موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (103-104)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات:

وَتُزَكِّيهِمْ: أي: تُطَهِّرُهم، وتُنَمِّيهم وتَرفَعُهم، وأصلُ (زكو): يدلُّ على نماءٍ وزيادةٍ .
وَصَلِّ: أي: استَغفِرْ وادعُ لهم .
سَكَنٌ: أي: تثبيتٌ لهم، وطُمأنينةٌ وسكونٌ، وأصلُ (سكن): يدلُّ على خِلافِ الاضطرابِ والحَرَكةِ .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ الله نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يأخُذَ مِن أموالِ المُسلِمينَ صَدَقةً يُطَهِّرُهم بها مِن دَنَس ذُنوبِهم، ويُزَكِّيهم بها، كما أمَرَه بالدُّعاءِ لهم عند أخذِ الصَّدَقاتِ؛ لأنَّ دُعاءَه لهم طُمأنينةٌ، وراحةٌ لِقُلوبِهم، واللهُ سَميعٌ عَليمٌ.
ألم يَعلَموا أنَّ الله وَحْدَه هو مَن يَقبَلُ التَّوبةَ مِن التَّائبينَ، ويقبَلُ صَدَقاتِ عِبادِه، وأنَّه هو التَّوابُ الرَّحيمُ.

تفسير الآيتين:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّهم لَمَّا أظهَروا التَّوبةَ والنَّدامةَ، عن تخلُّفِهم عن غزوةِ تَبوكَ، وهم أقَرُّوا بأنَّ السَّبَبَ الموجِبَ لذلك التخَلُّفِ حُبُّهم للأموالِ، وشِدَّةُ حِرصِهم على صَونِها عن الإنفاقِ، فكأنَّه قيل لهم: إنَّما يظهرُ صِحَّةُ قَولِكم في ادِّعاءِ هذه التَّوبةِ والنَّدامةِ، لو أخرَجتُم الزَّكاةَ الواجِبةَ، ولم تُضايقوا فيها؛ لأنَّ الدَّعوى لا تتقَرَّرُ إلَّا بالمعنى، وعند الامتحانِ يُكرَمُ الرَّجُلُ أو يهانُ؛ فإن أدَّوا تلك الزَّكَواتِ عن طِيبةِ النَّفسِ، ظهَرَ كَونُهم صادقينَ في تلك التَّوبةِ والإنابةِ، وإلَّا فهم كاذِبونَ مُزَوِّرونَ بهذا الطَّريقِ .
وأيضًا لَمَّا كان مِن شَرطِ التَّوبةِ تَدارُكُ ما يمكِنُ تَدارُكُه ممَّا فات، وكان التخلُّفُ عن الغَزوِ مُشتَمِلًا على أمرينِ، هما: عدمُ المُشاركةِ في الجهادِ، وعَدَمُ إنفاقِ المالِ في الجهادِ؛ جاء في هذه الآيةِ إرشادٌ لِطَريقِ تَدارُكِهم ما يمكِنُ تَدارُكُه ممَّا فات، وهو: نفعُ المُسلِمينَ بالمالِ .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
أي: خُذ- يا محمَّدُ- من أموالِ المُسلِمينَ صَدقةً تُطَهِّرُهم مِن دَنَسِ ذُنوبِهم .
عن جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((والصَّدَقةُ تُطفِئُ الخَطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النَّارَ )) .
وَتُزَكِّيهِم بِهَا.
أي: وتُنَمِّي أموالَهم، وتزيدُ في أخلاقِهم الحسَنةِ، وأعمالِهم الصَّالحةِ، وفي ثوابِهم الدُّنيويِّ والأُخرويِّ .
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ.
أي: وادْعُ- يا مُحمَّدُ- للمُسلِمينَ عند أخْذِك صَدَقاتِهم؛ لأنَّ دُعاءَك لهم طُمأنينةٌ، وراحةٌ لقُلوبِهم .
عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أتاه قومٌ بصَدَقَتِهم قال: اللَّهُمَّ صَلِّ عليهم، فأتاه أبي أبو أوفَى بصَدَقتِه، فقال: اللهُمَّ صَلِّ على آلِ أبي أوفَى ) .
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ سَميعٌ لأقوالِ عبادِه، مُجيبٌ لِدُعائِهم- ومن ذلك سماعُه دُعاءَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عليمٌ بنِيَّاتِهم وأحوالِهم، ويُجازيهم بحسَبِ أعمالِهم .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن القومِ الذينَ تقَدَّمَ ذِكرُهم أنَّهم تابوا عن ذُنوبِهم، وأنَّهم تصَدَّقوا، وهناك لم يُذكَرْ إلَّا قولُه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وما كان ذلك صريحًا في قَبولِ التَّوبةِ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ أنَّه يقبَلُ التَّوبةَ، وأنَّه يأخُذُ الصَّدَقاتِ، والمقصودُ ترغيبُ مَن لم يتُبْ في التوبةِ، وترغيبُ كلِّ العُصاةِ في الطاعةِ .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ.
أي: ألَم يَعلَمُوا أنَّ اللهَ وَحْدَه هو الذي يقبَلُ التَّوبةَ من التَّائبينَ، ويقبَلُ الصَّدَقاتِ مِن عبادِه إذا كانت طيِّبةً خالصةً للهِ ربِّ العالَمينَ ؟
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمَرَ المؤمنينَ بما أمَرَ به المُرسَلينَ، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَرَ أشعَثَ أغبَرَ، يمُدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ: يا ربِّ، يا ربِّ، ومَطعَمُه حَرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حَرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!)) .
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما تصدَّقَ أحدٌ بصدقةٍ من طيِّبٍ- ولا يقبلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إلَّا أخَذَها الرَّحمنُ بيَمينِه، وإن كانت تَمرةً، فتَربُو في كفِّ الرَّحمنِ حتى تكونَ أعظمَ من الجبلِ، كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيلَه ) .
وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أي: وأيضًا ألم يعلموا أنَّ الله كثيرُ التَّوبةِ عن عبادِه، ويعفو عمَّن تاب إليه، ولو تكرَّرَ منه الذَّنبُ مِرارًا، واسِعُ الرَّحمةِ بالتَّائبينَ، فلا يُعاقِبُهم بل يُثيبُهم .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا أنَّ العَبدَ لا يُمكِنُه أن يتطهَّرَ ويتزكَّى حتى يُخرِجَ زكاةَ مالِه، وأنَّه لا يُكَفِّرُها شيءٌ سوى أدائِها؛ لأنَّ الزكاةَ والتطهيرَ متوقِّفٌ على إخراجِها .
2- قال الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يُؤخَذُ من المعنى أنَّه ينبغي إدخالُ السُّرورِ على المؤمِنِ بالكلامِ اللَّيِّنِ، والدُّعاءِ له، ونحو ذلك ممَّا يكونُ فيه طُمأنينةٌ وسكونٌ لِقَلبِه مشروعٌ .
3- قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يُؤخَذُ من المعنى أنَّه ينبغي تنشيطُ مَن أنفَقَ نفقةً، وعَمِلَ عملًا صالحًا، بالدُّعاءِ له والثَّناءِ ونحوِ ذلك .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً فيه دَلالةٌ على وجوبِ الزَّكاةِ في جميعِ الأموالِ، وهذا إذا كانت للتِّجارةِ ظاهرةً، فإنَّها أموالٌ تُنمَّى ويُكتسَبُ بها، فمِنَ العَدلِ أن يُواسى منها الفُقراءُ، بأداءِ ما أوجَبَ الله فيها من الزَّكاةِ، وما عدا أموالَ التِّجارةِ، فإن كان المالُ يُنمَّى، كالحُبوب، والثِّمار، والماشية المُتَّخَذة للنَّماءِ والدَّرِّ والنَّسل، فإنها تجِبُ فيها الزكاةُ، وإلَّا لم تجِبْ فيها؛ لأنَّها إذا كانت للقِنيةِ، لم تكُن بمنزلةِ الأموالِ التي يتَّخِذُها الإنسانُ في العادةِ مالًا يُتمَوَّلُ، ويُطلَبُ منه المقاصِدُ الماليَّةُ، وإنَّما صُرِفَ عن الماليَّةِ بالقِنيةِ ونَحوِها .
2- قَولُ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يُستدَلُّ به في وجوبِ الزَّكاةِ في الماشيةِ والثِّمارِ؛ لأنَّها أكثَرُ أموالِ الصَّحابةِ إذ ذاك .
3- قَولُ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يدلُّ على أنَّ القَدرَ المأخوذَ بعضُ تلك الأموالِ لا كُلُّها؛ إذ مقدارُ ذلك البعضِ غيرُ مذكورٍ هاهنا بصريحِ اللَّفظِ، بل المذكورُ هاهنا قولُه: صَدَقَةً، ومعلومٌ أنَّه ليس المرادُ منه التَّنكيرَ حتى يكفِيَ أخْذُ أيِّ جزءٍ كان، وإن كان في غايةِ القِلَّةِ، مثل الحبَّةِ الواحدة من الحِنطةِ، أو الجزءِ الحَقيرِ مِن الذَّهَب، فوجبَ أن يكونَ المرادُ منه صدَقةً مَعلومةَ الصِّفةِ والكيفيَّة والكمِّيَّة عندَهم، حتى يكونَ قَولُه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً أمرًا بأخذِ تلك الصَّدَقةِ المعلومةِ، فحينئذٍ يزولُ الإجمالُ، ومعلومٌ أنَّ تلك الصَّدَقةَ ليست إلَّا الصَّدَقاتِ التي وصَفَها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبيَّنَ كَيفيَّتَها، فكان قَولُه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً أمرًا بأن يأخُذَ تلك الأشياءَ المخصوصةَ والأعيانَ المخصوصةَ، وظاهِرُ الآيةِ للوُجوبِ .
4- ظاهِرُ عُمومِ قَولِ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يوجِبُ الزكاةَ في مالِ المَديونِ، وفي مالِ الضَّمانِ .
5- قَولُ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً فيه دليلٌ على أنَّ الإمامَ هو الذي يتولَّى أخذَ الصَّدَقاتِ وينظُرُ فيها .
6- قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ إنَّما حسُنَ جعْلُ الصَّدَقةِ مُطهِّرةً؛ لِما جاء أنَّ الصَّدَقةَ أوساخُ النَّاسِ، فإذا أُخِذَت الصَّدَقةُ فقد اندَفَعَت تلك الأوساخُ، فكان اندفاعُها جاريًا مَجرى التَّطهيرِ، والله أعلم .
7- قَولُ اللهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فيه استحبابُ الدُّعاءِ مِن الإمامِ أو نائِبِه لِمَن أدَّى زكاتَه بالبَرَكةِ، وأنَّ ذلك ينبغي أن يكونَ جهرًا، بحيث يسمَعُه المتصَدِّقُ فيسكُنُ إليه .
8- في قَولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ دليلٌ على أنَّ عمَلَ الحسَناتِ يُطَهِّرُ النفسَ ويزكِّيها من الذُّنوبِ السَّالفةِ .
9- في قَولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا دليلٌ على أنَّ الصَّدَقةَ تُوجبُ الطَّهارةَ من الذُّنوبِ، وتُوجِبُ الزكاةَ، التي هي العمَلُ الصالحُ .
10- التَّطهيرُ من الذَّنبِ يكونُ إمَّا بألَّا يفعلَه العبدُ، وإمَّا بأنْ يتوبَ منه، كما في قَولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا .
11- قَولُ الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ في التَّعبيرِ بأخذِ اللهِ تعالى بعدَ قَولِه للنبيِّ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تشريفٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ بِكونِه تعالى هو الذي يأخُذُ ما أمَرَه بأخْذِه ، كما أنَّ في إسنادِ الأخذِ إليه سُبحانه بعد أمْرِه لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأخْذِها، تشريفًا عظيمًا لهذه الطَّاعةِ، ولِمَن فعَلَها .
12- قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، في قولِه: تُطَهِّرُهُمْ إشارةٌ إلى مقامِ التَّخليةِ عن السَّيِّئاتِ، وقولُه: وَتُزَكِّيهِمْ إشارةٌ إلى مقامِ التَّحليةِ بالفضائِلِ والحَسَناتِ، ولا جرَمَ أنَّ التَّخليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحليةِ .
13- دلَّ قولُه تعالى: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أنَّ المُؤمِنَ ينتَفِعُ بما ليس مِن سَعْيِه- كما قد ثبَتَ بالنُّصوصِ المُتواتِرةِ وإجماعِ سَلَفِ الأمَّةِ- كدُعاءِ المُصَلِّينَ للمَيِّتِ، ولِمَن زاروا قبرَه مِن المُؤمِنينَ .
14- قَولُ الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ نزَّلَ جميعَهم منزلةَ مَن لا يعلَمُ قَبولَ التَّوبةِ؛ لأنَّ حالَهم حالُ مَن لا يعلَمُ ذلك، سواءٌ في ذلك مَن يعلَمُ قَبولَها، ومن لا يعلَمُ حَقيقةً، وكان الكلامُ أيضًا مَسوقًا للتَّحضيضِ .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قولُه: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تعليلٌ للأَمرِ بالصَّلاةِ علَيهِم بأنَّ دُعاءَه سكَنٌ لهم، أي: سبَبُ سكَنٍ لهم، أي: خيرٍ ، مع ما فيه مِن التَّأكيدِ بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملةِ.
2- قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
قولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ استئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن التَّعليلِ بقولِه: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم؛ لأنَّه يُثيرُ سؤالَ مَن يَسأَلُ عَن مُوجِبِ اضطِرابِ نُفوسِهم بعدَ أن تابوا، فيَكونُ الاستِفْهامُ تقريرًا مَشوبًا بتَعْجيبٍ مِن تَردُّدِهم في قَبولِ توبتِهم، والمقصودُ منه التَّذكيرُ بأمرٍ معلومٍ؛ لأنَّهم جرَوْا على حالِ نِسْيانِه، ويَكونُ ضميرُ يَعْلَمُوا عائدًا إلى الَّذين اعتَرَفوا بذُنوبِهم .
قولُه: أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، هُوَ للتَّخصيصِ والتَّأكيدِ أنَّ اللهَ تعالى مِن شأنِه قَبولُ توبةِ التَّائبين، ومعنى التَّخصيصِ في هُوَ أنَّ ذلك ليس إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما اللهُ سُبحانَه هو الَّذي يَقبَلُ التَّوبةَ ويَرُدُّها، فاقصِدوه بها، ووَجِّهوها إليه .
قَولُ الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ هذه الجملةُ الاسميَّةُ المؤكَّدةُ بـ(أنَّ) وبضميرِ الفَصلِ (هو)، الدَّالَّة على الحصرِ، وما فيها من صيغةِ المبالغةِ بمعنى الكثرةِ مِن التَّوبةِ، ومُبالغةِ الصِّفةِ الرَّاسخة من الرَّحمةِ؛ تفيدُ أعظَمَ البُشرى للتَّائِبينَ، وأبلغَ التَّرغيبِ في التَّوبة للمُذنِبينَ .