موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (13-15)

ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ

غريب الكلمات:

شَرَعَ لَكُمْ: أي: بيَّن وأوضَح لكم، والشَّرْعُ هو البيانُ والإظهارُ، وقيل: فتَح لكم وعرَّفكم الطَّريقَ، والشَّرْعُ: نهجُ الطَّريقِ الواضح، وأصلُ (شرع): شَيءٌ يُفتَحُ في امتِدادٍ يكونُ فيه [198] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 289)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/262)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/988)، ((البسيط)) للواحدي (7/408)، ((المفردات)) للراغب (ص: 450)، ((تفسير الرسعني)) (7/60). .
يَجْتَبِي: أي: يَختارُ ويَصطَفي، والاجتِباءُ: الجَمعُ على طريقِ الاصطِفاءِ، وأصلُ (جبي): يدُلُّ على جَمعِ الشَّيءِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/265)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 505)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/503)، ((المفردات)) للراغب (ص: 186)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 55)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 133). .
يُنِيبُ: أي: يَرجِعُ ويَتوبُ، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على رُجوعٍ [200] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 341)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 66)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/367). .
بَغْيًا: أي: فَسادًا وتَعدِّيًا، وأصلُ البَغيِ هنا: يدُلُّ على جِنسٍ مِنَ الفَسادِ [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/248)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 251، 252). .
أُورِثُوا: أي: استُخْلِفوا، وأُوتوا، وأصلُه: أنْ يكونَ الشَّيءُ لقومٍ ثُمَّ يَصيرَ إلى آخَرينَ بِنَسَبٍ أو سَبَبٍ [202] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/484)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/105)، ((المفردات)) للراغب (ص: 863)، ((تفسير ابن كثير)) (3/451). .
مُرِيبٍ: أي: مُوقِعٍ في الرِّيبةِ، والرِّيبةُ: التُّهمةُ، وهي ظنُّ السوءِ، فهي قِسمٌ مِن الشَّكِّ، والرِّيبةُ: قَلَقُ النَّفْسِ، وانتِفاءُ الطُّمأْنينةِ، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ [203] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/182)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((البسيط)) للواحدي (2/37)، ((تفسير البغوي)) (4/185)، ((تفسير الشوكاني)) (2/576)، ((مفردات القرآن)) للفراهي (ص: 358). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا نِعمتَه بما شرَع مِن شرائعِ الدِّينِ: سَنَّ اللهُ لكم -أيُّها المُسلِمونَ- وبيَّن ما وصَّى به نوحًا وما أوحاه إلى مُحمَّدٍ، وما وصَّى به إبراهيمَ وموسى وعيسى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذلك هو إقامةُ دينِ الإسلامِ، وعَدَمُ التَّفَرُّقِ والاختِلافِ فيه.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى موقفَ المشركينَ مِن هذا الدِّينِ، فيقولُ: عَظُمَ وشَقَّ على المُشرِكينَ ما تَدعوهم إليه -يا محمَّدُ- مِن تَوحيدِ اللهِ وَحْدَه.
اللهُ يَصطَفي إليه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويَهدي إليه مَن يُقبِلُ عليه.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه سببَ اختِلافِ المختلِفينَ في أمرِ الدِّينِ، فيقولُ: وما تَفَرَّقوا إلَّا مِن بَعدِ ما جاءهم العِلمُ مِن اللهِ؛ بسَبَبِ فَسادِهم وعُدوانِ بعضِهم على بعضٍ، ولولا كَلِمةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّك -يا محمَّدُ- بتأخيرِ العذابِ وإمهالِهم إلى وَقتٍ مَعلومٍ، لَعجَّل العُقوبةَ لهم، وإنَّ اليهودَ والنَّصارَى الَّذين أُوتُوا الكِتابَ مِن بَعدِ أولئك المختلِفينَ في الحَقِّ: لَفي شَكٍّ مُوقِعٍ في الارتيابِ والاضطِرابِ مِن كتابِهم.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالمُضِيِّ في دعوتِه، فيقولُ: فلِذلك الدِّينِ الحَقِّ فادْعُ النَّاسَ -يا مُحمَّدُ- واستَقِمْ على الدِّينِ الَّذي أمَرَك اللهُ به، ولا تتَّبِعْ أهواءَهم، وقُلْ: آمَنتُ بما أنزَلَ اللهُ مِن الكُتُبِ كُلِّها، وأمرني ربِّي بأن أعدِلَ بيْنَكم، اللهُ رَبُّنا ورَبُّكم، لنا جَزاءُ أعمالِنا، ولكم جَزاءُ أعمالِكم، وسيُجازي اللهُ كُلًّا بعَمَلِه، لا جِدالَ ولا مُنازَعةَ بيْنَنا وبيْنَكم، اللهُ يَجمَعُ بينَنا وبينَكم يومَ القيامةِ، فيَقضي بينَنا بالحَقِّ، وإليه وَحْدَه مَرجِعُنا جَميعًا.

تفسير الآيات:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عظَّم اللهُ تعالى وحْيَه إلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] ؛ ذكر في هذه الآيةِ تفصيلَ ذلك، فقال [204] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/587). :
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.
أي: سَنَّ اللهُ لكم وبيَّن -أيُّها المُسلِمونَ- ما وصَّى به نوحًا أن يَعمَلَه، وما أوحاه إلى مُحمَّدٍ، وما وصَّى به إبراهيمَ وموسى وعيسى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذلك هو إقامةُ دينِ الإسلامِ الَّذي شَرَعه اللهُ، بلا تَحريفٍ ولا غُلُوٍّ ولا تَقصيرٍ في العَمَلِ به، مع الاجتِماعِ على ذلك، ونَبْذِ التَّفَرُّقِ والاختِلافِ فيه [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/479-481)، ((تفسير الزمخشري)) (4/215)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/12-14)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/263-266)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 128-136). قال الزمخشري: (المرادُ: إقامةُ دينِ الإسلامِ الَّذي هو توحيدُ اللهِ وطاعتُه، والإيمانُ برُسُلِه وكُتُبِه، وبيَومِ الجزاءِ، وسائِرِ ما يكونُ الرَّجُلُ بإقامتِه مُسلِمًا، ولم يُرِدِ الشَّرائعَ الَّتي هي مصالحُ الأُممِ على حَسَبِ أحوالِها؛ فإنَّها مختلِفةٌ مُتَفاوِتةٌ). ((تفسير الزمخشري)) (4/215). وقال ابنُ العربي: (المعنى: ووصَّيْناك -يا محمَّدُ- ونوحًا دينًا واحِدًا، يعني في الأُصولِ الَّتي لا تختلِفُ فيها الشَّريعةُ، وهي: التَّوحيدُ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحَجُّ، والتَّقَرُّبُ إلى الله تعالى بصالحِ الأعمالِ، والتَّزَلُّفُ إليه بما يَرُدُّ القَلبَ والجارِحةَ إليه، والصِّدقُ، والوَفاءُ بالعَهدِ، وأداءُ الأمانةِ، وصِلةُ الرَّحِمِ، وتحريمُ الكُفرِ والقَتلِ والزِّنا، والإذايةِ للخَلقِ كيفما تصَرَّفَت، والاعتداءِ على الحيوانِ كيفما كان، واقتِحامِ الدَّناءاتِ، وما يعودُ بخَرمِ المروءاتِ؛ فهذا كُلُّه شُرِعَ دينًا واحِدًا ومِلَّةً مُتَّحِدةً لم يختلِفْ على ألسِنةِ الأنبياءِ... واختَلَفت الشَّرائعُ وراءَ هذا في مَعانٍ حَسَبَما أراده اللهُ مِمَّا اقتضَتْه المصلحةُ، وأوجبت الحِكمةُ وَضْعَه في الأزمنةِ على الأُمَمِ). ((أحكام القرآن)) (4/89، 90). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/17، 18). وقال ابنُ تيميَّةَ: (الدِّينُ الَّذي اتَّفَقوا عليه: هو الأُصولُ، فتضَمَّن الكلامُ أشياءَ؛ أحَدُها: أنَّه شَرَع لنا الدِّينَ المشتَرَكَ، وهو الإسلامُ والإيمانُ العامُّ، والدِّينَ المختَصَّ بنا، وهو الإسلامُ والإيمانُ الخاصُّ. الثَّاني: أنَّه أمَرَنا بإقامةِ هذا الدِّينِ كُلِّه؛ المُشتَرَكِ والمختَصِّ، ونهانا عن التَّفَرُّقِ فيه. الثَّالثُ: أنَّه أمَرَ المرسَلينَ بإقامةِ الدِّينِ المُشتَرَكِ، ونهاهم عن التَّفَرُّقِ فيه). ((مجموع الفتاوى)) (1/13، 14). وقال ابن عاشور: (الإقامةُ مُجمَلةٌ، يُفَسِّرُها ما في كُلِّ دينٍ مِن الفُروعِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/53). .
كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7] .
وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .
وقال سُبحانَه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 104، 105].
وقال عزَّ وجَلَّ: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 52، 53].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... الأنبياءُ إخوةٌ مِن عَلَّاتٍ [206] العَلَّاتُ: هم الإخوةُ لأبٍ مِن أمَّهاتٍ شَتَّى، والمرادُ أنَّ إيمانَهم واحِدٌ، وشرائِعَهم مُختَلِفةٌ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/291)، ((شرح النووي على مسلم)) (15/119، 120). ، وأُمَّهاتُهم شَتَّى، ودينُهم واحِدٌ ...)) [207] رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365). .
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
أي: عَظُمَ وشَقَّ على المُشرِكينَ ما تَدعُوهم إليه -يا مُحمَّدُ- مِن تَوحيدِ اللهِ وطاعتِه، وتَرْكِ عبادةِ ما سِواه [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/482)، ((تفسير القرطبي)) (16/11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 754)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/62). قال ابن عاشور: (وقد كبُرَ عليهم ذلك مِن ثلاثِ جِهاتٍ: جهةِ الدَّاعي؛ لأنَّه بشَرٌ مِثلُهم قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94]، ولأنَّه لم يكُنْ قبْلَ الدَّعوةِ مِن عُظماءِ القَريتينِ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]. وجِهةِ ما به الدَّعوةُ؛ فإنَّهم حَسِبوا أنَّ اللهَ لا يُخاطِبُ الرُّسلَ إلَّا بكتابٍ يُنزلُه إليه دَفْعةً مِن السَّماءِ، فقد قالوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93]، وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان: 21] ، وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [البقرة: 118] ، والقائلونَ هم المشركونَ. ومِن جِهةِ ما تَضمَّنَتْه الدَّعوةُ ممَّا لم تُساعِدْ أهواؤُهم عليه؛ قالُوا: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] ، هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/55). .
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا [الحج: 72] .
وقال سُبحانَه: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .
وقال الله تبارك وتعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78] .
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: اللهُ يَصطفي ويَختارُ لِنَفْسِه وولايتِه مَن أحَبَّ مِن عبادِه [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/482)، ((تفسير ابن عطية)) (5/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/63)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 137). .
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.
أي: ويَهدي اللهُ إليه مَن يَتوبُ مِن ذُنوبِه، ويُقبِلُ على طاعتِه [210] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/46)، ((تفسير ابن عطية)) (5/29)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195). .
كما الله قال تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد: 27] .
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى باجتِماعِ المُسلِمينَ على دينِهم، ونهاهم عن التَّفَرُّقِ، أخبَرَهم أنَّكم لا تَغتَرُّوا بما أنزَل اللهُ عليكم مِنَ الكِتابِ؛ فإنَّ أهلَ الكِتابِ لم يَتفَرَّقوا حتَّى أنزَلَ اللهُ عليهم الكِتابَ الموجِبَ للاجتِماعِ، ففَعَلوا ضِدَّ ما يأمُرُ به كتابُهم! وذلك كُلُّه بَغْيًا وعُدوانًا منهم، فإنَّهم تباغَضوا وتحاسَدوا، وحصَلَت بيْنَهم المُشاحَنةُ والعَداوةُ، فوقَع الاختِلافُ؛ فاحذَروا -أيُّها المُسلِمونَ- أن تَكونوا مِثلَهم [211] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 755). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّن أنَّه أمَرَ كُلَّ الأنبياءِ والأُمَمِ بالأخذِ بالدِّينِ المُتَّفَقِ عليه، كان لِقائِلٍ أن يقولَ: فلماذا نَجِدُهم مُتفَرِّقينَ؟ فأجاب اللهُ تعالى عنهم بقَولِه [212] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/588). :
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.
أي: وما تفرَّقَ أهلُ الأديانِ فصاروا أحزابًا، وحصلَتْ منهم المُخالَفةُ إلَّا مِن بَعدِ ما جاءَهم العِلمُ مِن اللهِ بإقامةِ دِينِه، وعدَمِ التَّفَرُّقِ فيه، وإنَّما حَمَلهم على ذلك بَغْيُ بعضِهم على بعضٍ، وتحاسُدُهم، وطلبُهم للرِّئاسةِ، واشتِغالُهم بالدُّنيا، ولم يكُنْ تَفَرُّقُهم لقُصورٍ في البيانِ والحُجَجِ؛ فقد بلَغهم الحقُّ، وقامَتْ عليهم الحُجَّةُ [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/483)، ((تفسير القرطبي)) (16/12)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/58)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص 143، 144). ممن اختارَ في الجملةِ أنَّ معنى مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ أنَّه قد بلَغهم الحقُّ، وأُقيمتْ عليهم الحجةُ: مكي، وابن كثير، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6570)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195)، ((تفسير القاسمي)) (8/359)، ((تفسير سورة الشورى- ابن عثيمين)) (ص: 144). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/483) وقيل المعنى: إلا عن علْمٍ بأنَّ الفرقةَ ضلالةٌ وفسادٌ، وممن اختاره: الزجاج، والواحدي، والبغوي، والزمخشري، والرازي، والرسعني، والنسفي، والخازن، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/396)، ((الوسيط)) للواحدي (4/46)، ((تفسير البغوي)) (4/141)، ((تفسير الزمخشري)) (4/216)، ((تفسير الرازي)) (27/588)، ((تفسير الرسعني)) (7/62)، ((تفسير النسفي)) (3/248)، ((تفسير الخازن)) (4/96)، ((تفسير العليمي)) (6/179)، ((تفسير الشوكاني)) (4/607). قال ابن عاشور: (ومجيءُ العلمِ إليهم يُؤذِنُ بأنَّ رسلَهم بيَّنوا لهم مضارَّ التفرُّقِ مِن عهدِ نوحٍ... ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بالعلمِ سببَ العلمِ، أي: إلَّا مِن بعدِ مجيءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بصفاتِه الموافقةِ لما في كتابِهم، فتفرَّقوا في اختلاقِ المطاعنِ والمعاذيرِ الباطلةِ؛ لينفوا مطابقةَ الصِّفاتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/56). .
كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213] .
وقال الله سُبحانَه: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تَفرَّقَتِ اليَهودُ على إحدى وسَبعِينَ أو اثنتَينِ وسَبعينَ فِرقةً، والنَّصارى مِثلَ ذلك، وتَفتَرِقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبعينَ فِرقةً)) [214] أخرجه أبو داود (4596)، والترمذي (2640) واللفظ له، وابن ماجه (3991)، وأحمد (8396). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وقال الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (1/207): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (16/169)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2640): (حسنٌ صحيح). .
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
أي: ولولا قَولٌ سَبَق مِن رَبِّك -يا محمَّدُ- بتأخيرِ العذابِ وإمهالِهم إلى وَقتٍ مُحَدَّدٍ، لَعجَّلَ العُقوبةَ لأولئك المتفَرِّقينَ في دينِهم بَغيًا بغَيرِ حَقٍّ [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/483، 483)، ((تفسير القرطبي)) (16/12)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195). قال ابنُ عطية: (قال المفسِّرون: هي حَتمُه تعالى القَضاءَ بأنَّ مُجازاتَهم إنَّما تقَعُ في الآخرةِ، فلولا ذلك لَفَصَل بيْنَهم في الدُّنيا، وغَلَب المحِقُّ على المُبطِلِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/30). وقال القرطبي: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قيل: القيامةُ؛ لِقَولِه تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر: 46]. وقيل: إلى الأجَلِ الَّذي قضَى فيه بعذابِهم). ((تفسير القرطبي)) (16/12). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بالكَلِمةِ: ما أراده اللهُ مِن إمهالهم وتأخيرِ مُؤاخَذتِهم إلى أجَلٍ لهم اقتَضَتْه حِكمتُه في نظامِ هذا العالَمِ؛ فرُبَّما أخَّرَهم ثمَّ عذَّبَهم في الدُّنيا، ورُبَّما أخَّرَهم إلى عذابِ الآخرةِ، وكُلُّ ذلك يَدخُلُ في الأجَلِ المسَمَّى). ((تفسير ابن عاشور)) (25/57). قال الرازي: (واخْتَلَفوا في الَّذينَ أُريدوا بهذه الصِّفةِ مَن هُمْ؟ فقالَ الأكثرونَ: هم اليهودُ والنَّصارى، والدَّليلُ قولُه تعالَى في «آلِ عمرانَ» وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران: 19] وقالَ في سورةِ «لَمْ يَكُنْ»: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4] ولأنَّ قَولَه: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ لائِقٌ بأهلِ الكتابِ، وقالَ آخرونَ: إنَّهم همُ العربُ، وهذا باطلٌ للوُجوهِ المَذْكورةِ، لأنَّ قولَه تعالَى بعدَ هذه الآيةِ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يليقُ بالعربِ، لأنَّ الَّذينَ أُورِثُوا الكتابَ مِنْ بعدِهم، هم أهلُ الكتابِ الَّذينَ كانوا في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم). ((تفسير الرازي)) (27/ 588). .
كما قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ.
أي: وإنَّ اليهودَ والنَّصارَى الَّذين أُوتُوا الكتابَ؛ التَّوراةَ والإنجيلَ [216] ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالَّذين أُورثوا الكتابَ: اليهودُ والنَّصارى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، وابن أبي زَمَنين، ومكِّي، والبغوي، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/766)، ((تفسير ابن جرير)) (20/484)، ((تفسير السمرقندي)) (3/239)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/164)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (10/6571)، ((تفسير البغوي)) (4/141)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/61)، ((تفسير الرسعني)) (7/62)، ((تفسير الخازن)) (4/96)، ((تفسير الشوكاني)) (4/608). وهذا القولُ نسَبه الرَّازيُّ للأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/589). وممَّن قصَر المرادَ بالَّذين أُورثوا الكتابَ على اليهودِ والنَّصارى الَّذين عاصَروا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصرَّحَ بذلك: ابنُ عطية، والرازي، وابن جزي، وأبو حيان، والعُليمي، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/30)، ((تفسير الرازي)) (27/589)، ((تفسير ابن جزي)) (2/246)، ((تفسير أبي حيان)) (9/329)، ((تفسير العليمي)) (6/179)،  ((تفسير الألوسي)) (13/24)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/57). والمرادُ بالكتابِ على ذلك: التَّوراةُ والإنجيلُ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6571). وقيل: المرادُ بالكتابِ: القرآنُ، والمرادُ بالَّذين أُورِثوا الكتابَ: اليهودُ والنَّصارى الَّذين أدركوا هذا القرآنَ. واختاره ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 145، 149). قال ابن عطية: (وقولُه تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ إشارةٌ إلى مُعاصِري محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن اليهودِ والنَّصارى. وقيل: هي إشارةٌ إلى العربِ. والكتابُ: هو القرآنُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/30). وقيل: إنَّ المرادَ بهم: المشركون. وممَّن اختاره: النسفي، وأبو السعود، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/249)، ((تفسير أبي السعود)) (8/27)، ((تفسير القاسمي)) (8/359). والمرادُ بالكتابِ على ذلك: القرآنُ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/62)، ((تفسير النسفي)) (3/249). قال محمد رشيد رضا: (هذه الآيةُ ... تفسيرٌ لآيتَيْ «هُودٍ» و«حم السَّجْدَةِ فُصِّلَتْ» فإنَّ الَّذينَ أُورِثوا الكتابَ مِن بعدِ مَن ذُكِر في الآياتِ هم اليهودُ والنَّصارَى الَّذينَ جَاؤوا بعدَ أنبيائِهم وقبلَ بعثةِ نَبِيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهؤلاءِ قَدْ عَرَض لهم مِن الشَّكِّ والرَّيبِ في كُتُبِهم ما لم يَكُنْ في عهدِ سَلَفِهم. ومِن الغفلَةِ الشَّنيعَةِ والتَّكَلُّفِ البعيدِ أنْ يُفَسِّروا الكتابَ في آيةِ سورةِ «الشُّورَى» معَ هذا التَّفصيلِ فيها بالقرآنِ الَّذي وُصِف بأنَّه لا ريبَ فيه، ويَصِفوا الَّذينَ أُورِثوه بأنَّهم في شكٍّ مِنْه مُريبٍ، ولا يَصِحُّ أنْ يُقالَ فيمَنْ لم يُؤْمِنوا به: أُورِثوه، وكذلك الَّذينَ لم يُؤْمِنوا بموسَى وبعيسَى لا يُقالُ: إنَّهم أُورِثوا التَّوراةَ والإنجيلَ، وإنَّما يُقالُ: وَرِثَ الكتابَ مَن آمَن به، سواءٌ منهم مَن أحسَن العملَ ومَنْ أساءَ، كما قالَ تعالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] ، ولكِنَّ الَّذينَ أخْطؤوا في فهمِ الآيتيْنِ المجملتيْنِ في السُّورتيْنِ حَمَلوا عليهما الآيةَ المُفصَّلَةَ وجَعَلوا تَفسيرَهنَّ واحدًا). ((تفسير المنار)) (12/135). مِن بَعدِ أسلافِهم المُختَلِفينَ في الحَقِّ [217] وممَّن ذهب إلى أنَّ معنى مِنْ بَعْدِهِمْ أي: مِن بَعدِ المختلِفينَ في الحقِّ: ابنُ جرير، ومكِّي ابن أبي طالب، والقرطبي، والبِقاعي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/484)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6571)، ((تفسير القرطبي)) (16/12)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/270)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/59). قال ابن عاشور: (ضميرُ مِنْ بَعْدِهِمْ عائدٌ إلى ما عاد إليه ضميرُ تَفَرَّقُوا، وهم الَّذين خُوطِبوا بقولِه: وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ) . ((تفسير ابن عاشور)) (25/59).  وقيل: معنى مِنْ بَعْدِهِمْ أي: مِن بَعدِ أنبيائِهم. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والبغويُّ، وابنُ الجوزي، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/766)، ((تفسير البغوي)) (4/141)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/61)، ((تفسير الخازن)) (4/96). وقيل: مِنْ بَعْدِهِمْ أي: مِن بَعدِ مَن قَبْلَهم مِن اليهودِ والنَّصارى، وبعبارةٍ أخرى: بَعْدَ مَن تقدَّمَهم أو بعدَ أوائلِهم. وممَّن اختاره: ابنُ أبي زمنين، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/164)، ((تفسير العليمي)) (6/179)، ((تفسير الشوكاني)) (4/608). وقيل: معنى مِنْ بَعْدِهِمْ أي: هم المشركون أُورِثوا القرآنَ مِن بَعدِ ما أُورِث أهلُ الكتابِ التَّوارةَ والإنجيلَ. وممَّن اختاره: النسفي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/249)، ((تفسير أبي السعود)) (8/27). لَفي شَكٍّ مُوجِبٍ للارتيابِ والاضطِرابِ مِن كتابِهم [218] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755). قيل: إنَّ الضَّميرَ في قولِه: مِنْهُ يَرجِعُ إلى الكتابِ الَّذي عندَ اليهودِ والنَّصارى. وممَّن اختاره: مقاتلٌ، والزمخشري، والرازي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/ 766)، ((تفسير الزمخشري)) (4/216)، ((تفسير الرازي)) (27/588، 589)، ((تفسير الألوسي)) (13/24). وقيل: إنَّ الضَّميرَ في مِنْهُ يرجعُ إلى القرآنِ. وممَّن اختاره: السمرقندي، وابنُ أبي زمنين، وأبو السعود، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/239)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/ 164)، ((تفسير أبي السعود)) (8/27)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 145). وقيل: الضَّميرُ في مِنْهُ يرجعُ إلى محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن اختاره: الواحدي، وابن الجوزي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعليمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/47)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/61)، ((تفسير الخازن)) (4/96)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 640)، ((تفسير العليمي)) (6/179). وقيل: المقصودُ: الدِّينُ الَّذي وصَّى اللهُ به نوحًا، وأوحاه إلى مُحمَّدٍ، وأمَرَهما بإقامتِه. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، ومكِّيُّ بنُ أبي طالبٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/484)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6571). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [هود: 110] و[فصلت: 45] .
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ثَبَت بما تقدَّمَ زَيغُهم عن أوامِرِ الكِتابِ الآتي مِنَ اللهِ؛ سَبَّب عنه أمْرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإبلاغِ النَّاسِ ما يَنفَعُهم عن رِسالةِ رَبِّه الَّذي أنزَلَ تلك الكُتُبَ [219] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/271). .
فَلِذَلِكَ فَادْعُ.
أي: فلِلدِّينِ الحَقِّ الَّذي شَرَعه اللهُ لكم، وأمَرَكم بإقامتِه وعَدَمِ التَّفَرُّقِ فيه- فادْعُ النَّاسَ، يا مُحمَّدُ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/485)، ((تفسير القرطبي)) (16/13)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/60)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 150). .
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ.
أي: واثبُتْ على الدِّينِ الَّذي أمَرَك اللهُ به، فاستَمِرَّ على العَمَلِ به بلا زيادةٍ ولا نَقصٍ، ولا إفراطٍ ولا تفريطٍ، ولا تَزِغْ عن ذلك [221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/485)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص 151). .
كما قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا [هود: 112] .
وقال سُبحانَه: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: 6] .
وعن سُفيانَ بنِ عبدِ اللهِ الثَّقَفيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسلامِ قَولًا لا أسألُ عنه أحَدًا بَعْدَك. قال: قُلْ: آمَنتُ باللهِ، فاستَقِمْ )) [222] رواه مسلم (38). .
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ.
أي: ولا تَتَّبِعْ -يا مُحمَّدُ- أهواءَ أولئك المُنحَرِفينَ عن الحَقِّ [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/485)، ((تفسير ابن عطية)) (5/30)، ((تفسير القرطبي)) (16/13)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/58)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755). .
كما قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 120] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 48] .
وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانوا قد تفَرَّقوا في الكتابِ وشَكُّوا، فآمَنوا ببَعضٍ وكَفَروا ببَعضٍ؛ أمَرَه بما يخالِفُ حالَهم، فقال [224] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/272). :
وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ.
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ-: آمَنتُ بما أنزَلَ اللهُ مِنَ الكُتُبِ كُلِّها، فلا أُكذِّبُ بالتَّوراةِ ولا بالإنجيلِ ولا بالقُرآنِ، ولا بغَيرِ ذلك مِن كُتُبِ اللهِ الَّتي أنزَلَها على رُسُلِه [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/485)، ((تفسير ابن كثير)) (7/195، 196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 151، 152). .
كما قال تعالى: قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 84] .
وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ.
أي: وقُلْ: وأمَرَني ربِّي بأن أعدِلَ بيْنَكم [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/486)، ((تفسير الزمخشري)) (4/216)، ((تفسير القرطبي)) (16/13)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/342)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/58)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/62). قال ابنُ عطية: (قَولُه تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قالت فِرقةٌ: اللَّامُ في لِأَعْدِلَ بمعنى: «أن»، والتَّقديرُ: بأن أعدِلَ بيْنَكم. وقالت فِرقةٌ: المعنى: وأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به مِن التَّبليغِ والشَّرعِ؛ لكيْ أعدِلَ بيْنَكم، فحُذِفَ مِن الكلامِ ما يدُلُّ الظَّاهرُ عليه). ((تفسير ابن عطية)) (5/30). وقال القرطبي: (قال ابنُ عبَّاسٍ وأبو العالِيةِ: لِأُسَوِّيَ بيْنَكم في الدِّينِ، فأُومِنَ بكلِّ كتابٍ وبكلِّ رسولٍ. وقال غيرُهما: لِأَعدِلَ في جميعِ الأحوالِ. وقيل: هذا العدلُ هو العدلُ في الأحكامِ. وقيل: في التَّبليغِ). ((تفسير القرطبي)) (16/13). ممَّن اختار أنَّ المرادَ العدلُ في الحُكمِ: الزمخشريُّ، والرازي، والنسفي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/216)، ((تفسير الرازي)) (27/589)، ((تفسير النسفي)) (3/249)، ((تفسير ابن كثير)) (7/196). وممَّن اختار أنَّه العدلُ في الحُكمِ والتَّبليغِ: البيضاوي، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/79)، ((تفسير أبي السعود)) (8/27)، ((تفسير الشوكاني)) (4/608). وقال الشوكاني: (وأُمِرْتُ لِأَعدِلَ بيْنَكم في أحكامِ اللهِ إذا تَرافَعْتُم إلَيَّ، ولا أَحِيفَ عليكم بزيادةٍ على ما شَرَعه اللهُ، أو بنُقصانٍ منه، وأُبَلِّغَ إليكم ما أمَرني اللهُ بتبليغِه كما هو). ((تفسير الشوكاني)) (4/608). وقال ابن القيِّم: (أُمِر بالعدلِ بيْنَهم، وهذا يَعُمُّ العدلَ في الأقوالِ والأفعالِ والآراءِ والمحاكماتِ كلِّها، فنصَبه ربُّه ومُرسِلُه للعدلِ بيْنَ الأُمَمِ). ((مِفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/58). وقال البِقاعي: (بَيْنَكُمُ أيُّها المُفَرِّقون في الأديانِ مِن العربِ والعجمِ، مِن الجِنِّ والإنسِ). ((نظم الدرر)) (17/274). واختار ابنُ تيميَّةَ أنَّ معنى بَيْنَكُمُ أي: بيْنَ النَّاسِ كُلِّهم. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/342). وقال ابن عاشور: (وضميرُ بَيْنَكُمُ خِطابٌ لِلَّذينَ أُمِر بأنْ يُوَجِّهَ هذا القولَ إليهم، وهم اليهودُ، أي: أُمِرْتُ أنْ أُقيمَ بيْنَكم العدلَ بأنْ أدْعوَكم إلى الحقِّ، ولا أظْلِمَكم لأجْلِ عداواتِكم، ولكنِّي أُنَفِّذُ أمرَ اللهِ فيكم، ولا أنْتَمي إلى اليهودِ ولا إلى النَّصارَى. ومعنَى بَيْنَكُمُ: أَنَّني أُقيمُ العدلَ بيْنَكم فلا تَرَوْنَ بيْنَكم جَوْرًا مِنِّي، فـ «بَيْنَ» هنا ظرفٌ مُتَّحِدٌ غيرُ مُوَزَّعٍ، فهو بمعنَى وَسَطَ الجَمعِ وخِلالَه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/62). .
كما قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .
وقال سُبحانَه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 48] .
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ.
أي: اللهُ رَبُّنا ورَبُّكم، خالِقُ الجَميعِ ومالِكُهم ومُدَبِّرُ أمورِهم؛ فوجَبَت طاعتُه، وإقامةُ دينِه، وتَركُ التَّفَرُّقِ والاختِلافِ فيه [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/487)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/58)، ((تفسير ابن كثير)) (7/196)، ((تفسير الشوكاني)) (4/608)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 152). قال ابنُ القيِّم: (أمَرَه أن يُخبِرَهم بأنَّ الرَّبَّ المعبودَ واحِدٌ، فما الحامِلُ للتَّفَرُّقِ والاختِلافِ وهو ربُّنا ورَبُّكم، والدِّينُ واحِدٌ، ولِكُلِّ عامِلٍ عمَلُه لا يَعدوه إلى غَيرِه؟!). ((مفتاح دار السعادة)) (2/58). .
لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.
أي: لنا جَزاءُ أعمالِنا، ولكم جَزاءُ أعمالِكم، وسيُجازي اللهُ كُلًّا بحَسَبِ أعمالِه، ولن يُؤاخَذَ أحَدٌ مِنَّا بذَنْبِ الآخَرِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/487)، ((تفسير الماتريدي)) (9/115)، ((الوسيط)) للواحدي (4/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/63). قال ابنُ عاشور: (جملةُ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ دَعوةُ إنصافٍ، أي: أنَّ اللهَ يُجازي كُلًّا بعَمَلِه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/63). .
كما قال الله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] .
وقال سُبحانَه وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1 - 6] .
لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ.
أي: لا جِدالَ ولا مُنازَعةَ بَينَنا وبيْنَكم؛ فقد تَبيَّنَ الحَقُّ وظهَرَ، وصِرتُم مَحجوجينَ به، ولم يَبقَ إلَّا الإقرارُ به أو العِنادُ؛ فلا وَجْهَ للجِدالِ والتَّنازُعِ والحالةُ هذه [229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/487)، ((تفسير الزمخشري)) (4/216)، ((تفسير ابن عطية)) (5/31)، ((الصفدية)) لابن تيمية (2/316)، ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) لابن تيمية (3/71، 72)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/145) و(2/58، 59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 755). قال ابنُ تيميَّةَ: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أي: لا خُصومةَ، والحُجَّةُ هي ما يَحتَجُّ به الخَصمُ وإن كان باطِلًا؛ فليس مِن شَرطِ لَفظِ الحُجَّةِ أن تكونَ حَقًّا، بل إذا كانت حَقًّا سُمِّيَت بَيِّنةً وبُرهانًا ودَليلًا). ((الصفدية)) (2/316). قال السعدي: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أي: بعدَما تبَيَّنَت الحقائِقُ، واتَّضَح الحَقُّ مِنَ الباطِلِ، والهدى مِنَ الضَّلالِ- لم يَبْقَ للجِدالِ والمُنازَعةِ مَحَلٌّ؛ لأنَّ المقصودَ مِن الجدالِ إنَّما هو بيانُ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ؛ لِيَهتديَ الرَّاشِدُ، ولِتَقومَ الحُجَّةُ على الغاوي، وليس المرادُ بهذا أنَّ أهلَ الكتابِ لا يُجادَلونَ! كيف واللهُ يقولُ: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؟! وإنَّما المرادُ ما ذكَرْنا). ((تفسير السعدي)) (ص: 755). وقال الرَّسْعَني: (ذهب أكثَرُ المُفَسِّرينَ إلى نَسْخِ ما اشتمَلَت عليه هذه الآيةُ مِن مُنابَذةِ الكُفَّارِ ومُتارَكتِهم، وذهب جماعةٌ مِن المُفَسِّرينَ إلى أنَّها مُحْكَمةٌ، وأنَّ المعنى: لا حُجَّةَ بيْنَنا وبيْنَكم بعدَ ظُهورِ الحَقِّ ووُضوحِه؛ لأنَّ المُحاجَّةَ بعدَ ظُهورِ الحُجَّةِ لا حاجةَ إليها). ((تفسير الرسعني)) (7/64). !
كما قال تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] .
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا.
أي: اللهُ يَجمَعُ بيْنَنا وبيْنَكم يومَ القيامةِ، فيَقضي بيْنَنا بالحَقِّ فيما نختَلِفُ فيه، ويَتبَيَّنُ حينَئذٍ المُحِقُّ مِنَ المُبطِلِ [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/487)، ((تفسير أبي حيان)) (9/330)، ((تفسير ابن كثير)) (7/196)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/64). .
كما قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: 26] .
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه مَرجِعُنا بعدَ مَوتِنا، فيَحكُمُ بَيْنَنا إذا صِرْنا إليه، ويُجازي كُلًّا مِنَّا بعَمَلِه [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/487)، ((تفسير القرطبي)) (16/14)، ((تفسير ابن كثير)) (7/196). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ فيه نَهيٌ عن التَّفرِقةِ في الدِّينِ؛ لأنَّ التَّفَرُّقَ سَبَبٌ للهَلاكِ، والاجتِماعَ والأُلْفةَ سَبَبٌ للنَّجاةِ [232] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/328). . ومعنى الآيةِ: لِيَحصُلْ منكم الاتِّفاقُ على أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، واحرِصوا على ألَّا تُفَرِّقَكم المسائِلُ وتُحَزِّبَكم أحزابًا، وألَّا يُعادِيَ بَعضُكم بَعضًا، مع اتِّفاقِكم على أصلِ دينِكم [233] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 754). .
2- قَولُ الله تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ هذا السَّبَبُ الَّذي مِنَ العَبدِ يتوصَّلُ به إلى هدايةِ اللهِ تعالى، وهو إنابتُه لِرَبِّه، وانجِذابُ دَواعي قَلبِه إليه، وكَونُه قاصِدًا وَجْهَه؛ فحُسْنُ مَقصَدِ العَبدِ مع اجتِهادِه في طَلَبِ الهِدايةِ: مِن أسبابِ التَّيسيرِ لها [234] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 754). .
3- قَولُ الله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ أمرٌ بالاستِقامةِ، أي الدَّوامِ عليها؛ للإشارةِ إلى أنَّ كَمالَ الدَّعوةِ إلى الحَقِّ لا يَحصُلُ إلَّا إذا كان الدَّاعي مُستَقيمًا في نَفْسِه [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/61). .
4- إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ الإنصافَ، بل هو أفضَلُ حِليةٍ تَحَلَّى بها الرَّجُلُ، خُصوصًا مَن نَصَب نَفْسَه حَكَمًا بيْنَ الأقوالِ والمذاهِبِ، وقد قال اللهُ تعالى لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، فوَرَثةُ الرَّسولِ منصبُهم العدلُ بيْنَ الطَّوائفِ، وألَّا يَميلَ أحدُهم معَ قريبِه وذَوي مذهبِه وطائفتِه ومَتبوعِه، بل يكونُ الحقُّ مَطلوبَه، يَسيرُ بسَيْرِه، ويَنزِلُ بنُزولِه، ويَدِينُ بدِينِ العدلِ والإنصافِ، ويُحكِّمُ الحُجَّةَ وما كان عليه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه [236] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/78). .
5- قَولُ الله تعالى: اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يُوجِبُ أن يَشتَغِلَ كُلُّ واحِدٍ في الدُّنيا بنَفْسِه؛ فإنَّ اللهَ يَجمَعُ بيْنَ الكُلِّ في يومِ القيامةِ، ويُجازيه على عَمَلِه، والمقصودُ منه المُتارَكةُ، واشتِغالُ كُلِّ أحَدٍ بمُهِمِّ نَفْسِه [237] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/589). .
6- في قَولِه تعالى: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أنَّ المرجِعَ إلى اللهِ خاصَّةً في كلِّ شَيءٍ؛ في الحُكْمِ الشَّرعيِّ، أو الحُكْمِ القَدَرِيِّ، أو الحُكْمِ في الدُّنيا، أو الحُكْمِ في الآخرةِ، ويَتفرَّعُ على هذه القاعدةِ: أنَّ الإنسانَ لا يَرجو، ولا يَخافُ، ولا يَدْعُو إلَّا اللهَ وحْدَه لا شريكَ له، ولا يَستغيثُ إلَّا باللهِ، ولا يَستعينُ إلَّا به [238] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 157). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ أنَّ الأصلَ في العِباداتِ المَنعُ إلَّا بدَليلٍ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 138). .
2- قولُه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ استُدِلَّ به على أنَّ ما لم يُنسَخْ مِن شَرعِ مَن قَبْلَنا شَرعٌ لنا [240] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/61). ، فشَرْعُ مَن قَبْلَنا -فيما لم يَرِدْ في شَرعِنا له وِفاقٌ ولا خِلافٌ- هو شَرعٌ لنا؛ لِدَلالةِ شَرعِنا عليه، وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/491). وذَكَر أنَّ ما ورَدَت شَريعتُنا بخِلافِه فهذا لا نَعمَلُ به؛ لأنَّ شَريعتَنا ناسِخةٌ لجَميعِ الأديانِ، وما وَرَد شَرْعُنا بوِفاقِه فإنَّنا نَعمَلُ به؛ اتِّباعًا لِشَريعتِنا المُصَدِّقةِ لِما سَبَق مِن الشَّرائِعِ. ويُنظر: ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 192). [الأنعام: 90] .
3- دينُ الأنبياءِ واحِدٌ وإن تَنوَّعَت شَرائعُهم؛ قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [242] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/220). .
4- في قَولِه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أنَّ شَريعةَ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم حاويةٌ لفَضائلِ شرائعِ هؤلاء الرُّسُلِ المَخصوصينَ بالفَضلِ [243] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/245). .
5- قَولُ الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يدُلُّ على أنَّ هذه الشَّرائِعَ قِسمانِ: منها ما يمتَنِعُ دُخولُ النَّسخِ والتَّغييرِ فيه، بل يكونُ واجِبَ البَقاءِ في جميعِ الشَّرائِعِ والأديانِ، كالأمرِ بالصِّدقِ والعَدلِ والإحسانِ، والنَّهْيِ عن الكَذِبِ والظُّلمِ والإيذاءِ؛ ومنها ما يختَلِفُ باختِلافِ الشَّرائِعِ والأديانِ. ودَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ سَعيَ الشَّرعِ في تقريرِ النَّوعِ الأوَّلِ أقوَى مِن سَعْيِه في تقريرِ النَّوعِ الثَّاني؛ لأنَّ المواظَبةَ على القِسمِ الأوَّلِ مُهِمَّةٌ في اكتِسابِ الأحوالِ المُفيدةِ لحُصولِ السَّعادةِ في الدَّارِ الآخِرةِ [244] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/587، 588). .
6- في قَولِه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أنَّ جَميعَ رُسُلِ اللهِ وأنبيائِه يُصَدِّقُ بَعضُهم بعضًا، لا يختَلِفونَ مع تَنَوُّعِ شَرائعِهم [245] يُنظر: ((الحسنة والسيئة)) لابن تيمية (ص: 90). .
7- في قَولِه تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أنَّ التَّفَرُّقَ في دِينِ اللهِ مُنافٍ للَّذي أَوحى اللهُ إلى رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم ووَصَّى به نوحًا وإبراهيمَ وموسى وعيسى عليهم السَّلامُ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 140). .
8- قولُه تعالى: يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ فيه إثباتُ مشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لفِعْلِ العبدِ؛ فيكونُ فيها رَدٌّ على القَدَرِيَّةِ؛ الَّذين يقولونَ: إنَّ الإنسانَ مُستقِلٌّ بعَمَلِه، ولا مشيئةَ للهِ تعالى في فِعْلِه! وفي قولِه: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ؛ فقد أضاف الفِعلَ إلى العَبدِ، والجَبريَّةُ لا يُضيفونَ الأفعالَ إلى العَبدِ؛ بل يقولونَ: إنَّ العبدَ يَفعَلُ بغيرِ إرادةٍ ولا اختيارٍ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 141، 142). ويُنظر أيضًا: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/91). !
9- قَولُ الله تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ مع قَولِه: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان: 15] مع العِلمِ بأحوالِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وشِدَّة إنابتِهم: دَليلٌ على أنَّ قَولَهم حُجَّةٌ، خُصوصًا الخُلفاءَ الرَّاشدِينَ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعينَ [248] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 754). .
10- قولُه: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فيه إشعارٌ بأنَّ منهم مَن يُجيبُ إلى الدَّعوةِ، أي: اللهُ يَجتلِبُ إلى ما تَدْعُوهم إليه مَن يَشاءُ أنْ يَجْتبيَه إليه، وهو مَن صَرَف اختيارَه إلى ما دُعِيَ إليه، كما يُنبِئُ عنه قولُه تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، أي: يُقبِلُ إليه؛ حيثُ يُمِدُّه بالتَّوفيقِ والألطافِ [249] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/26). . وفيه تسليةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [250] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/328). .
11- قولُه تعالى: بَغْيًا بَيْنَهُمْ فيه أنَّ مَن خالفَ الدِّينَ بعدَ مجيءِ العلمِ فإنَّه باغٍ مُعْتَدٍ [251] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 146). .
12- البَغيُ إمَّا تضييعٌ للحقِّ، وإمَّا تَعَدٍّ للحدِّ؛ فهو إمَّا تَرْكُ واجبٍ، وإمَّا فِعلُ محرَّمٍ؛ فعُلِم أنَّ مُوجِبَ التَّفرُّقِ هو ذلك، والبغيُ الَّذي هو مجاوزةُ الحدِّ إمَّا تفريطًا وتضييعًا للحقِّ، وإمَّا عدوانًا وفعلًا للظلمِ. والبغيُ تارةً يكونُ مِن بعضِهم على بعضٍ، وتارةً يكونُ في حقوقِ الله، وهما مُتلازِمانِ؛ ولهذا قال: بَغْيًا بَيْنَهُمْ؛ فإنَّ كلَّ طائفةٍ بغَتْ على الأُخرَى، فلم تعرِفْ حقَّها الَّذي بأيديها، ولم تَكُفَّ عن العدوانِ عليها، فظهَر أنَّ سببَ الاجتِماعِ والأُلْفةِ: جمعُ الدِّينِ والعملُ به كلِّه، وهو عبادةُ الله وَحْدَه لا شريكَ له، كما أمَر به باطنًا وظاهرًا، وسببَ الفُرقةِ: ترْكُ حظٍّ مما أُمِر العبدُ به، والبغيُ بيْنَهم [252] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/14، 16، 17). .
13- قولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فيه إثباتُ كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا شكَّ أنَّ اللهَ تعالى مَوصوفٌ بالكلامِ؛ لأنَّه كمالٌ، وضِدُّ الكلامِ الخَرَسُ؛ والخَرَسُ نقصٌ، فلو نَفَيْنا الكلامَ؛ لَزِمَ مِن ذلك ثبوتُ الخَرَسِ! وهذا نقصٌ يُنَزَّهُ اللهُ تعالى عنه [253] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 146). .
14- قَولُ الله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في هذه الآيةِ -مع كَونِها نازِلةً في مكَّةَ في زَمَنِ ضَعفِ المُسلِمينَ- إعجازٌ بالغَيبِ، يدُلُّ على أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيَكونُ له الحُكمُ على يَهودِ بلادِ العَربِ، مِثلُ أهلِ خَيْبَرَ، وتَيْماءَ، وقُرَيْظةَ، والنَّضيرِ، وبَني قَيْنُقاعٍ [254] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/62، 63). .
15- في قَولِه تعالى: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ أنَّه يجوزُ تَوجيهُ الأمرِ لِمَن كان مُتَّصِفًا به مِن قَبْلُ؛ مِن أجْلِ الثَّباتِ عليه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم استقام كما أُمِرَ مِن حينِ ما أُرسِلَ، بل مِن حينِ ما بُعِثَ، لكِنَّ المرادَ بذلك الثُّبوتُ على هذا الشَّيءِ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 154). .
16- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ لم يَقُلْ: «ولا تتَّبِعْ دِينَهم»؛ لأنَّ حَقيقةَ دِينِهم الَّذي شَرَعه اللهُ لهم هو دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهم، ولكِنَّهم لم يَتَّبِعوه، بل اتَّبَعوا أهواءَهم، واتَّخَذوا دينَهم لَهْوًا ولَعِبًا [256] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 755). !
17- في قَولِه تعالى: كَمَا أُمِرْتَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَبْدٌ مأمورٌ؛ يُوَجَّهُ إليه الأمرُ؛ وليس له مِن الأمرِ شَيءٌ، كما قال اللهُ تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] ، وفيه ردٌّ على أولئك القَومِ الَّذين يَدَّعون أنَّ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تَصَرُّفًا في الكَونِ؛ وتدبيرًا له! ومِن بابِ أَولَى أنْ يكونَ فيها رَدٌّ على القائلِينَ بأنَّ مَن دونَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ له تَصَرُّفٌ في الكَونِ؛ كقولِ الرَّافضةِ وبعضِ الصُّوفيَّةِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 154). .
18- قولُه تعالى: وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ إشارةٌ إلى كَمالِ القوَّةِ النَّظَريَّةِ، وقولُه: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ إشارةٌ إلى كَمالِ القوَّةِ العمَليَّةِ [258] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/79). .
19- قال تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ إلى قَولِه: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ اشتَمَلت هذه الآيةُ الكريمةُ على عَشْرِ كَلِماتٍ مُستَقِلَّاتٍ، كُلٌّ منها مُنفَصِلةٌ عن الَّتي قَبْلَها؛ لها حُكمٌ برأسِه، قالوا: ولا نظيرَ لها سِوى آيةِ الكُرسيِّ؛ فإنَّها أيضًا عَشَرةُ فُصولٍ كهذه [259] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/195). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ
- هذا انتِقالٌ مِن الامتِنانِ بالنِّعَمِ الجُثمانيَّةِ إلى الامتنانِ بالنِّعمةِ الرُّوحيَّةِ، بطَريقِ الإقبالِ على خِطابِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ؛ للتَّنويهِ بدِينِ الإسلامِ، وللتَّعريضِ بالكفَّارِ الَّذين أعرَضوا عنه؛ فالجُملةُ ابتدائيَّةٌ [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/49). .
- قولُه: مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا مُقدَّرٌ فيه مُضافٌ، أي: مِثلَ ما وصَّى به نوحًا، أو هو بتَقديرِ كافِ التَّشبيهِ على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ؛ مُبالغةً في شِدَّةِ المُماثَلةِ حتَّى صارَ المِثلُ كأنَّه عَيْنُ مِثلِه [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/50). .
- وتَقديمُ تَوصيةِ نوحٍ عليه السَّلامُ؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ كَونِ المشروعِ لهم دِينًا قديمًا [262] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/25، 26). .
- قولُه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فيه تَعقيبُ ذِكرِ دِينِ نوحٍ بما أُوحيَ إلى محمَّدٍ عليهما السَّلامُ؛ للإشارةِ إلى أنَّ دِينَ الإسلامِ هو الخاتَمُ للأديانِ، فعُطِفَ على أوَّلِ الأديانِ؛ جمْعًا بيْنَ طرَفَيِ الأديانِ، ثمَّ ذكَرَ بعدَهما الأديانَ الثَّلاثةَ الأُخَرَ؛ لأنَّها مُتوسِّطةٌ بيْنَ الدِّينَينِ المذكورَينِ قبْلَها، وهذا نسْجٌ بديعٌ مِن نَظْمِ الكلامِ، ولولا هذا الاعتبارُ لَكان ذِكرُ الإسلامِ مُبتدأً به، كما في قولِه: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163] ، وقولِه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ... الآيةَ [الأحزاب: 7] . أو السِّرُّ في تَقديمِه على ما بَعدَه معَ تَقدُّمِه عليهِ زَمانًا؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بإيحائِه [263] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/25، 26)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/51، 52). .
- وقولُه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هو ما سبَقَ نُزولُه قبْلَ هذه الآيةِ مِن القُرآنِ بما فيه مِن أحكامٍ؛ فعَطْفُه على مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا؛ لِما بيْنَه وبيْنَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا مِن المُغايَرةِ بزِيادةِ التَّفصيلِ والتَّفريعِ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/51). .
- وعُدِلَ مِن (أَوْصينا) إلى أَوْحَيْنَا، وأُتِيَ بكافِ الخِطابِ؛ لِيُؤْذِنَ بالفَرقِ بيْن تَوصيَتِهم وتَوصيَتِه، ولِمُراعاةِ ما وقَعَ في الآياتِ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا [الشورى: 7] ، وقولِه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل: 123] ، وقولِه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110] [فصلت: 6] ، وغيرِ ذلك، ولِما في الإيحاءِ مِن التَّصريحِ برِسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ القامعِ لإنكارِ الكفَرةِ [265] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/30)، ((تفسير أبي السعود)) (8/25). .
- وأيضًا ذُكِرَ في جانبِ الشَّرائعِ الأربعِ السَّابقةِ فِعلُ وَصَّى، وفي جانبِ شَريعةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذُكِرَ فِعلُ الإيحاءِ؛ لأنَّ الشَّرائعَ الَّتي سبَقتْ شَريعةَ الإسلامِ كانتْ شرائعَ مُوَقَّتةً، مُقدَّرًا وُرودُ شَريعةٍ بعدَها؛ فكان العملُ بها كالعملِ الَّذي يَقومُ به مُؤتمَنٌ على شَيءٍ حتَّى يأتيَ صاحبُه، ولِيَقَعَ الاتِّصالُ بيْنَ فِعلِ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وبيْنَ قولِه في صَدْرِ السُّورةِ: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/52، 53). [الشورى: 3] .
- وجِيءَ بالمَوصولِ (ما) في قولِه: مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وقولِه: وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ، أمَّا في قولِه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فجِيءَ بالموصولِ (الَّذي)، وهو تَفنُّنٌ بتَجنُّبِ تَكريرِ الكلمةِ ثلاثَ مَرَّاتٍ مُتوالياتٍ. وهناك فرْقٌ دَقيقٌ في الاستِعمالِ البليغِ لهذه الأسماءِ المَوصولةِ؛ وهو أنَّ (الَّذي) وأخَواتِه هي الأصلُ في المَوصولاتِ؛ فهي مَوضوعةٌ مِن أصلِ الوضعِ للدَّلالةِ على مَن يُعيَّنُ بحالةٍ مَعروفةٍ هي مَضمونُ الصِّلةِ، فاسمُ الموصولِ (الَّذي) يدُلُّ على مَعروفٍ عندَ المُخاطَبِ بصِلتِه، وأمَّا (مَا) المَوصولةُ فأصلُها اسمٌ عامٌّ نكِرةٌ مُبهَمةٌ مُحتاجةٌ إلى صِفةٍ؛ فيَكونُ إيثارُ (ما) في مَوضِعَيْها لِمُناسَبةِ أنَّها شَرائعُ بَعُدَ العهدُ بها، فلم تكُنْ مَعهودةً عندَ المخاطَبينَ إلَّا إجمالًا، فكانتْ نَكِراتٍ لا تَتميَّزُ إلَّا بصِفاتِها، وأمَّا إيثارُ الموحَى به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باسمِ (الَّذي)؛ فلِأنَّه شرْعٌ مُتداوَلٌ فيهم، مَعروفٌ عِندَهم؛ فناسَبَه الاسمُ الموصولُ المُعَرَّفُ، فالتَّقديرُ: شَرَعَ لكم شيئًا وصَّى به نُوحًا، وشيئًا وصَّى به إبراهيمَ ومُوسى وعِيسى، والشَّيءَ الموحَى به إليك. ولعلَّ هذا مِن نُكَتِ الإعجازِ المغفولِ عنها [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/52). .
وقيل: التَّعبيرُ عن الإيحاء عِندَ نِسبتِه إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بـ (الَّذي)؛ لزِيادةِ تَفخيمِ شأْنِه مِن تلك الحيثيَّةِ [268] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/25). .
- وفي العُدولِ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ في قولِه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ بعدَ قولِه: شَرَعَ لَكُمْ الْتِفاتٌ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتِناءِ بإيحائِه. وتَوجيهُ الخِطابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطَريقِ التَّلوينِ؛ للتَّشريفِ والتَّنبيهِ على أنَّه تعالى شرَعه لهم على لِسانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [269] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/25، 26)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/52). .
- والاقتِصارُ على ذِكرِ دِينِ نوحٍ وإبراهيمَ ومُوسى وعِيسى؛ لِما ذُكِرَ مِن عُلُوِّ شأْنِهم، ولأنَّ نوحًا أوَّلُ رسولٍ أرسَلَه اللهُ إلى النَّاسِ، فدِينُه هو أساسُ الدِّياناتِ؛ قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163] ، ولأنَّ دِينَ إبراهيمَ هو أصلُ الحَنيفيَّةِ، وانتشَرَ بيْنَ العرَبِ بدَعوةِ إسماعيلَ إليه؛ فهو أشهَرُ الأديانِ بيْنَ العربِ، وكانوا على أثارةٍ منه في الحجِّ والخِتانِ والقِرى والفُتوَّةِ، ودِينُ موسى هو أوسَعُ الأديانِ السَّابقةِ في تَشريعِ الأحكامِ، وأمَّا دِينُ عيسى؛ فلأنَّه الدِّينُ الَّذي سبَقَ دِينَ الإسلامِ، ولم يكُنْ بيْنَهما دِينٌ آخَرُ، ولِيَتضمَّنَ التَّهيئةَ إلى دَعوةِ اليهودِ والنَّصارى إلى دِينِ الإسلامِ [270] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/25)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/51). .
- وفي قولِه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ تَقدَّمَ في سُورةِ (الأحزابِ) ذِكرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في التَّفصيلِ في قولِه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7] ؛ لبيانِ أفضليَّتِه؛ لأنَّ المَقامَ هنالك لسَردِ مَن أُخِذ عليهم الميثاقُ. وأمَّا هنا في آيةِ سُورةِ (الشُّورى)، فإنَّما أُورِدتْ في مَقامِ وصْفِ دِينِ الإسلامِ بالأصالةِ والاستِقامةِ، فكأنَّ اللهَ قال: شرَعَ لكم الدِّينَ الأصيلَ الَّذي بعَثَ به نوحًا في العهدِ القديمِ، وبعَثَ به محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في العهدِ الحديثِ، وبعَثَ به مَن تَوسَّطَ بيْنَهما [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/51). .
- و(أنْ) في قولِه: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يَجوزُ أنْ تكونَ مَصدريَّةً، والمصدرُ الحاصلُ منها في مَوضعِ بدَلِ الاشتِمالِ مِن (ما) المَوصولةِ الأُولى أو الأخيرةِ، وإذا كان بدلًا مِن إحداهما، كان في معنى البَدلِ مِن جميعِ أخواتِهما؛ لأنَّها سَواءٌ في المفعوليَّةِ لفِعلِ (شرَعَ) بواسطةِ العطفِ؛ فيكونُ الأمرُ بإقامةِ الدِّينِ والنَّهيُ عن التَّفرُّقِ فيه ممَّا اشتَمَلتْ عليه وِصايةُ الأديانِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ تَفسيريَّةً لمعنى وَصَّى؛ لأنَّه يَتضمَّنُ معنى القولِ دونَ حُروفِه؛ فالمعنى: أنَّ إقامةَ الدِّينِ، واجتِماعَ الكلمةِ عليه: أَوصَى اللهُ بها كلَّ رسولٍ مِن الرُّسلِ الَّذين سمَّاهم، وهذا الوجهُ يَقتضي أنَّ ما حُكِيَ شَرْعُه في الأديانِ السَّابقةِ هو هذا المعنى، وهو إقامةُ الدِّينِ المشروعِ كما هو، والإقامةُ مُجمَلةٌ يُفسِّرُها ما في كلِّ دِينٍ مِن الفروعِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/53). .
- وضَميرُ أَقِيمُوا مُرادٌ به: أُمَمُ أولئك الرُّسلِ، ولم يَسبِقْ لهم ذِكرٌ في اللَّفظِ، لكنْ دلَّ على تَقديرِهم ما في فِعلِ (وصَّى) مِن معنى التَّبليغِ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/53). .
- وقولُه: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شُروعٌ في بَيانِ أحوالِ بعضِ مَنْ شرَع لهم ما شرَعَ مِن الدِّينِ القويمِ [274] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/26). . أو اعتراضٌ بيْن جُملةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ وجُملةِ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ [الشورى: 14] . ويُمكِنُ أنْ يكونَ استئنافًا بَيانيًّا جَوابًا عن سُؤالِ مَن يَتعجَّبُ مِن إعراضِ المشرِكينَ عن الإسلامِ، مع أنَّه دِينٌ مُؤيَّدٌ بما سبَقَ مِن الشَّرائعِ الإلهيَّةِ! فأُجِيبَ إجمالًا بأنَّه كبُرَ على المشركينَ وتَجَهَّموهُ وصعُبَ عليهم [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/54). .
- وفي قولِه: مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عُبِّرَ عن دَعوةِ الإسلامِ بـ (ما) المَوصولةِ؛ اعتبارًا بنُكرانِ المشركينَ لهذه الدَّعوةِ، واستِغرابِهم إيَّاها، وعَدِّهم إيَّاها مِن المُحالِ الغريبِ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/54). .
- وجِيءَ بالفِعلِ المُضارِعِ في تَدْعُوهُمْ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ الدَّعوةِ واستِمرارِها [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/55). .
- قولُه: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ استِئنافٌ بَيانيٌّ جَوابٌ عن سُؤالِ مَن يَسألُ: كيف كبُرتْ على المشرِكينَ دَعوةُ الإسلامِ؟ بأنَّ اللهَ يَجْتبي مَن يَشاءُ؛ فالمشركونَ الَّذين لم يَقترِبوا مِن هُدى اللهِ غيرُ مُجتبَيْنَ إلى اللهِ؛ إذ لم يَشَأِ اجتِباءَهم، أي: لم يُقدِّرْ لهم الاهتِداءَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ ردًّا على إحدى شُبَهِهم الباعثةِ على إنكارِهم رِسالتَه بأنَّ اللهَ يَجْتبي مَن يَشاءُ، ولا يَلزَمُه مُراعاةُ عَوائدِكم في الزَّعامةِ والاصطفاءِ [278] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/55). .
- وفي قولِه: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ تَقديمُ المسنَدِ إليه -وهو اسمُ الجلالةِ- على الخبرِ الفِعليِّ؛ لإفادةِ القَصْرِ؛ ردًّا على المشرِكينَ الَّذين أحالُوا رِسالةَ بَشرٍ مِن عِندِ اللهِ، وحينَ أكبَروا أنْ يكونَ الضَّعَفةُ مِن المؤمنينَ خيْرًا منهم [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/55). .
2- قولُه تعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ
- قولُه: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ شُروعٌ في بَيانِ أحوالِ أهلِ الكتابِ عَقِيبَ الإشارةِ الإجماليَّةِ إلى أحوالِ أهلِ الشِّركِ [280] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/26). . أو عطْفٌ على جُملةِ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ، وفي الكلامِ حذْفٌ يدُلُّ عليه قولُه: وَمَا تَفَرَّقُوا، تَقديرُه: فتَفرَّقوا، وضَميرُ تَفَرَّقُوا عائدٌ إلى ما عادَ إليه ضميرُ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا [الشورى: 13] ، وهم أُمَمُ الرُّسُلِ المذكورينَ، أي: أَوْصَيْناهم بواسِطةِ رُسلِهم بأنْ يُقيموا الدِّينَ، دَلَّ على تَقديرِه ما في فِعلِ وَصَّى [الشورى: 13] مِن معنَى التَّبليغِ [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/56). .
- قولُه: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ مَجِيءُ العِلمِ إليهم يُؤذِنُ بأنَّ رُسلَهم بيَّنوا لهم مَضارَّ التَّفرُّقِ مِن عَهْدِ نُوحٍ عليه السَّلامُ. ويَجوزُ أن يكونَ المرادُ بالعِلمِ هنا سبَبَ العِلمِ، أي: إلَّا مِن بعْدِ مَجيءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بصِفاتِه الموافِقةِ لِما في كِتابِهم، فتَفرَّقوا في اختلاقِ المَطاعِنِ والمعاذيرِ الباطلةِ؛ لِيَنْفُوا مُطابَقةَ الصِّفاتِ. أو المعنى: وما تَفرَّقَت أُمَمُهم في أدْيانِهم إلَّا مِن بعْدِ ما جاءهم العِلمُ على لِسانِ رُسلِهم مِن النَّهيِ عن التَّفرُّقِ في الدِّينِ مع بَيانِهم لهم مَفاسدَ التَّفرُّقِ وأضرارِه. وذكَرَ سبَبَ تفرُّقِهم بقولِه: بَغْيًا بَيْنَهُمْ، أي: تَفرَّقوا مِن أجْلِ العداوةِ بيْنَهم، أي: بيْنَ المُتفرِّقِينَ، أي: لم يُحافِظوا على وَصايا الرُّسلِ، وهذا تَعريضٌ بالمشرِكينَ في إعراضِهم عن دَعوةِ الإسلامِ لِعَداوتِهم للمؤمنينَ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/56). .
- قولُه: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ تَحذيرٌ للمؤمنينَ مِن مِثلِ ذلك الاختِلافِ، وتَنكيرُ لفظِ كَلِمَةٌ للتَّنويعِ؛ لأنَّ لِكلِّ فريقٍ مِن المتفرِّقينَ في الدِّينِ كلمةً مِن اللهِ في تأْجيلِهم، وتَنْكيرُ كلمةِ أَجَلٍ أيضًا للتَّنويعِ؛ لأنَّ لكلِّ أُمَّةٍ مِن المتفرِّقينَ أجَلًا مُسمًّى؛ فهي آجالٌ مُتفاوِتةٌ في الطُّولِ والقِصَرِ، ومُختلفةٌ بالأزمنةِ والأمكنةِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/57). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ ... تأْكيدُ الخبرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ، ومُجرَّدِ تَحقيقِه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ، وهذا الاهتِمامُ كِنايةٌ عن التَّحريضِ للحذَرِ مِن مَكرِهم، وعدَمِ الرُّكونِ إليهم؛ لِظُهورِ عَداوتِهم؛ لئلَّا يَركَنوا إليهم [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/59). .
- والتَّعريفُ في الْكِتَابَ للجنسِ؛ لِيَشملَ كتابَ اليهودِ وكتابَ النَّصارى [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/58). .
- قولُه: لَفِي شَكٍّ شُبِّهَ تمكُّنُ الشَّكِّ مِن نُفوسِهم بإحاطةِ الظَّرفِ بالمظروفِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/59). .
- و(مِن) في قولِه: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ابتدائيَّةٌ، ووقَعَ حرفُ (مِن) مَوقعَ باءِ المصاحَبةِ أو السَّببيَّةِ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/59). .
- وفي قولِه: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ حذَفَ الفاعلَ هنا، وبَنى الفِعلَ للمفعولِ لَمَّا كان في مَعرِضِ الذَّمِّ لهم ونفْيِ العِلمِ عنهم، ولَمَّا كان في سِياقِ ذِكرِ نِعَمِه وآلائِه ومِنَّتِه عليهم قال: وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ [غافر: 53] ، ونَظيرُ هذه الآيةِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر: 32] ، ومِن ذلك قولُه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ [الأعراف: 169] ، فإنَّه لَمَّا كان الكلامُ في سِياقِ ذمِّهم على اتِّباعِهم شِهواتِهم، وإيثارِهم العَرَضَ الفانيَ على حَظِّهم مِن الآخرةِ، وتَماديهِم في ذلك؛ لم يَنسُبِ التَّوريثَ إليه، بل نسَبَه إلى المَحِلِّ فقال: وَرِثُوا الْكِتَابَ، ولم يقُلْ: أوْرَثْناهُم الكتابَ [288] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 195، 196). .
- وأيضًا جاء نَظْمُ الآيةِ على أسلوبِ إيجازٍ يَتحمَّلُ معانيَ كثيرةً وما يَتفرَّعُ عنها؛ فجِيءَ بضَميرِ مِنْهُ بعدَ تقدُّمِ ألفاظٍ صالحةٍ لأنْ تكونَ مَعادَ ذلك الضَّميرِ، وهي: لفظُ الدِّينِ في قولِه: مِنَ الدِّينِ [الشورى: 13] ، ولفظُ (الَّذِي) في قولِه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى: 13] ، و(ما) المَوصولةُ في قولِه: مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] ، وهذه الثَّلاثةُ مَدلولُها الإسلامُ، وهنالك لفظُ (مَا وَصَّيْنَا) [الشورى: 13] المتعدِّي إلى موسى وعِيسى، ولفظُ الْكِتَابَ في قولِه: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ، وهذانِ مَدلولُهما كتابَا أهلِ الكتابِ. وهؤلاء الَّذين أُوتوا الكتابَ هم الموجودونَ في وقْتِ نُزولِ الآيةِ، والإخبارُ عنهم بأنَّهم في شَكٍّ ناشئٍ مِن تلك المَعاداتِ للضَّميرِ، معناه: أنَّ مَبْلَغَ كُفرِهم وعِنادِهم لا يَتجاوَزُ حالةَ الشَّكِّ في صِدقِ الرِّسالةِ المحمَّديَّةِ، أي: لَيسوا مع ذلك بمُوقِنينَ بأنَّ الإسلامَ باطلٌ، ولكنَّهم تَرَدَّدوا ثمَّ أقدَموا على التَّكذيبِ به حَسدًا وعِنادًا؛ فمِنهم مَن بقِيَ حالُهم في الشَّكِّ، ومنهم مَن أيقَنَ بأنَّ الإسلامَ حقٌّ، كما قال تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] . ويَحتملُ أنَّ المعنى: لَفِي شَكٍّ بصِدقِ القرآنِ، أو في شكٍّ ممَّا في كِتابِهم مِن الأمورِ الَّتي تَفرَّقوا فيها، أو ما في كِتابِهم مِن الدَّلالةِ على مَجِيءِ النَّبيِّ الموعودِ به وصِفاتِه. فهذه مَعانٍ كَثيرةٌ تَتحمَّلُها الآيةُ، وكلُّها مُنطبِقةٌ على أهلِ الكتابَينِ [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/58). .
3- قولُه تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
- قولُه: فَلِذَلِكَ فَادْعُ الفاءُ للتَّفريعِ على قولِه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا إلى آخِرِه [الشورى: 13] ، المفسَّرِ بقولِه: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ، المُخلَّلِ بعضُه بجُملٍ مُعترِضةٍ مِن قولِه: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إلى مَنْ يُنِيبُ [290] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/60). [الشورى: 13] .
- واللَّامُ في فَلِذَلِكَ يجوزُ أن تكونَ للتَّعليلِ، وتكونَ الإشارةُ بذلك إلى المذكورِ، أي: جميعِ ما تَقدَّمَ مِن الأمرِ بإقامةِ الدِّينِ، والنَّهيِ عن التَّفرُّقِ فيه، وتلَقِّي المشرِكينَ للدَّعوةِ بالتَّجهُّمِ، وتَلقِّي المؤمنينَ لها بالقَبولِ والإنابةِ، وتلقِّي أهلِ الكتابِ لها بالشَّكِّ، أي: فمِن أجْلِ جميعِ ما ذُكِر فادعُ واستقِمْ، أي: مِن أجْلِ جميعِ ما تقدَّمَ مِن حُصولِ الاهتداءِ لِمَن هداهُم اللهُ، ومِن تبرُّمِ المشرِكينَ، ومِن شكِّ أهلِ الكتابِ؛ فادعُ. وتَقديمُ (لذلك) على مُتعلَّقِه -وهو فِعلُ (ادعُ)-؛ للاهتِمامِ بما احتوَى عليه اسمُ الإشارةِ؛ إذ هو مَجموعُ أسبابٍ للأمْرِ بالدَّوامِ على الدَّعوةِ. ويجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ في قولِه: فَلِذَلِكَ لامَ التَّقْويةِ، وتكونَ مع مَجرورِها مَفعولَ (ادعُ)، والإشارةُ إلى الدِّينِ مِن قولِه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ [الشورى: 13] ، أي: فادعُ لذلك الدِّينِ، وتَقديمُ المجرورِ على مُتعلَّقِه؛ للاهتمامِ بالدِّينِ [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/60). .
- وفِعلُ الأمْرِ في قولِه: فَادْعُ مُستعمَلٌ في الدَّوامِ على الدَّعوةِ؛ بقرينةِ قولِه: كَمَا أُمِرْتَ، وفي هذا إبطالٌ لِشُبهتِهم في الجهةِ الثَّالثةِ المتقدِّمةِ عِندَ قولِه تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/60، 61). [الشورى: 13] .
- والفاءُ في قولِه: فَادْعُ يَجوزُ أنْ تكونَ مُؤكِّدةً لفاءِ التَّفريعِ الَّتي قبْلَها. ويَجوزُ أنْ تكونَ مُضمَّنةً معنى الجزاءِ؛ لِما في تَقديمِ المجرورِ مِن مُشابَهةِ معنى الشَّرْطِ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/61). .
- ولم يُذكَرْ مَفعولُ (ادعُ)؛ لِدَلالةِ ما تَقدَّمَ عليه، أي: ادعُ المشرِكينَ، والَّذين أُوتوا الكتابَ، والَّذين اهتَدَوْا وأنابُوا [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/60). .
- قولُه: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ الاستِقامةُ: الاعتدالُ، والسِّينُ والتَّاءُ فيها للمُبالَغةِ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/61). .
- والكافُ في كَمَا أُمِرْتَ لِتَشبيهِ معنى المماثَلةِ، أي: دَعوةٍ واستِقامةٍ مِثل الَّذي أُمِرتَ به، أي: على وِفاقِه، أي: وافيةٍ بما أُمِرتَ به [296] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/61). .
- قوله: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ الاتِّباعُ يُطلَقُ على المُجاراةِ والموافَقةِ، وعلى المُحاكاةِ والمُماثَلةِ في العملِ، والمرادُ هنا كِلا الإطلاقَينِ؛ ليَرجِعَ النَّهيُ إلى النَّهيِ عن مُخالَفةِ الأمْرَينِ المأمورِ بهما في قولِه: فَادْعُ وَاسْتَقِمْ [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/61). .
- وضَميرُ أَهْوَاءَهُمْ للَّذِين ذُكِروا مِن قبْلُ مِن المشرِكينَ والَّذين أُوتوا الكتابَ، والمقصودُ: نهْيُ المسلمينَ عن ذلك، مِن بابِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] ؛ ألا تَرى إلى قولِه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود: 112] . ويَجوزُ أنْ يكونَ معنى وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ: لا تُجارِهم في مُعامَلتِهم، أي: لا يَحمِلْكَ طعْنُهم في دَعوتِك على عَدمِ ذِكرِ فَضائلِ رُسُلِهم، وهدْيِ كُتُبِهم -عدا ما بدَّلوه منها-، فأَعلِنْ بأنَّك مُؤمنٌ بكُتبِهم؛ ولذلك عُطِفَ على قولِه: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ قولُه: وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ الآيةَ، فمَوقعُ واوِ العطْفِ فيه بمَنزلةِ مَوقعِ فاءِ التَّفريعِ [298] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/61، 62). .
- وقولُه: وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بعدَ قولِه: فَادْعُ أمرٌ بمُخالَفةِ اليهودِ؛ إذ قالوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ [النساء: 150] ؛ يَعْنونَ: التَّوراةَ، وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: 150] ؛ يَعْنونَ: الإنجيلَ والقُرآنَ، فأُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمونَ بالإيمانِ بالكُتبِ الثَّلاثةِ الموحَى بها مِن اللهِ؛ فالمعنى: وقُلْ لِمَن يُهِمُّه هذا القولُ، وهم اليهودُ. وإنَّما أُمِرَ بأنْ يقولَ ذلك؛ إعلانًا به وإبلاغًا لأسماعِ اليهودِ، وتَعريضًا بقولِهم: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: 150] ، وجاء مُسْتطرَدًا، كما جاءتِ الآيةُ السَّابقةُ مُستطرَدةً فيهم، فلا يُقابِلُ إنكارَهم حَقِّيَّةَ كِتابِه بإنكارِه حَقِّيَّةَ كِتابِهم، وفي هذا إظْهارٌ لِما تَشتمِلُ عليه دَعْوتُه مِن الإنصافِ [299] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/33)، ((تفسير أبي السعود)) (8/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/62). .
- وقولُه: مِنْ كُتُبٍ بَيانٌ لِما أَنْزَلَ اللَّهُ؛ فالتَّنكيرُ في كِتَابٍ للنَّوعيَّةِ، أي: بأيِّ كِتابٍ أنزَلَه اللهُ، وليس يَومَئذٍ كِتابٌ مَعروفٌ غيرَ التَّوراةِ والإنجيلِ والقُرآنِ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/62). .
- وجُملةُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ مِن المَأْمورِ بأَنْ يَقولَه؛ فهيَ مُستأنَفةٌ عن جُملةِ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ، مُقرِّرةٌ لِمَضمونِها؛ لأنَّ المقصودَ مِن جُملةِ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ بحَذافيرِها هو قولُه: لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ؛ فهي مُقرِّرةٌ لِمَضمونِ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ، وإنَّما ابتُدِئتْ بجُملتَي: رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ؛ تَمْهيدًا للغرضِ المقصودِ، وهو لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ؛ فلذلك كانتِ الجُملُ كلُّها مَفصولةً عن جُملةِ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/63). .
- والمقصودُ مِن قولِه: اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ أنَّنا مُتَّفِقونَ على تَوحيدِ اللهِ تعالى، أي: فاللهُ الشَّهيدُ علينا وعليكم إذ كذَّبتُم كِتابًا أُنزِلَ مِن عِندِه؛ فالخبرُ مُستعمَلٌ في التَّسجيلِ والإلزامِ [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/63). .
- وجُملةُ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ دَعوةُ إنصافٍ، أي: إنَّ اللهَ يُجازي كُلًّا بعمَلِه، وهذا خَبرٌ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ والتَّنبيهِ على الخطأِ [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/63). .
- وجُملةُ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ هي الغرَضُ المقصودُ بعدَ قولِه: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، أي: أَعدِلَ بيْنَكم، ولا أُخاصِمَكم على إنكارِكم صِدْقي [304] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/63). .
- والحُجَّةُ: الدَّليلُ الَّذي يدُلُّ المَسوقَ إليه على صِدقِ دَعوى القائمِ به؛ وإنَّما تكونُ الحُجَّةُ بيْن مُختلفَينِ في دَعوى، ونفْيُ الحُجَّةِ نفْيُ جِنسٍ يَجوزُ أنْ يكونَ كِنايةً عن نفْيِ المُجادَلةِ الَّتي مِن شأْنِها وُقوعُ الاحتجاجِ؛ كِنايةً عن عدَمِ التَّصدِّي لِخُصومتِهم؛ فيكونَ المعنى الإمساكَ عن مُجادَلتِهم؛ لأنَّ الحقَّ ظهَرَ وهم مُكابِرونَ فيه، وهذا تَعريضٌ بأنَّ الجدالَ معهم ليس بذي جَدْوى. ويَجوزُ أنْ يكونَ المنفيُّ جِنسَ الحُجَّةِ المفيدةِ، بمَعونةِ القرينةِ، والمعنى: أنَّ الاستِمرارَ على الاحتِجاجِ عليهم بعدَ ما أظهَرَ لهم مِن الأدِلَّةِ يكونُ مِن العبَثِ، وهذا تَعريضٌ بأنَّهم مُكابِرونَ [305] يُنظر: ((اتفسير ابن عاشور)) (25/63، 64). .
- والمرادُ بالجمْعِ في قولِه: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا الحشرُ لِفَصْلِ القضاءِ، فيَوْمَئذٍ يَتبيَّنُ المُحِقُّ مِن المُبطِلِ، وهذا كلامٌ مُنصِفٌ، ولَمَّا كان مِثلُ هذا الكلامِ لا يَصدُرُ إلَّا مِن الواثقِ بحقِّه، كان خِطابُهم به مُستعمَلًا في المُتارَكةِ والمُحاجَزةِ، فهذا تَعريضٌ بأنَّ القضاءَ سيَكونُ له عليهم [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/64). .
- وتَقديمُ المسنَدِ إليه على الخبرِ الفِعليِّ في قولِه: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا للتَّقَوِّي، أي: تَحقيقِ وُقوعِ هذا الجمْعِ، وإلَّا فإنَّ المخاطَبينَ -وهم اليهودُ- يُثبِتونَ البعثَ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/64). .
- وجُملةُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ عطْفٌ على جُملةِ يَجْمَعُ بَيْنَنَا، والتَّعريفُ في الْمَصِيرُ للاستِغراقِ، أي: مُصيرُ النَّاسِ كلِّهم، فبذلك كانتِ الجُملةُ تذييلًا بما فيها مِن العُمومِ، أي: مَصيرُنا ومَصيرُكم ومَصيرُ الخلْقِ كلِّهم [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/64). .