موسوعة التفسير

سُورةُ البَلَدِ
الآيات (11-20)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ: أي: لم يَقتَحِمْها ولا جاوَزَها، والاقتِحامُ: الدُّخولُ في الأمرِ الشَّديدِ، والمُجاوَزةُ له بشِدَّةٍ وصُعوبةٍ، والعَقَبةُ: طَريقٌ في الجَبَلِ وَعْرٌ، والعَقَبةُ مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ لِمُجاهدةِ النَّفْسِ والهوى والشَّيطانِ في أعمالِ البِرِّ، فجعَلَه كالَّذي يتكَلَّفُ صُعودَ العَقَبةِ، يقولُ: لم يَحمِلْ على نَفْسِه المشَقَّةَ بعِتقِ الرَّقبةِ ولا الإطعامِ. وقيل: هي عَقَبةُ جَهنَّمَ، أو: هي عقَبةٌ بيْن الجنَّةِ والنَّارِ. وأصلُ (قحم): يدُلُّ على وُرودِ الشَّيءِ بدونِ رَوِيَّةٍ، وأصلُ (عقب): يدُلُّ على ارتِفاعٍ وشِدَّةٍ وصُعوبةٍ [51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/420)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77) و(5/61)، ((البسيط)) للواحدي (24/24)، ((المفردات)) للراغب (ص: 656)، ((تفسير البغوي)) (8/431)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 463). .
فَكُّ رَقَبَةٍ: أي: عِتقُ مَملوكٍ وتخليصُه مِن إِسارِ الرِّقِّ، وكلُّ شَيءٍ أطْلَقْتَه فقَدْ فَكَكْتَه، وأصلُ (فكك): يدُلُّ على تفَتُّحٍ وانْفِراجٍ، وأصلُ (رقب): يدُلُّ على انْتِصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ، ومِن ذلك اشتِقاقُ الرَّقَبةِ؛ لأنَّها مُنتَصِبةٌ، ولأنَّ النَّاظِرَ لا بُدَّ يَنتَصِبُ عندَ نَظَرِه [52] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 528)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 366)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/427) و(4/433)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (5/1467)، ((البسيط)) للواحدي (24/28)، ((المفردات)) للراغب (ص: 643)، ((تفسير الشوكاني)) (5/541). .
مَسْغَبَةٍ: أي: مَجاعةٍ، وأصلُ (سغب): يدُلُّ على جوعٍ [53] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 528)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 430)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/77)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 464)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
مَتْرَبَةٍ:أي: فقرٍ، يُقالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ إذا افْتَقَر، كأنَّه لَصِقَ بالتُّرابِ، فليس له شيءٌ غير التُّرابِ، وأصلُ (ترب) هنا: التُّرابُ وما يُشتَقُّ منه [54] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 528)، ((تفسير ابن جرير)) (24/431)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 430)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/346)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/250)، ((البسيط)) للواحدي (24/34)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 453)، ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (5/52). قال ابن جرير: (قوله: مَتْرَبَةٍ إنَّما هي مَفْعَلةٌ مِن: تَرِبَ الرَّجُلُ، إذا أصابَه التُّرابُ). ((تفسير ابن جرير)) (24/431). وقال الواحديُّ: (المَتْرَبةُ: مَصدَرُ قولِهم: تَرِبَ يَترَبُ تَرَبًا ومَتْرَبةً -مِثل مَسْغَبة- إذا افتقَر حتَّى لَصِقَ بالتُّرابِ ضُرًّا). ((البسيط)) (24/34). .
بِالْمَرْحَمَةِ: أي: بالرَّحمةِ والعطفِ والتَّراحُمِ فيما بيْنَهم، وأصلُ (رحم): يدُلُّ على الرِّقَّةِ والعَطفِ والرَّأْفةِ [55] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/498)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 454)، ((تفسير الرسعني)) (8/640)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 345). .
الْمَيْمَنَةِ: أي: اليمينِ، أو مُشتَقَّةٌ مِن اليُمْنِ، وهو ضِدُّ الشُّؤمِ، واليُمْنُ: البَرَكةُ [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/431)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/158)، ((البسيط)) للواحدي (21/216). قال الشنقيطي: (قال بعضُ العُلماءِ: قيل لهم أصحابُ اليمينِ؛ لأنَّهم يُؤْتَونَ كُتُبَهم بأَيْمانِهم. وقيل: لأنَّهم يُذهَبُ بهم ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّةِ. وقيل: لأنَّهم عن يمينِ أبيهم آدَمَ، كما رآهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كذلك ليلةَ الإسراءِ. وقيل: سُمُّوا أصحابَ اليمينِ وأصحابَ المَيْمَنةِ؛ لأنَّهم مَيامينُ، أي: مُبارَكونَ على أنفُسِهم؛ لأنَّهم أطاعوا ربَّهم فدخلوا الجنَّةَ، واليُمْنُ: البَرَكةُ). ((أضواء البيان)) (7/513). .
الْمَشْأَمَةِ: أي: الشِّمالِ، وأصلُ (شأم): يدُلُّ على الجانِبِ اليَسارِ [57] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 446)، ((تفسير ابن جرير)) (24/432)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/239)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 387). .
مُؤْصَدَةٌ: أي: مُطبَقةٌ مُغلَقةٌ، وأصلُ (وصد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شَيءٍ [58] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 528)، ((تفسير ابن جرير)) (24/432)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 454)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/117)، ((المفردات)) للراغب (ص: 872). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ
قَولُه تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ استُشكِلَ عَدَمُ تَكرارِ «لا» هنا، مع أنَّها دخلَت على الماضي هنا غيرَ مُفيدةٍ للدُّعاءِ، وهم قالوا: يلزمُ تَكرارُها حينَئذٍ، كما في قَولِه تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى [القيامة: 31] .
وأُجيبَ: بأنَّ اللَّازِمَ تَكرارُها لَفظًا أو معنًى، وهي هنا مُكَرَّرةٌ معنًى؛ لأنَّ تفسيرَ العَقَبةِ بما فُسِّرَت به مِن الأُمورِ المتعَدِّدةِ يلزَمُ منه تفسيرُ الاقتحامِ، فيكونُ: فلا اقتَحَمَ العَقَبةَ في معنى: فلا فَكَّ رَقَبةً ولا أطعمَ يتيمًا، ويجوزُ أن يكونَ عدَمُ تكريرِ (لا) هنا استِغناءً بقَولِه: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا [البلد: 17] ، فكأنَّه قيل: فلا اقتحَمَ العقَبةَ ولا آمَنَ.
 ونُقِلَ قولٌ بعدَمِ وُجوبِ تَكريرِها، وأنَّها كـ «لَمْ»، وإذا كانت «لَا» بمعنى «لَمْ» لم يَلزَمْ تكريرُها، كما لا يلزمُ التَّكريرُ مع «لَمْ»، فإن تكرَّرَت في موضعٍ، نحوُ: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى [القيامة: 31] ، فهو كتكريرِ «لَمْ»، نحوُ: لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67] . والمُتيَقَّنُ أكثريَّةُ التَّكَرُّرِ، وأمَّا وُجوبُه فليس بمتيقَّنٍ.
فَكُّ خَبَرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: اقتِحامُ العَقَبةِ فَكُّ رقبةٍ أو إطعامٌ. يَتِيمًا: مفعولٌ به للمَصدرِ إِطْعَامٌ [59] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/264)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/329)، ((البسيط)) للواحدي (24/26)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1288)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/8)، ((تفسير الألوسي)) (15/354)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/356). .

المعنى الإجمالي:

قال الله تعالى محرِّضًا على فِعلِ الخَيرِ، وإصلاحِ النَّفْسِ: فلَمْ يَقطَعِ الغَنِيُّ العَقَبةَ الشَّديدةَ، ويَتجاوَزْها بمُجاهَدةِ النَّفْسِ ومُخالَفةِ الهوَى والشَّيطانِ، بإنفاقِ مالِه في أوجُهِ البِرِّ والإحسانِ، وما أدراك أيُّ شَيءٍ تلك العَقَبةُ؟
ثمَّ فسَّر الله تعالى ذلك، فقال: اقتِحامُ تلك العَقَبةِ تخليصُ إنسانٍ مِن رِقِّ العُبوديَّةِ، أو إطعامٌ في زَمَنِ مَجاعةٍ شَديدةٍ يتيمًا ذا قَرابةٍ، أو مِسكينًا لا شيءَ له، ثمَّ يكونُ ذلك المنفِقُ معَ ذلك مِن جُملةِ الَّذين آمَنوا، وأوصَى بَعضُهم بَعضًا بالتَّحَلِّي بالصَّبرِ والرَّحمةِ بالمَساكينِ واليَتامى؛ أولئك المتَّصِفونَ بما تقدَّمَ ذِكرُه مِن الصِّفاتِ هم أصحابُ اليَمينِ.
ثمَّ بيَّن الله تعالى سوءَ عاقِبةِ الكافِرين، فقال: والَّذين كَفَروا بآياتِ اللهِ هم أصحابُ الشِّمالِ، عليهم نارٌ مُطبَقةٌ مُغلَقةٌ؛ فلا يَخرُجونَ منها أبَدًا.

تفسير الآيات:

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بَعْدَ أن بَيَّنَ اللهُ تعالى ما أنعَمَ به على الإنسانِ مِنَ النِّعَمِ الجليلةِ؛ أتْبَعَ سُبحانَه ذلك بحَضِّه على المُداوَمةِ على فِعلِ الخَيرِ، وعلى إصلاحِ نَفْسِه، فقال تعالى [60] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (15/404). :
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11).
أي: فلَمْ يَقطَعِ الغَنِيُّ العَقَبةَ الشَّديدةَ، ويتكَلَّفْ صُعودَها ويَتجاوَزْها بمُجاهَدةِ النَّفْسِ ومُخالَفةِ الهوى والشَّيطانِ، بإنفاقِ مالِه في أوجُهِ البِرِّ والخَيرِ والإحسانِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/419)، ((الوسيط)) للواحدي (4/491)، ((تفسير أبي حيان)) (10/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/355، 356)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 215). والعقبةُ عبارةٌ عن الأعمالِ الصَّالحةِ المذكورةِ بعدُ، وفسَّرها ابنُ عبَّاسٍ بالنَّارِ، وفسَّرها ابنُ عمرَ بعقبةٍ في النَّارِ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 484)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/382). .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ أنَّه لا خَلاصَ مِنَ النَّكَدِ إلَّا بهذا الاقتحامِ؛ شرَعَ في تفسيرِ العَقَبةِ بادِئًا بتهويلِ أمْرِها؛ لعَظيمِ قَدْرِها [62] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/61). .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12).
أي: وما أدراك أيُّ شَيءٍ تلك العَقَبةُ العَظيمةُ الَّتي حَثَّ اللهُ على اقتِحامِها [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/422)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/357)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 215). قيل: المخاطَبُ بقَولِه تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إليه: ابنُ جرير، وابنُ أبي زَمَنِين، والماوَرْديُّ، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/422)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/134)، ((تفسير الماوردي)) (6/278)، ((تفسير القرطبي)) (20/67). وقال ابنُ عاشور: (الخِطابُ في وَمَا أَدْرَاكَ لغَيرِ مُعَيَّنٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/357). ؟
فَكُّ رَقَبَةٍ (13).
أي: تخليصُ إنسانٍ مِن رِقِّ العُبوديَّةِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/422)، ((الوسيط)) للواحدي (4/491)، ((تفسير القرطبي)) (20/68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/358)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 216). قال السمينُ الحلبيُّ: (وفي الكلامِ حَذْفُ مُضافٍ دلَّ عليه فَلَا اقْتَحَمَ، تقديرُه: وما أدْراكَ ما اقتِحامُ العَقَبةِ؟ فالتَّقديرُ: اقتِحامُ العَقَبةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أو إطعامٌ، وإنَّما احْتِيج إلى تقديرِ هذا المُضافِ لِيَتطابَقَ المفسِّرُ والمفسَّرُ). ((الدر المصون)) (11/9). وقال السعدي: (مِن بابٍ أَولى فَكاكُ الأسيرِ المسلِمِ عندَ الكُفَّارِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 925). .
كما قال تعالى: وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة: 177] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنْ أَعتَقَ رَقَبةً مُسلِمةً أعتَقَ اللهُ بكُلِّ عُضوٍ منه عُضوًا مِنَ النَّارِ، حتَّى فَرْجَه بفَرْجِه )) [65] رواه البخاريُّ (6715) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1509). .
وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، عَلِّمْني عَمَلًا يُدخِلُني الجنَّةَ. فقال: لئِنْ كُنتَ أقصَرْتَ الخُطْبةَ لَقد أعرَضْتَ المسألةَ، أَعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ. فقال: يا رَسولَ اللهِ، أوَلَيْسَتا بواحِدةٍ؟! قال: لا؛ إنَّ عِتقَ النَّسَمةِ أن تَفَرَّدَ بعِتْقِها، وفَكَّ الرَّقَبةِ أن تُعِينَ في عِتْقِها [66] فكُّ الرقبةِ: تخليصُ الشَّخصِ مِن الرِّقِّ، وخُصَّ في هذا الحديثِ بمَن أعان في عتقِها حتَّى تعتقَ، وإذا ثبَت الفضلُ في الإعانةِ ثبَت في التفرُّدِ بالعتقِ مِن بابِ أولَى. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 146). ) [67] أخرجه أحمدُ (18647) واللَّفظُ له، وابنُ حِبَّانَ (374)، والحاكمُ (2861). صحَّحه ابنُ حِبَّانَ، وكذا ابنُ حَجَر في ((فتح الباري)) (5/174)، والألبانيُّ في ((صحيح الموارد)) (1017)، وصَحَّح إسنادَه الحاكِمُ، وكذا شُعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (30/600). .
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14).
أي: أوْ تَقديمُ الطَّعامِ في زَمَنِ مَجاعةٍ شَديدةٍ [68] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/424)، ((الوسيط)) للواحدي (4/492)، ((تفسير القرطبي)) (20/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/358)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 216). .
كما قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان: 8] .
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15).
أي: ليتيمٍ مِن أقارِبِه [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/426)، ((الوسيط)) للواحدي (4/493)، ((تفسير ابن كثير)) (8/408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925). .
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16).
أي: أوْ لِمِسكينٍ لا شيءَ له [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/431)، ((الوسيط)) للواحدي (4/493)، ((تفسير القرطبي)) (20/70)، ((تفسير ابن كثير)) (8/408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 217). قال الشوكاني: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ أي: لا شَيءَ له، كأنَّه لَصِقَ بالتُّرابِ؛ لفَقْرِه، وليس له مأوًى إلَّا التُّرابُ، يقالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ يَترَبُ تَرَبًا ومَترَبةً: إذا افتَقَر حتَّى لَصِقَ بالتُّرابِ ضُرًّا). ((تفسير الشوكاني)) (5/541). وقال البِقاعي: (أَوْ مِسْكِينًا أي: شَخْصًا لا كِفايةَ له ذَا مَتْرَبَةٍ أي: حاجةٍ مُقعِدةٍ له على التُّرابِ، لا يَقدِرُ على سِواه!). ((نظم الدرر)) (22/62، 63). .
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17).
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا.
أي: ثمَّ إنَّ المُنفِقَ مالَه في فَكِّ الرِّقابِ، أو إطعامِ اليتيمِ القَريبِ، أو إطعامِ المِسكينِ المحتاجِ: يَنبغي أن يكونَ مع ذلك مِن جُملةِ الَّذين آمَنوا بما وَجَب عليهم الإيمانُ به؛ فتلك القُرُباتُ إنَّما تَنفَعُ مع الإيمانِ [71] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/493)، ((تفسير القرطبي)) (20/71)، ((تفسير ابن كثير)) (8/408، 409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 217). .
كما قال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر: 40] .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، ابنُ جُدْعانَ كان في الجاهِليَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطعِمُ المِسكينَ، فهل ذاك نافِعُه؟ قال: لا يَنفَعُه؛ إنَّه لم يَقُلْ يومًا: ربِّ اغفِرْ لي خطيئَتي يومَ الدِّينِ )) [72] رواه مسلم (214). .
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
أي: ويكونُ ممَّن أوصى بَعضُهم بَعضًا بالتَّحَلِّي بالصَّبرِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/431)، ((الوسيط)) للواحدي (4/493)، ((تفسير القرطبي)) (20/71)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 217). .
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ.
أي: ويكونُ ممَّن أوصى بعضُهم بعضًا بالرَّحمةِ بالمساكينِ واليَتامى والضُّعَفاءِ، وسائِرِ الخَلْقِ [74] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/431)، ((الوسيط)) للواحدي (4/493)، ((تفسير القرطبي)) (20/71)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 218). .
عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ المؤمِنينَ في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم مَثَلُ الجسَدِ: إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى )) [75] رواه البخاريُّ (6011)، ومسلمٌ (2586) واللَّفظُ له. .
وعن جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَرحَمُ اللهُ مَن لا يَرحَمُ النَّاسَ )) [76] رواه البخاري (7376). .
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَوَّهَ بالَّذين آمَنوا؛ أعقَبَ التَّنويهَ بالثَّناءِ عليهم وبِشارتِهم [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/362). .
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18).
أي: أولئك المتَّصِفونَ بما تقدَّمَ ذِكرُه مِن الصِّفاتِ هم أصحابُ اليَمينِ [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/431)، ((تفسير القرطبي)) (20/71)، ((تفسير ابن كثير)) (8/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 218). وقال البِقاعي: (أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ أي: الجانِبِ الَّذي فيه اليُمْنُ والبَرَكةُ والنَّجاةُ مِن كُلِّ هَلَكةٍ بقِسمَيهم مِن السَّابقِينَ المُقَرَّبينَ، وأصحابِ اليَمينِ الأبرارِ). ((نظم الدرر)) (22/67). .
ثمَّ بيَّن الله سُبحانَه سوءَ عاقِبةِ الكافِرين، فقال [79] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (15/407). :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19).
أي: والَّذين كَفَروا بآياتِ اللهِ هم أصحابُ الشِّمالِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/431)، ((تفسير القرطبي)) (20/72)، ((تفسير ابن كثير)) (8/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925). وقال البقاعي: (أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ أي: الخَصْلةِ المُكسِبةِ للشُّؤمِ والحِرْمانِ والهَلَكةِ، فهؤلاء مَشائيمُ على أنفُسِهم). ((نظم الدرر)) (22/67). .
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20).
أي: عليهم نارٌ مُطبَقةٌ؛ فلا يَخرُجونَ منها أبَدًا [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/432)، ((الوسيط)) للواحدي (4/493)، ((تفسير القرطبي)) (20/72)، ((تفسير ابن كثير)) (8/409)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 925). قال البِقاعي: (نَارٌ مُؤْصَدَةٌ أي: مُطبَقةُ البابِ مع إحاطَتِها بهم مِن جميعِ الجوانِبِ -بما أفهَمَتْه أداةُ الاستِعلاءِ-، ومع الضِّيقِ والوُعورةِ، وهذا لعَمْرِي أشَدُّ الضِّيقِ والكَبَدِ، والنَّصَبِ والنَّكَدِ!). ((نظم الدرر)) (22/68). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أفاد نفْيُ الاقتحامِ أنَّه عَدَلَ عن الاهتِداءِ إيثارًا للعاجلِ على الآجِلِ، ولو عَزَمَ وصَبَرَ لَاقتَحَمَ العَقَبةَ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/356). .
2- قال الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ إلى آخِرِ السِّياقِ. في تَفسيرِ العَقَبةِ بالمذكوراتِ؛ فَكُّ الرَّقبةِ، وإطعامُ اليتيمِ والمِسكينِ: توجيهٌ إلى ضَرورةِ الإنفاقِ حَقًّا، لا ما يدَّعيه الإنسانُ بدونِ حَقيقةٍ في قَولِه: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [83] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/532). [البلد: 6] !
3- إطعامُ الطَّعامِ يُوجِبُ دخولَ الجَنَّةِ، ويُباعِدُ مِن النَّارِ، ويُنجِّي منها، كما قال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، وفي الحَديثِ الصَّحيحِ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمرةٍ )) [84] يُنظر: ((اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) لابن رجب (ص: 76). والحديث أخرجه البخاريُّ (1417)، ومسلمٌ (1016) من حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضيَ الله عنه. .
4- في قَولِه تعالى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ فَضلُ الإطعامِ، خُصوصًا عِندَ الحاجةِ إليه في زَمَنِ الجُوعِ [85] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 289). .
5- قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ... جَعَلَ الأعمالَ الصَّالحةَ عَقَبةً، وعَمَلَها اقتحامًا لها؛ لِما في ذلك مِن مُعاناةِ المَشقَّةِ ومُجاهَدةِ النَّفْسِ [86] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/756)، ((تفسير البيضاوي)) (5/314)، ((تفسير أبي السعود)) (9/161، 162). .
6- قال تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فخَصَّ أهلَ المَيْمَنةِ بأنَّهم أهلُ الصَّبرِ والمَرحَمةِ، الَّذين قامتْ بهم هاتان الخَصْلتانِ، ووَصَّوا بهما غَيرَهم، وهذا حَصرٌ لأصحابِ المَيمنةِ فيمَن قام به هذانِ الوَصفانِ. والنَّاسُ بالنِّسبةِ إليهما أربعةُ أقسامٍ: هؤلاء خيرُ الأقسامِ. وشَرُّهم مَن لا صَبْرَ له ولا رحمةَ فيه، ويَليه مَن له صَبرٌ ولا رحمةَ عِندَه، ويليه القِسمُ الرَّابِعُ، وهو مَن له رحمةٌ ورِقَّةٌ، ولكِنْ لا صَبْرَ له [87] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 75). ويُنظر أيضًا: ((التحفة العراقية)) لابن تيمية (ص: 58). .
7- في قَولِه تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ دليلٌ على أنَّ التَّواصيَ بالخَيرِ هو مِن محمودِ الأخلاقِ، ومَرْضِيِّ الأفعالِ، ومُكتَسبِ الفَوزِ بالجَنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ [88] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/519). .
8- في قَولِه تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أنَّه يجِبُ على المرءِ أن يدُلَّ غَيرَه على طريقِ الحَقِّ، ويَمنَعَه مِن سُلوكِ طريقِ الشَّرِّ والباطِلِ ما أمكَنَه [89] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/171). .
9- في قَولِه تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ الحَثُّ على التَّواصي بالرَّحمةِ مع الصَّبرِ [90] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/96). ؛ فإنَّ الصَّبرَ مِلاكُ الأعمالِ الصَّالحةِ كلِّها؛ لأنَّها لا تَخْلو مِن كَبْحِ الشَّهوةِ النَّفسانيَّةِ، وذلك مِن الصَّبرِ، والمَرحمةَ مِلاكُ صَلاحِ الجامعةِ الإسلاميَّةِ، قال تعالى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، والتَّواصي بالرَّحمةِ فَضيلةٌ عَظيمةٌ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/361). .
10- قال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ لا بدَّ أن يَصبِرَ وأن يَرحَمَ، وهذا هو الشَّجاعةُ والكَرَمُ؛ ولهذا يَقرِنُ اللهُ بيْن الصَّلاةِ والزَّكاةِ تارةً -وهي الإحسانُ إلى الخَلْقِ، وبَيْنَهما وبيْن الصَّبرِ تارةً، ولا بُدَّ مِن الثَّلاثةِ: الصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصَّبرُ، لا تقومُ مَصلَحةُ المؤمِنينَ إلَّا بذلك؛ في صلاحِ نُفوسِهم، وإصلاحِ غَيرِهم، لا سيَّما كُلَّما قَوِيَت الفِتنةُ والمِحْنةُ؛ فالحاجةُ إلى ذلك تكونُ أشَدَّ، فالحاجةُ إلى السَّماحةِ والصَّبرِ عامَّةٌ لجَميعِ بني آدَمَ، لا تقومُ مَصلحةُ دِينِهم ولا دُنياهم إلَّا به؛ ولهذا جميعُهم يتمادَحونَ بالشَّجاعةِ والكَرَمِ، حتَّى إنَّ ذلك عامَّةُ ما يَمدَحُ به الشُّعراءُ في شِعْرِهم، وكذلك يتذامُّون بالبُخلِ والجُبنِ [92] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/154). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ... كلُّ موضعٍ فى القرآنِ: وَمَا أَدْرَاكَ فقد عُقِّب ببَيانِه، وكلُّ موضعٍ ذُكِر بلَفظِ: وَمَا أَدْرَاكَ لم يُعقَّبْ ببيانِه، نحوُ قولِه تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [93] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 313)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/597). وقال الفَرَّاءُ: (كلُّ ما كان في القرآنِ مِن قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ فقد أدراه، وما كان مِن قولِه: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُدْرِه). ((معاني القرآن)) (3/280). وأخرج ابنُ جرير في ((تفسيره)) (23/207) بسندِه عن سُفْيانَ بنِ عُيَيْنةَ، قال: (ما في القرآنِ: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُخبِرْه، وما كان: وَمَا أَدْرَاكَ فقد أخبَرَه). وأخرجه أيضًا ابنُ المُنذِرِ وابنُ أبي حاتمٍ، كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/664). قال ابنُ عاشور: (مُرادُهم أنَّ مَفعولَ «ما أدراك» مُحقَّقُ الوقوعِ؛ لأنَّ الاستِفهامَ فيه للتَّهويلِ، وأن مَفعولَ «ما يُدْريك» غيرُ مُحقَّقِ الوقوعِ؛ لأنَّ الاستِفهامَ فيه للإنكارِ، وهو في معْنى نفْيِ الدِّرايةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/114). [الشورى: 17] .
2- في قَولِه تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ تَشَوُّفُ الشَّارعِ إلى العِتْقِ وإيقاعِه [94] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 289). ، وإشعارٌ بحقيقةِ مَوقِفِ الإسلامِ مِنَ الرِّقِّ، ومدى حِرصِه وتطَلُّعِه إلى تحريرِ الرِّقابِ؛ فها هو هنا يجعَلُ عِتقَ الرَّقبةِ سُلَّمَ اقتِحامِ العَقَبةِ، وجَعَلَه عِتقًا للمُعتِقِ مِن النَّارِ، كُلُّ عُضوٍ بعُضوٍ، ومعلومٌ أنَّ كُلَّ مُسلِمٍ يسعى لذلك، وجعَلَه كَفَّارةً لكُلِّ يمينٍ، وللظِّهارِ بيْن الزَّوجَينِ، وكفَّارةَ القَتلِ الخطَأِ، كُلُّ ذلك نوافِذُ عِتقِ الرِّقابِ وإطلاقِها، في الوقتِ الَّذي لم يُفتَحْ للاستِرقاقِ إلَّا بابٌ واحِدٌ، هو الأَسْرُ في القِتالِ مع المُشرِكينَ لا غَيرُ، وفي ذلك رَدٌّ على المُستَشرِقينَ ومَن تأثَّرَ بهم في ادِّعائِهم على الإسلامِ أنَّه مُتعَطِّشٌ لاسترقاقِ الأحرارِ [95] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/532). !
3- قال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ وهو يَشملُ العِتْقَ، ويَشملُ فَكَّ الأسيرِ مِن العدُوِّ؛ فإنَّ هذا مِن فَكِّ الرِّقابِ، ففي الآيةِ دَليلٌ على فَضيلةِ العِتْقِ [96] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/398). .
4- في قَولِه تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ أنَّ العِتقَ أفضَلُ أنواعِ الصَّدَقاتِ؛ وَجْهُه: تقَدُّمُ العِتقِ على الصَّدَقةِ [97] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/169). .
5- في قَولِه تعالى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ دَلالةٌ على أنَّ الصَّدَقةَ على الأقارِبِ أفضَلُ منها على الأجانِبِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (20/350). .
6- في قَولِه تعالى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ فَضلُ إطعامِ اليتيمِ -خصوصًا القَريبَ-، وإطعامِ المِسكينِ [99] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 289). .
7- قال تعالى: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ استُدِلَّ بهذه الآيةِ على أنَّ المِسكينَ قد يكونُ بحيث يَملِكُ شَيئًا؛ لأنَّه لو كان لَفظُ المِسكينِ دَليلًا على أنَّه لا يملِكُ شَيئًا البتَّةَ، لَكان تقييدُه بقَولِه: ذَا مَتْرَبَةٍ تكريرًا، وهو غيرُ جائزٍ [100] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/170). وقال الشنقيطي: (وممَّا استدَلَّ به القائلونَ بأنَّ المسكينَ أحْوَجُ مِن الفقيرِ: أنَّ اللهَ قال في المسكينِ: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، قالوا: ذَا مَتْرَبَةٍ أي: لا شيءَ عِندَه، حتَّى كأنَّه قد لَصِق بالتُّرابِ مِن الفَقرِ، ليس له مأوًى إلَّا التُّرابُ). ((أضواء البيان)) (5/195). . فالمُرادَ بالمِسْكينِ هاهنا الفقيرُ؛ لأنَّه لم يُطْلِقْ ذِكْرَه، ولكِنْ قَيَّدَه بصِفاتِ الفُقراءِ، بخِلافِ المِسكينِ الَّذي قد أُطْلِقَتْ صِفَتُه [101] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/490). وقال أيضًا: (وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر: 51] ولم يَقُلِ: المساكينُ؛ فدَلَّ على أنَّ الفقيرَ أمَسُّ حاجَةً وأسْوَأُ حالًا مِن المسكينِ، وقال تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف: 79] ، فسَمَّاهم مَساكينَ ولهم سَفينةٌ، فدَلَّ على أنَّ المسكينَ أحسَنُ حالًا). ((الحاوي الكبير)) (8/489). .
8- في قَولِه تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سُؤالٌ: أنَّه لَمَّا كان الإيمانُ شَرطًا للانتِفاعِ بهذه الطَّاعاتِ وجَبَ كَونُه مُقَدَّمًا عليها، فما السَّبَبُ في أنَّ اللهَ تعالى أخَّرَه عنها بقَولِه: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحَدُها: أنَّ التَّرتيبَ بالفاءِ لمجرَّدِ التَّرتيبِ الذِّكْريِّ، فكَونُه مِن الَّذين آمَنوا لا ترَتُّبَ له على ما قبْلَه إلَّا مُطلَقُ التَّرتيبِ الذِّكْريِّ، كما قيل:
«إنَّ مَن سادَ ثمَّ ساد أبوه         ثمَّ قد ساد قَبْلَ ذلك جَدُّه»
فلم يُرِدْ بقَولِه: «ثمَّ ساد أبوه» التَّأخُّرَ في الوُجودِ، وإنَّما المعنى: ثمَّ اذكُرْ أنَّه ساد أبوه، كذلك في الآيةِ.
ثانيها: أنَّه يجوزُ أن يُحملَ على الظَّاهِرِ، بمعنَى: ثمَّ كان في عاقِبةِ أمْرِه مِنَ الَّذين آمَنوا، وهو أن يَموتَ مؤمنًا، فإنَّ مَن كان موافاتُه على الإيمان نفَعَتْه القُرَبُ، ومَن لا، فلا.
فالتَّراخي رُتبيٌّ، فالإيمانُ فوقَ جميعِ ما قبْلَه؛ لأنَّه يَستقِلُّ بكَونِه سببًا للنَّجاةِ، وهو شَرْطٌ في الاعتِدادِ بالأعمالِ.
ثالثُها: أنَّ مَن أتى بهذه القُرَبِ تقَرُّبًا إلى اللهِ تعالى قبْلَ إيمانِه بمحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ آمَنَ بعْدَ ذلك بمحَمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ أُجِر على ما سلَف له مِن الخَيرِ [102] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (24/34)، ((تفسير الرازي)) (31/170)، ((تفسير الألوسي)) (15/355)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/304)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/360). .
9- في قَولِه تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ إشارةٌ إلى التَّعظيمِ لأمرِ اللهِ، وفي قَولِه: وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إشارةٌ إلى الشَّفَقةِ على خَلْقِ اللهِ، ومَدارُ أمرِ الطَّاعاتِ ليس إلَّا على هذَينِ الأصلَينِ [103] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/171). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ
- قولُه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يجوزُ أنْ يكونَ تَفريعَ إدماجٍ بمُناسَبةِ قولِه: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] ، أي: هَديناهُ الطَّريقَينِ فلم يَسلُكِ النَّجْدَ المُوصِلَ إلى الخَيرِ. ويجوزُ أنْ يكونَ تَفريعًا على جُملةِ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [البلد: 6] ، وما بيْنَهما اعتراضًا، وتكونَ (لَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) استِفهامًا حُذِفَ منه أداتُه، وهو استفهامُ إنكارٍ، والمعْنى: أنَّه يَدَّعي إهلاكَ مالٍ كَثيرٍ في الفسادِ مِن مَيْسِرٍ وخَمرٍ ونحْوِ ذلك، أفلا أهْلَكَه في القُرَبِ والفضائلِ، بفَكِّ الرِّقابِ، وإطعامِ المساكينِ في زمَنِ المَجاعةِ؟! فإنَّ الإنفاقَ في ذلك لا يَخْفَى على النَّاسِ، خِلافًا لِما يَدَّعيه مِن إنفاقٍ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/355، 356). .
- قولُه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتِحامُ افتعالٌ؛ للدَّلالةِ على التَّكلُّفِ مِثلَ (اكتَسَبَ)، فشُبِّهَ تَكلُّفُ الأعمالِ الصَّالحةِ باقتحامِ عَقَبةِ الجبَلِ في شِدَّتِه على النَّفْسِ ومَشقَّتِه [105] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/482)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/356)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/491). .
- والكلامُ مَسوقٌ مَساقَ التَّوبيخِ على عدَمِ اهتداءِ هؤلاء للأعمالِ الصَّالحةِ، مع قِيامِ أسبابِ الاهتداءِ مِن الإدراكِ والنُّطقِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/357). .
- قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ اعتِراضٌ مُقحَمٌ لبَيانِ العقَبةِ، مُقرِّرٌ لمَعْنى الإبهامِ والتَّفسيرِ؛ فإنَّ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ مُفسَّرٌ بقولِه: فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ، والمفسَّرُ مَنفيٌّ، والمفسِّرُ كذلك؛ لاتِّحادِهما في الاعتِبارِ، كأنَّه قِيل: فلا فكَّ رقَبةً، ولا أطعَمَ مِسكينًا، ولزِيادةِ تَقريرِها وكَونِها عندَ اللهِ تعالَى بمَكانةٍ رَفيعةٍ، والمعْنى: أنَّك لم تَدْرِ كُنْهَ صُعوبتِها على النَّفْسِ، وكُنْهَ ثَوابِها عندَ اللهِ تعالَى [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/756)، ((تفسير البيضاوي)) (5/314)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/448)، ((تفسير أبي السعود)) (9/162)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/489). .
- قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ قيل: هو حالٌ مِن الْعَقَبَةَ في قولِه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ؛ للتَّنويهِ بها، وأنَّها لأهمِّيَّتِها يُسأَلُ عنها المخاطَبُ هلْ أعلَمَه مُعلِمٌ ما هي؟ أي: لمْ يَقتحِمِ العقَبةَ في حالِ جَدارتِها بأنْ تُقتحَمَ، وهذا التَّنويهُ يُفيدُ التَّشويقَ إلى مَعرفةِ المُرادِ مِن العقَبةِ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/357). .
- و(ما) الأُولى والثَّانيةُ أيضًا في قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ استفهامٌ، والتَّقديرُ: أيُّ شَيءٍ أعلَمَك ما هي العقَبةُ؟ أي: أعلَمَك جَوابَ هذا الاستفهامِ، كِنايةً عن كَونِه أمْرًا عَزيزًا يَحتاجُ إلى مَن يُعلِمُك به. والخِطابُ في قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ لغيرِ مُعيَّنٌ؛ لأنَّ هذا بمَنزلةِ المَثَلِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/357). . وذلك على قولٍ.
- قولُه: فَكُّ رَقَبَةٍ قُرِئَ برَفْعِ فَكُّ وإضافتِه إلى رَقَبَةٍ، ورفْعِ إِطْعَامٌ عطْفًا على فَكُّ، وجُملةُ فَكُّ رَقَبَةٍ بَيانٌ للعقَبةِ، والتَّقديرُ: هي فكُّ رَقَبةٍ، فحُذِفَ المُسنَدُ إليه حذْفًا لمُتابعةِ الاستِعمالِ [110] وذلك أنَّ العرَبَ إذا أجْرَوا حَديثًا على شَيءٍ، ثمَّ أخبَروا عنه، الْتَزَموا حَذفَ ضَميرِه الَّذي هو مُسنَدٌ إليه؛ إشارةً إلى التَّنويهِ به كأنَّه لا يَخْفى. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 176)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/347). . وقُرِئَ فَكَّ بفتْحِ الكافِ على صِيغةِ فِعلِ المُضِيِّ، وبنصْبِ رَقَبةً على المفعولِ لـ فَكَّ، أو أطعَمَ بدونِ ألِفٍ بعْدَ عَينِ (إطعام) على أنَّه فِعلُ مُضيٍّ عطْفًا على فَكَّ [111] قرأ بهما ابنُ كثيرٍ وأبو عَمرٍو والكِسائيُّ، والباقونَ برفعِ فَكُّ وخَفضِ رَقَبَةٍ وكَسرِ الهمزةِ في إِطْعَامٌ والميمِ المرفوعةِ مع التَّنوينِ وألِفٍ قبْلَها. يُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/147)، ((النشر)) لابن الجزري (2/401). ، فتكون جُملةُ فَكَّ رَقَبةً بَيانًا لجُملةِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وما بيْنَهما اعتراضًا، أو تكون بدَلًا مِن جُملةِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، أي: فلا اقتحَمَ العَقَبةَ، ولا فكَّ رَقَبةً أو أطعَمَ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/357). . ومَن قرَأَ فَكُّ بالرَّفعِ، فهو تَفسيرٌ لاقتحامِ العقَبةِ، والتَّقديرُ: وما أدْراكَ ما اقتِحامُ العقَبةِ، ومَن قرَأَ فِعلًا ماضيًا فَكَّ، فلا يَحتاجُ إلى تَقديرِ مُضافٍ، بلْ يكونُ التَّعظيمُ للعَقَبةِ نفْسِها، ويَجِيءُ فَكَّ بدلًا مِن اقْتَحَمَ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/485)، ((تفسير أبي حيان)) (10/483). .
- وإيثارُ لَفظِ الرَّقَبةِ هنا؛ مع أنَ المُرادَ ذاتُ الأسيرِ أو العبْدِ؛ لأن أول ما يَخطُرُ بذِهنِ النَّاظرِ لواحدٍ مِن هؤلاء هو رَقَبتُه؛ لأنَّه في الغالِبِ يُوثَقُ مِن رَقَبتِه، وأُطلِقَ الفكُّ على تَخليصِ المأخوذِ في أسْرٍ أو مِلْكٍ؛ لمُشابَهةِ تَخليصِ الأمْرِ العَسيرِ بالنَّزعِ مِن يَدِ القابضِ المُمتنِعِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/358). .
- قولُه: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ إضافةُ ذِي إلى مَسْغَبَةٍ تُفيدُ اختِصاصَ ذلك اليومِ بالمَسغبةِ، أي: يومِ مَجاعةٍ، وذلك زمَنُ البرْدِ وزمَنُ القحْطِ، ووَجْهُ تَخصيصِ اليومِ ذي المَسغبةِ بالإطعامِ فيه أنَّ الناسَ في زمَنِ المَجاعةِ يَشتَدُّ شُحُّهم بالمالِ خَشيةَ امتِدادِ زمَنِ المَجاعةِ والاحتياجِ إلى الأقواتِ، فالإطعامُ في ذلك الزَّمنِ أفضَلُ، وهو العقَبةُ، ودونَ العقَبةِ مَصاعِدُ مُتفاوِتةٌ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/358). .
- واليتيمُ: الشَّخصُ الَّذي ليس له أبٌ وهو دونَ البُلوغِ، ووَجْهُ تَخصيصِه بالإطعامِ أنَّه مَظِنَّةُ قِلَّةِ الشِّبَعِ؛ لصِغَرِ سِنِّه، وضَعفِ عمَلِه، وفَقْدِ مَن يَعولُه، ولِحيائِه مِن التَّعرُّضِ لطلَبِ ما يَحتاجُه؛ فلذلك رُغِّبَ في إطعامِه وإنْ لم يَصِلْ حَدَّ المَسكنةِ والفقْرِ، ووُصِفَ بكَونِه ذا مَقرَبةٍ، أي: مَقرَبةٍ مِن المُطعِمِ؛ لأنَّ هذا الوصْفَ يُؤكِّدُ إطعامَه؛ لأنَّ في كَونِه يَتيمًا إغاثةً له بالإطعامِ، وفي كَونِه ذا مَقرَبةٍ صِلةً للرَّحِمِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/358، 359). .
- إنْ كان المرادُ بالإنسانِ الجِنسَ المَخصوصَ -أي: المُشركين- كان نفْيُ فكِّ الرِّقابِ والإطعامِ كِنايةً عن انتفاءِ تَحلِّيهم بشَرائعِ الإسلامِ؛ لأنَّ فكَّ الرِّقابِ وإطعامَ الجِياعِ مِن القُرُباتِ الَّتي جاء بها الإسلامُ مِن إطعامِ الجِياعِ والمَحاويجِ، وفيه تَعريضٌ بتَعييرِ المشركينَ بأنَّهم إنَّما يُحِبُّون التَّفاخُرَ والسُّمعةَ وإرضاءَ أنفُسِهم بذلك، أو لمُؤانَسةِ الأخِلَّاءِ، وذلك غالبُ أحوالِهم، أي: لم يُطعِموا يَتيمًا ولا مِسكينًا في يومِ مَسغَبةٍ، أي: هو الطَّعامُ الَّذي يَرْضاهُ اللهُ؛ لأنَّ فيه نفْعَ المُحتاجينَ مِن عِبادِه، وليس مِثلَ إطعامِكم في المآدِبِ والولائمِ والمُنادَمةِ الَّتي لا تَعودُ بالنَّفعِ على المُطعَمينَ؛ لأنَّ تلك المَطاعمَ كانوا يَدْعون لها أمثالَهم مِن أهْلِ الجِدَةِ والغِنى دونَ حاجةٍ إلى الطَّعامِ، وإنَّما يُرِيدون المُؤانَسةَ أو المُفاخَرةَ. وإنْ كان المرادُ مِن الإنسانِ واحدًا مُعيَّنًا، جاز أنْ يكونَ المعْنى على نحْوِ ما تَقدَّمَ، وجاز أنْ يكونَ ذمًّا له باللُّؤمِ والتَّفاخُرِ الكاذبِ، وفضْحًا له بأنَّه لم يَسبِقْ منه عمَلٌ نافعٌ لقَومِه قبْلَ الإسلامِ، فلم يغرَمْ غَرامةً في فَكاكِ أَسيرٍ أو مَأخوذٍ بدَمٍ، أو مَنَّ بحُرِّيةٍ على عبْدٍ [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/359، 360). .
- في قَولِه: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ احتِباكٌ [118] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذِكْرُ القُرْبِ أوَّلًا يدُلُّ على ضِدِّه ثانيًا، وذِكْرُ المَتْرَبةِ ثانيًا يدُلُّ على ضِدِّها أوَّلًا، وسِرُّ ذلك أنَّه ذَكَر في اليتيمِ القُرْبَ المُعَطِّفَ، وفي المِسكينِ الوَصْفَ المرَقِّقَ الملَطِّفَ؛ فهو لا يَقصِدُ بإطعامِه إلَّا سَدَّ فاقتِه، ودخَلَ فيه اليتيمُ البعيدُ والفقيرُ مِن بابِ الأَولى، وإن كان أجنبيًّا [119] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/63). .
2- قولُه تعالَى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ
- قولُه: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا قيل: (ثُمَّ) لتَراخي الإيمانِ وتَباعُدِه في الرُّتبةِ، فتدُلُّ على أنَّ مَضمونَ الجُملةِ المَعطوفةِ بها أرْقى رُتبةً في الغرَضِ المَسوقِ له الكلامُ مِن مَضمونِ الكلامِ المعطوفةِ عليه، فيَصيرُ تَقديرُ الكلامِ: فلا اقتحَمَ العَقَبةَ بفكِّ رقَبةٍ أو إطعامٍ، بعْدَ كونِه مُؤمنًا؛ لأنَّ الإيمانَ هو السَّابقُ المقدَّمُ على غيرِه، ولا يَثبُتُ عمَلٌ صالحٌ إلَّا به، أو يكونُ التَّراخي في الذِّكرِ، كأنَّه قيل: ثمَّ اذكُرْ أنَّه كان مِن الَّذين آمَنوا [120] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/757)، ((تفسير البيضاوي)) (5/314)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/451، 452)، ((تفسير أبي حيان)) (10/483)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/360)، ((تفسير أبي السعود)) (9/162)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/490). .
- وفي فِعلِ كَانَ إشعارٌ بأنَّ إيمانَه سابقٌ على اقتِحامِ العقَبةِ المطلوبةِ فيه بطَريقةِ التَّوبيخِ على انتفائِها عنه، فعطْفُ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا على الجُمَلِ المَسوقةِ للتَّوبيخِ والذَّمِّ، يُفيدُ أنَّ هذا الصِّنفَ مِن النَّاسِ -أو هذا الإنسان المُعيَّن- لم يكُنْ مِن المؤمنينَ، وأنَّه مَلومٌ على ما فرَّطَ فيه؛ لانتفاءِ إيمانِه، وأنَّه لو فعَلَ شيئًا مِن هذه الأعمالِ الحَسَنةِ، ولم يكُنْ مِن الَّذين آمَنوا؛ ما نَفَعَه عمَلُه شيئًا؛ لأنَّه قد انتَفى عنه الحظُّ الأعظمُ مِن الصَّالحاتِ، كما دلَّت عليه (ثُمَّ) مِن التَّراخي الرُّتبيِّ، فهو مُؤذِنٌ بأنَّه شرْطٌ في الاعتدادِ بالأعمالِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/360). .
- وقال هنا: مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا دونَ أنْ يقولَ: (ثُمَّ كان مؤمنًا)؛ لأنَّ كَونَه مِن الَّذين آمَنوا أدَلُّ على ثُبوتِ الإيمانِ مِن الوَصفِ بمؤمنٍ؛ لأنَّ صِفةَ الجَماعةِ أقوَى، مِن أجْلِ كَثرةِ الموصوفينَ بها؛ فإنَّ كثرةَ الخَيرِ خَيرٌ. ثم في هذه الآيةِ تقويةٌ أُخرَى للوصفِ، وهو جَعْلُه بالموصولِ المُشعِرِ بأنَّهم عُرِفوا بالإيمانِ بيْنَ الفِرَقِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/361). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ آَمَنُوا؛ للعِلمِ به، أي: آمَنوا باللهِ وحْدَه، وبرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودِينِ الإسلامِ؛ فجُعِلَ الفِعلُ كالمُستغني عن المُتعلَّقِ، وأيضًا لِيَتأتَّى مِن ذِكرِ الَّذِينَ آَمَنُوا تَخلُّصٌ إلى الثَّناءِ عليهم بقولِه: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، ولبِشارتِهم بأنَّهم أصحابُ المَيمنةِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/361). .
- وخُصَّ بالذِّكرِ مِن أوصافِ المؤمنينَ تَواصِيهم بالصَّبرِ وتَواصِيهم بالمَرحمةِ؛ لأنَّ ذلك أشرَفُ صِفاتِهم بعْدَ الإيمانِ، وهو أيضًا كِنايةٌ عن اتِّصافِهم بالمَرحمةِ؛ لأنَّ مَن يُوصي بالمَرحمةِ هو الَّذي عَرَفَ قَدْرَها وفضْلَها، فهو يَفعَلُها قبْلَ أنْ يُوصِيَ بها. وفيه تَعريضٌ بأنَّ أهلَ الشِّركِ لَيسوا مِن أهلِ الصَّبرِ ولا مِن أهْلِ المَرحمةِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/361). .
3- قولُه تعالَى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ افتتح باسمِ الإشارةِ؛ لتَمييزِهم أكمَلَ تَمييزٍ؛ لإحضارِهِم بصِفاتِهم في ذِهنِ السَّامعِ، مع ما في اسمِ الإشارةِ مِن إرادةِ التَّنويهِ والتَّعظيمِ [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/362). .
- وفي قولِه: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ خُولِفَ في التَّعبيرِ؛ فقدْ أشارَ إلى المؤمنينَ تَكريمًا لهم، وأنَّهم حاضِرون عندَه تعالَى في مَقامِ كَرامتِه، وبمنزلةِ الجالسينَ أمامَه، لا يَعْدو الأمرُ أكثَرَ مِن الإشارةِ إليهم بالبَنانِ، ثمَّ استُعمِلَ لَفظُ الإشارةِ الدَّالِّ على البُعدِ، فلمْ يُقَلْ: (هؤلاء)؛ إيذانًا ببُعدِ مَنزلتِهم عندَه، ونَيلِهم شَرَفَ الحُظوةِ والقُربِ منه، أمَّا الكافرون فقدْ ذَكَرَهم بضَميرِ الغَيبةِ إشارةً إلى أنَّهم غائبون عن مَقامِ تَجلِّياتِه وسُبحاتِ فُيوضاتِه، وأنَّهم لا يَستَأهِلون أنْ يَمُتُّوا إليه ولو بأوهَنِ الأسبابِ، وهذا مِن العَجَبِ العُجابِ، فتَدبَّرْه [126] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/314)، ((تفسير أبي السعود)) (9/162)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/492). !
- وجُملةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ تَتميمٌ لِما سِيقَ مِن ذَمِّ الإنسانِ المذكورِ آنِفًا؛ إذ لم يُعقَبْ ذمُّه هنالك بوَعيدِه عِنايةً بالأهمِّ، وهو ذِكرُ حالةِ أضْدادِه ووَعْدِهم، فلمَّا قُضِيَ حقُّ ذلك ثُنِيَ العِنانُ إلى ذلك الإنسانِ، فحَصَل مِن هذا النَّظمِ البديعِ مُحسِّنُ ردِّ العَجُزِ على الصَّدرِ [127] رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ: هو جَعْلُ أحدِ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ -المتَّفِقَينِ في اللَّفظِ والمعنَى، أو المُتجانِسَينِ المُتَّفِقَينِ في اللَّفظِ دون المعنى، أو المُلحقَينِ بهما، بأنْ جمَعَهما اشتِقاقٌ أو شبهُه- في أوَّلِ الكلامِ، ثمَّ إعادةُ ذلك في آخِرِ الكلامِ، كقولِه تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37] ، وقولِه تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 10] ، وهو مِن جِهاتِ الحُسنِ في الكَلامِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 430)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 333)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 358). ، ومُحسِّنُ الطِّباقِ [128] الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ معَ مراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِن الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، طابَق بيْنَ الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقونَ. ومنه: طباق ظاهرٌ، وهو ما كان وجْهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خَفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متوهَّمةٌ، فتبدو المُطابَقةُ خفيَّةً؛ لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ، كقولِه تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخالَ النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ، ومنه قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القصاصِ: القتلُ، فصار القتْلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أملَحِ الطِّباقِ وأخفاه. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 111)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) للبهاء السبكي (2/225)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 566). بيْن المَيْمَنةِ والمَشْأمةِ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/363). .
- وضَميرُ الفصْلِ في قولِه: هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ لتَقويةِ الحُكْمِ، وليس للقصْرِ؛ إذ قدِ استُفِيدَ القَصرُ مِن ذِكرِ الجُملةِ المُضادَّةِ الَّتي قبْلَها، وهي أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/363). .
- وجُملةُ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ بدَلُ اشتِمالٍ [131] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ (خُلُقُه) بدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) (3/249). مِن جُملةِ هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، أو استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن الإخبارِ عنهم بأنَّهم أصحابُ المَشأمةِ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/363). .
- وعَلَيْهِمْ مُتعلِّقٌ بـ مُؤْصَدَةٌ، وقُدِّمَ على عاملِه؛ للاهتمامِ بتَعلُّقِ الغلْقِ عليهم تَعجيلًا للتَّرهيبِ. وقدِ استَتَبَّ بهذا التَّقديمِ رِعايةُ الفواصلِ بالهاءِ ابتداءً مِن قولِه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/363). [البلد: 11] .