موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (2-6)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ

غريب الكلمات:

وَلَا تَتَبَدَّلُوا: أي: لا تَأكُلوا أموالَ اليتامى بدلًا من أكْل أموالِكم، وأصلُ بدَل: قيامُ الشيءِ مقامَ الشيءِ الذَّاهب [63] ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/210)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/58). .
حُوبًا: أي: إثمًا؛ قال: فلانٌ يَتَحَوَّبُ من كذا، أي: يتأثَّم، والتَّحوُّبُ التوجُّع، والحَوْبَة الحاجةُ أو المسكَنة، وأصْلُ (حوب): الإثمُ أو الحاجةُ والمسكنةُ، وقيل: مأخوذ من قولهم: حَوْبُ؛ لزَجْرِ الإبل [64] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/199)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/113)، ((المفردات)) للراغب (1/261)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/135). .
تَعُولُوا: أي: تَجُوروا وتَميلوا، ويُطلقُ كذلك على ما يُهلِك، وما يُثقِل، وأصْلُه: تركُ النَّصَفة بأخْذ الزِّيادة [65] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/119)، ((المفردات)) للراغب (1/597)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/135)، ((الكليات)) للكفوي (1/318). .
مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاعَ: أي: اثنتينِ اثنتينِ، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا، وهذه الألفاظُ لا تنصرفُ للعدلِ والوصفِ [66] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 175، 178)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 135). .
صَدُقَاتِهِنَّ: أي: مُهورَهنَّ، واحدتُها صَدُقة، وأصل (صدق): القوَّة في الشَّيء قولًا كان أو غيره [67] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/119)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/339)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136). .
نِحْلَةً: أي: هِبة، أو فريضةً عن طِيب نفْس من غيرِ مُطالَبة، وأصل النِّحلة: العَطيَّةُ على سبيل التبرُّع، وهي أخصُّ من الهِبة [68] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/119، 120)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/477)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/402، 403)، ((المفردات)) للراغب (1/795)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/59)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136)، ((الكليات)) للكفوي (1/914). .
هَنِيئًا: الهَنِيء: كلُّ ما لا يَلحَق فيه مشقَّة، ولا يُعقِب وخامةً؛ يُقال: هَنِئ الطَّعام فهو هَنِيء، وكذلك مشتقٌّ من هناء الإبل؛ فإنَّه شفاءٌ من الجَرَب، وأصل (هنأ): إصابةُ خيرٍ من غير مشقَّة [69] ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/68)، ((المفردات)) للراغب (1/846)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136)، ((الكليات)) للكفوي (1/963). .
مَرِيئًا: أي: بلا داءٍ، والمريءُ: المحمودُ العاقبة؛ يُقال: أَمْرأ الطَّعام، إذا انهضَمَ وحُمِدتْ عاقبتُه، ويُقال: مَرُؤ الطعام وأمرأ: إذا تخصَّص بالمريءِ؛ لموافقةِ الطَّبع [70] ينظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 59)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136). .
لَكُمْ قِيَامًا: أي: قِوامًا، وهو ما يقومُ به أمْرُكم، وأصل (قوم): مراعاةُ الشَّيء والحِفظُ له، والانتصابُ والعزم [71] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/120)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/385)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43)، ((المفردات)) للراغب (1/690)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136). .
آنَسْتُمْ: أي: وجدتُم وعلِمتُم، وتبيَّنتُم وعَرَفتُم، وأصل الإيناس: الرُّؤية والعِلمُ، والإحساسُ بالشَّيء، وكذلك: ظُهورُ الشَّيء، وكلُّ شيءٍ خالَفَ طريقةَ التوحُّش [72] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/120، 277، 303)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/54)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/145)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136)، ((الكليات)) للكفوي (1/202). .
رُشْدًا: عقلًا، أو إصلاحًا، أو خيرًا، والرُّشد يُطلق كذلك على الدِّين والهِداية، وهو خلافُ الغيِّ، وأصل (رشد): استقامةُ الطَّريق [73] ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/398)، ((المفردات)) للراغب (1/354)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136)، ((الكليات)) للكفوي (1/483). .
وَبِدَارًا: مُبادَرة، أو مسارَعة؛ يُقال: بدرتُ إليه وبادرتُ، ويُعبَّر عن الخطأِ الذي يقَعُ عن حِدَّةٍ؛ يُقال: كانتْ من فلان بوادرُ في هذا الأمرِ، وأصل (بدر): الإسراعُ إلى الشَّيء [74] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/208)، ((المفردات)) للراغب (1/110)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136). .
فَلْيَسْتَعْفِفْ: أي: ليتركْ ولا يأكُلْ مِن مال اليتيم، والعِفَّة: الامتناعُ عن مقاربةِ المحرَّم، وهي أيضًا: حُصولُ حالةٍ للنَّفس تمتنعُ بها عن غلَبةِ الشَّهوة،، والاستعفافُ: طلبُ العِفَّة، وأصلُ (عفف): الاقتصارُ على تناوُلِ الشَّيءِ القليل [75] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/121)، ((المفردات)) للراغب (1/573)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/136). .

مشكل الإعراب:

1- قوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا:
نِحْلَةً: منصوبةٌ على المصدرِ، والعاملُ فيها الفعلُ قَبْلَها؛ لأنَّ آتُوهُنَّ بمَعْنى انحِلوهُنَّ، وذلِك نحو: قَعَدْتُ جُلوسًا. ويجوز أن تَكون نِحْلَةً مَصدرًا واقعًا موقعَ الحالِ مِن واو الجماعةِ في قوله: وَآتُوا، أي: وآتوهنَّ ناحِلينَ، أو مِن النِّسَاءَ أي: مَنحولاتٍ. وقيل غير ذلك [76] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/188)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/329)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/571). .
نَفْسًا: منصوبٌ على التَّمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعِل؛ إذ الأصلُ: فإنْ طابتْ أنفسُهن، وجِيء بالتَّمييز هنا مُفردًا، وإنْ كان قبْله طِبْنَ وهو جمْعٌ- حيث لم يقُل (أنفسًا)-؛ لعدمِ اللَّبْس؛ إذ مِن المعلومِ أنَّ الكلَّ لَسْنَ مُشتركاتٍ في نفْسٍ واحدة، فالمعنى مفهوم، وحسُن ذلك أنَّ نَفْسًا هنا في مَعْنى الجِنس [77] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/190)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/329)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/573). .
2- قوله: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا:
أَنْ يَكْبَرُوا: مصدرٌ مؤوَّل بالصَّريح، أي: (كِبَرَهم)، وإعرابُه فيه وجهان؛ الأوَّل: أنَّه مفعولٌ بالمَصْدَر بِدَارًا، أي: وبِدَارًا كِبَرَهم، كقوله: أَوْ إِطْعَامٌ... يَتِيمًا [البلد: 14-15] . والثاني: أنَّه مفعولٌ من أجْلِه على حذْفِ مضافٍ، أي: مَخافةَ أنْ يَكبَروا، وعلى هذا فمفعول بِدَارًا، محذوفٌ [78] ينظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/192)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/332)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/585- 586). .

المَعنَى الإجمالي:

يأمُر اللهُ سبحانه وتعالى الأوصياءَ بإعطاء اليتامَى أموالهم، مُتْبِعًا ذلك الأمرَ بنهْيِهم عن استبدالِ الخبيثِ من المال بالطيِّب منه، وذلك حين يأخذونَ من مال الأيتامِ، ويتركونَ ما أحلَّه الله لهم مِن غَيره، أو أن يجعلوا رَديءَ المالِ لهم بدلَ الجيِّد، كما نهاهم عن ضمِّ أموالِ الأيتامِ إلى أموالهم بقَصْدِ أكلِها بالباطل؛ فإنَّه إثمٌ عظيم.
ثم يُرشِد اللهُ سبحانه وتعالى مَن يخافون ألَّا يعدِلوا- في حال تزوَّجوا بنساءٍ يتامى ممَّن تحت ولايتهم- أو أنْ يُقصِّروا في حقوقهن، يوصيهم أن يَدَعُوهنَّ ويتزوَّجوا غيرهنَّ ممَّن ترتضي نفوسهم، اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فإنْ خافوا ألَّا يُقيموا العدلَ في حالة عدَّدوا النساء، فليقتصروا على الزواج بزوجةٍ واحدة، أو الاكتفاء بما يملكون من الجواري؛ فإنَّ ذلك أقربُ إلى ألَّا يَظلموا.
ثم يأمُر الله تعالى مَن أراد الزواجَ بإعطاء النِّساءِ المرادِ الزواجُ منهن مهورَهنَّ عطيَّةً واجبةً، طيِّبة بها نفوسُهم، فإنْ طابت نفوسُ النِّساء عن بعضِ المهر أو كلِّه، فوهبْنَه لأزواجهنَّ، فلا حرَجَ عليهم من أخْذه.
ثم يَنهى اللهُ الناسَ أن يُعطوا أموالَهم التي يقوم بها عيشُهم، مَن لا يُحسِن التصرُّفَ فيها، كذلك نهاهم أن يُعطوا مَن لا يحسنون التصرُّفَ في أموالِهم التي يملكونها، إنْ كانوا أوصياءَ عليهم، ولكن عليهم أن يُنفِقوا عليهم منها فيما يحتاجونه في حياتِهم؛ من طعام وشراب، وملبس ومسكن، وأن يقولوا لهم قولًا طيِّبًا تطيبُ به نفوسُهم.
ثم يأمُر تعالى الأوصياءَ أن يختبِروا الأيتامَ في دِينهم، وعقولِهم وتصرُّفِهم، قبل بلوغهم، فإذا ما بلغوا الحُلُمَ، ورأَوْا فيهم حُسْنَ التصرُّف، والقُدرة على إصلاح المالِ، فلْيعُطوهم أموالَهم، ونهاهم سبحانه عن أنْ يأخذوا مِن أموالِ اليَتامى شيئًا مِن غيرِ حاجةٍ، أو أنْ يُبادِروا بأكْلِها في حال صِغَرِهم؛ قبل أنْ يَكبَروا فيَأخُذوا أموالَهم ويمنعوهم منها، وأمَرَ الله تعالى مَن كان غنيًّا أن يتركَ للأيتام أموالَهم، ويكتفيَ بما رزقه الله، ومَن كان منهم ذَا حاجةٍ فليأخُذْ ما تعارَفَ عليه الناسُ أنه يسدُّ حاجةَ أمثالِه من الفقراء، وأَرشدَهم اللهُ أن يُشهِدوا على الأيتامِ حين يُسلِّمونَهم أموالَهم، وكفَى باللهِ شهيدًا ومُحاسِبًا، ورقيبًا عليهم.

تفسير الآيات:

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
مناسبةُ عطفِ الأمْر على ما قَبلَه: أنَّه مِن فروعِ تقوى اللهِ في حقوقِ الأرحام؛ لأنَّ المتصرِّفين في أموال اليتامى في غالبِ الأحوالِ هم أهلُ قَرابتهم، أو مِن فروعِ تقوى الله الذي يتساءَلون به وبالأرحامِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/218). .
وأيضًا لَمَّا افتَتَح السُّورةَ بذِكر ما يدلُّ على أنه يجبُ على العبدِ أن يكون منقادًا لتكاليفِ الله سبحانه، محترزًا عن مساخِطِه، شرَعَ بعد ذلك في شَرْح أقسامِ التكاليفِ، فبدأ بما يتعلَّق بأموال اليتامى يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/482). ؛ لأنَّهم صاروا بحيث لا كافِلَ لهم، ففارق حالُهم حالَ مَن له رحِمٌ ماسَّة يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/500). .
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ
أي: أعطُوا- يا مَعشرَ أوصياءِ اليتامى- أموالَهم إليهم كاملةً، إذا بلغوا الحُلُمَ ورَشَدُوا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/351)، ((تفسير ابن كثير)) (2/207)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/220). .
كما قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] .
وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
 أي: لا تأخذوا مالَ اليتيمِ بغيرِ حقٍّ، وتَتركُوا ما أحلَّ اللهُ تعالى لكُم مِن غيرِ ذلك، ومِن استبدالِ الخبيثِ بالطيِّبِ أنْ يأخُذَ الوليُّ مِن مالِ اليتيمِ النَّفيسَ، ويجعل بدلَه من مالِه الخسيسَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/20-21). .
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ
أي: لا تضُمُّوا أموالَ اليتامَى إلى أموالِكم؛ بقصد أن تأكلوا أموالَهم بالباطلِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/24). .
إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا
أي: إنَّ ضمَّ أموالِ اليتامى مع أموالكم بقَصْد أكلِها بالباطل، إثمٌ عظيم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/356)، ((تفسير ابن كثير)) (2/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/220). .
كما قال الله عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
سببُ النُّزولِ:
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، أنَّ رجلًا كانت له يتيمةٌ فنَكَحَها، وكان له عَذْق العَذْق- هُنا بفَتْحِ العين المُهمَلة-: وهو النَّخلة بكَمالِها. وأمَّا العِذْق- بكسر العين المهملة- فهو الغُصنُ (العُرجُون بما فيه من الشَّماريخ) من النَّخلة، وليس مرادًا هنا. ((شرح النووي على مسلم)) (7/33) و(18/157)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/199). ، وكان يُمسكها عليه، ولم يكُن لها من نفْسِه شيءٌ، فنزلت فيه وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى- أحسَبه قال: كانتْ شريكتَه في ذلِك العَذْق وفي مالِه رواه البخاري (4573) واللفظ له، ومسلم (3018) بنحوه. .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
أي: وإنْ خِفتُم ألَّا تحقِّقوا في تزوُّجِكم بيتامى النِّساء اللاتي تحت ولايتكم، العدلَ معهنَّ والقيامَ بحُقوقهنَّ يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/26). قال القرطبيُّ: (اتَّفق كلُّ مَن يعاني العلوم على أن قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى ليس له مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أنَّ من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكِحَ أكثرَ من واحدة: اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا كمَن خاف. فدلَّ على أنَّ الآية نزلت جوابًا لمن خاف ذلك، وأنَّ حُكمها أعمُّ من ذلك) ((تفسير القرطبي)) (5/13). .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها في قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا الآية. قالت: أُنزلتْ هذه في الرَّجُل يكونُ له اليتيمةُ وهو وليُّها ووارِثُها، ولها مالٌ وليس لها أحدٌ يُخاصِمُ دونها، فلا يَنكحُها حبًّا لمالها، ويَضْرِبها ويُسيءُ صُحبتَها، فقال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يقول: ما أحللتُ لكم، ودَعْ هذه التي تضرُّ بها رواه البخاري (4573) بنحوه، ومسلم (3018) واللفظ له. .
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
أي: فإنْ خَشِيتُم عدَم إقامة العدل معهنَّ، فانكحوا غيرهنَّ ممَّن تطيبُ بهنَّ نفوسكم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/27-28). قال الجصاص: (قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم لا خلافَ أنَّ المراد به العَقْد) ((أحكام القرآن)) (2/71). .
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
أي: مُباحٌ لكم أن تتزوَّجوا باثنتين من النِّساء، أو بثلاث، أو بأربعٍ يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/209)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء))  (1/28-29). وكلُّ واحد من هذه الأعدادِ يدلُّ على المكرَّر من نوعِه، وعلَّة التكرار هنا (أنَّ الخطاب لجماعةٍ؛ فيجوز لكلِّ واحد منهم أن ينكحَ ما أراد من تِلك الأعداد، فتكرَّرت الأعدادُ بتَكرار الناس، والمعنى: انكِحوا اثنتينِ أو ثلاثًا أو أربعًا). ((تفسير ابن جزي)) (1/178). قال القرطبيُّ: (اعلم أنَّ هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدلُّ على إباحة تسع، كما قال من بعُد فَهمُه للكتاب والسُّنة، وأعرض عمَّا كان عليه سلفُ هذه الأمَّة، وزعم أنَّ الواو جامعة، وعضَّد ذلك بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نكَح تِسعًا، وجمع بينهن في عِصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضةُ وبعضُ أهل الظاهر، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع. وذهب بعضُ أهل الظاهر أيضًا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمْع بين ثمان عشرة، تمسُّكًا منه بأنَّ العدل في تِلك الصِّيغ يُفيد التَّكرار، والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين، وكذلك ثلاث ورُباع. وهذا كلُّه جهل باللِّسان والسُّنَّة، ومخالفة لإجماع الأمَّة؛ إذ لم يُسمعْ عن أحد من الصَّحابة ولا التابعين أنَّه جمَع في عِصمته أكثرَ من أربع) ((تفسير القرطبي)) (5/17). وقال محمد رشيد رضا: (آية: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لم تُنسَخ بالإجماع، فإذًا يلزمُ العملُ بمدلولها ما دام الكتاب) ((تفسير المنار)) (4/302). .
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً
أي: فإنْ خَشِيتُم عدمَ إقامَةِ العَدلِ بتَعدادِ النِّساء، فلْتَقْتصروا على التزوُّج بواحدةٍ فحسبُ يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/212)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء))  (1/30). شرَع الله تعالى تعدُّدَ النساء للقادرِ العادلِ لمصالح جَمَّة: - منها: أنَّ في ذلك وسيلةً إلى تكثير عدد الأمَّة بازدياد المواليد فيها. - ومنها: أنَّ ذلك يُعين على كفالة النِّساءِ اللائي هنَّ أكثرُ من الرِّجال في كلِّ أمَّة؛ وذلك لأنَّ الأنوثةَ في المواليد أكثرُ من الذكورة، ولأنَّ الرِّجال يَعرِض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشَّدائد ما لا يعرِض للنِّساء، ولأنَّ النساء أطولُ أعمارًا من الرِّجال غالبًا. - ومنها: أنَّ الشريعة قد حرَّمت الزِّنا، وضيَّقت في تحريمه؛ لِمَا يجرُّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونِظام العائلات، فناسَب أن تُوسِّع على الناس في تعدُّدِ النساء لِمَن كان من الرجال ميَّالًا للتعدُّد، مجبولًا عليه. - ومنها: قصدُ الابتعاد عن الطَّلاق إلَّا لضَرورة. ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/226). .
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
أي: أو اقتصِروا على الجواري السَّراري؛ فإنَّه لا يجب عليكم القَسْمُ بينهنَّ يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/212)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/30). .
ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
أي: إنْ خفتم ألَّا تعدِلوا بين النساء إن عدَّدْتُم، فاقتصرتُم لذلك على واحدة، أو تسرَّرتم مِلْكَ أيمانكم، فذلك أقربُ إلى تحقيقِ العَدلِ، والبُعدِ عن الجَور والظُّلْم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/375)، ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164). قال الواحديُّ: (ومعنى تَعُولُوا: تَميلُوا وتَجورُوا، عن جميعِ المفسِّرين) ((التفسير الوسيط)) (2/9). وما حكاه الواحدي إجماعًا هو في الواقعِ قولُ الجمهور؛ لأنَّ الخلافَ في ذلك واقعٌ بين السَّلف. يُنظر: ((الإجماع في التفسير)) للخضيري (ص: 253-254). .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان هناك جانَبانِ مُستضعَفانِ في الجاهليَّة: اليتيمُ، والمرأة، وحقَّانِ مغبونًا فيهما أصحابُهما: مالُ الأيتام، ومالُ النِّساء؛ فلذلك حرَسَهما القرآنُ أشدَّ الحراسةِ فابتدأَ بالوصايةِ بحقِّ مالِ اليتيم، وثنَّى بالوصاية بحقِّ المرأةِ في مال ينجرُّ إليها لا محالةَ، وكان توسُّطُ حُكم النِّكاح بين الوصايتين أحسنَ مناسبةٍ تهيِّئ لعطف هذا الكلام يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/229). .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً
أي: أعطُوا من أَرَدْتم الزواجَ بهنَّ من النساء مهورَهنَّ، عطيةً واجبةً، طيبةً بها نفوسُكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/380)، ((تفسير ابن كثير)) (2/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/35). وقيل: الخطابُ لأولياءِ المرأة أيضًا. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/34). .
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا
أي: فإنْ وهَب لكم نساؤُكم- أيُّها الأزواج- مُهورَهنَّ أو بعضًا منها، عن رِضًا وطيبِ نفْس منهنَّ بذلك يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/35). .
فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
أي: فخذوه حلالًا طيِّبًا لكم، لا حرجَ عليكم في ذلك ولا تَبِعة يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/11)، ((تفسير ابن كثير)) (2/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164). .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
عُطِفتْ هذه الآيةُ على قوله: وَآتُوا الْيَتَامَى وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ؛ لبيانِ الحالِ التي يُمنَع فيها السَّفيهُ من مالِه، والحال التي يُؤتَى فيها مالَه، كأنَّه تعالى يقول: إنِّي وإنْ كنتُ أمرتُكم بإيتاءِ اليتامى أموالَهم، وبدَفْع صدقاتِ النِّساء إليهنَّ، فإنَّما قلت ذلك إذا كانوا عاقِلين بالِغين، متمكِّنين من حِفظِ أموالهم، فأمَّا إذا كانوا غيرَ بالغين، أو غير عقلاء، أو إنْ كانوا بالغين عقلاءَ إلَّا أنهم كانوا سفهاءَ مُسرِفين، فلا تدفعوا إليهم أموالهم، وأمسكوها لأجْلهم إلى أن يزولَ عنهم السَّفَهُ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/494)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/233). .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا
أي: لا تُعطوا- أيُّها الناس- أموالَكم التي جعَلَها الله لكم قِيامًا- يقوم بها عيشُكم، وتحقيق مصالحكم- لا تعطوها لِمَن لا يُحسِن التصرُّفَ في المال، والقيام عليه وحِفظه؛ إمَّا لعدم عقْله كالمجنون، أو لعدم رُشده كالصَّغير، أو لغير ذلك من أسباب، حتَّى لو كان هذا المالُ مالَهم على الحقيقةِ وأنتُم عليه أوصياءُ، فلا تُعطوهم إيَّاه طالَما كانوا سفهاءَ لا يُحسنون التصرُّفَ فيه؛ كي لا يَهلِك، وليكُنْ حرصُكم على أموالهم كحِرصِكم على أموالِكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/394-397)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/38-39). .
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا واكْسُوهُمْ
أي: ولكنْ أنفِقوا من تلك الأموالِ على طعامِهم وشَرابِهم ومَلابِسهم وما يتعلَّق بضروراتِ عَيشِهم كمَسكنِهم، وليتَكم تتَّجِرون لهم في مالِهم؛ كي ينموَ ويكونَ الإنفاقُ عليهم من الرِّبح، لا مِن أصلِ المالِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/39). .
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
أي: وقولوا لهم قولًا طيِّبًا، كأنْ تَعِدُوهم إنْ طلبوا أموالَهم، بأنَّها ستُدفَع إليهم بعدَ رُشدهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164). ، أو حين إعطائكم لهم رزقًا أو كسوةً ونحو ذلك، قولوا لهم قولًا هيِّنًا وليِّنًا بغير منٍّ ولا أذًى يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/39-40). .
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6).
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى
أي: اختبِروا عقولَ الأيتامِ ممَّن تحت ولايتِكم، وذلك قُبيلَ وصولِهم سِنَّ البلوغ، واختبِروا أفهامَهم، وصلاحَ دِينهم، وقُدرتَهم على إصلاح أموالهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 164-165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/42). .
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
أي: اختبِروهم إلى أن يَصِلوا سِنَّ البلوغِ، فإذا بلغوا الحُلُمَ، وأدركتم منهم حُسنَ تصرُّفٍ، وقدرةً على إصلاح الأموال يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/404-407)، ((تفسير ابن كثير)) (2/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/42-43). قال الماوردي: (حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ يعني الحُلُم في قول الجميع) ((تفسير الماوردي)) (1/453). .
كما قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام: 152] .
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
أي: فأعطوهم في هذه الحالِ أموالَهم كاملةً، ولا تَحبِسوها عنهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/43). .
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا
أي: لا تَأخُذوا من أموالِ اليَتامى شيئًا من غيرِ حاجةٍ، فتتجاوزوا في ذلك إلى غيرِ ما أباحَه اللهُ تعالى لكم مِن أموالِهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/408)، ((تفسير ابن كثير)) (2/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/43-44). .
وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا
أي: لا تَأكُلوها في حالِ صِغَرِهم- قبلَ بُلوغِهم وإيناسِ الرُّشدِ منهم- التي لا يُمكنُهم فيها أخذُها منكم، ولا مَنعُكم من أكْلِها، لا تأكلوها استعجالًا منكم بذلِك قبل أن يَكبَروا، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/409)، ((تفسير ابن كثير)) (2/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/43-44). .
وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
أي: ومَن كان مِن أولياء اليتامى في غنيةٍ عن أموالهم، فليتنزَّهْ عن أخْذِ أُجرةٍ من مالِ اليتيمِ نظيرَ قيامِه عليه، ولْيَكتفِ بماله يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/411)، ((تفسير ابن كثير)) (2/216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/44). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (5/41). .
وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
أي: ومَن كان ذا حاجةٍ من أولياء اليَتامى، أخَذَ من أموالهم بحسَب ما جرَى العُرْف على أنَّه يَسدُّ حاجتَه ويَكفي مِثلَه من الفُقراء وهذا اختيارُ ابن عاشور في ((تفسيره)) (4/245)، وابن عثيمين في ((تفسير سورة النساء)) (1/44). قال ابنُ عاشور: (وهو تخصيصٌ لعموم النَّهي عن أكْل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين؛ للترخيصِ في ضَربٍ من ضروب الأكل، وهو أنْ يأكل الوصيُّ الفقيرُ من مال محجوره بالمعروف، وهو راجعٌ إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحتِه؛ لأنه إذا لم يُعطَ وصيُّه الفقير بالمعروف ألْهاه التدبيرُ لقُوتِه عن تدبيرِ مال محجوره، وفي لفظ المَعْرُوف، حوالةٌ على ما يناسب حالَ الوصي ويتيمه بحسَب الأزمان والأماكن). ((تفسير ابن عاشور)) (4/245). وقال ابنُ عثيمين: (قوله: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، أي: فليأكلْ أكلًا بالمعروف، أي: بما جرَى به العُرف، فلا يأكُل أكْلَ الأغنياء، وإنما يأكُل أكْلَ مثله) ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/44). وقال أيضًا: (وظاهرُ الآية أنه يأكل بالمعروف ولو زادَ على قدْر الأجرة...؛ لأنَّ الوليَّ محبوسٌ على التصرُّف لليتيم؛ فلا بدَّ له مِن مَأْكلٍ ومَشربٍ، فليأكل بالمعروف، وأيضًا فإنَّ هذا الوليُّ ليس كالأجير الأجنبي في مراعاة مال اليتيم؛ فلا ينبغي أن نلحقَه بالأجيرِ الأجنبي، لكن المعروف عند الفقهاء أنه يأخُذُ الأقلَّ من أجرته أو كفايته) ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/46). واختار ابنُ جرير أنَّ المعنى: أكْل مال اليتيم عندَ الضرورةِ والحاجة إليه على وجهِ الاستقراض منه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/426). ولكن قال القرطبيُّ: (رُوي عن إبراهيمَ وعطاءٍ والحسنِ البصري والنخعي وقتادةَ: لا قضاءَ على الوصيِّ الفقير فيما يأكل بالمعروف؛ لأنَّ ذلك حقُّ النظر، وعليه الفقهاء؛ قال الحسن: هو طُعمةٌ من الله له؛ وذلك أنه يأكل ما يسدُّ جوعته، ويَكتسي ما يسترُ عورته، ولا يلبس الرفيعَ مِن الكَتَّان ولا الحُلل، والدليل على صِحَّة هذا القول إجماعُ الأمَّة على أنَّ الإمام الناظر للمسلمين لا يجبُ عليه غرمُ ما أكل بالمعروف؛ لأنَّ الله تعالى قد فرَضَ سهمَه في مال الله؛ فلا حُجَّة لهم في قول عمر: فإذا أيسرتُ قضيتُ- أنْ لو صحَّ) ((تفسير القرطبي)) (5/42). .
عن عبد الله بن عمرٍو رضِي اللهُ عنهما ((أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: إنِّي فقيرٌ ليس لي شيءٌ ولي يتيمٌ؟ قال: فقال: كُلْ من مالِ يتيمِك غيرَ مُسرفٍ، ولا مبادرٍ، ولا مُتَأثِّل غير متأثِّل: أي: غير جامع؛ يقال: مال مُؤثَّل، ومجد مؤثَّل، أي: مجموع ذو أصل، وأثَلَةُ الشيء أصلُه. ((شرح النووي على مسلم)) (11/86)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/23). )) رواه أبو داود (2872)، والنسائي (3668)، وابن ماجه (2718)، وأحمد (7022). قال ابن حجر في ((العجاب)) (2/833): رِجاله إلى عمرٍو بن شعيب رجالُ الصَّحيح. وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في تحقيق ((مسند احمد)) (11/192)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2872): حسن صحيح. .
وعن عُروةَ بن الزُّبَيرِ رضِي اللهُ عنه، أنَّه سمِع عائشة رضِي اللهُ عنها تقول: ((وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أُنزِلَت في والي اليتيم الذي يُقيم عليه، ويُصلح في مالِه إنْ كان فقيرًا، أكَل منه بالمعروف )) رواه البخاري (2212) واللفظ له، ومسلم (3019) بنحوه. .
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
أي: إذا سلَّمتُم- يا معشرَ أولياءِ اليتامى- أموالَهم إليهم، فأَشْهِدوا عليهم بقبضها كاملةً منكم؛ لئلَّا يقعَ منهم لاحقًا إنكارٌ لِمَا تَسَلَّموه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/428-429)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 252)، ((تفسير ابن كثير)) (2/218). .
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا
أي: إنَّ الله تعالى يَكفي عن كلِّ أحدٍ آخَر من الشهود؛ محاسبةً وشهادةً ورقابةً على أولياء اليتامى يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/429)، ((تفسير ابن كثير)) (2/219)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/44-45). .

الفوائد التربوية:

1- يجبُ على الإنسانِ الاحتياطُ إذا خاف الوقوعَ في المحرَّم؛ لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يعني: ولا تُعرِّضوا أنفسكم للجَور، بل يلزم المسلمُ السَّعةَ والعافية؛ فإنَّ العافيةَ من خيرِ ما أُعطِيَ العبدُ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/31). .
2- أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا سدَّ بابَ حرامٍ، فتَح أبواب الحلال؛ لأنَّ قوله: أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى يعني: فلا تتزوجوهنَّ، ولكن فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ، وهذا من طريقة القرآن والسُّنة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/32). .
3- تحريمُ الوسائلِ المؤدِّية إلى المحرَّم؛ لقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، فأوجب الاقتصارَ على الواحدة إذا خافَ الإنسانُ عدمَ العدل، وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في أصول الفقه: «أنَّ للوسائِل أحكامَ المقاصِدِ»؛ فما لا يتمُّ الواجب إلَّا به، فهو واجبٌ، وما لا يتمُّ المندوبُ إلا به، فهو مندوبٌ، وما يحصُل به المحرَّم، فهو حرام يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/32). .
4- مَن ولَّاه الله على أحدٍ فعليه ألَّا يُغلِظَ له القولَ، بل يقول له القولَ المعروفَ؛ حتى يجمعَ بين الإحسانِ القوليِّ والفِعليِّ؛ قال تعالى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/42). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- قدَّم الله تعالى ذِكر الأمْر بالتقوى، وكون الخَلْق بأسْرِهم مخلوقين من نفْس واحدة، وذَكر عَقيبه الأمرَ بالإحسان إلى اليَتامى والنساءِ والضُّعفاءِ؛ قيل ليَصيرَ ذلك سببًا لزيادة شفقةِ الخَلقِ بعضِهم على بعضٍ، فقال تعالى أولًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ.... ثم قال بعدها: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...، ثم أتبعها بقوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً..، ثم: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ... يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/476). .
2- أنَّ اليتيمَ يملك، وملكُه تامٌّ؛ لقولِه تعالى: أَمْوَالَهُمْ، ويتفرَّع على هذه الفائدة: أنَّ الزكاة واجبةٌ عليه؛ لأنَّ الزكاة تبَع للمِلْك؛ قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] ، فإذا ثبتَتِ الملكيَّةُ ثبَت وجوبُ الزكاة، والزكاة ليستْ تكليفًا محضًا، بل هي تكليفٌ لحقِّ الغير، وهم الفقراء، فهي شبيهةٌ بالدَّين؛ ولهذا وجبتْ في أموالِ اليتامى والمجَانينِ، وإنْ كانوا غيرَ مكلَّفينَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/23). .
3- أنَّ اليتيمَ تَجِب النفقةُ في مالِه على مَن تجِبُ عليه نفقتُه، وتُؤخَذ من إثبات الماليَّة، والنفقةُ واجبةٌ على كلِّ غنيٍّ لكلِّ فقير، والبلوغ ليس بشَرْط؛ لأنَّ الله تعالى أثبت الماليَّةَ لليتامى في قوله: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وإذا ثبتت المالية؛ ترتَّب عليها ما يترتَّب على ذوي الأموال يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/23). .
4- ليس قيد إِلَى أَمْوَالِكُمْ في قوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ محطَّ النهيِ، بل النهيُ واقعٌ على أكْلِ أموالهم مطلقًا، سواءٌ كان للآكِل مالٌ يَضمُّ إليه مالَ يتيمِه أم لم يكُنْ، ولكن لَمَّا كان الغالبُ وجودَ أموالٍ للأوصياءِ، وأنَّهم يريدون مِن أكْلِ أموالِ اليتامى التكثُّرَ، ذكَر هذا القيد؛ رعيًا للغالب يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/221). ، ولأنَّ بعضَ الأولياءِ يتستَّرُ فيُدخِلُ مالَ اليتيمِ في مالِه، ولا يَعلمُ به أحدٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/25). .
5- في قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أنَّ اليَمينَ أفضلُ من اليَسارِ؛ لأنَّه أضافَ المِلْكَ إليها، ولا شكَّ أنَّ اليمينَ أفضلُ من اليَسار؛ ولهذا تُعدُّ اليمينُ للإكرامِ، واليَسارُ للإهانةِ؛ فالشيءُ الطيَّب يُتناوَلُ باليمينِ، والشيءُ الخبيثُ يُزال باليَسارِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/34). .
6- تفاضُل الأعمال؛ فبعضُها أعلى من بعضٍ في الحُسْن، وأَدْنى من بعضٍ في السُّوء؛ لقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا؛ لأنَّ الأدْنى اسمُ تفضيلٍ؛ فلا بدَّ أن يكونَ هناك فاضلٌ ومفضولٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/34). .
7- أنَّه لا يجوزُ للوليِّ أن يأخذ شيئًا من صَدَاق النِّساء؛ لأنَّه أضاف الصَّدَاقَ إليهن؛ فهو مِلْكُهن، ولأنَّا أُمِرْنا بإيتائهنَّ صدَاقَهنَّ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/36). .
8- في قوله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أنَّه يجِبُ إعطاؤهن الصَّداقَ على وَجْه النِّحلة؛ أي: العطيَّة التامَّة، فلا يكون فيه مِنَّةٌ في المستقبلِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/36). .
9- في إضافتِه تعالى الأموالَ إلى الأولياءِ في قولِه سبحانه: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، إشارةٌ إلى أنَّه يجبُ عليهم أنْ يَعمَلوا في أموالِ السُّفهاءِ ما يَفعلونَه في أموالهم؛ من الحِفْظ والتصرُّف، وعدم التعريضِ للأخطارِ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 164). .
10- في التعبير بـ (فيها) دون (منها) في قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ تنبيهٌ إلى ما يَنبغي من الاتِّجارِ في مالِ اليتيم؛ قصدًا إلى إنمائِه؛ كي لا يَنفدَ بالإنفاقِ والزَّكَاة ينظر: ((تفسير الرازي)) (9/496)، ((تفسير أبي حيان)) (3/517- 518). .
11- في إضافةِ الأموالِ إلى ضَمير المخاطَبينَ بـيَا أَيُّهَا النَّاسُ- في أوَّل السورة- إشارةٌ بديعةٌ إلى أنَّ المالَ الرائج بين الناس هو حقٌّ لمالكيه المختصِّين به في ظاهر الأمْرِ، ولكنَّه عند التأمُّل تَلُوح فيه حقوقُ الأمَّة جمعاءَ؛ لأنَّ في حصوله منفعةً للأمَّة كلِّها؛ لأنَّ ما في أيدي بعضِ أفرادِها من الثروةِ يعودُ إلى الجميع بالصَّالحة، فمِن تلك الأموالِ يُنفِق أربابُها، ويستأجِرون ويشترون، ويَتصدَّقون، ثم تُورَثُ عنهم إذا ماتوا، فينتقل المالُ بذلك مِن يدٍ إلى غيرها، فينتفع العاجزُ والعاملُ والتاجِر، والفقيرُ وذُو الكَفافِ، ومتى قلَّتِ الأموالُ من أيدي الناس، تقارَبوا في الحاجةِ والخَصاصة، فأصبحوا في ضَنْكٍ وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلةٍ أو أمَّةٍ أخرى، وذلك من أسبابِ ابتزازِ عِزِّهم، وامتلاكِ بلادِهم، وتصييرِ منافِعِهم لخِدمة غيرهم؛ فلأجْل هاتِه الحِكمة أضافَ اللهُ تعالى الأموالَ إلى جميعِ المخاطبين يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/234). .
12- في قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى العملُ بالتَّجرِبة؛ لأنَّ الابتلاء يعني: الاختبارَ عِدَّةَ تجارِب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/45). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ: هذا شروعٌ في تَفصيلِ مواردِ الاتِّقاءِ ومظانِّه بتكليفِ ما يُقابلها أمرًا ونهيًا؛ وتقديمُ ما يَتعلَّق باليتامى لإظهارِ كمال العنايةِ بأمرهم، ولملابستِهم بالأرحام؛ إذ الخطابُ للأولياءِ والأوصياء، وقلَّما تُفوَّضُ الوصايةُ إلى الأجانب يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/139-140)، ((تفسير القاسمي)) (3/9). ، وعبَّر بالإيتاء؛ للإيذان بأنَّه ينبغي أن يكونَ مرادُهم بذلك إيصالَها إليهم، لا مجرَّدَ ترْكِ التعرُّضِ لها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/139-140). .
- وقوله: اليَتَامَى: فيه تسميةُ الشيء باسم ما كان عليه، حيث سمَّاهم يتامى بعدَ البُلوغِ ((تفسير أبي حيان)) (3/532). .
2- قوله: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ: فيه تَكرارٌ؛ حيث نهى عن أخْذ مال اليتيمِ على الوجه المخصوصِ بعدَ النهيِ الضِّمنيِّ عن أخْذه على الإطلاق يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/140). ، وفي هذا تأكيدٌ على النهيِ.
3- قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ: عبَّر عن أخْذِ أموالِ اليتامى بقوله: وَلا تَأْكُلُوا من بابِ إطلاقِ اسمِ المسبَّبِ على السَّببِ وشِبهه؛ لأنَّ الأخْذ سببٌ للأكْلِ ((تفسير أبي حيان)) (3/532). .
- وفيه مِن أسرارِ البلاغة
تَخصيصُ الأعْلَى بالنَّهيِ دُونَ الأَدْنى؛ إذ إنَّ أعْلى دَرجاتِ أكْلِ مالِ اليَتيمِ في النَّهيِ أنْ يَأكلَه وهو غنيٌّ عنه، وأدْناها أنْ يأكلَه وهو فقيرٌ إليه- مع أنَّ أهل البيان يقولون: المنهيُّ متى كان درجاتٍ فطَريقُ البَلاغةِ النهيُ عن أدْناها تنبيهًا على الأعْلى- فكان المتبادر أنْ يَنهَى عن أكْل مالِ اليتيمِ مَن هو فقيرٌ إليه؛ حتى يَلزمَ نهيُ الغنيِّ عنه من طريق الأَوْلى، وفائدةُ تخصيصُ الصُّورة العُليا بالنهي في هذه الآية: أنَّ أبلغَ الكلام ما تعدَّدتْ وجوه إفادتِه، والنهي عن الأدْنى وإنْ أفاد النَّهيَ عن الأعْلى إلَّا أنَّ للنَّهي عن الأعْلى أيضًا فائدةً أخرى جليلةً لا تُؤخَذ من النهي عن الأدْنى؛ وذلك أنَّ المنهيَّ كلَّما كان أقبحَ كانتِ النفسُ عنه أنفرَ والدَّاعية إليه أبْعَد، ولا شكَّ أنَّ المستقرَّ في النُّفوسِ أنَّ أكْلَ مالِ اليتيمِ مع الغِنى عنه أقبحُ صُورِ الأكْل؛ فخُصِّص بالنهي تشنيعًا على مَن يقَعُ فيه، حتى إذا استحكَم نفورُه مِن أكْل مالِه على هذه الصورة الشَّنعاء، دعاه ذلك إلى الإحجامِ عن أكْل ماله مطلقًا؛ ففيه تدريبٌ للمخاطَب على النُّفورِ مِن المحارِم، ولا تكادُ هذه الفائدةُ تحصُل لو خُصِّص النَّهيُ بأكْلِه مع الفقر؛ إذ ليستِ الطِّباعُ في هذه الصُّورة مُعِينةً على الاجتنابِ كإعانتها عليه في الصُّورة الأولى.
ويُحقِّق مراعاةَ هذا المعنى تخصيصُه الأكْلَ، مع أنَّ تناوُلَ مالِ اليتيمِ على أيِّ وجهٍ كان، منهيٌّ عنه، كان ذلك بالادِّخار، أو بالْتباس، أو ببذله في لذَّة النكاح مثلًا، أو غير ذلك. إلَّا أنَّ حِكمة تخصيص النَّهي بالأكل: أنَّ العرب كانت تتذمَّم بالإكثار من الأكْل، وتَعُدُّ البِطنةَ من البهيميَّة، وتعيب على مَن اتَّخذها ديدنَه، ولا كذلك سائرُ الملاذِّ؛ فإنهم ربَّما يتفاخرون بالإكثار من النِّكاح ويَعدُّونه من زينةِ الدُّنيا، فلمَّا كان الأكلُ عندهم أقبحَ الملاذِّ خُصَّ النهي به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرَّها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلًا أو غيره يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنير)) (1/465). .
- وفي قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ نهَى عن أكْل مالِ اليَتامَى مع أموال المنهيِّين عنها، مع أنَّه حرَّم عليهم أكْلَ مالِ اليتامَى وحْدَه ومع أموالِهم؛ لأنَّهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزَقهم اللَّهُ من مالٍ حلالٍ وهم على ذلِك يَطمَعون فيها- كان القبحُ أبلغَ والذمُّ أحقَّ؛ ولأنهم كانوا يفعلون كذلك، فنَعى عليهم فِعلَهم وسمَّعَ بهم؛ ليكون أزجر لهم يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/463). .
4- قوله: كَانَ حُوبًا كَبِيرًا: في وصْف الحوب بالكبير مبالغةٌ في بيان عِظَم ذَنْب الأكْل المذكور، كأنَّه قيل: من كِبار الذُّنوبِ العظيمة لا مِن صِغارها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/141). .
5- قوله: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ: عبَّر النِّساءِ بـمَا التي لغيرِ العاقلِ غالبًا، ولم يقُل: (مَن طاب) كما هو المتبادَر في استعمالِ (مَن)؛ فإنَّها للعاقِل و(ما) لغيرِ العاقل تَغليبًا، والسرُّ في هذا: أنَّ (ما) تأتي لصِفاتِ مَن يَعقِلُ، وقدْ وصفَ الله النِّساءَ بالطيب، فصَحَّ استعمالُ (ما) هنا؛ فعبَّر عن النِّساءِ بـمَا ذَهابًا إلى الصِّفةِ، وقيل: لأنَّ الإناثَ مِن العُقلاءِ يَجرينَ مجرَى غيرِ العقلاءِ؛ لنُقصانِ عقْلِهنَّ يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/467)، ((تفسير البيضاوي)) (2/59). وينظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (9/486)، ((البرهان)) للزركشي (4/399-400)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/154-155). وهذا على القول المشهورِ بأنَّ (ما) تُغلَّب أو تختصُّ بغير العقلاء، و(مَن) تختصُّ بالعقلاء وربَّما استُعمل كلٌّ منهما في الآَخر. وأمَّا على القول بأنَّ (ما) من صِيَغ العموم تقعُ على العاقل وغيرِه وعلى المجموعِ؛ فليس فيه هذا الوجهُ. ينظر:  ((تفسير ابن عاشور)) (1/685)؛ حيث رجح أنها للعموم وضعف القول المشهور. .
6- قوله: أَلَّا تُقْسِطُوا، وقوله: أَلَّا تَعْدِلُوا تَكرارٌ في المعنى ((تفسير أبي حيان)) (3/532). . وهو يُفيد تأكيدَ الأمْرِ بالعدل.
7- قوله: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ جاءَ العطفُ بالواو دون (أو)؛ لأنَّ الواو دلَّت على إطلاقِ أنْ يأخذَ الناكِحون مَن أرادوا نِكاحَها من النساء على طريق الجمْع، إنْ شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإنْ شاؤوا متَّفِقين فيها، محظورًا عليهم ما وراء ذلك ((تفسير الزمخشري)) (1/468). .
- وجاء بصيغة التكرير فى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ- التي تَعني اثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا وأربعًا أربعًا-؛ لأنَّ الخِطابَ للجميع فوجَب التكريرُ؛ ليصيبَ كلُّ ناكحٍ يُريد الجمعَ ما أراد من العدد الذى أُطلق له، كما يُقال للجماعة: اقتَسِموا هذا المال- وهو ألف درهم-: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أُفْرِد لم يكُن له معنًى ((تفسير الزمخشري)) (1/468). .
8- قوله: فَكُلُوهُ: فيه تخصيص الأكْل بالذِّكر؛ لأنَّه معظمُ وجوه التصرُّفات الماليَّة يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/144). .
9- قوله: هَنِيئًا مَرِيئًا: صِفتان أُقيمتا مقامَ المَصْدَرينِ؛ كأنَّه قيل: هنأ ومرأ، وهذه عبارة عن التَّحليل والمبالغة في الإباحة، وإزالة التبعيَّة ((تفسير الزمخشري)) (1/471)، ((تفسير أبي السعود)) (2/144). .
- وإتْباعُ هَنِيئًا بـمَرِيئًا ووَصْفه به؛ فيه تأكيدٌ ((تفسير أبي حيان)) (3/532). .
10- قوله: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا:
فيه إضافةُ أموال مَن لا رُشدَ لهم إلى الأولياء -على القولِ بأنَّ هذا النَّهيَ للأولياءِ عن أن يُؤتوا الذين لا رُشدَ لهم أموالهم فيُضيِّعوها-؛ تنزيلًا لاختصاصِها بأصحابِها منزلةَ اختصاصِها بالأولياء، فكأنَّ أموالَهم عينُ أموالِهم؛ لِمَا بينهم وبينهم من الاتِّحاد الجنسي والنِّسبي؛ مبالغةً في حمْلِهم على المحافظةِ عليها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/144). .
- وقيل: أُضيفتِ الأموالُ للأولياء؛ لأنَّها في تصرُّفِ الأولياء وتحتَ ولايتهم، وهو الملائمُ للآيات المتقدِّمة والمتأخِّرة يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/60). .
11- قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرور مِنْهُمْ على المفعول رُشْدًا؛ للاهتمام بالمقدَّم، والتشويق إلى المؤخَّر يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/145). .
- وتنكير رُشْدًا وتنوينه؛ لأنَّ معناه نوعٌ من الرشد، ولا يُنتظَر به تمامُ الرُّشد تفسير أبي حيان (3/519)، ((تفسير أبي السعود)) (2/145). .
12- قوله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ: (استعفَّ) أبلغُ من (عفَّ)، كأنَّه يَطلُب زيادةَ العِفَّة من نفْسِه يُنظر:  ((تفسير الزمخشري)) (1/476)، ((تفسير الرازي)) (9/499)، ((تفسير أبي السعود)) (2/146). لكن قال ابنُ المنير- تعقيبًا على قول الزمخشريِّ: إنَّ (استعفَّ) أبلغُ من (عفَّ)، كأنَّه يَطلُب زيادةَ العِفَّة من نفْسِه-: (في هذا إشارةٌ إلى أنَّه من استفعَل بمعنى الطلب، وليس كذلك؛ فإنَّ استفعل الطلبيَّة متعدية وهذه قاصرة. والظاهر أنه ممَّا جاء فيه فَعَل واستفعل بمعنًى، واللَّه أعلم). ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنير)) (1/476). ؛ ففي هذه الآية نوعٌ طريفٌ من أنواعِ البيانِ يُطلَقُ عليه اسمُ (قوَّة اللَّفظ لقوَّة المعنى)؛ وذلك في قوله فَلْيَسْتَعْفِفْ؛ فإنَّ (استعفَّ) أبلغُ من (عفَّ)، كأنَّه يَطلُب زيادةَ العِفَّة من نفْسِه؛ هضمًا لها، وحملًا على النَّزاهة، فالألفاظُ دالَّةٌ على المعاني، فإذا زِيدَ في الألفاظِ أوجبتِ الزِّيادةُ زيادةً في المعاني، وهذا النوعُ لا يُستعمل إلَّا في المبالغة ينظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/161-162). .
- ولفظ (الاستعفاف) و(الأكْل بالمعروف) مُشعِرٌ بأنَّ الوليَّ له حقٌّ في مال الصَّبي يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/61). .
13- قوله: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم: في إيثار التعبيرِ بالدَّفْع على الإيتاءِ الوارد في أوَّل الأمر إيذانٌ بتفاوتِهما بحسَب المعنى يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/145). .
14- وقوله: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ: فيه تَكرارٌ لقوله: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ((تفسير أبي حيان)) (3/532). . وهو يُفيدُ تأكيدَ الأمْر.
- وتقديم الجارِّ والمجرور إِلَيْهِمْ على المفعول الصَّريح أَمْوَالَهُمْ؛ للاهتمامِ به يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/146). .
15- قوله: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا: الجملة تأكيدٌ للأمر بالدَّفع، وتقرير لها، وتمهيد لِمَا بعدَها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/146). .