موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيتان (77-78)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

فَأَبَوْا: أي: امْتَنعوا، والإباءُ: شِدَّةُ الامتناعِ؛ فكلُّ إباءٍ امتناعٌ، وليس كلُّ امتناعٍ إباءً .
يَنْقَضَّ: أي: يَسقُطَ وينهَدِمَ، وأصلُ (نقض): يدُلُّ على هُوِيِّ الشَّيءِ .
بِتَأْوِيلِ: أي: بعِلْمِ وتَفسيرِ، وأصلُ (أول): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الأصلِ؛ لأنَّ التَّأويلَ: إخبارٌ عمَّا يَرجِعُ إليه اللَّفظُ مِن المعنى .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: فسار موسى والخَضِرُ حتى أتيا أهلَ قَريةٍ، فطَلَبا منهم طعامًا على سَبيلِ الضِّيافةِ، فامتَنَعوا عن ضيافتِهما، فوجدا فيها حائِطًا مائِلًا يُوشِكُ أن يَسقُطَ، فأصلَحَه الخَضِرُ حتى صار مستقيمًا، قال له موسى: لو شِئتَ لأخَذْتَ على هذا العَمَلِ أجرًا، ولم تُقِمْه لهم مجَّانًا. قال الخَضِر لموسى: هذا وقتُ الفِراقِ بيني وبينَك، سأُخبِرُك بما أنكَرْتَ عليَّ مِن أفعالي التي فعَلْتُها، والتي لم تستَطِعْ أن تصبِرَ عن سؤالي عنها والإنكارِ عليَّ فيها.

تفسير الآيتين:

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77).
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا.
أي: فانطلق موسى والخَضِرُ يَسيرانِ بعدَ قَتْلِ الغُلامِ إلى أن بَلَغا قريةً فطَلَبا مِن أهلِها إطعامَهما، فامتَنَعوا عن أن يُنزِلوهما ويُطعِموهما؛ لُؤمًا منهم !
وفي حديثِ قِصَّةِ موسى والخَضِر: ((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئامًا، فطافا في المجالِسِ فـ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)) .
فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ.
أي: فوجَد موسى والخَضِرُ في تلك القريةِ حائِطًا مائِلًا يُوشِكُ أن يَسقُطَ ويَنهَدِمَ، فأصلَحَه الخَضِرُ، وعدَّل مَيلَه فاستقامَ .
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ: ((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ يقولُ: مائِلٌ، قال الخَضِرُ بيده هكذا، فأقامَه )) .
وفي روايةٍ: ((أومَأَ بِيَدِه هكذا، وأشار سُفيانُ كأنَّه يَمسحُ شَيئًا إلى فوق)) .
قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا.
أي: قال موسى للخَضِر: لو شِئتَ لم تُصلِحْ جِدارَ أهلِ هذه القريةِ اللِّئامِ، حتى يعطوك أُجرةً على ذلك، ولم تُقِمْه لهم مجَّانًا .
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ: ((قال له موسى: قومٌ أتيناهم فلم يُضَيِّفونا ولم يُطعِمونا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)) !
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر في روايةٍ: ((لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا: أجرًا نأكُلُه )) .
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78).
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ.
أي: قال الخَضِرُ لموسى: سُؤالُك لي واعتراضُك على فِعلي للمَرَّةِ الثالثةِ سَبَبُ حُصولِ الفِراقِ بيني وبينَك، وقد انتهى ما بينَنا، فلن تَصحَبَني بعدَ الآن .
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا.
أي: سأُخبرُك قبل مُفارَقتِك بتفسيرِ أفعالي التي أنكَرْتَها عليَّ، ولم تستَطِعْ أن تصبِرَ عن سؤالي عنها حتى أُخبِرَك بحَقيقتِها .

الفوائد التربوية:

قال الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فمَن لم يُعْطَ يَتَعَزَّ بهذه القصةِ، وكم ممن هانَ على الناسِ وهو جليلٌ عندَ الله .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، قال: أَتَيَا، ولم يقُلْ: (وصَلا إلى أهلِ قريةٍ)؛ إشارةً إلى أنَّ إتيانَهم لها كان على قَصدٍ .
2- قَولُ الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا في الآيةِ دَليلٌ على إباحةِ طَلَبِ الطعامِ لعابِرِ السَّبيلِ؛ لأنَّه شَرعُ مَن قَبلَنا، وحكاه القرآنُ، ولم يَرِدْ ما يَنسَخُه .
3- قَولُ الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا في الآيةِ مَشروعيَّةُ ضيافةِ عابِرِ السَّبيلِ إذا نزَل بأحدٍ مِن الحَيِّ أو القَريةِ .
4- في قولِه تعالى: اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ما عليه الإنسانُ مِن البشريةِ ولو كان نبيًّا، وذلك مِن أدلةِ التوحيدِ .
5- قال الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا في هذه الآيةِ إباحةُ المكاسِبِ، وأخذِ الأُجرةِ على العَمَلِ، وفي ذلك تجهيلُ مَن يُحَرِّمُ الكَسبَ مِن الصوفيَّةِ؛ لأنَّ موسى صلَّى اللهُ عليه وسلم قال له: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا فلم يُنْكِرِ الخَضِرُ ما قال، بل أعلَمَه أنَّ الانتظارَ به إلى وقتِ اتِّخاذِه الأجرَ لم يُمكِنْه؛ لِما خشِيَ مِن ظهورِ الكَنزِ بعد انقِضاضِه .
6- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أي: كان في مُكْنَتِك أي: استطاعتِك أن تجعَلَ لنفسِك أجرًا على إقامةِ الجِدارِ تأخُذُه ممَّن يَملِكُه من أهلِ القريةِ، ولا تقيمَه مجانًّا؛ لأنَّهم لم يقوموا بحَقِّ الضيافةِ، ونحن بحاجةٍ إلى ما نُنفِقُه على أنفُسِنا، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ نَفَقةَ الأتباعِ على المتبوعِ
7- وقولُ موسى عليه السَّلامُ: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا لَوْمٌ، وهذا اللَّومُ يتَضمَّنُ سُؤالًا عن سَببِ تَرْكِ المشارَطةِ على إقامةِ الجِدارِ عند الحاجةِ إلى الأجرِ، وليس هو لَوْمًا على مجرَّدِ إقامتِه مجَّانًا؛ لأنَّ ذلك مِن فِعلِ الخيرِ، وهو غيرُ مَلومٍ .
8- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قال: لَوْ شِئْتَ، وهذا لا شَكَّ أنَّه أُسلوبٌ رَقيقٌ فيه عَرضٌ لَطيفٌ، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أي: عِوَضًا عن بنائِه .
9- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ فيه سؤالٌ: كيف ساغ إضافةَ (بين) إلى غيرِ متعدِّدٍ؟
الجواب: أنَّ مسوِّغَ ذلك تكريرُه بالعَطفِ بالواو، ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولِك: (المالُ بيني) لم يكُنْ كلامًا حتى تقولَ: (بينَنا) أو (بيني وبينَ فلانٍ) .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا
     - قوله: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فيه تكرارُ (أَهْل) على سَبيلِ التَّوكيدِ، وقد يَظهَرُ له فائدةٌ عن التَّوكيدِ، وهو أنَّهما حينَ أتَيَا أهْلَ القريةِ لم يأتِيا جَميعَ أهْلِ القريةِ، إنَّما أتَيَا بعضَهم، فلمَّا قال: اسْتَطْعَمَا احتَمَل أنَّهما لم يَستطعِما إلَّا ذلك البعضَ الَّذي أتَيَاه، فجِيءَ بلَفظِ أَهْلَهَا؛ لِيَعُمَّ جَميعَهم، وأنَّهم يتبعونهم واحِدًا واحدًا بالاستِطْعامِ، ولو كان التَّركيبُ (استَطْعَماهم) لكان عائِدًا على البعضِ المأتيِّ ؛ فإظهارُ لفظِ أَهْلَهَا دونَ الإتيانِ بضميرِهم؛ لزيادةِ التَّصريحِ، تَشنيعًا بهِم في لُؤمِهم؛ إذْ أبَوْا أن يُضيِّفوهما .
2- قوله تعالى: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
     - قولُه: فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ فيه تَكريرُ (بين)، وعُدولُه عن (بَينِنا)؛ لِمَعنى التَّأكيدِ .
     - وجملةُ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا، تقَعُ جَوابًا لسُؤالٍ يَهجِسُ في خاطِرِ موسى عليه السَّلامُ عن أسبابِ الأفعالِ الَّتي فعَلَها الخَضِرُ عليه السَّلامُ، وسأَله عنها موسى؛ فإنَّه قد وعَده أن يُحْدِثَ له ذِكْرًا ممَّا يفعَلُه .
     - والسِّينُ في سَأُنَبِّئُكَ للتَّأكيدِ؛ لِعدَمِ تَراخي التَّنبِئةِ ، أي: سأُخبِرُك عن قُربٍ قبلَ المفارقةِ، و(السينُ) تدُلُّ على القُربِ، وتفيدُ مع القُربِ التَّحقيقَ .
     - وأكَّد الموصولَ الأولَ الواقِعَ في قولِه: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا؛ تأكيدًا للتَّعريضِ باللَّومِ على عدَمِ الصبرِ ؛ ففي جَعْلِ صِلَةِ الموصولِ عدَمَ استِطاعةِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للصَّبرِ -دونَ أن يُقالَ: بتأويلِ ما فعَلت، أو بتأويلِ ما رأيتَ، ونَحوُهما-: نوعُ تعريضٍ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعِتابٍ .