موسوعة التفسير

سُورةُ الكافِرُونَ
الآيات (1-6)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ

المعنى الإجمالي:

 افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُخاطِبًا نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، بقَولِه تعالى:
 قُلْ -يا محمَّدُ- لجَميعِ الكافِرينَ مُعْلِنًا البَراءةَ مِن دينِهم وعِبادتِهم: يا أيُّها الكافِرونَ بالله، لا أعبُدُ ما تَعبُدونَه الآنَ، ولا أنتم -أيُّها الكافِرونَ ما دُمْتُم مُستَمِرِّينَ على ضَلالِكم- عابِدونَ اللهَ الَّذي أعبُدُه، ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُموه -أيُّها الكافِرونَ- مِن مَعبوداتٍ باطِلةٍ، ولا أنتم -أيُّها الكافِرونَ ما دُمتُم مُستَمِرِّينَ على كُفْرِكم- عابِدونَ اللهَ الَّذي أعبُدُه، لكم دِينُكم الَّذي تبَرَّأتُ منه، ولِيَ دِينُ الإسلامِ والتَّوحيدِ.

تفسير الآيات :

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لجَميعِ الكافِرينَ بالله، ما داموا متَّصِفينَ بالكُفرِ وثابِتينَ عليه: يا أيُّها الكافِرونَ باللهِ .
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2).
أي: لا أعبُدُ ما تَعبُدونَه الآنَ مِن مَعبوداتٍ باطِلةٍ، صِفاتُها ناقِصةٌ؛ فليست أهلًا لعبادتِها .
كما قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64] .
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بدأَ بما هو الأحَقُّ بالبُداءَةِ، وهو البَراءةُ مِن الشِّركِ؛ لأنَّه مِن دَرءِ المَفاسِدِ، فأبلَغَ في ذلك بما هو الحَقيقُ بحالِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانوا هُم يَعبُدون اللهَ على وَجهِ الإشراكِ، وكانت العِبادةُ مع الشِّركِ غيرَ مُعتَدٍّ بها بوَجهٍ- نفَى عِبادَتَهم له في الجُملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الثَّباتِ، فقال :
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3).
أي: ولا أنتم -أيُّها الكافِرونَ ما دُمْتُم مُستَمِرِّينَ على ضَلالِكم- عابِدونَ اللهَ الَّذي أعبُدُه، المتَّصِفَ بصِفاتِ الكَمالِ سُبحانَه وتعالى .
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4).
أي: ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدتُموه -أيُّها الكافِرونَ- مِن مَعبوداتٍ باطلةٍ؛ فأنا مُتبَرِّئٌ مِن آلهتِكم وعبادتِكم الباطِلةِ، ولا أقْبَلُها أبدًا .
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5).
أي: ولا أنتم -أيُّها الكافِرونَ ما دُمْتُم مُستَمِرِّينَ على كُفْرِكم- عابِدونَ اللهَ الَّذي أعبُدُه دائِمًا .
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6).
أي: لكم -أيُّها الكافِرونَ- دِينُكم الَّذي تبَرَّأتُ منه، وهو الكُفرُ باللهِ، ولِيَ دِينُ الإسلامِ والتَّوحيدِ الَّذي أؤمِنُ به .
قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] .
وقال سُبحانَه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا [الإسراء: 84] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في هذه السُّورةِ مَنهَجٌ إصلاحيٌّ، وهو عدَمُ قَبولِ أنصافِ الحُلولِ؛ لأنَّ ما عرَضَه المُشرِكونَ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ المشارَكةِ في العبادةِ -على ما قيل في سبب نُزولِها- يُعتبَرُ في مقياسِ المَنطِقِ حَلًّا وسَطًا؛ لاحتمالِ إصابةِ الحَقِّ في أحدِ الجانِبَينِ، فجاء الرَّدُّ حاسِمًا وزاجِرًا وبشِدَّةٍ؛ لأنَّ فيما عَرَضوه مُساواةً للباطِلِ بالحَقِّ، وفيه تعليقُ المُشكلةِ، وفيه تقريرُ الباطِلِ إنْ هو وافَقَهم ولو لحظةً .
2- قال اللهُ تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ هذا يَشملُ كُلَّ كافرٍ، سواءٌ كان مِن المُشرِكينَ، أو مِنَ اليَهودِ، أو مِنَ النَّصارى، أو مِن الشُّيوعيِّينَ، أو مِن غَيرِهم، كُلُّ كافرٍ يجبُ أنْ تُناديَه بقَلْبِك أو بلِسانِك -إنْ كان حاضِرًا-؛ لِتَتبَرَّأَ منه ومِن عِبادتِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- السُّوَرُ المُفتتَحةُ بالأمرِ بالقَولِ خَمسُ سُوَرٍ: قُلْ أُوحِيَ [الجن: 1] ، وسورةُ الكافِرونَ، وسورةُ الإخلاصِ، والمُعَوِّذتانِ؛ فالثَّلاثُ الأُوَلُ لقَولٍ يُبَلِّغُه، والمُعَوِّذتانِ لقَولٍ يَقولُه لِتَعويذِ نَفْسِه .
2- إنَّ سورتَيْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ هُما سُورَتَا الإخلاصِ؛ فـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فيها إخلاصُ القَصْدِ، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فيها إخلاصُ العقيدةِ، فالتَّوحيدُ في قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ توحيدٌ عِلْميٌّ عَقَدِيٌّ، وفي قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عَمَليٌّ إراديٌّ .
3- قال اللهُ تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ليس في الدُّنيا لفظٌ أشنَعُ ولا أبشَعُ مِن لَفظِ الكافِرِ؛ وذلك لأنَّه صِفةُ ذَمٍّ عندَ جميعِ الخَلْقِ، سواءٌ كان مُطلَقًا أو مُقَيَّدًا .
4- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَمْ يَقُلْ سُبحانَه: «يا أيُّها المُشرِكونَ»، فتناولَتِ السُّورةُ كلَّ كافرٍ، سواءٌ كان ممَّن يُظهِرُ الشِّركَ، أو كان فيه تعطيلٌ لِمَا يَستَحِقُّه اللهُ، واستِكبارٌ عن عِبادتِه، والتَّعطيلُ شَرٌّ مِن الشِّركِ، وكلُّ مُعَطِّلٍ فلا بُدَّ أنْ يكونَ مُشرِكًا، والنَّصارى مع شِرْكِهم لهم عباداتٌ كثيرةٌ، واليهودُ مِن أقلِّ الأممِ عِبادةً وأبْعَدِهم عن العبادةِ للهِ وحْدَه، لكنْ قد يَعْرِفونَ ما لا تَعْرِفُه النَّصارى، لكنْ بلا عبادةٍ وعَمَلٍ بالعِلمِ؛ فهم مَغضوبٌ عليهم، وأولئك ضالُّون، وكِلاهما قد بَرَّأَ اللهُ منهم رسولَه والمؤمِنينَ .
5- قال تعالى: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ نَفْيُ العِبادَةِ مُطلقًا ليس نفيًا لِمَا قد يُسمَّى عِبادةً مع التَّقيِيدِ. والمُشرِكُ إذا كان يَعبُدُ اللهَ ويَعبُدُ غيرَه فيُقالُ: إنَّه يَعبُدُ اللهَ وغيرَه، أو يَعبُدُه مُشرِكًا به، لا يُقالُ: إنَّه يَعبُدُ مُطلقًا. والمُعَطِّلُ الَّذي لا يَعبُدُ شيئًا شَرٌّ منه، والعِبادةُ المُطلقَةُ المُعتدِلةُ هي المَقبولةُ، وعِبادةُ المُشركِ ليست مَقبولةً .
6- في قَولِه تعالى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ إلى آخِرِ السُّورةِ: اشتِمالُ هذه السُّورةِ على النَّفيِ المَحْضِ، فهذا هو خاصَّةُ هذه السُّورةِ العظيمةِ؛ فإنَّها سورةُ براءةٍ مِن الشِّركِ، كما جاء في وَصْفِها أنَّها (بَراءةٌ مِن الشِّركِ) ، فمَقصودُها الأعظمُ هو البراءةُ المُطلَقةُ بيْنَ الموحِّدِينَ والمُشرِكين؛ ولهذا أَتَى بالنَّفيِ في الجانبَينِ تحقيقًا للبَراءةِ المطلوبةِ، هذا معَ أنَّها متضَمِّنةٌ للإثباتِ صريحًا، فقولُه: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ براءةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ إثباتُ أنَّ له مَعبودًا يَعبُدُه، وأنتم بَريئونَ مِن عبادتِه، فتضمَّنتِ النَّفيَ والإثباتَ، وطابقَتْ قولَ إمامِ الحُنَفاءِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26-27] ، وطابقَتْ قولَ الفِتْيةِ الموحِّدينَ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [الكهف: 16] ؛ فانتظَمَتْ حقيقةَ «لا إلهَ إلَّا اللهُ»؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَقْرِنُها بسُورةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في سُنَّةِ الفَجرِ، ويقرأُ بهما في الوترِ؛ فإنَّ هاتَينِ السُّورتَينِ سُورتَا الإخلاصِ، وقد اشتمَلَتا على نَوعَيِ التَّوحيدِ الَّذي لا نجاةَ للعَبدِ ولا فلاحَ إلَّا بهما، وهما: توحيدُ العِلمِ والاعتقادِ المتضمِّنُ تنزيهَ اللهِ عمَّا لا يَليقُ به مِن الشِّركِ والكُفرِ والوَلَدِ والوالِدِ، وأنَّه إلهٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لم يَلِدْ؛ فيكونَ له فَرعٌ، ولم يولَدْ؛ فيكونَ له أصلٌ، ولم يكُنْ له كُفُوًا أحدٌ؛ فيكونَ له نظيرٌ، ومع هذا فهو الصَّمَدُ الَّذي اجتمَعَت له صِفاتُ الكَمالِ كُلُّها؛ فتضَمَّنت السُّورةُ إثباتَ ما يَليقُ بجلالِه مِن صِفاتِ الكَمالِ، ونَفْيَ ما لا يليقُ به مِنَ الشَّريكِ أصلًا وفَرْعًا ونظيرًا، فهذا توحيدُ العِلْمِ والاعتقادِ.
والثَّاني: توحيدُ القَصدِ والإرادةِ، وهو ألَّا يُعبَدَ إلَّا إيَّاه، فلا يُشْرَكَ به في عبادتِه سِواه، بل يكونُ وَحْدَه هو المعبودَ، وسورةُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ مُشتَمِلةٌ على هذا التَّوحيدِ؛ فانتظَمَت السُّورتانِ نَوعَيِ التَّوحيدِ، وأخلصَتا له، فكان صلَّى الله عليه وسلَّم يَفتَتِحُ بهما النَّهارَ في سُنَّةِ الفَجْرِ، وكان يُوتِرُ بهما ، فسُنَّةُ الفجرِ تجري مَجرَى بدايةِ العملِ، والوترُ خاتمتُه .
7- تَخصِيصُ البَراءةِ مِن الشِّرْكِ بشِرْكِ مُشرِكي العَربِ غلَطٌ عَظيمٌ، وإنَّما هي بَراءةٌ مِن كلِّ شِركٍ، فقولُه: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ خِطابٌ للكُفَّارِ مُطلقًا، فإذا قال اليَهودُ: نحن نَقصِدُ عِبادةَ الله، كانوا كاذِبينَ، سَواءٌ عرَفوا أنَّهم كاذِبونَ أو لم يَعرِفوا، كما يقولُ النَّصارَى: إنَّا نَعبُدُ اللهَ وَحْدَه وما نحن بمُشرِكين، وهم كاذِبون؛ لأنَّهم لو أرادوا عِبادَته لَعَبدوهُ بما أمَرَ به، وهو الشَّرعُ، لا بالمَنسُوخِ المُبَدَّلِ. وأيضًا فالرَّبُّ الَّذي يَزعُمون أنَّهم يَقصِدون عِبادتَه هو عِندَهم رَبٌّ لم يُنزِلِ الإنجيلَ ولا القُرآنَ، ولا أَرسلَ المَسيحَ ولا محمَّدًا، بل هو عندَ بَعضِهم فَقيرٌ، وعندَ بعضِهم بَخيلٌ، وعندَ بعضِهم عاجِزٌ، وعندَ بعضِهم لا يَقدِرُ أن يُغيِّرَ ما شَرَعَه، وعندَ جَميعِهم أنَّه أيَّد الكاذِبينَ المُفتَرِينَ عليه الَّذين يَزعُمون أنَّهم رُسُلُه، وليسوا رُسُلَه، بل هُم كاذِبون سَحَرةٌ، قد أيَّدَهُم ونَصَرَهم، ونَصَر أتْباعَهم على أوليائِه المُؤمِنينَ؛ لأنَّهم عندَ أنفُسِهم أَولياؤُه دُون النَّاسِ، فالرَّبُّ الَّذي يَعبُدونَه هو دائمًا يَنصُرُ أعداءَه! فهُم يَعبُدونَ هذا الرَّبَّ، والرَّسولُ والمُؤمِنونَ لا يَعبُدونَ هذا المَعبُودَ الَّذي تَعبُدُه اليَهودُ؛ فهو مُنَزَّهٌ عمَّا وَصَفَت به اليَهودُ مَعبُودَها مِن جِهَةِ كَوْنِه مَعبودًا لهم، مُنَزَّهٌ عن هذه الإضافةِ، فليس هو مَعبودًا لليَهودِ، وإنَّما في جِبِلَّاتِهم صِفاتٌ ليست هي صِفاتِه، زَيَّنَها لهم الشَّيطانُ، فهم يَقصِدون عِبادةَ المُتَّصِفِ بتلك الصِّفاتِ، وإنَّما هو الشَّيطانُ! فالرَّسولُ والمُؤمنونَ لا يَعبُدونَ شيئًا تَعبُدُه اليَهودُ، وإن كانوا يَعبُدونَ مَن يَعبُدونَه .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ تدُلُّ بظاهِرِها على أنَّ الكُفَّارَ المُخاطَبينَ بها لا يَعبُدونَ اللهَ أبدًا، مع أنَّه دَلَّت آياتٌ أُخَرُ على أنَّ منهم مَن يؤمِنُ باللهِ تعالى، كقَولِه: وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الآيةَ [العنكبوت: 47] ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه خِطابٌ لجِنسِ الكُفَّارِ وإن أسلَموا فيما بَعْدُ، فهو خِطابٌ لهم ما داموا كُفَّارًا، فإذا أسلَموا لم يَتناوَلْهم ذلك؛ لأنَّهم حينَئذٍ مؤمِنونَ لا كافِرونَ، وإن كانوا منافِقينَ فهم كافِرونَ في الباطِنِ، فيَتناوَلُهم الخِطابُ.
الوَجهُ الثَّاني: هو أنَّ الآيةَ مِنَ العامِّ المخصوصِ، وعليه فهي في خُصوصِ الأشقياءِ المُشارِ إليهم بقَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الآيةَ [يونس: 96] .
9- في قَولِه تعالى: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ تكريرُ الفِعل بلَفظِ المُستقبَلِ حينَ أَخْبَرَ عن نفْسِه -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وبلَفظِ الماضي حينَ أَخْبَرَ عنهم؛ ففي ذلك سِرٌّ، وهو الإشارةُ والإيماءُ إلى عِصمةِ اللهِ تعالى له عن الزَّيغِ والانحرافِ عن عبادةِ مَعبودِه، والاستبدالِ به غيرَه، وأنَّ معبودَه واحدٌ في الحالِ والمآلِ على الدَّوامِ، لا يَرضى به بدَلًا، ولا يَبغي عنه حِوَلًا، بخِلافِ الكافِرين؛ فإنَّهم يَعبُدونَ أهواءَهم، ويَتَّبِعون شَهَواتِهم في الدِّينِ وأغراضَهم، فهُم بصَدَدِ أنْ يَعبُدوا اليومَ معبودًا وغَدًا غيرَه؛ فقال: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يعني: الآنَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أنا الآنَ أيضًا، ثُمَّ قال: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ يعني: ولا أنا فيما يُستَقبَلُ يَصدُرُ منِّي عبادةٌ لِمَا عبدتُم أيُّها الكافِرونَ، وأشبَهَتْ «ما» هنا رائحةَ الشَّرطِ؛ فلذلك وَقَعَ بعْدَها الفِعلُ بلَفظِ الماضي وهو مُستقبَلٌ في المعنى، كما يَجيءُ ذلك بعْدَ حرفِ الشَّرطِ، كأنَّه يقولُ: مهما عبَدْتُم مِن شَيءٍ فلا أعبُدُه أنا .
10- إنْ قيلَ: ما الفائدةُ في قَولِه: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ؟ وهل أفادَ هذا معنًى زائدًا على ما تَقدَّمَ؟
فالجوابُ: الحِكمةُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ النَّفيَ الأوَّلَ أفاد البَراءةَ، وأنَّه لا يُتصوَّرُ منه ولا يَنْبغي له أنْ يَعبُدَ مَعبودِيهم، وهمْ أيضًا لا يَكونونَ عابِدينَ لِمَعبودِه، وأفادَ آخِرُ السُّورةِ إثباتَ ما تَضمَّنَه النَّفيُ مِن جِهتِهم مِن الشِّركِ والكفْرِ الَّذي هو حظُّهم وقِسْمُهم ونَصيبُهم، فجَرى ذلك مَجرى مَنِ اقتسَمَ هو وغيرُه أرضًا، فقال له: لا تَدخُلُ في حدِّي، ولا أدخُلُ في حَدِّك؛ لك أرْضُك، ولي أرْضي، فتَضمَّنَت الآيةُ أنَّ هذه البَراءةَ اقتَضَت أنَّا اقتَسَمْنا خُطَّتَنا بيْنَنا، فأصابَنا التَّوحيدُ والإيمانُ؛ فهو نَصيبُنا وقِسْمُنا الَّذي نَختَصُّ به لا تَشْرَكونا فيه، وأصابَكم الشِّركُ باللهِ والكفْرُ به؛ فهو نَصيبُكم وقِسْمُكم الَّذي تَختصُّون به لا نَشْرَكُكم به .
11- قَولُه تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ هذه كَلِمةٌ تَقتضي براءتَه مِن دِينِهم، ولا تَقتضي رِضاه بذلك، كما قال تعالى في الآيةِ الأخرى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] ، ومَن ظَنَّ مِن الملاحدةِ أنَّ هذا رِضًا منه بدِينِ الكُفَّارِ فهو مِن أكذَبِ النَّاسِ وأكفَرِهم .
12- هذه السُّورةُ مِن السُّوَرِ الَّتي يَستحيلُ دُخولُ النَّسخِ في مَضمونِها؛ فإنَّ أحكامَ التَّوحيدِ الَّتي اتَّفقتْ عليه دعوةُ الرُّسُلِ يَستحيلُ دخولُ النَّسخِ فيها، وهذه السُّورةُ أخلَصَتِ التَّوحيدَ؛ ولهذا تُسمَّى سورةَ الإخلاصِ .

بلاغة الآيات:

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
- افتِتاحُ السُّورةِ بـ قُلْ؛ للاهتِمامِ بما بعْدَ القولِ بأنَّه كَلامٌ يُرادُ إبلاغُه إلى النَّاسِ بوَجهٍ خاصٍّ، مَنصوصٌ فيه على أنَّه مُرسَلٌ بقَولٍ يُبلِّغُه، وإلَّا فإنَّ القرآنَ كلَّه مَأمورٌ بإبلاغِه .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ دونَ (يا أيُّها الَّذين كَفَروا)، وسِرُّه: إرادةُ الدَّلالةِ على أنَّ مَن كان الكُفْرُ وَصْفًا ثابتًا له لازِمًا لا يُفارِقُه؛ فهو حَقيقٌ أنْ يَتبرَّأَ اللهُ منه، ويكون هو أيضًا بَريئًا مِن اللهِ، فحَقيقٌ بالموحِّدِ البَراءةُ منه، فكان ذِكرُه في مَعرِضِ البَراءةِ الَّتي هي غايةُ البُعدِ والمجانَبةِ بحَقيقةِ حالِه الَّتي هي غايةُ الكفْرِ -وهو الكفْرُ الثَّابتُ اللَّازِمُ- في غايةِ المُناسَبةِ، فكأنَّه يقولُ: كما أنَّ الكفْرَ لازمٌ لكمْ ثابتٌ لا تَنتَقِلون عنه، فمُجانَبتُكم والبَراءةُ منكم ثابتةٌ دائمًا أبدًا؛ ولهذا أتى فيها بالنَّفيِ الدَّالِّ على الاستمرارِ لمُقابَلةِ الكفْرِ الثَّابتِ المستمِرِّ .
- وقولُه: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ إخبارٌ عن نفْسِه بما يَحصُلُ منها، والمعْنى: لا تَحصُلُ مِنِّي عِبادتي ما تَعبُدون في أزمنةٍ في المُستقبَلِ تَحقيقًا -وذلك على قولٍ-، ونَفْيُ عِبادتِه آلهتَهم في المُستقبَلِ يُفيدُ نَفْيَ أنْ يَعبُدَها في الحالِ بدَلالةِ فَحْوى الخِطابِ ، ولأنَّهم ما عَرَضوا عليه إلَّا أنْ يَعبُدَ آلهتَهم بعْدَ سَنةٍ مُستقبَلةٍ -على ما قيل في سببِ نُزولِ السُّورةِ-؛ ولذلك جاء في جانبِ نَفْيِ عِبادتِهم للهِ بنَفْيِ اسمِ الفاعِلِ الَّذي هو حَقيقةٌ في الحالِ بقولِه: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ، أي: ما أنتُم بمُغيِّرينَ إشراكَكُم الآنَ؛ لأنَّهم عَرَضوا عليه أنْ يَبتدِئوا همْ فيَعبُدوا الرَّبَّ الَّذي يَعبُدُه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم سَنةً، فيما يُروَى، وبهذا تَعلَمُ وَجْهَ المُخالَفةِ بيْن نظْمِ الجُملتينِ في أُسلوبِ الاستعمالِ البليغِ .
- وقولُه: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ عطْفٌ على وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 3] عطْفَ الجُملةِ على الجُملةِ؛ لمُناسَبةِ نفْيِ أنْ يَعبُدوا اللهَ، فأُردِفَ بنَفْيِ أنْ يَعبُدَ هو آلهتَهم، وعَطْفُه بالواوِ صارِفٌ عن أنْ يكونَ المَقصودُ به تَأكيدَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فجاء به على طَريقةِ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ، وبكَونِ الخبَرِ اسمَ فاعلٍ دالًّا على زَمانِ الحالِ، فلمَّا نَفَى عن نفْسِه أنْ يَعبُدَ في المُستقبَلِ ما يَعبُدونه بقَولِه: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ -على قولٍ-، صرَّحَ هنا بما تَقتضيهِ دَلالةُ الفَحْوى على نَفْيِ أنْ يَعبُدَ آلهتَهم في الحالِ بما هو صَريحُ الدَّلالةِ على ذلك؛ لأنَّ المَقامَ يَقْتضي مَزيدَ البَيانِ، فاقْتَضى الاعتمادَ على دَلالةِ المَنطوقِ إطنابًا في الكلامِ؛ لتَأييسِهم ممَّا راوَدُوه عليه، ولمُقابَلةِ كَلامِهم المَردودِ بمِثلِه في إفادةِ الثَّباتِ، وحصَلَ مِن ذلك تَقريرُ المعْنى السَّابقِ وتَأكيدُه، تَبَعًا لمَدلولِ الجُملةِ لا لمَوقعِها؛ لأنَّ مَوقِعَها أنَّها عطْفٌ على جُملةِ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وليستْ تَوكيدًا لجُملةِ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ بمُرادِفِها؛ لأنَّ التَّوكيدَ لِلَّفظِ بالمُرادِفِ لا يُعرَفُ إلَّا في المُفرَداتِ، ولأنَّ وُجودَ الواوِ يُعيِّنُ أنَّها مَعطوفةٌ؛ إذ ليس في جُملةِ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ واوٌ حتَّى يكونَ الواوُ في هذه الجُملةِ مُؤكِّدًا لها .
- وجِيءَ بالفِعلِ الماضي في قَولِه: مَا عَبَدْتُمْ؛ للدَّلالةِ على رُسوخِهم في عِبادةِ الأصنامِ مِن أزمانٍ مَضَت، وفيه رَمْزٌ إلى تَنزُّهِه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن عِبادةِ الأصنامِ مِن سالِفِ الزَّمانِ، وإلَّا لَقال: ولا أنا عابدٌ ما كنَّا نَعبُدُ .
- قَولُه: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ عطْفٌ على جُملةِ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ [الكافرون: 4] ؛ لبَيانِ تَمامِ الاختِلافِ بيْن حالِه وحالِهم، وإخبارٌ بأنَّهم لا يَعبُدونَ اللهَ إخبارًا ثانيًا؛ تَنْبيهًا على أنَّ اللهَ أعلَمَه بأنَّهم لا يَعبُدون اللهَ، وتَقويةً لدَلالةِ هذَينِ الإخبارينِ على نُبوَّتِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقدْ أخْبَرَ عنهم بذلك، فمات أولئك كلُّهم على الكُفْرِ، وكانتْ هذه السُّورةُ مِن دَلائلِ النُّبوَّةِ، وقد حصَلَ مِن ذِكرِ هذه الجُملةِ بمِثلِ نَظيرتِها السَّابقةِ تَوكيدٌ للجُملةِ السَّابقةِ تَوكيدًا للمعْنى الأصليِّ منها، وليس مَوقِعُها مَوقعَ التَّوكيدِ؛ لوُجودِ واوِ العطْفِ في قَولِه: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ؛ ولذلك فالواوُ في قَولِه هنا: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ عاطفةٌ جُملةً على جُملةٍ مِن أجْلِ ما اقتَضَتْه جُملةُ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مِن المُناسَبةِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ تَأكيدًا لَفظيًّا لنَظيرتِها السَّابقةِ بتَمامِها بما فيها مِن واوِ العطْفِ في نَظيرتِها السَّابقةِ، وتَكونَ جُملةُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ مُعترِضةً بيْن التَّأكيدِ والمُؤكَّدِ، والمَقصودُ مِن التَّأكيدِ تَحقيقُ تَكذيبِهم في عَرْضِهم أنَّهم يَعبُدون ربَّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم .
- و(ماصَدَقَ) مَا أَعْبُدُ هو اللهُ تعالَى، وعُبِّرَ بـ (ما) المَوصولةِ؛ لأنَّها مَوضوعةٌ للعاقلِ وغيرِه، وإنَّما تَختَصُّ (مَن) بالعاقلِ؛ فلا مانعَ مِن إطلاقِ (ما) على العاقلِ إذا كان اللَّبْسُ مَأمونًا .
أو إيثارُ (مَا) في مَا أَعْبُدُ على (مَنْ)؛ لأنَّ المرادَ هو الوَصفُ، كأنَّه قيلَ: ما أعبُدُ مِنَ المعبودِ العَظيمِ الشَّأنِ الَّذي لا يُقادَرُ قدْرُ عَظَمتِه، فـ (ما) يُؤتَى بها لقصْدِ الإبهامِ؛ لتُفيدَ المُبالَغةَ في التَّفخيمِ .
أو لم يَقُلْ: (مَن) مع أنَّه القِياسُ؛ رِعايةً لمُقابِلِه (ما) في قَولِه: مَا تَعْبُدُونَ، أو لأنَّ المُرادَ الصِّفةُ، كأنَّه قال: لا أعبُدُ الباطلَ، ولا تَعبُدون الحقَّ. وقيل: إنَّ (ما) مَصدريَّةٌ، أي: لا أعبُدُ عِبادتَكم، ولا تَعبُدون عِبادتي .
- وأيضًا (ما) في قَولِه: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فيها عُمومٌ وإجمالٌ يَصلُحُ لِما لا يَعلَمُ، ولصِفاتِ مَن يَعلَمُ .
- وقيل: لم يَحتَجْ أنْ يقولَ فيهم: (ولا أنتمْ عابِدون ما عبَدْتُ) كما قال في نفْسِه: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ؛ لأنَّ كلَّ مُؤمنٍ فهو مَأمورٌ بقِراءةِ هذه السُّورةِ، ومنهم مَن كان مَعبودُه غيرَ اللهِ، فلو قال: (ولا أنتمْ عابِدون ما عبَدْتُ) لَقالوا: بل نحنُ نَعبُدُ ما كنتَ تَعبُدُ لَمَّا كنتَ مُشرِكًا، بخِلافِ ما إذا قال: (ولا أنتمْ عابِدون ما أعبُدُه في هذا الوقتِ)، ولم يَقُلْ: (ما أنا عابدٌ له)؛ إذ نفْسُه قد لا تكونُ عابدةً له مُطلَقًا، وقد يجوزُ أنْ يَعبُدَ الواحدُ مِن النَّاسِ غيرَ اللهِ في المستقبَلِ، فلا يكونُ مَن لم يَعبُدْ ما يَعبُدُه في المستقبَلِ مَذمومًا، بخِلافِ المؤمنِ الَّذي يُخاطِبُ بهذه السُّورةِ غيرَه؛ فإنَّه حِينَ يَقولُها ما يَعبُدُ إلَّا اللهَ، فهو يقولُ للكفَّارِ: ولا أنتمْ عابِدون ما أعبُدُه الآنَ .
- وذَكَر النَّفيَ عن الكُفَّارِ في الجُملتَينِ لِتُقارِبَ كلُّ جُملةٍ جُملةً؛ فلمَّا قال: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فنَفى الفعلَ قال: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، ثمَّ لَمَّا زاد النَّفيَ بنَفْيِ جَوازِ ذلك وبَراءةِ النَّفْسِ منه؛ ذَكَرَ ما يدُلُّ على كَراهتِه له وقُبحِه، ونَفَى أنْ يَعبُدَ شيئًا ممَّا عَبَدوه ولو في بعضِ الزَّمانِ، قال: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، بلْ أنتم بَريئونَ مِن عِبادةِ ما أعبُدُه، فليس لِبَراءتي، وكَمالِ بَراءتي، وبُعدي مِن مَعبودِكم، وكَمالِ قُرْبي إلى اللهِ في عِبادتي له وحْدَه لا شَريكَ له؛ يكونُ لكم نَصيبٌ مِن هذه العِبادةِ، بلْ أنتُم أيضًا في هذه الحالِ لا تَعبُدون ما أعبُدُ؛ لا في الحالِ الأُولى ولا في الثَّانيةِ، ولو اقتصَرَ في تَبرِّيهم مِن عِبادةِ اللهِ على الجُملةِ الأُولى لم يكُنْ فيها تَبرئةٌ لهم في هذه الحالِ الثَّانيةِ، فبَرَّأَهم مِن مَعبودِه حينَ البَراءةِ الأُولى الخاصَّةِ، وحِينَ البَراءةِ الثَّانيةِ العامَّةِ القاطعةِ، وهمْ لم يَختلِفْ حالُهم في الحالينِ، بلْ هم فيهما لا يَعبُدون ما يَعبُدُ، فلم يكُنْ في تَغييرِ العبارةِ فائدةٌ، وإنَّما غُيِّرَت العِبارةُ في حقِّه وحقِّ المؤمنينَ لتَغييرِ المعنيَينِ .
- وقولُه: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وإنْ كان لَفظُها خبَرًا ففيها معنى الإنشاءِ كسائرِ ألْفاظِ الإنشاءاتِ، كقولِه: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وقولِه إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26-27] ، وقولِه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78] ، فكلُّ هذه الأقوالِ فيها معْنى الإنشاءِ لها يُنشِئُه المؤمنُ في نفْسِه مِن زِيادةِ البَراءةِ مِن الشِّركِ؛ فإنَّ الشِّركَ والكفرَ أعظَمُ أمراضِ القُلوبِ، فأُمِرَ المؤمنُ بقولٍ يُوجِبُ في قلْبِه مِن البَراءةِ مِن الشِّركِ ما لم يكُنْ في قلْبِه قبْلَ ذلِك .
- ولم يَأتِ النَّفيُ في حقِّهم إلَّا باسمِ الفاعلِ عَابِدُونَ، وفي جِهتِه جاء بالفعلِ المستقبَلِ تارةً أَعْبُدُ، وباسمِ الفاعِلِ عَابِدٌ أُخرى؛ فذلك -والله أعلَمُ- لحكمةٍ بَديعةٍ؛ وهي أنَّ المقصودَ الأعظَمَ بَراءتُه مِن مَعبودِيهم بكلِّ وجْهٍ، وفي كلِّ وقْتٍ، فأَتى أوَّلًا بصِيغةِ الفعلِ الدَّالَّةِ على الحدوثِ والتَّجدُّدِ، ثمَّ أتى في هذا النَّفيِ بعَينِه بصِيغةِ اسمِ الفاعلِ الدَّالَّةِ على الوصْفِ والثُّبوتِ، فأفاد في النَّفيِ الأوَّلِ أنَّ هذا لا يقَعُ مِنِّي، وأفادَ في الثَّاني أنَّ هذا ليس وَصْفي ولا شَأْني، فكأنَّه قال: عِبادةُ غيرِ اللهِ لا تكونُ فِعلًا لي ولا وَصْفًا، فأتى بنَفيَينِ لِمَنْفيَّينِ مَقصودينِ بالنَّفيِ، وأمَّا في حقِّهم فإنَّما أتَى بالاسمِ الدَّالِّ على الوصْفِ والثُّبوتِ دونَ الفِعلِ، أي: أنَّ الوصفَ الثَّابتَ اللَّازِمَ العائدَ للهِ مُنتَفٍ عنكم، فليس هذا الوصْفُ ثابتًا لكم، وإنَّما ثَبَتَ لِمَن خصَّ اللهَ وحْدَه بالعِبادةِ لم يُشرِكْ معه فيها أحدًا، وأنتمْ لَمَّا عَبَدْتُم غيرَه، فلَسْتُم مِن عابِدِيه وإنْ عَبَدوه في بعضِ الأحيانِ؛ فإنَّ المشرِكَ يَعبُدُ اللهَ ويَعبُدُ معه غيرَه؛ فتَأمَّلْ هذه النُّكتةَ البَديعةَ كيف تَجِدُ في طَيِّها أنَّه لا يُوصَفُ بأنَّه عابدُ اللهِ وعَبْدُه المستقيمُ على عِبادتِه إلَّا مَن انقطَعَ إليه بكُلِّيَّتِه، وتَبتَّلَ إليه تَبتيلًا، لم يَلتفِتْ إلى غيرِه، لم يُشرِكْ به أحدًا في عِبادتِه، وأنَّه وإنْ عَبَدَه وأشْرَكَ به غيرَه فليس عابدًا للهِ ولا عَبْدًا له، وهذا مِن أسرارِ هذه السُّورةِ العظيمةِ الجليلةِ .
- وأيضًا أتَى النَّفيُ في هذه السُّورةِ بأداةِ (لا) دونَ (لن)؛ وذلك لأنَّ النَّفيَ بـ (لا) أبلَغُ منه بـ (لنْ)، وأنَّ (لا) أدلُّ على دَوامِ النَّفيِ وطُولِه مِن (لنْ)، وأنَّها للطُّولِ والمَدِّ الَّذي في نَفْيِها طالَ النَّفيُ بها واشتَدَّ، وأنَّ هذا ضِدُّ ما فَهِمَتْه الجَهميَّةُ والمعتزلةُ مِن أنَّ (لن) إنَّما تَنفي المستقبَلَ، و(لا) تَنْفي الحالَ المستمِرَّ النَّفيِ في الاستقبالِ، فالإتيانُ بـ(لا) مُتعيِّنٌ هنا، واللهُ أعلَمُ .
وقيل: النَّفيُ بـ (لن) أبلَغُ، لكنَّه لم يأتِ بها لأنَّ المُبالَغةَ إنَّما يُحتاجُ إليها في موضِعِ التُّهمةِ، وقد عَلِمَ كُلُّ أحدٍ مِن محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه ما كان يَعبُدُ الصَّنَمَ قبْلَ الشَّرعِ، فكيف يَعبُدُه بعْدَ ظُهورِ الشَّرعِ؟! بخِلافِ أصحابِ الكَهْفِ؛ فإنَّهم لَمَّا بالَغوا قالوا: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف: 14] ؛ فإنَّه وُجِدَ منهم ذلك فيما قَبلُ .
- وفي تَكرارِ الأفعالِ في هذِه الآياتِ قَولانِ:
القولُ الأوَّلُ: أنَّه لا تَكرارَ فيها، وفيه وُجوهٌ:
أحدُها: أنَّه نَفى أوَّلًا عِبادتَه في المستقبَلِ؛ لأنَّ (لا) الغالبُ أنَّها تَنْفي المُستقبَلَ، ثمَّ عَطَفَ عليه وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ نفْيًا للمُستقبَلِ على سَبيلِ المُقابَلةِ، ثمَّ قال: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ نفْيًا للحالِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العامِلَ الحقيقةُ فيه دَلالتُه على الحالِ، ثمَّ عُطِفَ عليه وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ نفْيًا للحالِ على سَبيلِ المُقابَلةِ، فانتَظَمَ المعْنى: أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَعبُدُ ما يَعبُدونَ، لا حالًا ولا مُستقبَلًا، وهمْ كذلك؛ إذ قدْ حتَّمَ اللهُ مُوافاتَهم على الكفْرِ.
وثانيها: أنْ يُقلَبَ، فيُجعَلَ الأوَّلُ للحالِ، والثَّاني للاستقبالِ.
وثالثُها: المَقصودُ مِن الأُولَيَينِ المَعبودُ، و(ما) بمعْنى (الَّذي)، أي: لا أعبُدُ الأصنامَ ولا تَعبُدونَ اللهَ، وفي الأُخريَيْنِ (ما) مَصدريَّةٌ، أي: ولا أنا عابدٌ مِثلَ عِبادتِكم المَبنيَّةِ على الشَّكِّ، ولا أنتمْ عابِدون مِثلَ عِبادتي المَبنيَّةِ على اليقينِ.
ورابعُها: أنْ تُحمَلَ الأُولى على نفْيِ الاعتبارِ الَّذي ذَكَروه، والثَّانيةُ على العامِّ بجَميعِ الجِهاتِ، أي: لا أعبُدُ ما تَعبُدون رَجاءَ أنْ تَعبُدوا اللهَ، ولا أنتمْ عابِدون رَجاءَ أنْ أعبُدَ صَنَمَكم، ثمَّ قال: ولا أنا عابدٌ صَنَمَكم لغرَضٍ مِن الأغراضِ، بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ، وكذا أنتم لا تَعبُدون اللهَ لغَرَضٍ مِن الأغراضِ، مِثالُه: مَن يَدْعو غَيرَه إلى الظُّلمِ لغرَضِ التَّنعُّمِ، فيقولُ: لا أظلِمُ لغَرَضِ التَّنعُّمِ، بلْ لا أظلِمُ أصلًا، سواءٌ كان للتَّنعُّمِ أو غيرِه.
وخامسُها: لَمَّا كان قولُه: لَا أَعْبُدُ مُحتمِلًا أنْ يُرادَ به الآنَ، ويَبْقى المُستقبَلُ مُنتظرًا ما يكونُ فيه؛ جاء البَيانُ بقولِه: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، أي: أبدًا وما حَيِيتُ، ثمَّ جاء قولُه: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ الثَّاني حَتْمًا عليهم أنَّهم لا يُؤمِنون أبدًا، فهذا معْنى التَّرديدِ في هذه السُّورةِ، وهو بارعُ الفَصاحةِ، وليس بتَكرارٍ فقطْ.
وسادسُها: أُريدَ به العبادةُ فيما يُستقبَلُ، والمعنى: لا أفعَلُ في المستقبَلِ ما تَطلُبونه مِنِّي مِن عِبادةِ آلهتِكم، ولا أنتم فاعِلون فيه ما أطلُبُه منكم مِن عِبادةِ إلهي، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، أي: وما كنتُ قَطُّ عابدًا فيما سَلَفَ ما عَبَدْتُم فيه، يعني: ما عُهِدَ مِنِّي قَطُّ عِبادةُ صَنَمٍ في الجاهليَّةِ، فكيف يُرْجى منِّي في الإسلامِ؟! وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أي: وما عبَدْتُم في وقْتٍ ما أنا على عِبادتِه الآنَ.
والقولُ الثَّاني: هو أنْ يُسلَّمَ حُصولُ التَّكرارِ، وهو لوَجهينِ:
أحدُهما: أنَّ التَّكرارَ يُفيدُ التَّوكيدَ، وكلَّما كانتِ الحاجةُ إلى التَّوكيدِ أشدَّ كان التَّكريرُ أحسَنَ، ومِن مذاهبِ العربِ واستعمالاتِهم أنَّهم إذا أرادوا التَّأكيدَ كرَّروا، والقُرآنُ قدْ نزَلَ بلِسانِ العَربِ، ولا مَوضعَ أحوجُ إلى التَّأكيدِ مِن هذا المقامِ؛ لأنَّهم رَجَعوا إليه في هذا المعنى مِرارًا، وطَمِعوا فيه لِما رَأَوا فيه مِن الحرْصِ على إيمانِهم؛ فقولُه: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ تَأكيدٌ لقولِه: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وقولُه: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 5] تَأكيدٌ لقولِه: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 3] ، وفائدةُ هذا التَّأكيدِ هنا قطْعُ أطماعِ الكُفَّارِ عن أنْ يُجيبَهم رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ما سألوه مِن عِبادتِه آلهتَهم، وتَحقيقُ الإخبارِ بمُوافاتِهم على الكُفْرِ، وأنَّهم لا يُسلِمونَ أبدًا.
وثانيهما: أنَّهم ذَكَروا تلك الكلمةَ مرَّتينِ، يعني: تَعبُدُ آلهتَنا شَهرًا، ونَعبُدُ إلهَك شَهرًا، وتَعبُدُ آلهتَنا سَنةً، ونَعبُدُ إلهَك سَنةً، فأتَى الجوابُ على التَّكرارِ على وَفْقِ قَولِهم، وفيه ضَربٌ مِن التَّهكُّمِ؛ فإنَّ مَن كرَّرَ الكلمةَ الواحدةَ لغرَضٍ فاسدٍ، فإنَّه يُجازى لدَفْعِ تلك الكلمةِ على سَبيلِ التَّكرارِ استخفافًا .
- وعُبِّر بـ (ما) الَّتي لغيرِ العُقلاءِ في المواضعِ الأربعةِ؛ لأنَّه يجوزُ ذلك، والنُّكتةُ في ذلك أنْ يَجريَ الكلامُ على نمطٍ واحدٍ ولا يَختلِفَ .
- قَولُه: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ تَذييلٌ وفَذْلَكةٌ للكلامِ السَّابقِ بما فيه مِن التَّأكيداتِ، وقد أُرسِلَ هذا الكلامُ إرسالَ المَثَلِ .
- قَولُه: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، أي: لكمْ شِركُكم ولي تَوحيدِي، وهذا غايةٌ في التَّبرُّؤِ، ولَمَّا كان الأهمُّ انتِفاءَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن دِينِهم؛ بَدَأَ بالنَّفيِ في الجُمَلِ السَّابقةِ بالمَنسوبِ إليه .
- قَولُه: لَكُمْ دِينَكُمْ تَقريرٌ لقولِه تعالَى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وقولِه تعالَى: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، كما أنَّ قولَه تعالَى: وَلِيَ دِينِ تَقريرٌ لقولِه تعالَى: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، والمَعْنى: أنَّ دِينَكم -الَّذي هو الإشراكُ- مَقصورٌ على الحُصولِ لكم، لا يَتجاوَزُه إلى الحُصولِ لي أيضًا كما تَطمَعونَ فيه، فلا تُعلِّقُوا بهِ أمانيَّكُم الفارغةَ؛ فإنَّ ذلكَ مِن المُحالاتِ، وأنَّ دِيني -الَّذي هو التَّوحيدُ- مَقصورٌ على الحُصولِ لي لا يَتجاوَزُه إلى الحُصولِ لكُم أيضًا؛ لأنَّكم علَّقْتُموه بالمُحالِ الَّذي هو عِبادتي لآلهتِكم، أو استِلامي إيَّاها، ولأنَّ ما وعَدْتُمُوه عَينُ الإشراكِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ هذا تَقريرًا لقولِه تعالَى: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، أيْ: ولِي دِيني لا دِينُكم .
- وفي كِلْتا الجُملتينِ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ قُدِّمَ المُسنَدُ على المسنَدِ إليه؛ ليُفيدَ قصْرَ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ، أي: دِينُكم مَقصورٌ على الكَونِ بأنَّه لكم لا يَتجاوَزُكم إلى الكونِ لي، ودِيني مَقصورٌ على الكَونِ بأنَّه لا يَتجاوَزُني إلى كَونِه لكمْ، أي: لأنَّهم مُحقَّقٌ عَدَمُ إسلامِهِم، فالقصْرُ قصْرُ إفرادٍ ، واللَّامُ في الموضعَينِ لشِبهِ المِلكِ، وهو الاختصاصُ أو الاستحقاقُ .
- وأيضًا قدَّمَ قِسْمَهم ونَصيبَهم على قِسْمِه ونَصيبِه هنا، وفي أوَّلِ السُّورةِ قدَّمَ ما يَختَصُّ بهم؛ وذلك لوَجْهينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ السُّورةَ لَمَّا اقتَضَت البَراءةَ، واقتسامَ دِينَيِ التَّوحيدِ والشِّركِ بيْنَه وبيْنَهم، ورَضِيَ كلٌّ بقِسْمِه، وكان المُحِقُّ هو صاحبَ القِسمةِ، وقد بَرَّزَ النَّصيبينِ، ومَيَّزَ القِسْمينِ، وعُلِمَ أنَّهم راضونَ بقِسْمِهم الدُّونِ الَّذي لا أردَأَ منه، وأنَّه هو قدِ استَولى على القِسمِ الأشرَفِ والحظِّ الأعظَمِ بمَنزلةِ مَن اقتسَمَ هو وغيرُه سمًّا وشِفاءً، فرَضِيَ مُقاسِمُه بالسُّمِّ؛ فإنَّه يقولُ له: لا تُشارِكُني في قِسْمِي، ولا أشارِكُك في قِسْمِك؛ لك قِسْمُك، ولي قِسْمي، فتَقديمُ ذِكرِ قِسْمِه هاهنا أحسَنُ وأبلَغُ، كأنَّه يقولُ: هذا هو قِسْمُك الَّذي آثَرْتَه بالتَّقديمِ وزَعَمْتَ أنَّه أشرَفُ القِسمينِ وأحقُّهما بالتَّقديمِ، فكان في تَقديمِ ذِكرِ قِسْمِه مِن التَّهكُّمِ به والنِّداءِ على سُوءِ اختيارِه وقُبْحِ ما رَضِيَه لنفْسِه؛ مِن الحُسنِ والبيانِ ما لا يُوجَدُ في ذِكرِ تَقديمِ قِسْمِ نفْسِه.
والوجهُ الثَّاني: أنَّ مَقصودَ السُّورةِ بَراءتُه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن دِينِهم ومَعبودِهم، هذا هو لُبُّها ومَغْزاها، وجاء ذِكرُ بَراءتِهم مِن دِينِه ومَعبودِه بالقصْدِ الثَّاني مُكمِّلًا لبَراءتِه ومُحقِّقًا لها، فلمَّا كان المقصودُ بَراءتَه مِن دِينِهم بدَأَ به في أوَّلِ السُّورةِ، ثمَّ جاء قولُه: لَكُمْ دِينَكُمْ مُطابِقًا لهذا المعنى، أي: لا أُشارِكُكم في دِينِكم ولا أُوافِقُكم عليه، بلْ هو دِينٌ تَختصُّون أنتم به لا أشْرَكُكم فيه أبدًا، فطابَقَ آخِرُ السُّورةِ أوَّلَها .