الكَيلِ، أو غيرِه من أنواعِ النَّقصِ مِن كُلِّ ما يوجِبُ الغَبْنَ، فتكونوا مشهورينَ بذلك بينَ مَن يَفعَلُه). ((نظم الدرر)) (14/87). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 277).   .
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمرَ بالإيفاءِ؛ بَيَّنَ أنَّه كيف يُفعَلُ [981] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/528).   .
وأيضًا لَمَّا أمرَ بوفاءِ الكَيلِ؛ أتبَعَه بمِثلِ ذلك في الوَزنِ، ولم يجمَعْهما؛ لِما للتَّفريقِ مِن التَّعريفِ بمزيدِ الاهتمامِ، فقال [982] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/87).   :
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182).
أي: وَزِنوا للنَّاسِ -إذا وزَنْتُم لهم- بالميزانِ العادِلِ، الذي لا مَيْلَ ولا انحرافَ فيه [983] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((تفسير ابن كثير)) (6/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597). قال ابنُ عاشور: (القِسْطاسُ: بضَمِّ القاف وبكسرها من أسماءِ العَدلِ، ومِن أسماء الميزانِ، ... وإن كان الوصفُ بـ الْمُسْتَقِيمِ يرجِّحُ أنَّ المقصودَ به الميزانُ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/185). وقال ابن عثيمين: (الفَرقُ بيْنَ الوَزنِ وبينَ الكَيلِ: أنَّ ما قُدِّرَ بالحجمِ فهو كَيْلٌ؛ لأنَّ المِكْيالَ تضَعُ فيه الشيءَ فيكونُ حجمُه هكذا، وأمَّا ما يقَدَّرُ بالثِّقلِ فيُسمَّى وزنًا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 277). .
كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 9].
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمرَ بالوفاءِ في الوزنِ؛ أتبَعَه نهيًا عن تركِه عامًّا -كما فَعَل في الكيلِ- لِيكونَ آكَدَ، فقال [984] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/87).   :
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.
أي: ولا تَنقُصوا النَّاسَ شَيئًا مِن حُقوقِهم [985] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((تفسير ابن كثير)) (6/159)، ((تفسير الشوكاني)) (4/133). قال ابن عاشور: (بخسُ أشياءِ النَّاسِ: غَبنُ منافِعِها، وذَمُّها بغيرِ ما فيها؛ لِيَضْطَرُّوهم إلى بَيْعِها بغَبنٍ... والبَخسُ: النَّقصُ والذمُّ... ومِن بَخسِ الأشياءِ أن يقولوا للذي يَعرِضُ سِلعةً سليمةً للبيعِ: إنَّ سِلعَتَك رديئةٌ؛ لِيَصرِفَ عنها الرَّاغبينَ فيَشتريَها برُخصٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/185). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/318).   .
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
أي: ولا تَسْعَوْا في الأرضِ بمعصيةِ اللهِ، وتُكثِروا فيها الفَسادَ [986] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/634)، ((تفسير السمرقندي)) (2/566)، ((تفسير ابن كثير)) (6/160)، ((تفسير الشوكاني)) (2/588). قال الشوكاني: (والعثيُّ في الأرضِ: يشمَلُ كُلَّ ما يقعُ فيها مِن الإضرارِ بالنَّاسِ، فيدخُلُ فيه ما في السِّياقِ مِن نقصِ المكيالِ والميزانِ). ((تفسير الشوكاني)) (2/588).   .
كما قال تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 85، 86].
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تقَدَّم أمْرُه عليه السَّلامُ إيَّاهم بتقوى الله؛ أمَرَهم ثانيًا بتقوى مَن أوجَدَهم، وأوجَدَ مَن قبْلَهم؛ تنبيهًا على أنَّ مَن أوجدَهم قادِرٌ على أنْ يُعَذِّبَهم ويُهلِكَهم [987] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/186).   .
وأيضًا لَمَّا وَعَظَهم فأبلَغَ في وعظِهم بما خَتَمه بالنَّهيِ عن الفسادِ؛ خَوَّفَهم مِن سَطَواتِ اللهِ تعالى بما أحَلَّ بمَن هو أعظمُ منهم، فقال [988] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/88).   :
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184).
أي: واتَّقوا اللهَ الذي خلَقَكم، وخَلَق الخَلْقَ الأوَّلينَ مِن قَبْلِكم [989] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/635)، ((تفسير ابن كثير)) (6/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/185). قال السعدي: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي: الخليقةَ الأوَّلينَ، فكما انفرد بخَلقِكم، وخَلْقِ مَن قبْلَكم مِن غيرِ مُشارِكٍ له في ذلك، فأفرِدوه بالعبادةِ والتوحيدِ، وكما أنعَمَ عليكم بالإيجادِ والإمدادِ بالنِّعَمِ، فقابِلوه بشُكرِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 597). وقال ابنُ عثيمين: (ذكَّرهم الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ بالذي خَلَقَهم، وخَلَقَ الخَلْقَ الأوَّلَ أيضًا؛ إشارةً إلى أنَّكم ستَزولون كما زال مَن قبْلَكم، فأنتم مخلوقونَ مِنَ العدَمِ، وتعودونَ إلى العدَمِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 278). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/88). .
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الحاصِلُ ممَّا مضى الإعلامَ بالرسالةِ، والتحذيرَ مِن المخالفةِ؛ لأنَّها تؤدِّي إلى الضَّلالةِ، إلى أن خَتَمَ ذلك بالإشارةِ بالتعبيرِ بالجِبِلَّةِ إلى أنَّ عذابَه تعالى عظيمٌ، لا يستعصي عليه صغيرٌ ولا كبيرٌ- أجابوه بالقَدحِ في الرِّسالةِ أولًا، وباستِصغارِ الوعيدِ ثانيًا [990] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/88).   .
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185).
أي: قال قَومُ شُعَيبٍ له: إنَّما أنت مِنَ المسحورينَ الذين بُولِغَ في سِحرِهم مرَّةً بعْدَ مرَّةٍ، فلا عَقلَ لك، وإنَّما تَهذي بما لا مَعنى له [991] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (17/108)، ((تفسير ابن كثير)) (6/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/186).   .
كما قال تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود: 91].
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186).
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا.
أي: وما أنت إلَّا آدميٌّ مِثلُنا، فكيف خَصَّك اللهُ بالرِّسالةِ مِن بيْنِنا حتى نتَّبِعَك [992] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/279)، ((تفسير ابن جرير)) (17/636)، ((تفسير السمرقندي)) (2/564)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597).   ؟!
وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ.
أي: ونحن نظُنُّك [993] قال ابن عاشور: (أُطلِقَ الظَّنُّ على اليقينِ... وهو إطلاقٌ شائِعٌ، كقَولِه: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة: 46] ، وقرينتُه هنا دخولُ اللام على المفعولِ الثاني لـ (ظَنَّ)؛ لأنَّ أصْلَها لامُ قَسَمٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/186).   مِنَ الكاذِبينَ [994] و إِنْ في قولِه تعالى: وَإِنْ نَظُنُّكَ -على مذهبِ الكوفيِّينَ- بمعنى (ما) النافيةِ. أي: وما نظنُّك إلَّا مِن الكاذبينَ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جريرٍ، والقرطبي، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/636)، ((تفسير القرطبي)) (13/136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/89). قال البقاعي: (والذي يقتضيه السياقُ ترجُّحُ مذهبِ الكوفيِّينَ هنا في أنَّ إِنْ نافيةٌ؛ فإنَّهم أرادوا بإثباتِ الواوِ في ? المبالغةَ في نفْيِ إرسالِه بتَعدادِ ما يُنافيه، فيكونُ مرادُهم أنَّه ليس لنا ظنٌّ يتوجَّهُ إلى غيرِ الكذبِ، وهو أبلغُ مِن إثباتِ الظنِّ به، ويؤيِّدُه تسبيبُهم عنه سؤالَه استهزاءً به، وتعجيزًا له إنزالَ العذابِ). ((نظم الدرر)) (14/89، 90). وقيل: المرادُ بها (إنْ) المخفَّفةُ مِن الثقيلةِ. وممَّن اختار ذلك: الشوكانيُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/186)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 279، 280). في زَعمِك أنَّك رَسولٌ مِن عندِ اللهِ [995] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/636)، ((البسيط)) للواحدي (17/120)، ((تفسير القرطبي)) (13/136)، ((تفسير ابن كثير)) (6/160)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/89). قال السعدي: (هذا جراءةٌ منهم وظُلمٌ، وقَولٌ زُورٌ، قد انطَوَوْا على خلافِه؛ فإنَّه ما مِن رسولٍ مِن الرُّسُلِ واجَهَ قومَه ودعاهم، وجادَلهم وجادَلوه، إلَّا وقد أظهَر اللهُ على يديه مِن الآياتِ ما به يتيقَّنونَ صِدقَه وأمانتَه، خصوصًا شُعَيبًا عليه السلامُ، الذي يُسمَّى خطيبَ الأنبياء؛ لحُسنِ مراجعتِه قَومَه، ومجادلتِهم بالتي هي أحسَنُ؛ فإنَّ قومَه قد تيقَّنوا صِدقَه، وأنَّ ما جاء به حقٌّ، ولكِنَّ إخبارَهم عن ظَنِّ كَذِبِه كَذِبٌ منهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 597).   .
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187).
أي: فأنزِلْ علينا قِطَعًا مِن السَّماءِ تُهلِكُنا، إنْ كُنتَ صادِقًا في أنَّك رَسولٌ مِن عندِ اللهِ [996] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/636)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 280). قال الرازي: (وهُم إنَّما طَلَبوا ذلك؛ لاستِبعادِهم وُقوعَه، فظَنُّوا أنَّه إذا لم يَقَعْ ظَهَر كذِبُه). ((تفسير الرازي)) (24/528).   .
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا طَلَبوا منه ما طلبوا؛ أحالَ عِلْمَ ذلك إلى اللهِ تعالى، وأنَّه هو العالِمُ بأعمالِكم، وبما تَستوجِبون عليها مِن العِقابِ، فهو يعاقِبُكم بما شاء [997] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/187).   .
وأيضًا لَمَّا كان عذابُ العاصي يتوقَّفُ على العِلمِ المُحيطِ بأعمالِه، والقُدرةِ على نَكالِه؛ استأنَفَ تعالى الحِكايةَ عنه في تَنبيهِه لهم على ذلك بقَولِه [998] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/90، 91).   :
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188).
أي: قال شُعَيبٌ لِقَومِه: ربِّي أعلَمُ بما تَعمَلونَه مِنَ الشِّركِ والمعاصي، ونَقصِ الكَيلِ والميزانِ، وهو مُجازيكم بأعمالِكم، ومُعذِّبُكم بها إنْ شاء، وما علَيَّ إلَّا تبليغُكم [999] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/637)، ((الوسيط)) للواحدي (3/362)، ((تفسير القرطبي)) (13/137)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/90، 91)، ((تفسير الشوكاني)) (4/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597).   .
كما قال اللهُ تعالى لنبيِّه مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج: 68] .
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَحَطُّ كلامِهم كلِّه على تكذيبِهم له مِن غيرِ قدْحٍ في قُدرةِ الخالقِ؛ سَبَّبَ العذابَ عن تكذيبِهم، فقال [1000] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/91).   :
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ.
أي: فكذَّب قَومُ شُعَيبٍ نبيَّهم، فأهلَكَهم اللهُ بعذابٍ أظلَّهم، فهلَكوا مِن تحتِه [1001] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/637)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/187). قال ابن القيم: (أخبَر تعالى عن العذابِ الذي أصاب به قَومَ شُعيبٍ بثلاثة أمورٍ، كُلُّها مؤنَّثةُ اللفظِ؛ أحدُها: الرَّجفةُ في قَولِه في «الأعراف»: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 78] . الثاني: الظُّلَّةُ بقوله: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشعراء: 189] . الثالثُ: الصَّيحةُ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 67] . وجمع لهم بيْنَ الثلاثةِ؛ فإنَّ الرجْفةَ بدأَتْ بهم، فأصحَروا [خرَجوا] إلى الفضاءِ خوفًا مِن سقوطِ الأبنيةِ عليهم، فصهَرتْهم الشمسُ بحَرِّها، ورُفِعَت لهم الظُّلَّةُ، فأُهرِعوا إليها يَستظِلُّون بها مِن الشَّمسِ، فنزَل عليهم منها العذابُ وفيه الصَّيحةُ). ((بدائع الفوائد)) (1/126). وقال ابنُ عاشور: (كان العذابُ مِن جنسِ ما سألوه، ومِن إسقاطِ شَيءٍ مِن السَّماءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/187). .
إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الحالُ مُوجِبًا للسؤالِ عن يومِ الظُّلَّةِ، قال تعالى مُهَوِّلًا لأمرِه، ومعظِّمًا لقَدْرِه [1002] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/92).   :
إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
أي: إنَّ عذابَ يومِ الظُّلَّةِ الذي أصاب قَومَ شُعَيبٍ كان عذابَ يومٍ عَظيمِ الأهوالِ [1003] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/640)، ((تفسير أبي السعود)) (6/263)، ((تفسير الشوكاني)) (4/133، 134)، ((تفسير القاسمي)) (7/474).   .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان لتوالي الإخبارِ بإهلاكِ هذه القُرونِ، وإبادةِ مَن ذُكِرَ مِن تلك الأممِ، مِن الرُّعبِ ما لا يبلغُ وصْفُه، ولا يمكِنُ لغيرِه سُبحانَه شرحُه؛ قال تعالى مشيرًا إليه تحذيرًا مِن مِثلِه [1004] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/92).   :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.
أي: إنَّ في إهلاكِ قَومِ شُعَيبٍ لَدَلالةً واضِحةً على صِدقِ رَسولِه، وعِبرةً وعِظةً لِمن ينقُصُ في الكَيلِ والوَزنِ [1005] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/640)، ((تفسير السمرقندي)) (2/566)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/187، 188).   .
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ .
أي: ولم يكُنْ أكثَرُ قَومِ شُعَيبٍ مُؤمِنينَ [1006] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/566)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/156).   .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191).
أي: وإنَّ ربَّك -يا مُحمَّدُ- لهو العزيزُ القاهِرُ الغالِبُ، المُنتقِمُ مِن أعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يُعاجِلُهم بعذابِه، ومِن رحمتِه أنَّه يُرسِلُ رُسُلًا، ويُنزِّلُ معهم ما يُبَيِّنُ به ما يُرضيه وما يُسخِطُه، فلا يُهلِكُ قَومًا إلَّا بعْدَ إعذارِهم، ومِن رحمتِه أنَّه يُنجِّي أتْباعَ رُسُلِه [1007] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/279)، ((تفسير ابن جرير)) (17/640)، ((تفسير ابن كثير)) (6/162)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 597).   .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ خاطَب كلُّ رسولٍ به قومَه؛ إزاحةً للتهمةِ، وتمحيضًا للنصيحةِ؛ فإنَّها لا تنجعُ ما دامَت مشوبةً بالمطامِعِ [1008] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/137).   .
2- قال الله تعالى حكايةً عن شعيبٍ عليه السلامُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ سلَكَ شُعَيبٌ عليه السَّلامُ في نهيِهم عن الفَسادِ مَسلَكَ التدرُّجِ، وهذا مِن أساليبِ الحِكمةِ في تهيئةِ النُّفوسِ بقَبولِ الإرشادِ والكَمالِ، فابتَدأ بنَهيِهم عن نوعٍ مِن الفسادِ فاشٍ فيهم، وهو التَّطفيفُ، ثمَّ ارتقَى فنهاهم عن جِنسِ ذلك النَّوعِ، وهو: أكلُ أموالِ النَّاسِ، ثمَّ ارتقَى فنهاهم عن الجِنسِ الأعلى للفَسادِ الشَّاملِ لجميعِ أنواعِ المفاسدِ، وهو: الإفسادُ في الأرضِ كُلُّه [1009] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/138).   .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إنَّما لم يَقُلْ هنا: أخوهم شُعَيبٌ؛ لأنَّهم نُسِبوا إلى عبادةِ الأَيْكةِ [1010] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/158، 159).   ، وذلك على اعتبارِ أنَّ مَدْيَنَ هم أصحابُ الأيْكةِ.
وقيل: لم يقُلْ: (أخوهم)؛ لأنَّه لم يكُنْ مِن أصحابِ الأيْكةِ في النَّسَبِ، فلمَّا ذكَر مَدْيَنَ قال أَخَاهُمْ شُعَيْبًا؛ لأنَّه كان منهم [1011] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/477).   ، وذلك على اعتبارِ أنَّ مَدْيَنَ غيرُ أصحابِ الأيكةِ. وقيل غيرُ ذلك [1012] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/85).   .
2- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ إنَّما كان جوابُ هؤلاء الرُّسُلِ واحِدًا على صيغةٍ واحدةٍ؛ لأنَّهم مُتَّفِقونَ على الأمرِ بالتَّقوى، والطَّاعةِ، والإخلاصِ في العبادةِ، والامتِناعِ مِن أخذِ الأجرِ على تبليغِ الرِّسالةِ [1013] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/135).   .
3- الكَيلُ على ثلاثةِ أضرُبٍ: وافٍ، وطفيفٍ، وزائدٍ، فأمَرَ بالواجِبِ الذي هو الإيفاءُ بقَولِه تعالى: أَوْفُوا الْكَيْلَ، ونهى عن المُحَرَّمِ الذي هو التَّطفيفُ بقَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، ولم يَذكُرِ الزَّائدَ؛ لأنَّه إنْ فَعَلَه فقد أحسَنَ، وإنْ لم يَفعَلْه فلا إثمَ عليه [1014] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/31).   .
4- قَولُه تعالى: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ هذا عامٌّ في كلِّ حقٍّ يَثبُتُ لأحدٍ ألَّا يُهضَمَ، وفي كلِّ مِلْكٍ ألَّا يُغصَبَ عليه مالِكُه، ولا يُتحَيَّفَ منه، ولا يُتصَرَّفَ فيه إلَّا بإذنِه تصرُّفًا شرعيًّا [1015] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/332).   .
5- في قَولِه تعالى: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ دَليلٌ على أنَّ الوفاءَ في العُقودِ هو ممَّا جاء في الشَّرائعِ السَّماويَّةِ السَّابقةِ واللَّاحِقةِ [1016] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/402).   .
6- قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ذكَرَ اللهُ تعالى صِفةَ إهلاكِهم في ثلاثةِ مَواطِنَ، كُلُّ موطنٍ بصِفةٍ تُناسِبُ ذلك السِّياقَ؛ ففي (الأعرافِ) ذكَرَ أنَّهم أخذَتْهم الرَّجفةُ، فأصبحوا في دارِهم جاثمينَ؛ وذلك لأنَّهم قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف: 88] ، فأرجَفوا بنبيِّ اللهِ ومَن اتَّبَعه، فأخذَتْهم الرَّجفةُ. وفي سورةِ (هودٍ) قال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] ؛ وذلك لأنَّهم استَهزَؤوا بنبيِّ اللهِ في قَولِهم: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] ، قالوا ذلك على سبيلِ التهَكُّمِ والازْدِراءِ، فناسَب أن تأتيَهم صَيحةٌ تُسكِتُهم، فقال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ. وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، على وجهِ التعَنُّتِ والعنادِ، فناسَب أن يَحِقَّ عليهم ما استبعَدوا وُقوعَه: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [1017] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/161).   .
7- قَولُه تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَرَّرَ سُبحانَه الخِتامَ بهذا الكَلامِ في هذه السُّورةِ ثمانيَ مرَّاتٍ؛ فلعلَّ مِن أسرارِه الإشارةَ إلى سبْقِ الرَّحمةِ للغَضَبِ [1018] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/93).   .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ استِئنافٌ مِن كَلامِه، انتَقلَ به مِن غَرضِ الدَّعوةِ الأصليَّةِ بقولِه: أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء: 177] إلى آخِرِه، إلى الدعوةِ التفصيليَّةِ بوَضْعِ قوانينِ المعامَلةِ بيْنَهم؛ فقدْ كانوا مع شِرْكِهم باللهِ يُطفِّفونَ المِكيالَ والميزانَ، ويَبخَسونَ أشياءَ الناسِ إذا ابتاعوها مِنهم، ويُفسِدونَ في الأرضِ [1019] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/184).   .
- وصَوْغُ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أبلَغُ مِن (لا تكونوا مُخْسِرينَ)؛ لأنَّه يدُلُّ على الأمْرِ بالتبرُّؤِ مِن أهلِ هذا الصَّنيعِ [1020] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/184).   .
2- قولُه تعالى: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
- قولُه: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ هذا تَعميمٌ بعْدَ تَخصيصِ بعضِ الموادِّ بالذِّكْرِ؛ لغايةِ انهماكِهم فيها [1021] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/262).   .
- وفي الكلامِ تَرَقٍّ؛ ذكَرَ أوَّلًا الأمْرَ بإيفاءِ الكيلِ، وأكَّدَهُ بقولِهِ: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ على الطَّردِ والعكسِ، ثمَّ ترقَّى إلى الأمْرِ بالعدلِ في الموازينِ؛ فإنَّها أكثرُ استعمالًا مِنَ المكاييلِ، ثمَّ جاء بهذا العامِّ، ثمَّ بأعمَّ منه: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ؛ فإنَّ بخْسَ الأشياءِ أعَمُّ مِن أنْ يكونَ في المِكيالِ أو الميزانِ، والعُثُوَّ أعمُّ مِن تنقيصِ الحُقوقِ وغيرِه مِن أنواعِ الفسادِ [1022] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/412).   .
3- قولُه تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ فيه تنبيهٌ على أنَّ مَن أوْجَدهم قادرٌ على أنْ يُعذِّبَهم ويُهلِكَهم، وعطَفَ عليهم وَالْجِبِلَّةَ؛ إيذانًا بذلك [1023] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/187).   .
- وأكَّدَ قولَه في صَدرِ خِطابِه فَاتَّقُوا اللَّهَ بقولِه هُنا: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ، وزاد فيه دليلَ استحقاقِه التقْوى بأنَّ اللهَ خلَقَهم، وخلَقَ الأُمَمَ مِن قبْلِهم، وباعتِبارِ هذه الزِّيادةِ أدخَلَ حرفَ العَطفِ على فِعلِ (اتَّقُوا)، ولو كان مُجرَّدَ تأكيدٍ لم يَصِحَّ عطْفُه. وفي قولِه: الَّذِي خَلَقَكُمْ إيماءٌ إلى نَبْذِ اتِّقاءِ غيرِه مِن شُركائِهم [1024] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/185).   .
4- قولُه تعالى: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ نَفَوْا رِسالتَه عَنِ اللهِ كِنايةً وتَصريحًا؛ فزَعَموهُ مَسحورًا، أي: مُختلَّ الإدراكِ والتصوُّراتِ مِن جَرَّاءِ سِحرٍ سُلِّطَ عليه، وذلك كنايةٌ عن بُطلانِ أنْ يكونَ ما جاء به رسالةً عن اللهِ. وفي صيغةِ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مُبالَغةٌ؛ فهي تُفيدُ أنَّه معدودٌ في زُمرتِهم، ومَشهورٌ بأنَّه مِن جُملتِهم [1025] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/186).   .
5- قولُه تعالى: وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
- قولُه: وَمَا أَنْتَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ جاء هُنا بالواوِ، وفي قِصَّةِ ثمودَ: مَا أَنْتَ بغيرِ واوٍ؛ فإنْ قيل: هلِ اختلَف المعنى بإدخالِ الواوِ هاهُنا، وتَرْكِها في قصَّةِ ثمودَ؟
فالجوابُ: إذا أُدخِلَتِ الواوُ فقدْ قُصِدَ معنَيانِ كِلاهما مُنافٍ للرِّسالةِ عِندَهم: التَّسحيرُ والبشريَّةُ، وأنَّ الرسولَ لا يَجوزُ أنْ يَكونَ مُسَحَّرًا، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ بَشرًا؛ فهي للدَّلالةِ على أنَّ كُلًّا مِنَ التَّسحيرِ والبشريَّةِ مُنافٍ للرِّسالةِ؛ مبالغةً في التَّكذيبِ. وإذا تُرِكَتِ الواوُ فلَمْ يُقصَدْ إلَّا معنًى واحدٌ، وهو كونُه مُسَحَّرًا، ثمَّ قُرِّرَ بكَونِه بشرًا مِثلَهم [1026] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/333)، ((تفسير البيضاوي)) (4/149)، ((تفسير أبي حيان)) (8/187)، ((تفسير أبي السعود)) (6/262).   . وقيل: الإتيانُ بواوِ العَطفِ في قولِه: وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا يجعَلُ كونَه بشرًا إبطالًا ثانيًا لرِسالتِه، وتَرْكُ العطفِ في قصَّةِ ثمودَ يجعَلُ كونَه بشرًا حُجَّةً على أنَّ ما يَصدُرُ منه ليس وَحْيًا، بلْ هو مِن تأثيرِ كونِه مسحورًا؛ فمآلُ معنى الآيتَينِ مُتَّحِدٌ، ولكنْ طريقُ إفادتِه مختلِفٌ، وذلك على حسَبِ أُسلوبِ الحِكايتَيْنِ [1027] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/186).   .
- فإنْ قيل: هذا بَيانُ خاصيَّةِ الترَّكيبِ؛ فما بيانُ الأبلغيَّةِ، واختِصاصِ الواوِ بموضعٍ دونَ مَوضعٍ؟
فالجوابُ: أنَّ التركيبَ بدونِ الواوِ في قِصَّةِ ثمودَ يُفيدُ التوكيدَ والتقريرَ، والقطعَ بأنَّه بَشرٌ مِثلُهم، أي: لا يَنبغي أنْ نؤمِنَ برسالاتِكَ إلَّا بشيءٍ تمتازُ به عنَّا؛ ولهذا قالوا: فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، والقومُ أَنْصَفوا في الطلَبِ؛ ولهذا قال: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ. وأمَّا قومُ شُعيبٍ عليه السَّلامُ فإنَّهم أثَبتوا له شيئَيْنِ: كَوْنَه مُسَحَّرًا، وكونَه بشرًا مِثلَهم، كلُّ واحدٍ منهما مُستقِلٌّ في المنْعِ مِن كونِه رسولًا؛ يعني: نحنُ وأنتَ في عدمِ صلاحيةِ الرِّسالةِ لكَونِنا بشَرًا سواءٌ، ولك المزيةُ علينا في كونِكَ مُسَحَّرًا دونَنا، ثمَّ أكَّدوا ذلك بقولِهم: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، والظَّنُّ بمعنى اليقينِ؛ ولذلك أدخَلَ «إنْ» واللَّامَ، ولَمَّا كان هذا الرَّدُّ أبلَغَ مِنَ الأوَّلِ ما طلَبوا البرهانَ كما طلَبوا؛ حيثُ قالوا: فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، بل قطَعوا بما يدُلُّ على اليأسِ مِن إيمانِهم بقولِهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ؛ استهزاءً كما قطَع قريشٌ بقولِهم: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ [1028] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/412، 413).   [الأنفال: 32] .
6- قولُه تعالى: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- قولُه: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ لَعلَّه جوابٌ لِمَا أشْعَر به الأمْرُ بالتَّقوى مِنَ التَّهديدِ [1029] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/149)، ((تفسير أبي السعود)) (6/262، 263).   . والأمْرُ في قولِه: فَأَسْقِطْ أمْرُ تعجيزٍ [1030] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/187).   .
7- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ جاء جوابُ شُعيبٍ بإسنادِ العِلمِ إلى اللهِ؛ فهو العالِمُ بما يَستحِقُّونه مِنَ العَذابِ ومِقدارِه، وكلمةُ أَعْلَمُ هُنا مُبالَغةٌ في العالِمِ، وليس هو بتَفضيلٍ [1031] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/187).   .
8- قولُه تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- بيَّنَ اللهُ تعالى استِمرارَهم على ما كانوا عليه بقولِه: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ، أي: استمَرُّوا على ذلك، وكَذَّبوه تَكذيبًا بعْدَ تَكذيبٍ، هذا معنى الفاءِ والتكريرِ في فَكَذَّبُوهُ، واتَّصلَ بذلك عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [1032] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/414).   .
- وقولُه: فَكَذَّبُوهُ الفاءُ فصيحةٌ، أي: فتبيَّنَ مِن قولِهم: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أنَّهم كذَّبوهُ، أي: تبيَّنَ التكذيبُ والثباتُ عليه بما دلَّ عليه ما قصَدوه مِن تعجيزِه؛ إذْ قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [1033] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/187).   [الشعراء: 187] .
- وفي إعادةِ فِعلِ التكذيبِ إيقاظٌ للمشركينَ بأنَّ حالَهم كحالِ أصحابِ شُعيبٍ؛ فيوشِكُ أنْ يكونَ عِقابُهم كذلك [1034] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/187).   .
- قولُه: عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ في إضافةِ العذابِ إلى يومِ الظُّلَّةِ دونَ نفْسِها: إيذانٌ بأنَّ لهم يَومَئذٍ عذابًا آخَرَ غيرَ عذابِ الظُّلَّةِ [1035] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/263).   .
- وقِصَّةُ شُعيبٍ آخِرُ القصصِ السَّبْعِ التي أُوحيَتْ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، المذكورةِ على سَبيلِ الاختِصارِ؛ تَسليَةً له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَهديدًا للمُكذِّبينَ به [1036] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/149).   ، ولصرفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الحِرصِ على إسلامِ قومِه، وقَطْعِ رجائِه عنه، ودفْعِ تحسُّرِه على فواتِه؛ تحقيقًا لمضمونِ ما مرَّ في مَطلَعِ السورةِ الكريمةِ مِن قولِه تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا   ... [الشعراء: 5 -6] الآيةَ؛ فإنَّ كلَّ واحدةٍ مِن هذه القصصِ ذِكرٌ مُستقِلٌّ، مُتجدِّدُ النُّزولِ، قد أتاهم مِن جهتِه تعالى بموجَبِ رحمتِه الواسعةِ، وما كان أكثرُهم مؤمنينَ بَعْدَما سمِعوها على التَّفصيلِ قصَّةً بعدَ قصَّةٍ، لا بأنْ يتدبَّروا فيها، ويَعتبِروا بما في كلِّ واحدةٍ منها مِنَ الدَّواعي إلى الإيمانِ، والزَّواجرِ عن الكُفرِ والطُّغيانِ، ولا بأنْ يَتأمَّلوا في شأنِ الآياتِ الكريمةِ النَّاطقةِ بتلك القصصِ على ما هي عليه، مع عِلمِهم بأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يسمَعْ شيئًا منها مِن أحدٍ أصلًا، واستمَرُّوا على ما كانوا عليهِ مِنَ الكُفرِ والضَّلالِ كأنْ لم يَسمَعوا شيئًا يزجُرُهم عن ذلكَ [1037] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/263).   !
9- قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَرَّرَ هذا القولَ في هذه السُّورةِ في أوَّلِ كلِّ قِصَّةٍ وآخِرِها؛ لأنَّ كلَّ قصَّةٍ منها كتنزيلٍ برأسِه، وفيها مِنَ الاعتبارِ مِثلُ ما في غيرِها؛ فكانتْ كلُّ واحدةٍ مِنها تُدْلِي بحَقٍّ في أنْ تُفتتَحَ بما افتُتِحَتْ به صاحبتُها، وأنْ تُختتَمَ بما اختُتِمَتْ به، ولأنَّ في التكريرِ تقريرًا للمعاني في الأنفُسِ، وتَثبيتًا لها في الصُّدورِ؛ فإنَّه لا طَريقَ إلى تَحفُّظِ العلومِ إلَّا تَرديدُ ما يُرادُ تحفُّظُه منها، وكلَّما زاد تَرديدُه كان أمكَنَ له في القلبِ، وأرسَخَ في الفَهْمِ، وأثبَتَ للذِّكْرِ، وأَبْعَدَ مِنَ النِّسيانِ. ولأنَّ هذه القصصَ طُرِقَتْ بها آذانٌ وُقُرٌ عن الإنصاتِ للحَقِّ، وقُلوبٌ غُلْفٌ عن تدبُّرِه؛ فَكُوثِرَتْ بالوعظِ والتذكيرِ، ورُوجِعَتْ بالترديدِ والتكريرِ؛ لعلَّ ذلك يفتَحُ أُذُنًا، أو يَفْتُقُ ذِهنًا، أو يَصْقُلُ عَقلًا طال عهْدُه بالصَّقْلِ، أو يَجْلو فَهْمًا قد غطَّى عليه تراكُمُ الصَّدَأِ [1038] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/334)، ((تفسير أبي حيان)) (8/188)، ((تفسير الشربيني)) (3/33)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/91)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/130- 135).   .
- وكرَّرَ ما كرَّرَ في أوائلِ هذه القصصِ؛ تَنبيهًا على أنَّ طريقةَ الأنبياءِ واحدةٌ لا اختلافَ فيها، وهي الدعاءُ إلى توحيدِ اللهِ وعبادتِه، ورفْضِ ما سِواهُ، وأنَّهم ورسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُشترِكونَ في ذلك، وأنَّ ما جاء به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو ما جاءتْ به الرسُلُ قبْلَه، وتلك عادةُ الأنبياءِ [1039] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/187، 188).   .
- وأيضًا جاءَتِ الألفاظُ في دُعاءِ كلِّ واحدٍ مِن هؤلاءِ الأنبياءِ واحدةً بعَيْنِها؛ إذْ كان الإيمانُ المدعوُّ إليه معنًى واحدًا بعَيْنِه [1040] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/242)، ((تفسير أبي حيان)) (8/188).   .