موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (63-69)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ

غريب الكلمات:

وَالْفُلْكَ: أي: السُّفنَ، وواحدُه وجمْعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ (الفلك): الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفن سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [994] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .
لَرَءُوفٌ: أي: شديدُ الرَّحمةِ، أو ذو رحمةٍ واسعةٍ، والرَّأفةُ أعلَى معاني الرَّحمةِ، وأصلُ (رأف): يدلُّ على رِقَّةٍ ورَحمةٍ [995] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/654)، و(3/595)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 235)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/471)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 114). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: لقد رأيتَ ببَصَرِك وعَلِمْتَ ببَصيرتِك -أيُّها المُخاطَبُ- أنَّ اللهَ أنزل مِنَ السَّماءِ مَطَرًا، فتُصبِحُ الأرضُ مُخضَرَّةً بما يَنبُتُ فيها مِنَ النَّباتِ، إنَّ اللهَ لَطيفٌ بعبادِه، ومِن لطفِه استخراجُ النَّباتِ مِنَ الأرضِ بذلك الماءِ، خَبيرٌ، ومن خبرتِه أنَّه لا تخفَى عليه الحَبَّةُ التي في باطِنِ الأرضِ، فيَسوقُ إليها الماءَ لتنبُتَ.
لله سُبحانَه وتعالى ما في السَّمَواتِ والأرض؛ خَلْقًا ومُلْكًا وعُبوديَّةً، كلٌّ مُحتاجٌ إلى تَدبيرِه وإفضالِه، إنَّ اللهَ لَهُو الغنيُّ المحمودُ في كُلِّ حالٍ.
ألم تَرَ أنَّ الله تعالى ذلَّل لكم جميعَ ما في الأرضِ، كالحَيَواناتِ والأشجارِ والأنهارِ، وسهَّل لكم أنواعَ الانتِفاعِ بها، وذلَّل لكم السُّفُنَ تَجري في البَحرِ بقُدرتِه وأمْرِه، فتَحمِلُكم مع أمتِعَتِكم إلى حيثُ تشاؤون مِن البلادِ والأماكِنِ، ويُمسِكُ السَّماءَ فيَحفَظُها؛ حتى لا تقَعَ على الأرضِ فيَهلِكَ مَنْ عليها، إلَّا بإذنِه سُبحانَه بذلك؟ إنَّ اللهَ بالنَّاسِ لرَؤوفٌ رَحيمٌ.
وهو اللهُ تعالى الذي أحياكم بأن أوجَدَكم مِنَ العَدَمِ، ثمَّ يُميتُكم عند انقِضاءِ أعمارِكم، ثمَّ يُحييكم بالبَعثِ؛ لِمُحاسبتِكم على أعمالِكم، إنَّ الإنسانَ لَجحودٌ لِما ظهَرَ مِنَ الآياتِ الدَّالَّةِ على قُدرةِ اللهِ ووحدانيَّتِه، جَحودٌ لنِعَمِ اللهِ فلا يَشكُرُ.
لكُلِّ أمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ جعَلْنا شريعةً، فهُم عامِلونَ بها، فلا يُجادِلُنَّك -يا مُحمَّدُ- في شَريعتِك، وادْعُ إلى توحيدِ رَبِّك وإخلاصِ العبادةِ له واتِّباعِ أمْرِه؛ إنَّك لعلى طَريقٍ قَويمٍ لا اعوِجاجَ فيه.
وإنْ أصرَّ كُفَّارُ قَومِك على مُجادَلتِك بالباطِلِ فيما تدعوهم إليه، فلا تُجادِلْهم، بل قُلْ لهم: اللهُ أعلَمُ بما تَعمَلونَه مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ؛ فهم معانِدونَ مُكابِرونَ. اللهُ يَقضي ويَفصِلُ بيْنكم يومَ القيامةِ فيما كُنتُم فيه تَختَلِفونَ مِن أمرِ دينِكم.

تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما دَلَّ على قُدرتِه الباهرةِ مِن إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ والنَّهارِ في اللَّيلِ، وهما أمْرانِ مُشاهَدانِ: مجيءُ الظُّلمةِ والنُّورِ- ذكَرَ أيضًا ما هو مُشاهَدٌ مِن العالَمِ العُلويِّ والعالَمِ السُّفليِّ، وهو: نُزولُ المطَرِ، وإنباتُ الأرضِ. وإنزالُ المطَرِ واخضِرارُ الأرضِ مَرئيَّانِ [996] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/531). .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً.
أي: ألمْ تَرَ [997] قال ابنُ عاشور: (الخِطابُ لكُلِّ مَن تَصلُحُ منه الرؤيةُ؛ لأنَّ المرئيَّ مَشهورٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/317). وقيل: الخطابُ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/623). أنَّ اللهَ أنزَلَ المطَرَ مِنَ السَّماءِ، فتَصيرُ به الأرضُ اليابِسةُ خَضراءَ بالنَّباتِ [998] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/623)، ((تفسير ابن كثير)) (5/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/318)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/338). قال الألوسي: ( أَلَمْ تَرَ... أي ألم تعلَمْ ذلك، وجُوِّز كونُ الرؤيةِ بصريةً نظرًا للماءِ المنزَلِ). ((تفسير الألوسي)) (9/182). وقال الشنقيطي: (الظَّاهرُ: أَنَّ تَرَ هنا مِنْ «رأى» بمعنى: «عَلِم»؛ لأنَّ إنزالَ المطرِ وإن كان مشاهَدًا بالبصرِ فكونُ اللَّهِ هو الَّذي أنْزلَه، إِنَّما يُدرَكُ بالعلمِ لا بالبصرِ، فالرُّؤيةُ هنا علميَّةٌ على التَّحقيقِ). ((أضواء البيان)) (5/294). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/247). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .
وقال سُبحانَه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9-11] .
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ لَطيفٌ في فِعلِ ما يشاءُ، ومِن ذلك إنباتُ الأرضِ بالماءِ، خَبيرٌ يَعلَمُ خَفايا كُلِّ شَيءٍ، ومن ذلك أنَّه لا تخفَى عليه الحَبَّةُ التي في باطِنِ الأرضِ، فيَسوقُ إليها الماءَ بلُطفِه لِيُنبِتَها به [999] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/623)، ((تفسير ابن كثير)) (5/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544). .
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64).
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: لله وَحْدَه مُلكُ جَميعِ ما في السَّمَوات ومُلكُ جَميعِ ما في الأرضِ مِنَ الخَلقِ؛ فكُلُّهم عَبيدُه، وتحتَ تَدبيرِه، لا شَريكَ له في ذلك [1000] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/623)، ((تفسير القرطبي)) (12/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544). .
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
أي: وإنَّ اللهَ لَهُو الغنيُّ عن كُلِّ ما سِواه، المحمودُ في أسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه [1001] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/623)، ((تفسير القرطبي)) (12/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544). قال السعدي: (وهو الغنيُّ في حَمدِه، الحَميدُ في غِناه). ((تفسير السعدي)) (ص: 544). .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65).
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ.
أي: ألم تَرَ أنَّ اللهَ ذلَّل لكم جميعَ ما في الأرضِ، كالحَيَواناتِ والأشجارِ والأنهارِ، وسهَّل لكم أنواعَ الانتِفاعِ بها [1002] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/624)، ((تفسير الرازي)) (23/247)، ((تفسير القرطبي)) (12/92)، ((تفسير ابن كثير)) (5/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/321، 322). .
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.
أي: وذلَّل لكم السُّفُنَ تجري في البِحارِ بقُدرتِه وتَيسيرِه، فتَحمِلُكم وتَحمِلُ بَضائِعَكم مِن مَوضِعٍ إلى آخَرَ [1003] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/624)، ((تفسير ابن كثير)) (5/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544). .
وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
أي: ويُمسِكُ اللهُ السَّماءَ بقُدرتِه؛ كيْ لا تَسقُطَ على الأرضِ فيَهلِكَ مَن فيها، إلَّا إذا أذِنَ اللهُ لها بالوُقوعِ، فتَقَعُ بإذنِه [1004] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/624)، ((تفسير البغوي)) (3/350)، ((تفسير القرطبي)) (12/93)، ((تفسير البيضاوي)) (4/78)، ((تفسير ابن كثير)) (5/451)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/296). قيل: قولُه: إِلَّا بِإِذْنِهِ أي: يومَ القيامةِ، كأنَّ طَيَّ السَّماءِ بَعْضُ هذه الهيئةِ لوُقوعِها، ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك وَعيدًا لهم في أنَّه إنْ أذِنَ في سُقوطِها كِسفًا عليكم سقَطَتْ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/533، 534). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 41] .
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ بالنَّاسِ لَذُو رأفةٍ ورَحمةٍ، ومِن رأفتِه ورَحمتِه بهم سَخَّر لهم جميعَ تلك الأشياءِ [1005] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/625)، ((تفسير القرطبي)) (12/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544). .
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعد أن ذكَرَ سُبحانَه -فيما سلف- عظيمَ قدرتِه وبالِغَ حِكمتِه فى ولوجِ اللَّيلِ فى النَّهارِ والنَّهارِ فى اللَّيلِ، ونبَّه بذلك على سابِغِ نِعَمِه على عبادِه؛ أردَف ذلك بذِكرِ أنواعٍ أُخرى مِن الدَّلائِلِ على قدرتِه، فقال [1006] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (17/136). :
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.
أي: واللهُ هو الذي أحياكم وأوجَدَكم مِنَ العَدَمِ، ثُمَّ يُميتُكم عندَ انقضاءِ آجالِكم، ثمَّ يُحييكم يومَ القيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ [1007] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/625)، ((تفسير القرطبي)) (12/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 545). .
كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الجاثية: 26] .
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ.
أي: إنَّ الإنسانَ لَجَحودٌ لآياتِ اللهِ فلا يُؤمِنُ بها، جَحودٌ لنِعَمِ اللهِ فلا يَشكُرُ اللهَ عليها، ولا يُخلِصُ عِبادَتَه له وَحْدَه [1008] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/625)، ((تفسير القرطبي)) (12/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 545). !
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قدَّمَ اللهُ تعالى ذِكْرَ نِعَمِه، وبيَّنَ أنَّه رَؤوفٌ رَحيمٌ بعِبادِه، وإن كان منهم مَن يَكفُرُ ولا يَشكُرُ؛ أتبَعَه بذِكرِ نِعَمِه بما كَلَّف؛ فقال [1009] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/248). :
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ.
أي: لكلِّ جماعةٍ مُؤمِنةٍ ممَّن قَبْلَكم وضَعْنا شريعةً، هم عاملونَ بها [1010] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 740)، ((تفسير القرطبي)) (12/93)، ((تفسير الشوكاني)) (3/552). وممن اختار أنَّ المنسكَ معناه هنا الشريعةُ: الواحديُّ، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والعليمي، والشوكاني، ومحمد رشيد رضا. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 740)، ((تفسير الرازي)) (23/249)، ((تفسير القرطبي)) (12/93)، ((تفسير البيضاوي)) (4/78)، ((تفسير العليمي)) (4/447)، ((تفسير الشوكاني)) (3/552)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/213). قال الرازي: (المَنسَكُ: هو الشَّريعةُ والمِنهاجُ، وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ في روايةِ عطاءٍ، واختيارُ القَفَّالِ، وهو الأقربُ؛ لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] ؛ ولأنَّ المَنسَكَ مأخوذٌ مِنَ النُّسُكِ، وهو العِبادةُ، وإذا وقَعَ الاسمُ على كلِّ عِبادةٍ، فلا وجْهَ للتَّخصيصِ. فإنْ قيل: هلَّا حملْتُموه على الذَّبحِ؛ لأنَّ المَنسَكَ في العُرفِ لا يُفهَمُ منه إلَّا الذَّبحُ؟ وهلَّا حملْتُموه على مَوضِع العِبادةِ أو على وقْتِها؟ الجوابُ عن الأوَّلِ: لا نُسلِّمُ أنَّ المَنسَكَ في العُرفِ مَخصوصٌ بالذَّبحِ؛ والدَّليلُ عليه أنَّ سائرَ ما يُفعَلُ في الحجِّ يوصَفُ بأنَّه مَناسكُ، ولأجْلِه قال عليه السَّلامُ: «خُذوا عَنِّي مَناسِكَكُم». وعن الثاني: أنَّ قولَه: هُمْ نَاسِكُوهُ أَلْيَقُ بالعِبادةِ منه بالوقتِ والمكانِ). ((تفسير الرازي)) (23/249). وقيل: المرادُ به: إراقةُ الدَّمِ أيامَ النحرِ بمِنًى. وممَّن اختارَ هذا القولَ: ابنُ جَريرٍ. قال ابن جَريرٍ: (الصَّوابُ مِنَ القولِ في ذلكَ أنْ يقالَ: عُني بذلك إراقةُ الدَّمِ أيَّامَ النَّحرِ بمِنًى؛ لأنَّ المَناسكَ التي كان المُشرِكون جادَلوا فيها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانت إراقةَ الدَّمِ في هذه الأيَّامِ، على أنَّهم قد كانوا جادَلوه في إراقةِ الدِّماءِ التي هي دماءُ ذَبائحِ الأنعامِ، بما قد أَخبَرَ اللهُ عنهم في سورةِ «الأنعامِ». غَيرَ أنَّ تلك لم تَكُنْ مَناسكَ، فأمَّا التي هي مَناسكُ فإنَّما هي هَدايا أو ضَحايا؛ ولذلك قُلنا: عُنيَ بالمَنسكِ في هذا الموضعِ: الذَّبحُ، الذي هو بالصِّفةِ التي وصَفْنا). ((تفسير ابن جرير)) (16/627). وقال الشِّنقيطيُّ: (الأظهر في معنى قولِه: مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ أي: مُتعبَّدًا هُم مُتعبِّدون فيه؛ لأنَّ أصلَ النُّسكِ التَّعبُّدُ، وقد بَيَّن تعالى أنْ مَنسَكَ كلِّ أُمَّةٍ فيه التَّقرُّبُ إلى اللهِ بالذَّبحِ، فهو فَرْدٌ مِن أفرادِ النُّسكِ صَرَّحَ القرآنُ بدُخولِه في عُمومِه، وذلك مِن أنواعِ البيانِ الذي تَضمَّنها هذا الكتابُ المبارَكُ. والآيةُ التي بَيَّن اللهُ فيها ذلك هي قولُه تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج: 34] ). ((أضواء البيان)) (5/298). وقال السعديُّ: (جَعَل لكلِّ أُمَّةٍ مَعبدًا وعِبادةً، قد تَختلِفُ في بعضِ الأمورِ، مع اتِّفاقِها على العدلِ والحِكمةِ، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ [المائدة: 48] الآيةَ. هُمْ نَاسِكُوهُ أي: عامِلون عليه، بحسَبِ أحوالِهم، فلا اعتِراضَ على شريعةٍ مِنَ الشَّرائعِ، خُصوصًا مِنَ الأُمِّيِّينَ، أهلِ الشِّركِ والجهلِ المُبينِ، فإنَّه إذا ثَبَتَتْ رسالةُ الرَّسولِ بأدلَّتِها، وَجَب أنْ يُتلقَّى جميعُ ما جاء به بالقَبولِ والتَّسليمِ، وترْكِ الاعتِراضِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 545). وقال القاسمي: (مَنْسَكًا أي: شريعةً ومتعبدًا). ((تفسير القاسمي)) (7/273). وقيل: المرادُ بالنُّسكِ هنا: مواضعُ الحجِّ، بخِلافِ المرادِ به في الآية السابقةِ؛ فهو موضعُ القُربانِ. قاله ابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/328). .
فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ.
أي: فلا يُجادِلُنَّك [1011] قال الشوكاني: (والضَّميرُ راجعٌ إلى الأُممِ الباقيةِ آثارُهم، أي: قد عَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ شَرِيعَةً، ومِن جملةِ الأُممِ هذه الأمَّةُ المحَمَّديَّةُ، وذلك مُوجبٌ لعدمِ منازعةِ مَن بَقِي منهم لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومُستلْزِمٌ لطاعَتِهم إيَّاه في أمرِ الدِّينِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/553). وقيل: الضميرُ يرجعُ إلى المشركينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/627). -يا مُحمَّدُ- فيما شرَعَ اللهُ لك [1012] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/169)، ((تفسير القرطبي)) (12/93)، ((تفسير ابن كثير)) (5/451). وقال القاسمي: (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي: في ذلك الجَعْلِ والوَضعِ والحوارِ في تَنوُّعِه في كلِّ أُمَّةٍ، وعدَمِ وحْدَتِه. أو في أمرِ ما جِئتَهُم به، زعمًا بأنَّه يُستغنى عنه بما شُرِع قَبْلَه؛ لأنَّه جهْلٌ بحكمتِه تعالى في تكوين الأُممِ وتربيتِها بالشَّرائعِ المناسبةِ لِزَمنِها ومكانِها، وحياتِها ومَنشئِها؛ ولذلك كانت هذه الشَّريعةُ أَهدى الشَّرائعِ للامتِنان بها، حينما بَلَغ الإنسانُ أعلى طَورِ الرُّشدِ؛ ولذلك وجَبَتِ الدَّعوةُ إليها خاصَّةً). ((تفسير القاسمي)) (7/273). وذهَبَ ابنُ جَريرٍ إلى أنَّ المعنى: فلا يُنازعنَّكَ المُشرِكون في ذبْحِكَ، بقولِهم: أَتأكُلون ما قَتَلْتُم، ولا تَأكُلون المَيْتةَ التي قَتَلَها اللهُ؟! فإنكَ أَوْلى بالحقِّ منهم؛ لأنَّك مُحِقٌّ، وهُم مُبْطِلون. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/627). وذهَبَ الزَّجَّاجُ إلى أنَّ المعنى: لا يُجادِلُنَّكَ، ولا تُجادِلَنَّهُم. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/437). قال الزمخشريُّ: (هو نَهيٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أى: لا تَلتَفِتْ إلى قَولهم، ولا تُمكِّنْهم مِن أنْ يُنازِعوك. أو هو زجْرٌ لهم عنِ التَّعرُّضِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمُنازعةِ في الدِّينِ وهُم جُهَّالٌ لا عِلمَ عِندَهم). ((تفسير الزمخشري)) (3/169). وقال ابن كثير: (إِنْ كان... المراد: «لِكُلِّ أُمَّةِ نبيٍّ جَعَلْنَا مَنْسَكًا»؛ فيكونُ المرادُ بقولِه: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أَي: هؤلاء المشركونَ. وإنْ كان المرادُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا جعلًا قَدَرِيًّا -كما قال: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة: 148] ، ولهذا قال هاهنا: هُمْ نَاسِكُوهُ أَي: فاعِلوه- فالضَّميرُ هاهنا عائِدٌ على هؤلاءِ الَّذين لهم مناسِكُ وطرائِقُ، أي: هؤلاء إنَّما يفعلونَ هذا عن قَدَرِ اللَّهِ وإرادتِه، فلا تَتَأَثَّرْ بمنازعَتِهم لك، ولا يَصْرِفْكَ ذلك عمَّا أنت عليه مِنَ الحقِّ؛ ولهذا قال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ أي: طريقٍ واضحٍ مستقيمٍ موصِلٍ إلى المقصودِ. وهذه كقولِه: وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [القصص: 87] ). ((تفسير ابن كثير)) (5/451). .
كما قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60] .
وقال سُبحانَه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18] .
وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ.
أي: وادْعُ -يا مُحمَّدُ- إلى عبادةِ رَبِّك وَحْدَه، والإيمانِ به، واتِّباعِ شَريعَتِه [1013] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/628)، ((تفسير القرطبي)) (12/94)، ((تفسير ابن جزي)) (2/45). .
كما قال تعالى: وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص: 87] .
إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ.
أي: داوِمْ على هذه الدَّعوةِ ولا يَثنِينَّك عنها شَيءٌ؛ فإنَّك على طريقٍ مُستقيمٍ لا عِوَجَ فيه، مُوصلٍ إلى المَقصودِ [1014] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/628)، ((تفسير القرطبي)) (12/94)، ((تفسير ابن كثير)) (5/451)، ((تفسير أبي السعود)) (6/119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 545)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/330). .
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68).
أي: وإنْ جادَلَك كُفَّارُ قَومِك -يا مُحمَّدُ- فقُلْ لهم: اللهُ أعلَمُ بما تَعمَلونَه مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ، وهو مُجازيكم على ذلك، ففَوِّضْ أمْرَهم إلى اللهِ، وأعرِضْ عنهم، ولا تُجادِلْهم [1015] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/628)، ((تفسير القرطبي)) (12/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 545)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/330)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/298، 299). قال الرسعني: (أكثرُ المفسرينَ يقولون: هذا منسوخٌ بآيةِ السيفِ. وبعضُهم يقولُ: هذا في حقِّ المنافقين، وكانت تظهرُ منهم فَلَتاتٌ، فإذا عُوتِبوا أنكَروا وحلَفوا وجادَلوا. فعلى هذا: لا نسخَ). ((تفسير الرسعني)) (5/90). وقال أبو الحسن السخاوي: (وقالوا في قَولِه عزَّ وجلَّ: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ نسَخَها آيةُ السَّيفِ. وقد قُلْنا: إنَّ آيةَ السَّيفِ لا يَصِحُّ أن تكونَ ناسِخةً لِشَيءٍ من هذا؛ لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن قادِرًا على القِتالِ مَنهيًّا عنه، وإنَّما تَنسَخُ آيةُ السَّيفِ آيةً يكونُ فيها نهيُه عن القِتالِ، ولا نجِدُ ذلك في القُرآنِ؛ لأنَّ العاجِزَ عن القِتالِ لا يُنهى عنه، أفَتَرى أنَّه بعد آيةِ السَّيفِ لا يجوزُ له أن يقولَ لهم: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ؟! وما يُروى عن السَّلَفِ -رَحِمَهم اللهُ- مِثلِ ابنِ عبَّاسٍ وغَيرِه مِن إطلاقِ النَّسخِ في هذا إنَّما يريدونَ به: الانتِقالَ مِن حالٍ الى أُخرى؛ فأطلقوا على ذلك النَّسخَ، ونحن نريدُ بالنَّسخِ: رَفْعَ الحُكمِ الثَّابتِ نَصًّا بنصٍّ آخَرَ لولاه لكان الأوَّلُ ثابِتًا، وابنُ عبَّاسٍ وغيرُه لا يريدونَ بالنَّسخِ هذا). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (2/763). .
كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] .
وقال سُبحانَه وتعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأحقاف: 8] .
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعراضِ عن الكافِرينَ، وكان ذلك شَديدًا على النَّفْسِ؛ لِتَشَوُّفِها إلى النُّصرةِ- رجَّاه في ذلك؛ فقال [1016] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/91). :
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69).
أي: اللهُ يَقضي ويَفصِلُ بينكم يومَ القيامةِ فيما كُنتُم فيه تَختَلِفونَ مِن أمرِ دينِكم، ويتبَيَّنُ حِينَئذٍ المُحِقُّ مِن المُبطِلِ [1017] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/629)، ((تفسير القرطبي)) (12/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 545). قيل: هذا خِطابٌ مِنَ اللهِ للمُؤمِنينَ والكافرينَ، أى: يَفصِلُ بينكم بالثَّوابِ والعِقابِ. قاله الزمخشري. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/170). وقيل: هذا مِن ضِمنِ ما أُمِرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقولَه على معنى أنَّ اللهَ يَحكُمُ بين المُسلِمينَ والكافرينَ يومَ القيامةِ. قاله الشوكاني. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/553). وقيل: جملة اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كلامٌ مستأنفٌ ليس مِن المقولِ، فهو خطابٌ للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليس خطابًا للمشركين؛ بقرينةِ قولِه: بَيْنَكُمْ. والمقصودُ: تأييدُ الرسولِ والمؤمنينَ. قاله ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/331). .
كما قال الله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ هذا حَثٌّ منه تعالى وترغيبٌ في النَّظَرِ إلى آياتِه الدَّالَّاتِ على وحدانيَّتِه [1018] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 544). .
2- الإنسانُ مأمورٌ بالدَّعوةِ إلى الخَيرِ -أي: الدَّعوةِ إلى الله عزَّ وجلَّ- كما في قَولِه تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [1019] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/347). .
3- قال الله تعالى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في هذه الآيةِ أدَبٌ حَسَنٌ عَلَّمَه اللهُ عِبادَه في الرَّدِّ على مَن جادَلَ تعنُّتًا ومِراءً: ألَّا يُجابَ ولا يُناظَرَ، ويُدفَعَ بهذا القَولِ الذي عَلَّمَه اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1020] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/94). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- إنْ قيل: ما وجْهُ الرَّفعِ في قوله: فَتُصْبِحُ، مع أنَّ قَبلَها استِفهامًا؟
والجوابُ: أنَّ الرَّفعَ في قولِه: فَتُصْبِحُ؛ لأنَّه ليس مُسبَّبًا عن الرُّؤيةِ التي هي موضعُ الاستِفهامِ، وإنما هو مُسبَّبُ الإنزالِ في قولِه: أَنْزَلَ، والإنزالُ الذي هو سببُ إِصباحِ الأرضِ مُخضرَّةً ليس فيه استِفهامٌ، ومعلومٌ أنَّ الفاءَ التي يُنصَبُ بَعدَها المضارعُ إنْ حُذفَتْ جازَ جعْلُ مَدخولِها جزاءً للشَّرطِ، ولا يُمكنُ أنْ تقولَ هنا: إنْ ترَ أنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، تُصبِحِ الأرضُ مُخضرَّةً؛ لأنَّ الرُّؤيةَ لا أَثَرَ لها الْبتَّةَ في اخضِرارِ الأرضِ، بل سببُه إنزالُ الماءِ، لا رؤْيةُ إنزالِه [1021] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/295). .
2- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ استوعَبَت الآيةُ العوالِمَ الثَّلاثةَ: البَرَّ، والبَحرَ، والجَوَّ [1022] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/325). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ قال: بِأَمْرِهِ؛ لأنَّه سُبحانَه لَمَّا كان المُجريَ لها بالرِّياحِ، نسَبَ ذلك إلى أمْرِه توَسُّعًا؛ لأنَّ ذلك يفيدُ تَعظيمَه بأكثَرَ مِمَّا يُفيدُ لو أضافَه إلى فِعلِه؛ بِناءً على عادةِ المُلوكِ في مِثلِ هذه اللَّفظةِ [1023] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/248). .
4- قال الله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ هذه الآيةُ تدُلُّ دَلالةً قاطِعةً لا تَقبَلُ الشَّكَّ على أنَّ السَّمَواتِ أجرامٌ مَحسوسةٌ حَقيقيَّةٌ [1024] يُنظر: ((الضياء اللامع)) لابن عثيمين (1/34). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ هذا كما قد يُعَدِّدُ المَرءُ نِعَمَه على وَلَدِه، ثمَّ يقولُ: إنَّ الوَلَدَ لكَفورٌ لنِعَمِ الوالِدِ؛ زَجرًا له عن الكُفرانِ، وبَعثًا له على الشُّكرِ؛ فلذلك أورد تعالى ذلك في الكُفَّارِ، فبيَّنَ أنَّهم دفعوا هذه النِّعَمَ، وكَفَروا بها، وجَهِلوا خالِقَها، مع وضوحِ أمْرِها [1025] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/248). !
6- سَبيلُ اللهِ وصِراطُه المُستَقيمُ هو الذي كان عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَحابتُه، بدَليلِ قَولِه عَزَّ وجَلَّ: يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 1-4] ، وقال تعالى: إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] ، فمَنِ اتَّبع رسولَ اللهِ صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم فى قولِه وفعلِه فهو على صِراطِ الله المستقيمِ [1026] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/232). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ استئنافٌ ابْتِدائيٌّ؛ انتقالٌ إلى التَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ تعالى. والمقصودُ: التَّعريضُ بشُكْرِ اللهِ على نِعَمِه، وألَّا يَعْبُدوا غيرَه، كما دَلَّ عليه التَّذييلُ عَقِبَ تَعدادِ هذه النِّعَمِ بـ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ. وفي ذلك كلِّه: إدماجُ الاستدلالِ على انفرادِه بالخَلقِ والتَّدبيرِ، فهو الرَّبُّ الحقُّ المُستحِقُّ للعِبادةِ [1027] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/317). .
- والاستفهامُ في قولِه: أَلَمْ تَرَ تَقريريٌّ [1028] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/77)، ((تفسير أبي السعود)) (6/117) . وقيل: الاستفهامُ إنكاريٌّ، وإنَّما حُكِيَ الفِعْلُ المُستفهَمُ عنه الإنكاريُّ مُقترِنًا بحَرفِ (لم) الَّذي يُخلِّصُه إلى المُضِيِّ، وحُكِيَ مُتعلَّقُه -وهو الإنزالُ- بصِيغَةِ الماضي كذلك في قولِه: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، ولم يُراعَ فيهما معنى تَجدُّدِ ذلك؛ لأنَّ مَوقِعَ إنكارِ عدَمِ العِلْمِ بذلك هو كونُه أمْرًا مُتقرِّرًا ماضيًا لا يُدَّعى جَهْلُه [1029] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/318). .
- قولُه: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فيه التَّعبيرُ عن مَصيرِ الأرضِ خَضراءَ بصِيغةِ (تُصْبِحُ مُخْضرَّة) -مع أنَّ ذلك مُفرَّعٌ على فِعْلِ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً الَّذي هو بصِيغةِ الماضي-؛ لأنَّه قُصِدَ مِن المُضارِعِ استحضارُ تلك الصُّورةِ العجيبةِ الحَسَنةِ، ولإفادةِ بَقاءِ أثَرِ إنزالِ المطَرِ زمانًا بعْدَ زَمانٍ [1030] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/168)، ((تفسير أبي حيان)) (7/531، 532)، ((تفسير أبي السعود)) (6/117)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/318)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/472). ، والفاءُ هاهنا للتعقيب، وتعقيبُ كلِّ شيءٍ بحسَبِه [1031] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/450). ؛ فمعلومٌ أنَّ النباتَ يَخرُجُ بعدَ نُزولِ المطرِ بمُدَّةٍ، كما في قولِه تعالى: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: 14] وبينهما أربعونَ يومًا.
- وخُصَّ (تُصبِحُ) دون سائِرِ أوقاتِ النَّهارِ؛ لأنَّ رُؤيةَ الأشياءِ المحبوبةِ أوَّلَ النَّهارِ أبهَجُ وأسَرُّ للرَّائي [1032] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/533). .
- وإذا كان الاخضِرارُ مُتأخِّرًا عن إنزالِ المطَرِ؛ فثَمَّ جُمَلٌ مَحذوفةٌ، والتَّقديرُ: فتَهتزُّ وتَرْبو، فتُصبِحُ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ [1033] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/533). .
- وعبَّرَ عنِ النَّباتِ -الَّذي هو مُقْتضى الشُّكرِ؛ لِمَا فيه من إقامةِ أقواتِ النَّاسِ والبهائمِ- بذِكْرِ لَونِه الأخضرِ؛ لأنَّ ذلك اللَّونَ مُمتِعٌ للأبصارِ؛ فهو أيضًا مُوجِبُ شُكْرٍ على ما خلَقَ اللهُ مِن جَمالِ المصنوعاتِ في المَرْأى، كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [1034] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/318).  لنحل: 6].
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ تَعليلٌ للإنزالِ [1035] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/319). ، ووَجْهُ تَعلُّقِه بما تقدَّمَ: أنَّه أراد أنَّه رحيمٌ بعِبادِه، ولِرَحمتِه فعَلَ ذلك حتَّى عظُمَ انتفاعُهم به؛ لأنَّ الأرضَ إذا أصبَحَتْ مُخضرَّةً، والسَّماءَ إذا أمطَرَتْ، كان ذلك سبَبًا لعَيشِ الحيواناتِ على اختلافِها أجمَعَ. ومعنى خَبِيرٌ أنَّه عالِمٌ بمَقاديرِ مَصالحِهم، فيَفعَلُ على قَدْرِ ذلك مِن دونِ زِيادةٍ ونُقْصانٍ. وقيل: وَجْهُه: أنَّه أراد أنَّه لَطيفٌ بأرزاقِ عِبادِه، خَبيرٌ بما في قُلوبِهم من القُنوطِ. وقيل: لَطيفٌ في أفعالِه، خبيرٌ بأعمالِ خَلْقِه. وقيل: لَطيفٌ باستخراجِ النَّبتِ، خَبيرٌ بكيفيَّةِ خَلْقِه [1036] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/247). .
2- قولُه تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فُصِلَت هذه الجُملةُ ولم تُعْطَفْ على الَّتي قبْلَها مع اتِّحادِهما في الغرَضِ؛ لأنَّ هذه تَتنزَّلُ مِن الأُولى مَنزِلَةَ التَّذييلِ بالعُمومِ الشَّاملِ لِمَا تَضمَّنَته الجُملةُ الَّتي قبْلَها، ولأنَّ هذه لا تَتضمَّنُ تَذكيرًا بنِعمةٍ [1037] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/320). .
- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ للدَّلالةِ على القَصرِ، أي: له ذلك لا لغَيرِه مِن أصنامِكم، هذا على جَعْلِ القَصرِ إضافيًّا. أو لعدَمِ الاعتدادِ بغِنَى غيرِه ومَحموديَّتِه، إنْ جُعِلَ القَصرُ ادِّعائيًّا [1038] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/320). .
- وفي قولِه: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ نَبَّهَ بوَصْفِ الغِنَى على أنَّه غيرُ مُفتقِرٍ إلى غيرِه؛ تَنبيهًا على أنَّ افتقارَ الأصنامِ إلى مَن يَصنَعُها، ومَن يَنقُلُها مِن مكانٍ إلى آخَرَ، ومَن يَنفُضُ عنها القَتامَ -أي: الغُبارَ- والقذَرَ: دَليلٌ على انتفاءِ الإلهيَّةِ عنها. وأمَّا وَصْفُ الْحَمِيدُ فذِكْرُه لِمُزاوَجةِ وَصْفِ الغِنَى؛ لأنَّ الغَنِيَّ مُفِيضٌ على النَّاسِ، فهُم يَحمَدونَه. وفي ضَميرِ الفَصلِ (هو) إفادةُ أنَّه المُختَصُّ بوَصْفِ الغِنَى دونَ الأصنامِ، وبأنَّه المُختَصُّ بالمَحْموديَّةِ؛ فإنَّ العرَبَ لم يَكونوا يُوجِّهونَ الحمْدَ لغَيرِ اللهِ تعالى. وأُكِّدَ الحَصرُ بحَرفِ التَّوكيدِ وبلامِ الابتداءِ (إنَّ - لهو)؛ تَحقيقًا لِنِسبةِ القَصرِ إلى المقصورِ، وهذا التَّأكيدُ لِتَنزيلِ تَحقُّقِهم اختصاصَه بالغِنَى أو المَحْموديَّةِ مَنزِلةَ الشَّكِّ أو الإنكارِ؛ لأنَّهم لم يَجْرُوا على موجَبِ عِلْمِهم حين عَبَدوا غيرَه، وإنَّما يُعبَدُ مَن وَصْفُه الغِنَى [1039] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/320). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، بإعادةِ (ما)، وأدخَلَ اللَّامَ على قولِه: (هو)، بخِلافِ آيةِ سُورةِ لُقمانَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان: 26] ؛ ووَجْهُ ذلك: إفادةُ التَّوكيدِ المُحتاجِ إليه هنا في سُورةِ الحجِّ؛ فلا تَدخُلُ اللَّامُ الخبَرَ لغيرِ ذلك، وتَكرارُ الموصولِ أيضًا لذلك؛ فدخَلَتا في آيةِ هذه السُّورة بعْدَ عشْرِ آياتٍ، كلُّ آيةٍ مُؤكَّدةٍ مرَّةً أو مرَّتينِ، وخالَفَتِ الَّتي في سُورةِ لُقمانَ تلك بمَوقِعِها، فلم تُؤكَّدْ كما أُكِّدَتِ الأُولى لذلك [1040] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 932، 933)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 182)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/363)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/327). .
3- قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ مُستأنَفٌ استئنافًا ابتِدائيًّا. والاستفهامُ إنكاريٌّ. وهذا مِن نسَقِ التَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ، واقِعٌ مَوقِعَ قولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: 63] ؛ فهو مِن عِدادِ الامتنانِ والاستدلالِ؛ فكان كالتَّكريرِ للغرَضِ؛ ولذلك فُصِلَتِ الجُملةُ ولم تُعْطَفْ. وهذا تَذكيرٌ بنِعمةِ تَسخيرِ الحيوانِ وغيرِه، وفيه: إدماجُ الاستدلالِ على انفرادِه بالتَّسخيرِ والتَّقديرِ، فهو الرَّبُّ الحقُّ [1041] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/321). .
- قولُه: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَكُمْ على المفعولِ الصَّريحِ مَا؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ؛ لتَعجيلِ المَسرَّةِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ [1042] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/118). .
- وفي قولِه: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ نَبَّهَ على تَسخيرِ الفُلْكِ وإنْ كانت مُندرِجةً في عُمومِ (ما)؛ تَنبيهًا على غَرابةِ تَسخيرِها، وكثرةِ مَنافِعِها [1043] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/533). . وخُصَّ الجَريانُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ ذلك الجرْيَ في البحرِ هو مَظهَرُ التَّسخيرِ؛ إذ لولا الإلهامُ إلى صُنْعِها على الصِّفةِ المعلومةِ لكان حَظُّها مِن البحرِ الغرَقَ [1044] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/322). .
- قولُه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ مُناسَبةُ عَطْفِ إمساكِ السَّمواتِ على تَسخيرِ ما في الأرضِ وتَسخيرِ الفُلْكِ: أنَّ إمساكَ السَّماءِ عن أنْ تقَعَ على الأرضِ ضَرْبٌ من التَّسخيرِ؛ لِمَا في عَظمةِ المخلوقاتِ السَّماويَّةِ مِن مُقتضياتِ تَغلُّبِها على المخلوقاتِ الأرضيَّةِ وحَطْمِها إيَّاها، لولا ما قدَّرَ اللهُ تعالى لكلِّ نَوعٍ منها مِن سُننٍ ونُظُمٍ تَمنَعُ مِن تسلُّطِ بَعضِها على بَعضٍ [1045] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/322). .
- ولَفْظُ السَّماءِ في قولِه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ يجوزُ أنْ يكونَ بمعنى (ما قابَلَ الأرضَ) في اصطلاحِ النَّاسِ؛ فيكونَ كُلًّا شامِلًا للعوالِمِ العُلويَّةِ كلِّها الَّتي لا نُحِيطُ بها عِلْمًا؛ كالكواكبِ السَّيَّارةِ، وما اللهُ أعلَمُ به، وما يَكشِفُه للنَّاسِ في مُتعاقَبِ الأزمانِ. ويكونَ وُقوعُها على الأرضِ بمعنى الخُرورِ والسُّقوطِ؛ فيكونَ قولُه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ امتنانًا على النَّاسِ بالسَّلامةِ ممَّا يُفْسِدُ حَياتَهم، ويكونَ قولُه: إِلَّا بِإِذْنِهِ احتراسًا؛ جمْعًا بين الامتنانِ والتَّخويفِ؛ لِيَكونَ النَّاسُ شاكِرينَ مُستزِيدينَ مِن النِّعَمِ، خائفينَ مِن غضَبِ رَبِّهم أنْ يأذَنَ لبعضِ السَّماءِ بالوُقوعِ على الأرضِ.
ويَجوزُ أنْ يكونَ لفْظُ السَّماءِ قد أُطلِقَ على جَميعِ الموجوداتِ العُلويَّةِ الَّتي يَشمَلُها لفْظُ السَّماءِ، الَّذي هو ما علا الأرضَ، فأُطْلِقَ على ما يَحْويهِ، كما يُطلَقُ لفْظُ الأرضِ على سُكَّانِها؛ فاللهُ يُمسِكُ ما في السَّمواتِ مِن الشُّهُبِ ومِن كُريَّاتِ الأثيرِ والزَّمهريرِ عن اختراقِ كُرَةِ الهواءِ، ويُمْسِكُ ما فيها من القُوى -كالمطَرِ والبَرَدِ، والثَّلجِ والصَّواعقِ- مِن الوُقوعِ على الأرضِ والتَّحكُّكِ بها إلَّا بإذنِ اللهِ فيما اعتادَ النَّاسُ إذْنَه به؛ مِن وُقوعِ المطَرِ والثَّلجِ والصَّواعقِ والشُّهبِ، وما لم يَعتادُوهُ مِن تَساقُطِ الكواكبِ؛ فيكونُ مَوقِعُ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ بعْدَ قولِه تعالى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ كمَوقِعِ قولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 12-13] . ويكونُ في قولِه: إِلَّا بِإِذْنِهِ إدماجٌ بَين الامتنانِ والتَّخويفِ؛ فإنَّ مِن الإذنِ بالوُقوعِ على الأرضِ ما هو مَرغوبٌ للنَّاسِ، ومنه ما هو مَكروهٌ [1046] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/323، 324). .
- ومَوقِعُ قولِه: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ مَوقِعُ التَّعليلِ للتَّسخيرِ والإمساكِ؛ لأنَّ في جَميعِ ذلك رأفةً بالنَّاسِ بتَيسيرِ مَنافِعِهم الَّذي في ضِمْنِه دَفْعُ الضُّرِّ عنهم [1047] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/325). .
- قولُه: لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ الجَمْعُ بين هاتينِ الصِّفتينِ يُفِيدُ ما تختَصُّ به كلُّ صِفَةٍ منهما، ويُؤكِّدُ ما تَجتمعانِ عليه [1048] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/325). .
4- قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
- جُملةُ: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ عَطفٌ على جُملةِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ [الحج: 65] ؛ لأنَّ صَدْرَ هذه مِن جُملةِ النِّعَمِ؛ فناسَبَ أنْ تُعطَفَ على سابِقَتِها المُتضمَّنةِ امتنانًا واستدلالًا كذلك [1049] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/326). .
- قولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ الجُملةُ تَذييلٌ يَجمَعُ المَقصدَ مِن تَعدادِ نِعَمِ المُنعِمِ بجلائلِ النِّعَمِ المُقتضيةِ انفرادَهُ باستحقاقِ الشُّكرِ، واعترافَ الخَلقِ له بوَحدانِيَّةِ الرُّبوبيَّةِ. وتَوكيدُ الخبَرِ بحَرفِ (إنَّ)؛ لِتَنزيلِهم مَنزِلَةَ المُنكِرِ أنَّهم كُفراءُ [1050] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/326). .
- وفي قولِه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ وَصْفٌ للجِنْسِ بوَصْفِ بَعْضِ أفرادِهِ؛ فالتَّعريفُ في الْإِنْسَانَ تَعريفُ الاستغراقِ العُرْفيِّ المُؤْذِنِ بأكثَرِ أفرادِ الجِنْسِ؛ مِن بابِ قولِهم: جمَعَ الأميرُ الصَّاغةَ، أي: صاغَةَ بَلَدِه، وقوله تعالى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 38] ، وقد كان أكثَرُ العرَبِ يومئذٍ مُنكرينَ للبَعْثِ. أو أُرِيدَ بالإنسانِ خُصوصُ المُشرِكِ، كقولِه تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] . والكَفُورُ مُبالَغةٌ في الكافِرِ؛ لأنَّ كُفْرَهم كان عن تَعنُّتٍ ومُكابَرةٍ. ويَجوزُ كونُ الكَفُورِ مأْخوذًا مِن كُفْرِ النِّعمةِ، وتكونُ المُبالَغةُ باعتبارِ آثارِ الغَفلةِ عن الشُّكرِ، وحينَئذٍ يكونُ الاستغراقُ حَقيقيًّا [1051] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/326، 327). .
5- قَولُه تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ
- قولُه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ كَلامٌ مُستأْنَفٌ؛ جِيءَ به لِزَجْرِ مُعاصرِيه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أهْلِ الأديانِ الأخرى عن مُنازَعتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ببَيانِ حالِ ما تَمسَّكُوا به مِن الشَّرائعِ، وإظْهارِ خَطَئِهم في النَّظرِ. وقولُه: هُمْ نَاسِكُوهُ صِفَةٌ لـ مَنْسَكًا، مُؤكِّدةٌ للقَصرِ المُستفادِ من تَقديمِ الجارِّ والمَجرورِ على الفِعْلِ [1052] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/118). .
- والفاءُ في قولِه: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ لِتَرتيبِ النَّهيِ أو مُوجِبِه على ما قبْلَها؛ فإنَّ تَعيينَه تعالى لكلِّ أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ الَّتي مِن جُمْلَتِهم هذه الأُمَّةُ شريعةً مُستقِلَّةً، بحيث لا تَتخطَّى أُمَّةٌ منهم شريعتَها المُعيَّنةَ لها: مُوجِبٌ لطاعةِ هؤلاء لرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعدَمِ مُنازعتِهم إيَّاهُ في أمْرِ الدِّينِ. والنَّهيُ إمَّا على حَقيقتِه، أو كِنايةٌ عن نَهْيِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الالتفاتِ إلى نِزاعِهم للنَّبيِّ على زَعْمِهم المَذكورِ، وإنَّما أُسْنِدَ الفِعْلُ هنا لضَميرِ المُشرَكين يُنَازِعُنَّكَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ مُبالَغةً في نَهْيِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن مُنازَعتِه إيَّاهم الَّتي تُفْضي إلى مُنازَعتِهم إيَّاهُ؛ فيكونُ النَّهْيُ عن مُنازَعتِه إيَّاهم كإثباتِ الشَّيءِ بدَليلِه [1053] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/169)، ((تفسير البيضاوي)) (4/78)، ((تفسير أبي حيان)) (7/534)، ((تفسير أبي السعود)) (6/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/328، 329). .
- وقولُه: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ عَطفٌ على جُملةِ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؛ عُطِفَ على انتهاءِ المُنازَعةِ في الدِّينِ أمْرٌ بالدَّوامِ على الدَّعوةِ، وعدَمِ الاكتفاءِ بظُهورِ الحُجَّةِ؛ لأنَّ المُكابَرةَ تُجافي الاقتناعَ، ولأنَّ في الدَّوامِ على الدَّعوةِ فوائدَ للنَّاسِ أجمعينَ. وفي حَذْفِ مَفعولِ (ادْعُ) إيذانٌ بالتَّعميمِ [1054] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/329). .
- قولُه: إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ تَعليلٌ للدَّوامِ على الدَّعوةِ، وأنَّها قائمةٌ مَقامَ فاءِ التَّعليلِ، لا لِرَدِّ الشَّكِّ [1055] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/330). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاءت هذه الآيةُ غيرَ مَعطوفةٍ، وجاءت نَظيرتُها مَعطوفةً بالواوِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج: 34] ؛ ووَجْهُه: أنَّ تلك وقَعَتْ مع ما يُدانِيها ويُناسِبُها مِن الآياتِ الواردةِ في أمْرِ النَّسائكِ؛ فعُطِفَت على أخَواتِها، وأمَّا هذه فواقعةٌ مع أباعِدَ عن مَعناها؛ فلم تَجْدِ مَعْطفًا [1056] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/169)، ((تفسير أبي حيان)) (7/534، 535). . وقيل: إنَّ هذه الآيةَ تَقْدِمَةُ نَهْيِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا يُوجِبُ مُنازَعةَ القومِ، وتَسليةٌ له، وتَعظيمٌ لأمْرِه، حيثُ جُعِل أمْرُه نُسُكًا ودِينًا. وأمَّا اتِّصالُه بما سبَقَ مِن الآياتِ؛ فإنَّ قولَه تعالى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ يُوجِبُ القَلْعَ عن إنذارِ القومِ، والإياسَ منهم ومُتاركَتَهم، والآياتُ المُتخلِّلةُ كالتَّأكيدِ لِمَعنى التَّسليةِ؛ فجِيءَ بقولِه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ تَحريضًا له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على التَّأسِّي بالأنبياءِ السَّابقةِ في مُتارَكةِ القومِ، والإمساكِ عن مُجادَلَتِهم بعْدَ الْيأسِ مِن إيمانِهم؛ فالرَّبطُ على طَريقةِ الاستئنافِ، وهو أقْوى مِن الرَّبْطِ اللَّفظيِّ [1057] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/525، 526). . وهذا مُتَّصِلٌ في المعنى بقولِه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ [الحج: 34] الآيةَ. وقد فصَلَ بين الكلامينِ ما اقْتَضى الحالُ استطرادَهُ؛ مِن قولِه: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 37-38] ، إلى هنا، فعاد الكلامُ إلى الغرَضِ الَّذي في قولِه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج: 34] الآيةَ؛ لِيُبْنى عليه قولُه: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؛ فهذا استِدْلالٌ على تَوحيدِ اللهِ تعالى بما سبَقَ مِن الشَّرائعِ لِقَصْدِ إبطالِ تَعدُّدِ الآلهةِ، بأنَّ اللهَ ما جعَلَ لأهْلِ كلِّ مِلَّةٍ سبَقَتْ إلَّا مَنْسكًا واحِدًا يَتقرَّبونَ فيه إلى اللهِ؛ لأنَّ المُتقرَّبَ إليه واحدٌ. وقد جعَلَ المُشرِكون مَناسِكَ كثيرةً، فلكلِّ صَنَمٍ بَيتٌ يُذبَحُ فيه؛ فالجُملةُ استئنافٌ. والمُناسَبةُ ظاهرةٌ؛ ولذلك فُصِلَتِ الجُملةُ ولم تُعْطَفْ كما عُطِفَت نَظيرتُها المُتقدِّمةُ [1058] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/327). .
6- قولُه تعالى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
- قولُه: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فيه تَفويضُ أمْرِهم إلى اللهِ تعالى، وهو كِنايةٌ عن قَطْعِ المُجادَلةِ معهم، وإدماجٌ بتَعريضٍ بالوعيدِ والإنذارِ بكَلامٍ مُوجَّهٍ صالِحٍ لِمَا يَتظاهَرون به مِن تطلُّبِ الحُجَّةِ [1059] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/330). ، فهو وَعيدٌ وإنْذارٌ؛ ولكنْ برِفْقٍ ولِينٍ [1060] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/169)، ((تفسير البيضاوي)) (4/78)، ((تفسير أبي حيان)) (7/535). .