موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (79-82)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريب الكلمات :

زَكَاةً: أي: صلاحًا وطَهارةً، وأصل (زكو): يدُلُّ على نماءٍ وزيادةٍ .
رُحْمًا: أي: رَحمةً وعَطفًا، وأصلُ (رحم): يدُلُّ على الرِّقَّةِ والعَطفِ والرَّأفةِ .
أَعِيبَهَا: أي: أجعَلَها ذاتَ عَيبٍ .
يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا: بلَغ أشدَّه، أي: بلَغ مُنْتهَى شَبابِه وقُوَّتِه، أو: اشتدَّ جِسْمُه وقوي، والبُلوغُ والبَلاغُ: الانتهاءُ إلى أقصَى المقصدِ والمنتهَى. وأصلُ (بلغ): الوصولُ إلى الشَّيءِ، وأصل (شدد): يدلُّ على قوةٍ في الشيءِ .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى قولَ الخضرِ لموسى حيثُ بيَّن له ما خفِي عليه مِن الأمورِ الثلاثةِ، وأنَّه قال له: أمَّا السَّفينةُ التي خَرقتُها فإنَّها كانت لأُناسٍ مَساكينَ يَعمَلونَ في البَحرِ عليها، فأردتُ أن أَعيبَها بذلك الخَرقِ؛ لأنَّ أمامَهم مَلِكًا كان يَستولي على كُلِّ سَفينةٍ صالحةٍ غَصبًا مِن أصحابِها. وأمَّا الغلامُ الذي قتَلْتُه فكان أبوه وأمُّه مُؤمِنَينِ، وكان هو -في عِلمِ ربِّك- كافرًا، فخَشِينا لو بَقِيَ الغلامُ حيًّا أن يَحمِلَ والِدَيه على الكُفرِ باللهِ تعالى، فأرَدْنا أن يُبدِلَ اللهُ أبَوَيه بمن هو خيرٌ منه صَلاحًا ودينًا، وطهارةً مِن الذُّنوبِ، وبِرًّا بهما، وأرحمُ بهما منه. وأمَّا الحائِطُ الذي أقمتُه فكان لغُلامَينِ يَتيمَينِ في المدينةِ، وكان تحته كَنزٌ لهما، وكان أبوهما رَجُلًا صالحًا، فأراد ربُّك أن يَكبَرا ويبلُغا تمامَ قُوَّتِهما، ويسَتخرِجا كنزَهما؛ رحمةً مِن رَبِّك بهما. وما فعَلْتُ -يا موسى- جميعَ الأمورِ التي رأيتَني فعَلْتُها، عن أمري ومِن تلقاءِ نَفسي، وإنَّما فعَلْتُها عن أمرِ اللهِ، ذلك الذي بَيَّنْتُ لك أسبابَه هو تَفسيرُ الأمورِ التي لم تَستَطِعْ صَبْرًا عن سؤالي عنها.

تفسير الآيات:

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79).
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ.
أي: قال الخَضِرُ لموسى: أمَّا السَّفينةُ التي خَرَقْتُها فكانت لمساكينَ يَطلُبونَ فيها الرِّزقَ في البَحرِ .
وفي قصةِ موسَى والخضرِ عليهما السلامُ، من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((وجدا معابِرَ صِغارًا تحمِلُ أهلَ هذا السَّاحِلِ إلى أهلِ هذا السَّاحِلِ الآخَرِ، عَرَفوه فقالوا: عبدُ الله الصَّالحُ -قال: قُلْنا لسعيدِ بنِ جُبَير: خَضِر؟ قال: نَعَم- لا نحمِلُه بأجرٍ، فخَرَقَها ووتَدَ فيها وتدًا )) .
فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا.
أي: فأردتُ أن أخرِقَ السَّفينةَ، فأجعَلَها مَعِيبةً .
  وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا.
أي: وكان أمامَ أصحابِ السَّفينةِ مَلِكٌ ظالِمٌ يَستولي على كُلِّ سَفينةٍ صالحةٍ قَهرًا .
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، فإذا جاء الذي يُسَخِّرُها وجَدَها مُنخَرِقةً فتَجاوَزَها، فأصلَحوها بخَشَبةٍ )) .
وفي روايةٍ: ((فأرَدتُ إذا هي مَرَّتْ به أن يَدَعَها لِعَيبِها، فإذا جاوَزوا أصلَحوها، فانتَفَعوا بها )) .
وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (فكان ابنُ عبَّاسٍ يقرأُ: «وكان أمامَهم مَلِكٌ يأخُذُ كُلَّ سَفينةٍ صالحةٍ غَصبًا») .
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80).
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ.
أي: وأمَّا الغلامُ الذي قتَلْتُه، فكان أبوه وأمُّه مُؤمِنَينِ باللهِ، وكان الغُلامُ كافِرًا .
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ: ((وأمَّا الغُلامُ فطُبِعَ يومَ طُبِعَ كافِرًا )) .
وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (فكان ابنُ عَبَّاسٍ يَقرأُ: «وأمَّا الغلامُ فكان كافِرًا وكان أبواه مؤمِنَينِ») .
فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا.
أي: فخَشِينا إنْ بَقِيَ الغلامُ حيًّا أن يغْشَى أبوَيه بالعُقوقِ، ويَحمِلَهما على الكُفرِ باللهِ .
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ: ((وأمَّا الغُلامُ فطُبِع يومَ طُبِع كافِرًا، وكان أبواه قد عطَفَا عليه، فلو أنَّه أدرك، أرهَقَهما طُغيانًا وكُفرًا )) .
وفي روايةٍ: ((فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا أن يَحمِلَهما حُبُّه على أن يُتابِعاه على دِينِه )) .
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81).
أي: قال الخَضِرُ: فأرَدْنا بقَتلِ الغُلامِ الكافِرِ أن يُبدِلَ اللهُ أبوَيه المُؤمِنَينِ ولَدًا صالِحًا خَيرًا مِن الأوَّلِ: دينًا، وصَلاحًا، وطهارةً مِن الذُّنوبِ، وأرحمَ بوالِدَيه، وأبَرَّ بهما منه .
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((ووقع أبوه على أمِّه فَعَلِقَتْ ، فوَلَدَت منه خيرًا منه زكاةً، وأقرَبَ رُحمًا )) .
وفي حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ أيضًا في روايةٍ: ((وَأَقْرَبَ رُحْمًا هما به أرحَمُ منهما بالأوَّلِ الذي قَتَل خَضِرٌ )). قال ابنُ جُرَيجٍ: وزعم غيرُ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ: أنهما أُبدِلَا جاريةً. وأما داودُ بنُ أبي عاصِمٍ فقال: عن غيرِ واحدٍ: إنَّها جاريةٌ .
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82).
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ.
أي: وأمَّا الحائِطُ الذي أقَمْتُه فكان لغُلامَينِ يتيمَينِ في المدينةِ التي أبَى أهلُها أن يُضَيِّفونا، فحالُهما تقتضي رحمَتَهما والرَّأفةَ بهما؛ لكَونِهما صَغيرَينِ فَقَدا أباهما .
  وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا.
أي: وكان تحت الجِدارِ مالٌ عَظيمٌ مَدفونٌ لليتيمَينِ، فلو وقع الجِدارُ لكان أقرَبَ إلى ضَياعِ مالِهما .
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا.
أي: وكان والِدُ اليتيمَينِ -الذي مات وخلَّفهما- صالِحًا، فينبغي مُراعاتُه، والعنايةُ بذُرِّيتِه .
  فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا.
أي: فأراد ربُّك -يا موسى- أن يَكبَرَ اليتيمانِ حتى يَصِلا إلى سِنِّ الرُّشدِ، وتَمامِ القُوَّةِ، ويَستَخرِجا حينَئذٍ مالَهما المدفونَ تحت الجِدارِ .
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
أي: هذا الذي كان -يا موسى- إنما فَعَلْتُه رَحمةً مِنْ رَبِّك .
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي.
أي: وما فعلتُ جميعَ تلك الأمورِ التي رأيتَني فعَلْتُها عن رأيي، ومِن تِلقاءِ نَفسي، وإنَّما فعَلْتُها بأمرِ اللهِ .
ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا.
أي: ذلك الذي بيَّنْتُه لك -يا مُوسى- هو تَفسيرُ أفعالي التي استنكَرْتَها عليَّ، ولم تستَطِعْ أن تَصبِرَ عن سؤالي عنها .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا يدُلُّ على أنَّ العبدَ الصَّالحَ قدْ يحفظُه الله تعالى بصلاحِه بعدَ موتِه في ذُرِّيَّتِه، وتشملُ بركةُ  عبادتِه لهم في الدُّنيا والآخرةِ، بشفاعتِه فيهم، ورفعِ درجتِهم إلى أعلَى درجةٍ في الجنَّةِ؛ لتَقَرَّ عينُه بهم، كما جاءَ في القرآنِ، وورَدَتِ السُّنَّةُ به ، فالآيةُ دلَّت على أنَّ الوعدَ على العملِ الصالحِ ليس مختصًّا بالآخرةِ، بل يدخلُ فيه أمورُ الدنيا حتى في الذريَّةِ بعدَ موتِ العاملِ .
2- قولُ الله تعالى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فيه أنَّ هذه القَضايا التي أجراها الخَضِرُ، هي قَدَرٌ مَحضٌ، أجراها الله وجعَلَها على يَدِ هذا العَبدِ الصَّالحِ؛ لِيستَدِلَّ العبادُ بذلك على ألطافِه في أَقضِيَتِه، وأنَّه يُقدِّرُ على العبدِ أمورًا يَكرَهُها جِدًّا، وهي صلاحُ دِينِه، كما في قَضِيَّةِ الغُلامِ، أو وهي صَلاحُ دُنياه كما في قَضِيَّةِ السَّفينةِ، فأراهم نَموذجًا مِن لُطفِه وكَرَمِه؛ لِيَعرِفوا ويَرضَوا غايةَ الرِّضا بأقدارِه المكروهةِ .
3- قَولُ الله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فيه أنَّ خِدمةَ الصَّالِحينَ أو من يتعَلَّقُ بهم، أفضَلُ مِن غَيرِها؛ لأنَّه عَلَّلَ استخراجَ كَنزِهما، وإقامةَ جِدارِهما بأنَّ أباهما صالِحٌ .
4- قَولُ الله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا فيه استِعمالُ الأدَبِ مع الله تعالى في الألفاظِ؛ فإنَّ الخَضِرَ أضاف عَيبَ السَّفينةِ إلى نَفسِه، وأمَّا الخَيرُ فأضافه إلى اللهِ تعالى فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، كما قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] ، وقالت الجِنُّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] ، مع أنَّ الكُلَّ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فيه أنَّ المسكينَ قد يكونُ له مالٌ لا يَبلُغُ كِفايتَه، ولا يَخرُجُ بذلك عن اسمِ المَسكنةِ؛ لأنَّ الله أخبَرَ أنَّ هؤلاء المساكينَ لهم سَفينةٌ ، وأنَّ المسكينَ أصلَحُ حالًا مِن الفَقيرِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فيه أنَّ العَمَلَ يجوزُ في البَحرِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فيه دَليلٌ على أنَّ عَمَلَ الإنسانِ في مالِ غَيرِه، إذا كان على وَجهِ المَصلَحةِ وإزالةِ المَفسَدةِ، أنَّه يجوزُ ولو بلا إذنٍ، حتى ولو ترَتَّبَ على عَمَلِه إتلافُ بَعضِ مالِ الغَيرِ، كما خَرَق الخَضِرُ السَّفينةَ؛ لِتَعيبَ فتَسلَمَ مِن غَصبِ المَلِك الظَّالمِ، فعلى هذا لو وقَعَ حَرقٌ أو غَرَقٌ أو نحوُهما في دار إنسانٍ أو مالِه، وكان إتلافُ بَعضِ المالِ، أو هَدمُ بعضِ الدارِ، فيه سَلامةٌ للباقي؛ جاز للإنسانِ، بل شُرِعَ له ذلك؛ حِفظًا لمالِ الغَيرِ، وكذلك لو أراد ظالِمٌ أخْذَ مالِ الغَيرِ، ودفَعَ إليه إنسانٌ بعضَ المالِ؛ افتداءً للباقي جاز، ولو مِن غَيرِ إذنٍ .
4- في قَولِه تعالى حكايةً عن الخَضِر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا إلى قَولِه سُبحانَه: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ دَلالةٌ على أنَّ الحقَّ عندَ اللهِ واحِدٌ، وإنْ كان قد جُعِلَ لكلٍّ بأنْ يتكَلَّمَ فيه على اختلافِ ظاهرِ الرأيِ؛ إِذْ إنكارُ موسى فِعْلَ الخَضِرِ -صلَّى اللهُ عليهما- كان حقًّا في الظَّاهِرِ عندَه، وفِعْلُ الخَضرِ هو الحقُّ عندَ اللهِ في الباطِنِ .
5- في قَولِه تعالى حكايةً عن الخَضِر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا دَلالةٌ على أنَّ إحياءَ الحُقوقِ بذَهابِ بَعضِها قُربةٌ إلى اللهِ، إذا لم يوجدِ السَّبيلُ إليه إلَّا بذلك؛ لأنَّ الخَضِرَ صلَّى اللهُ عليه قد أنقَصَ بخَرقِ السَّفينةِ مِن ثَمَنِها؛ طَمَعًا في أنْ يبقى أصلُها لأصحابِها .
6- قال الله تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا عن قتادةَ قال: قال مُطَرِّفُ بنُ الشِّخِّيرِ: (إنَّا لَنعلَمُ أنَّهما قد فَرِحا به يومَ وُلِدَ، وحَزِنا عليه يومَ قُتِلَ، ولو عاش لكان فيه هلاكُهما، فلْيَرضَ العَبدُ بما قَسَم اللهُ له؛ فإنَّ قَضاءَ اللهِ للمُؤمِنِ خَيرٌ مِن قَضائِه لِنَفسِه، وقضاءُ اللهِ لك فيما تَكرَهُ خَيرٌ مِن قَضائِه لك فيما تُحِبُّ) .
7- قال الله تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا يُستفادُ مِن هذه الآيةِ تَهوينُ المصائِبِ بفَقدِ الأولادِ، وإن كانوا قِطَعًا مِن الأكبادِ، ومَن سَلَّم للقضاءِ، أسفَرَت عاقِبَتُه عن اليدِ البَيضاءِ .
8- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ؛ لأنَّ الأمَّةَ بأسرِها مُجمِعةٌ على أنَّ المولودَ بين أبوينِ مُؤمِنَينِ يكونُ مُؤمِنًا، وهذا مولودٌ طُبِعَ كافِرًا، وأبواه مُؤمِنان، وليس في ذلك ارتيابٌ البتَّةَ؛ لإباحةِ قَتلِه، ولإخبارِ الكُفرِ عنه بلَفظِه، فلو لم يكُنْ مِن الحُجَّةِ عليهم إلَّا هذا الغلامُ المخلوقُ كافرًا، وإباحةُ قَتلِه قبلَ بُلوغِ الحِنثِ، وجَريِ القَلَمِ عليه، والسَّلكُ به غيرَ مَسلَكِ أبوَيه؛ لكفى، فأين تَحذلُقُهم وادِّعاءُ الفَلسفةِ في مَعرفةِ عَدْلِ اللهِ عندهم بعُقولِهم النَّاقِصةِ العاثرةِ؟! وهل يَقدِرونَ في هذا الموضِعِ إلَّا على التَّسليمِ لعَدلٍ لا يَعرِفونَه ضَرورةً، فيَلزَمُهم أن يُسَلِّموه في بابِ القَضاءِ والقَدَرِ ضَرورةً، أو يَكفُرونَ بالقُرآنِ، ويَنسُبونَ الخَضِرَ -صلى الله عليه- إلى أنَّه قَتَل في الحقيقةِ نَفسًا زكيَّةً بغيرِ نَفسٍ، كما رأى موسى -صلَّى الله عليه- مِن ظاهِرِ فِعلِه، وكيف لهم بذلك -وَيْلَهم- وقد سَلَّمَه موسى للخَضِر، وعَلِمَ أنَّه الحَقُّ، ثمَّ أخبَرَ اللهُ نبيَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأنزله في كتابِه الذي لا يأتيه الباطِلُ مِن بينِ يَدَيه ولا مِن خَلفِه مِن غيرِ إنكارٍ عليه؟! بل أخبَرَ أنَّه فعَلَ بأمْرِه تبارك وتعالى حيثما يقولُ إخبارًا عنه -صلَّى الله عليه-: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا فيه دليلٌ على أنَّه يُدفَعُ الشَّرُّ الكبيرُ بارتِكابِ الشَّرِّ الصَّغيرِ، وأنَّه يُراعى أكبَرُ المصلَحَتينِ بتَفويتِ أدناهما؛ فإنَّ قَتلَ الغُلامِ شَرٌّ، ولكِنَّ بقاءَه حتى يَفتِنَ أبوَيه عن دينِهما أعظَمُ شَرًّا منه، وبقاءُ الغلامِ مِن دونِ قَتلٍ وعِصمَتُه، وإن كان يُظَنُّ أنَّه خَيرٌ، فالخَيرُ ببقاءِ دينِ أبوَيه وإيمانِهما خيرٌ مِن ذلك؛ فلذلك قَتَله الخَضِر، وتحت هذه القاعدةِ مِن الفُروعِ والفوائِدِ ما لا يدخُلُ تحتَ الحَصرِ، فتزاحُمُ المصالحِ والمفاسِدِ كُلِّها داخِلٌ في هذا .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ لَمَّا كان التَّعويضُ عن هذا الولَدِ لله وَحدَه، أسنَدَ الفِعلَ إليه تعالى .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ فيه دليلٌ على إطلاقِ القريةِ على المدينةِ، وجوازِ تَسميةِ إحداهما بالأُخرى؛ لأنَّه قال أولًا: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ، وقال هاهنا: فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ .
12- وَصْفُ الغُلامَينِ باليُتْمِ في قَولِه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ يَدُلُّ على أنَّهما كانا صَغيرَين .
13- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا يدُلُّ على أنَّه يجوزُ دَفنُ المالِ في الأرضِ .
14- في قَولِه تعالى: وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إباحةُ حِفْظِ الأموالِ على الصِّغارِ إلى وقتِ البُلوغِ .
15- قولُه تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فيه ردٌّ على مَن اعتقَد أنَّ الإنسانَ لا ينتفعُ إلَّا بعملِه؛ فإنَّ الغلامَينِ اليتيمَينِ قد انتَفَعا بصَلاحِ أبيهما، وليس مِن سَعيِهما .
16- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي استَدَلَّ به مَن قال بنُبُوَّةِ الخَضِر؛ لأنَّه يقتضي أنَّه أُوحِيَ إليه ، وهو مِن أوضَحِ ما يُستدلُّ به على نُبُوَّتِه
17- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا في قِصَّةِ موسى مع الخَضِر حثٌّ كبيرٌ على المجاهَرةِ بالمُبادرة بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَر والمُصابرةِ عليه، وألَّا يُراعَى فيه كَبيرٌ ولا صغيرٌ، إذا كان المرءُ على ثقةٍ مِن أمْرِه في الظَّاهِرِ بما عنده في ذلك مِن العِلمِ عن اللهِ ورَسولِه وأئِمَّةِ دِينِه .
18- هذه القِصَصُ التي أخبر اللهُ عزَّ وجَلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها عن موسى وصاحبِه: تأديبٌ منه له، وتقدُّمٌ إليه بتركِ الاستعجالِ بعُقوبةِ المُشرِكين الذين كذَّبوه واستهزَؤوا به وبكتابِه، وإعلامٌ منه له أنَّ أفعالَه بهم وإن جرت فيما ترى الأعيُنُ بما قد يجري مثلُه أحيانًا لأوليائِه؛ فإنَّ تأويلَه صائرٌ بهم إلى أحوالِ أعدائِه فيها، من هلاكِهم وبوارِهم بالسَّيفِ في الدُّنيا، واستحقاقِهم من اللهِ في الآخرةِ الخِزيَ الدَّائِمَ، كما كانت أفعالُ صاحبِ موسى واقعةً بخلافِ الصحَّةِ في الظاهِرِ عند موسى -إذ لم يكُنْ عالِمًا بعواقِبِها- وهي ماضيةٌ على الصحَّةِ في الحقيقةِ، وآيلةٌ إلى الصوابِ في العاقبةِ؛ يُنبئُ عن صحَّةِ ذلك قولُه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] ، ثمَّ عقَّب ذلك بقصَّةِ موسى وصاحِبِه .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
     - معنى كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فيه حذفٌ، والتقديرُ: أي: كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحةٍ، بقَرينةِ قولِه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا .
     - قولُه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا فيه تَقديمٌ وتَأخيرٌ، حيث قدَّم قولَه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا على قولِه: فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ، وقولِه: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ؛ لأنَّ إرادةَ التَّعييبِ مُسبَّبةٌ عن خوفِ الغَصبِ عليها، فكان حقُّ قولِه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا أن يتَأخَّرَ عن السَّببِ، وإنَّما قُدِّم؛ للعِنايةِ، ولأنَّ خوفَ الغَصبِ ليس هو السَّببَ وحدَه، ولكنْ مع كونِها للمَساكينِ . أو: لأنَّ السببَ لَمَّا كان مجموعَ الأمرَيْنِ: خَوْف الغَصْبِ، ومَسكَنة المُلَّاكِ؛ رتَّبه على أقْوى الجُزْأَين وأدْعاهُما، وعقَّبَه بالآخَرِ على سَبيلِ التَّقْييدِ والتَّتْميمِ .
     - وقُدِّم قولُه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا أيضًا خِلافًا لِمُقتَضى الظَّاهرِ؛ لِقَصدِ الاهْتِمامِ والعنايةِ بإرادةِ إعابةِ السَّفينةِ -حيثُ كان عمَلًا ظاهِرُه الإنكارُ، وحَقيقتُه الصَّلاحُ- زيادةً في تشويقِ موسى إلى عِلمِ تأويلِه؛ لأنَّ كَونَ السَّفينةِ لِمَساكينَ ممَّا يَزيدُ السَّامِعَ تَعجُّبًا في الإقدامِ على خَرقِها. والمعنى: فأرَدتُ أن أَعيبَها وقد فعَلْتُ، وإنَّما لم يَقُلْ: (فعِبْتُها)؛ لِيَدُلَّ على أنَّ فِعلَه وقَع عن قصدٍ وتأمُّلٍ .
     - ومِن المُناسَبةِ الحَسَنةِ كذلك: أنَّه عزَّ وجلَّ حَكَى عن الخَضِرِ أنَّه قال هنا: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا، وقال بَعدَه: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً [الكهف: 81] ، وقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82] ؛ فاختَلَفَتِ الإضافةُ في هذه الإراداتِ الثَّلاثِ، وهي كُلُّها في قِصَّةٍ واحدةٍ وفِعلٍ واحدٍ؛ ووجهُ ذلك: أنَّه لَمَّا ذَكَر (العَيب) أضافَ عَيبَ السَّفينةِ إلى إرادةِ نفسِه، فقال: أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا، مِن بابِ الأدَبِ مع اللهِ في الألفاظِ، أمَّا الخيرُ فأضافَه إلى اللهِ، فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. وأيضًا لَمَّا ذَكَر رِعايةَ مَصالِحِ اليتيمَيْنِ لأجْلِ صَلاحِ أبيهِما؛ أضافَه إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه سُبحانَه هو المتكفِّلُ بمَصالِحِ الأبناءِ لرِعايَةِ حقِّ الآباءِ. وقيل: أسنَد الإرادةَ في قصَّةِ الجِدارِ إلى اللهِ تعالى دونَ القِصَّتَينِ السَّابقَتين؛ لأنَّ العمَلَ فيهما كان مِن شأنِه أن يَسعَى إليه كلُّ مَن يَقِفُ على سِرِّه؛ لأنَّ فيهِما دفْعَ فَسادٍ عن النَّاسِ، بخِلافِ قِصَّةِ الجِدارِ؛ فتِلْك كَرامةٌ مِن اللهِ لأَبي الغُلامَين. وأيضًا قال في قِصَّة الجِدارِ والغُلامَينِ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا؛ لأنَّ بَقاءَ الغُلامَينِ حتى يَبلُغَا أَشُدَّهما ليس للخَضِرِ فيه أيُّ قُدرةٍ، لكنِ الخَشيةُ -خشيةُ أنْ يُرْهِقَ الغُلامُ أبويه بالكُفرِ- تَقَعُ مِن الخَضرِ، وكذلك إرادةُ عَيبِ السَّفينةِ.  ولَمَّا ذكَر (القَتْلَ) عبَّر عن نفْسِه بلَفظِ الجَمعِ، فقال: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً [الكهف: 81] ؛ ووجهُ ذلك: الإشارةُ إلى أنَّه لا يُقْدِمُ على هذا القتلِ إلَّا لحِكْمةٍ عاليَةٍ، ولأنَّ قَتْلَه للغُلامِ إفسادٌ من حَيثُ القَتلُ، وإنعامٌ من حيثُ التَّأويلُ؛ فأسنَده إلى نَفْسِه وإلى اللهِ عزَّ وجلَّ، بخِلافِ الأوَّلِ (عَيْب السَّفينة) فإنَّه في الظَّاهرِ إفسادٌ؛ فأسنَدَه إلى نَفْسِه، والثَّالثَ (إقامة الجِدار) فإنَّه إنعامٌ مَحضٌ؛ فأسنَدَه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ. وأيضًا ضَميرَا الجَماعةِ في قولِه: فَخَشِينَا، وقولِه: فَأَرَدْنَا عائِدانِ إلى المتكلِّمِ الواحدِ بإظهارِ أنَّه مُشارِكٌ لغيرِه في الفِعلِ، وهذا الاستِعْمالُ يَكونُ من التَّواضُعِ لا مِن التَّعاظُمِ؛ لأنَّ الْمَقامَ مَقامُ الإعلامِ بأنَّ اللهَ أطْلَعه على ذلك، وأمَرَه، فناسبَه التَّواضُعُ، فقال: فَخَشِينَا فَأَرَدْنَا، ولم يَقُلْ مِثلَه عندَما قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا؛ لأنَّ سبَبَ الإعابةِ إدراكُ حالِ تِلك الأصْقاعِ .
2- قوله تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا
     - قولُه: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ولم يُصرِّحْ بكُفرِ الغُلامِ؛ إشعارًا بعدَمِ الحاجةِ إلى الذِّكْرِ؛ لظُهورِه .
3- قوله تعالى: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا
     - قوله: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا في التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، والإضافةِ إليهما: ما لا يَخْفى مِن الدَّلالةِ على إرادةِ وُصولِ الخيرِ إليهِما .
     - وقال: زَكَاةً مُراعاةً لقولِ موسى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً .
4- قوله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
     - قولُه: فِي الْمَدِينَةِ هي القريةُ المذكورةُ فيما سبَق؛ ولعلَّه عبَّر عنها بذلك؛ لإظهارِ نوعِ اعْتِدادٍ بها، باعْتِدادِ ما فيها مِن اليتيمَيْن وأَبيهِما الصَّالحِ .
     - قولُه: فَأَرَادَ رَبُّكَ في إضافةِ الرَّبِّ إلى ضَميرِ موسَى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دونَ ضَميرِهما: تَنبيهٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على تَحتُّمِ كَمالِ الانْقِيادِ والاستِسْلامِ لإرادَتِه سُبحانه، ووجوبِ الاحْتِرازِ عن المناقَشةِ فيما وقَع بحسَبِها مِن الأمورِ المذكورةِ .
     - وقولُه: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي تصريحٌ بما يُزيل إنكارَ موسى عليه تَصرُّفاتِه هذه بأنَّها رحمةٌ ومصلَحةٌ؛ فلا إنكارَ فيها بعدَ مَعرِفةِ تأويلِها. ثمَّ زاد بأنَّه فعَلَها عن وحيٍ مِن اللهِ؛ لأنَّه لَمَّا قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي عَلِم موسى أنَّ ذلك بأمرٍ مِن اللهِ تعالى؛ لأنَّ النَّبيَّ إنَّما يتَصرَّفُ عن اجتهادٍ أو عن وحيٍ -هذا على القولِ بأنَّ الخضرَ كان نبيًّا-، فلمَّا نَفى أن يَكونَ فِعلُه ذلك عن أمرِ نفسِه تعيَّن أنَّه عن أمرِ اللهِ تعالى. وإنَّما أُوثِرَ نفيُ كَونِ فِعلِه عن أمرِ نفْسِه على أن يَقولَ: (وفَعَلتُه عن أمرِ ربِّي)؛ تَكمِلةً لِكَشفِ حَيرةِ موسى وإنكارِه؛ لأنَّه لَمَّا أنكَر عليه فَعْلاتِه الثَّلاثَ كان يُؤيِّدُ إنكارَه بما يَقْتَضي أنَّه تَصرَّف عن خطأٍ .
5- قوله: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
     - وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن مَعْنى البُعْدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ درَجتِها في الفَخامةِ .
     - وجُملةُ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فَذْلَكةٌ للجُمَلِ الَّتي قبْلَها ابْتِداءً مِن قولِه: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف: 79] ؛ فالإشارةُ بذلك إلى المذكورِ في الكلامِ السَّابقِ، وهو تَلْخيصٌ للمَقْصودِ .
     - وفي جَعْلِ الصِّلةِ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا عَيْنَ ما مرَّ تَكريرٌ للتَّنكيرِ، وتَشديدٌ للعتابِ .
     - وقولُه: مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال عزَّ وجلَّ هنا: تَسْطِعْ بحذفِ التاءِ، بينما قال في الآيةِ الأُولَى: مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، بإثباتِ التَّاءِ؛ وذلك لأنَّه لمَّا أنْ فسَّرَه له وبَيَّنَه ووضَّحه، وأزالَ المشكلَ؛ قال: تَسْطِعْ، وقبلَ ذلك كان الإشكالُ قويًّا ثقيلًا فقَال: تَسْتَطِعْ فقابلَ الأثقلَ بالأثقلِ، والأخفَّ بالأخفِّ . وقيل: تَسْطِعْ مضارِعُ (اسْطَاعَ) بمَعْنى (اسْتَطَاعَ)، فحذَف تاءَ الاستِفْعالِ تَخفيفًا؛ لِقُربِها مِن مَخرَجِ الطَّاءِ، والمخالَفةِ بينَه وبينَ قولِه: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا للتَّفنُّنِ؛ تَجنُّبًا لإعادةِ لَفْظٍ بعَينِه مع وجودِ مُرادِفِه، وابتُدِئَ بأشهَرِهما استِعْمالًا، وجيءَ في الثَّانيةِ بالفِعْلِ المخفَّفِ؛ لأنَّ التَّخفيفَ أولَى به؛ لأنَّه إذا كَرَّر تَسْتَطِعْ يَحصُلُ مِن تَكْريرِه ثِقَلٌ .