موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (45-49)

ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ ناداه، فقال: ربِّ إنَّك وعَدْتني أن تُنجِّيَني وأهلي من الغَرَقِ والهلاكِ، وإنَّ ابني هذا من أهلي، وإنَّ وَعدَك الحَقُّ الذي لا خُلْفَ فيه، وأنت أحكَمُ الحاكمينَ وأعدَلُهم.
قال الله: يا نوحُ إنَّ ابنَك الذي هلك ليس مِن أهلِك الذين وَعَدتُك أن أُنجيَهم؛ لأنَّه صاحبُ عملٍ غيرِ صالحٍ وهو الكفرُ، وإنِّي أنهاك أن تسألَني أمرًا لا عِلمَ لك به، إنِّي أعِظُك أن تكونَ مِن الجاهلينَ في مسألتِك إيَّاي عن ذلك.
قال نوحٌ: يا رَبِّ إنِّي أعتَصِمُ وأستجيرُ بك أن أسألَك ما ليس لي به عِلمٌ، وإنْ لم تغفِرْ لي ذنبي، وترحَمْني برَحمتِك، أكنْ مِن الهالكينَ. قال الله: يا نوحُ اهبِطْ مِن السَّفينةِ إلى الأرضِ بأمنٍ وسَلامةٍ منَّا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ مِن ذُرِّيةِ المؤمنينَ الذين معك في السَّفينةِ، ومنهم أمَمٌ وجَماعاتٌ مِن أهلِ الشَّقاءِ سنُمَتِّعُهم في الحياةِ الدُّنيا إلى أن يبلُغوا آجالَهم، ثمَّ ينالُهم منَّا العذابُ المُوجِعُ يومَ القيامةِ.
تلك القِصَّةُ التي قصَصْناها عليك- يا مُحمَّدُ- عن نوحٍ وقَومِه، هي من أخبارِ الغَيبِ السَّابقةِ، نوحيها إليك، ما كنتَ تَعلَمُها أنت ولا قَومُك مِن قبلِ هذا البَيانِ، فاصبِرْ على تكذيبِ قَومِك وإيذائِهم لك، كما صبَرَ الأنبياءُ مِن قَبلُ؛ إنَّ العاقِبةَ الطَّيِّبةَ في الدُّنيا والآخرةِ للمُتَّقينَ.

تفسير الآيات:

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45).
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ.
أي: ونادى نوحٌ ربَّه فقال: يا ربِّ، إنَّ ابني من أهلي الذين وعدْتَني أن تنجِّيَهم من الغَرَقِ، وإنَّ وَعْدَك الصِّدقُ الذي لا يُخلَفُ [529] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/425)، ((تفسير القرطبي)) (9/45)، ((تفسير ابن كثير)) (4/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 327). قال ابن تيمية: (وكان ابنُه قد سبق عليه القولُ، ولم يكن نوحٌ يعلمُ ذلك؛ فلذلك قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ظانًّا أنَّه دخل في جملةِ مَن وُعِد بنجاتِهم). ((منهاج السنة النبوية)) (4/348-349). وقال الشوكاني: (فإن قيل: كيف طلب نوحٌ عليه السلامُ إنجازَ ما وعده اللهُ بقولِه: وَأَهْلَكَ [هود: 40] وهو المستثنى منه، وترَكَ ما يفيده الاستثناءُ، وهو إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ؟! فيجاب: بأنه لم يعلم إذ ذاك أنَّه ممَّن سبق عليه القول، فإنه كان يظنُّه من المؤمنين). ((تفسير الشوكاني)) (2/570). وذهب ابنُ عطيةَ والشنقيطي أيضًا إلى أنَّ نوحًا عليه السلامُ ظنَّ أنَّ ابنَه مؤمنٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/176)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/333). قال ابن جزي: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ يحتمِلُ أن يكونَ هذا النداءُ قبلَ الغرقِ، فيكون العطفُ مِن غيرِ ترتيبٍ، أو يكونَ بعدَه). ((تفسير ابن جزي)) (1/371). وقال ابنُ عطية في قوله: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ: (هذه جملةٌ معطوفةٌ على التي قبلَها دونَ ترتيبٍ، وذلك أنَّ هذه القصةَ كانت في أوَّلِ ما ركِب نوحٌ في السفينةِ، ويظهرُ مِن كلامِ الطبريِّ أنَّ ذلك كان بعدَ غرقِ الابنِ، وهو محتملٌ، والأوَّلُ أليقُ). ((تفسير ابن عطية)) (3/176). .
وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.
أي: وأنت- يا ربِّ- أعدَلُ الحاكمينَ، لا ظُلمَ في حُكمِك، ولا خطأَ [530] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/425)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 522)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/70). قال محمد رشيد رضا: (حُكمُه تعالى يُطلَقُ على ما يَشرَعُه من الأحكام، وعلى ما ينفِّذُه في عباده من جزاءٍ على الأعمال). ((تفسير المنار)) (12/70). .
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46).
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.
أي: قال الله: يا نوحُ، إنَّ ابنَك ليس مِن أهلِك المؤمنينَ [531] قال ابنُ كَثيرٍ: (وقد نَصَّ غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ على تَخطِئةِ مَن ذهَب في تفسيرِ هذا إلى أنَّه ليس بابنِه، وإنَّما كان ابنَ زَنْيَةٍ، وقال ابنُ عبَّاسٍ، وغيرُ واحدٍ مِن السَّلف: ما زنَت امرأةُ نَبِيٍّ قَطُّ. قال: وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] أي: الَّذين وَعدْتُكَ نَجاتَهُم. وقولُ ابنِ عبَّاسٍ في هذا: هو الحَقُّ الذي لا مَحيدَ عنه، فإنَّ الله سُبحانه أَغْيَرُ مِن أن يُمَكِّنَ امرأةَ نَبِيٍّ مِن الفاحشةِ؛  ولهذا غَضِبَ اللهُ على الَّذين رَمَوْا أُمَّ المؤمنين عائشةَ بنتَ الصِّدِّيق زوجَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنكَر على المؤمنين الَّذين تَكلَّموا بهذا وأشاعوه ... قال ابنُ عُيينةَ: وأخبرني عمَّارٌ الدُّهْنِيُّ:  أنَّه سأل سعيدَ ابنَ جُبيرٍ عن ذلك، فقال: كان ابنَ نُوحٍ، إنَّ الله لا يَكذِب! قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ [هود: 42] قال: وقال بعضُ العُلماءِ: ما فَجَرَتْ امرأةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وكذا رُوِي عن مُجاهدٍ أيضًا، وعِكرمةَ، والضَّحَّاكِ، ومَيمونِ بنِ مِهرانَ، وثابتِ ابنِ الحَجَّاج، وهو اختِيارُ أبي جَعفرِ بنِ جَريرٍ، وهو الصَّوابُ الذي لا شَكَّ فيه). ((تفسير ابن كثير)) (4/326). الذين أمرتُك بحَملِهم، ووعَدتُك بأن أنجِّيَهم [532] يُنظر: ((أحكام القرآن للشافعي)) جمع البيهقي (1/74)، ((تفسير ابن جرير)) (12/425، 433)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 222، 223)، ((تفسير ابن كثير)) (4/325، 326). .
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ.
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ قراءتان:
1- قراءةُ عَمِلَ غَيْرَ بجَعلِ (عَمِلَ) فعلًا ماضيًا، والفاعلُ ضميرٌ مُستترٌ عائدٌ على ابنِ نوحٍ، والتقدير: إنه عَمِلَ عملًا غيرَ صالحٍ، مِن الكفرِ والتَّكذيبِ [533] قرأ بها الكسائي ويعقوب. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/289). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 187)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 341)، ((تفسير القرطبي)) (9/46)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/336). .
2- قراءةُ عَمَلٌ غَيْرُ بجَعْلِ (عَمَلٌ) اسمًا، فالتقديرُ: إنَّ ابنَك ذو عملٍ غيرِ صالحٍ، وقيل معناه: إنَّ سؤالَك إيَّاي أن أنجيَ كافرًا ليس مِن أهلِك عملٌ غيرُ صالحٍ، وقيل غيرُ ذلك [534] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/289). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 187)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 341)، ((الكشف)) لمكي (1/531)، ((تفسير القرطبي)) (9/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/86). .
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ.
أي: إنَّ ابنَك يا نوحُ ليسَ مِن أهلِك؛ لأنَّه صاحبُ عملٍ غيرِ صالحٍ، وهو الكفرُ باللهِ تعالى؛ فلم يستحقَّ لذلك النجاةَ مِن الهلاكِ [535] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/46)، ((تفسير الشوكاني)) (2/570)، ((تفسير القاسمي)) (6/102)، ((تفسير المنار)) لرضا (12/70- 71)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/86). وممن ذهب إلى هذا المعنى المذكور: القرطبي، والشوكاني، والقاسمي، ومحمد رشيد رضا، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وأيضًا ذهب إليه السمعاني في ((تفسيره)) (2/433) ونسَبه الواحديُّ إلى أبي إسحاقَ الزجاجِ، وأبي بكرِ بنِ الأنباري، وأبي عليٍّ الفارسي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/437)، ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/55)، ((تفسير الخازن)) (2/487). وعلى هذا القولِ الضميرُ في قوله: إِنَّهُ يعود على ابنِ نوحٍ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/378)، ((تفسير الرازي)) (18/357). وقيل: المراد: إنَّ سُؤالَك إيَّاي أن أُنجيَ ابنَك الكافِرَ مِن الهلاكِ عَملٌ غيرُ صالحٍ. وممن ذهب إلى هذا المعنى: ابن جرير، والواحدي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/436)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 382). وعلى هذا القولِ تكون الهاءُ في قولِه: إِنَّهُ راجعةٌ على السؤالِ؛ لأنه قد تقدَّم دليلُ السؤالِ في قولِه: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/437)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/378)، ((تفسير الرازي)) (18/357). .
فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
أي: إنِّي يا نوحُ قد أخبَرتُك عن سؤالِك سببَ إهلاكي ابنَك، فلا تسألْني بعدَها عن أسبابِ أفعالي التي لا عِلمَ لك بها، ولا تطلُبْ مني شيئًا لا تعلمُ جوازَ مسألتِه، ولا تعلمُ يقينًا أنَّ حصولَه خيرٌ وموافِقٌ للحِكمةِ [536] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/436)، ((الوسيط)) للواحدي (2/576)، ((تفسير الخازن)) (2/487)، ((تفسير أبي السعود)) (4/212، 213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 382). قال ابنُ عاشور: (إن كان نوحٌ عليه السلام لم يسبِقْ له وحيٌ من الله بأنَّ الله لا يغفِرُ للمشركينَ في الآخرةِ، كان نهيُه عن أن يسألَ ما ليس له به علمٌ نهيَ تنزيهٍ لأمثاله؛ لأنَّ درجة النبوَّة تقتضي ألَّا يُقدِمَ على سؤال ربه سؤالًا لا يعلمُ إجابته،... وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبلُ، كما دلَّ عليه قوله: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وكان سؤالُه المغفرةَ لابنه طلبًا تخصيصَه من العمومِ، كان نهيُه نهيَ لوم وعتاب؛ حيث لم يتبيَّنْ من ربِّه جوازَ ذلك. وكان قولُه: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ محتمِلًا لظاهره، ومحتمِلًا لأن يكونَ كنايةً عن العلم بضِدِّه، أي: فلا تسألْني ما علمتَ أنه لا يقعُ، ثم إن كان قولُ نوح عليه السلام: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إلى آخره تعريضًا بالمسؤول، كان النهيُ في قوله: فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نهيًا عن الإلحاحِ أو العودِ إلى سؤالِه، وإن كان قولُ نوحٍ عليه السلامُ مجرَّدَ تمهيدٍ للسؤال لاختبار حالِ إقبال الله على سؤالِه، كان قوله تعالى: فَلَا تَسْأَلْنِ نهيًا عن الإفضاء بالسؤالِ الذي مهَّدَ له بكلامه، والمقصودُ من النهي تنزيهُه عن تعريض سؤالِه للردِّ). ((تفسير ابن عاشور)) (12/87). .
إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
أي: إني أحذِّرُك- يا نوحُ- من السُّؤالِ عمَّا لا تعلمُ؛ لئلَّا تكونَ من الجاهلينَ [537] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/48)، ((تفسير القاسمي)) (6/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 382). .
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47).
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ.
أي: قال نوحٌ: يا ربِّ، إني أستجيرُ بك أن أسألَك بعد الآن ما لا عِلمَ لي بصحَّتِه [538] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/437)، ((تفسير النسفي)) (2/65)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/72).  .
وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ.
أي: وإنْ لم تغفِرْ لي- يا ربِّ- ما وقع مني من السؤالِ عمَّا لا أعلمُ، وترحمْني بقبولِ توبتي؛ أكنْ من الخاسرينَ أنفُسَهم وأعمالَهم [539] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/437)، ((تفسير القرطبي)) (9/48)، ((تفسير الشوكاني)) (2/571). .
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48).
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا.
أي: قيل [540] قال القرطبي: (قالت له الملائكةُ، أو قال الله تعالى له). ((تفسير القرطبي)) (9/48). عند استقرارِ السَّفينةِ على جبلِ الجُوديِّ: يا نوحُ، انزِلْ من السَّفينةِ إلى الأرضِ بسلامةٍ وأمنٍ منَّا لك ولأتباعِك المؤمنينَ [541] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/437، 438)، ((تفسير القرطبي)) (9/48)، ((تفسير ابن كثير)) (4/327). .
وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ.
أي: وبركاتٍ ثابتةٍ عليك، وعلى أُمَمٍ كثيرةٍ ستأتي من ذريَّةِ المؤمنينَ الذين معك في السَّفينة [542] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/438)، ((تفسير القرطبي)) (9/48)، ((تفسير الخازن)) (2/488)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/90). قال السعدي: (وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ من الآدميِّينَ وغيرِهم من الأزواجِ التي حمَلَها معه، فبارك اللهُ في الجميعِ، حتى ملؤوا أقطارَ الأرضِ ونواحيَها). ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
كما قال تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء: 3] .
وقال سبحانه: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 77-79] .
ثمَّ أخبر الله تعالى نوحًا عمَّا هو فاعلٌ بأهلِ الشقاءِ مِن ذرِّيتِه، فقال له [543] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/438). :
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: وأُمَمٌ كثيرةٌ سنُمَتِّعُهم في الدُّنيا، ثم نُذيقُهم منا في الآخرةِ عذابًا مُؤلِمًا مُوجِعًا [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/438)، ((تفسير الشوكاني)) (2/571)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383).   .
تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49).
تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ.
أي: تلك- قصَّة نوحٍ- من أخبار الغيوبِ السَّابقةِ، نوحيها إليك- يا محمَّدُ- لتَعلَمَها [545] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/441)، ((تفسير القرطبي)) (9/49)، ((تفسير ابن كثير)) (4/328).   .
مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا.
أي: ما كنتَ تعلمُ قِصَّةَ نوحٍ، ولا يعلَمُها أيُّ أحدٍ من قومِك من قبلِ هذا القرآنِ [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/441)، ((الوسيط)) للواحدي (2/577)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383).   .
فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
أي: فاصبرْ- يا محمَّدُ- على الدَّعوةِ إلى اللهِ، وتبليغِ رِسالتِه، وتحمَّلْ تكذيبَ قَومِك المشركينَ وأذاهم، كما صبر نوحٌ على قومِه؛ إنَّ العاقِبةَ المحمودةَ في الدُّنيا والآخرةِ للذينَ يتَّقونَ الله تعالى، فامتثَلوا أوامِرَه، واجتنَبوا نواهِيَه [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/441، 442)، ((تفسير القرطبي)) (9/49)، ((تفسير ابن كثير)) (4/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .

الفوائد التربوية :

1- قولُه تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ يدلُّ على أنَّ الاتِّفاقَ في الدينِ أقوَى مِن النَّسَبِ [548] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:150). . فقد قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي: في الدينِ والحرمةِ لا في النسبِ، ولهذا قِيل: أُخوَّةُ الدِّينِ أثبتُ مِن أُخوَّةِ النَّسبِ؛ فإنَّ أُخوةَ النسبِ تنقطعُ بمخالفةِ الدِّينِ، وأُخوةُ الدينِ لا تنقطعُ بمخالفةِ النسبِ [549]  يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/322). .
2-  فالكفرُ يقطعُ الموالاةَ بين المؤمنينَ والكافرين، كما نقولُ: إنَّ أبا لهبٍ ليس مِن آلِ محمَّدٍ ولا مِن أهلِ بيتِه- وإنْ كان مِن أقاربِه- فلا يدخلُ في قولِنا: (اللهمَ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ) [551] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/349). .
3- إنَّ الإيمانَ والصَّلاحَ لا علاقةَ له بالوِراثةِ والأنسابِ، وقد يختلِفُ باختلافِ استعدادِ الأفراد، وما يحيطُ بهم من الأسبابِ، وما يكونونَ عليه من الآراءِ والأعمالِ؛ يبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [552] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/72). .
4- إنَّ الله تعالى يَجزي النَّاسَ في الدُّنيا والآخرةِ بإيمانهم وأعمالِهم لا بأنسابِهم، ولا يُحابي أحدًا منهم لأجلِ آبائِه وأجدادِه الصالحينَ، وإن كانوا من الأنبياءِ المُرسَلين؛ قال الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [553] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/73). .
5- قال الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هذا النهيُ يدلُّ على أنَّه يُشتَرَطُ في الدُّعاءِ أن يكونَ بما هو جائزٌ في شرعِ الله وسُنَنِه في خَلقِه، فلا يجوزُ سؤالُ ما هو محرَّمٌ، وما هو مخالِفٌ لسُنَنِ الله القطعيَّةِ بما يقتضي تبديلَها، أو تحويلَها، وقلبَ نظامِ الكونِ لأجلِ الدَّاعي [554] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/71). .
6- قال الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ في هذه الآيةِ تَسليةٌ للخَلقِ في فسادِ أبنائِهم، وإن كانوا صالحينَ [555] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/47).
7- قَولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فيه أنَّ حقيقةَ التَّوبةِ تقتضي أمرينِ: أحدهما في المستقبلِ، وهو العزمُ على التَّركِ، وإليه الإشارةُ بقَولِه: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، والثاني في الماضي، وهو النَّدمُ على ما مضى، وإليه الإشارةُ بقَولِه: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [556] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/359). .
8- قال الله تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ لَمَّا ذكر تعالى أحوالَ المؤمنينَ، لم يذكُرِ البتَّةَ أنَّه يُعطيهم الدُّنيا أم لا، ولَمَّا ذكر أحوالَ الكافرينَ ذكَرَ أنَّه يُعطيهم الدنيا، وهذا تنبيهٌ عظيمٌ على خساسةِ الدُّنيا، وخساسةِ السَّعادات الجُسمانيَّة، والترغيب في المقامات الرُّوحانيَّة [557] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/361). .
9- قال الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فيه تنبيهٌ على أنَّ الصَّبرَ عاقبتُه النَّصرُ والظَّفَرُ، والفرَحُ والسُّرورُ [558] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/361). .
10- سنَّةُ اللهِ في رُسُلِه وأقوامِهم أن تكونَ العاقبةُ بالفوزِ والنَّجاةِ للمُتَّقينَ؛ قال الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [559] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/75). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- لما نهَى الله تعالى نوحًا عليه السلام عن سؤالِهِ، حكَى عنه أنَّه قال: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، والمعنى أنَّه تعالى لما قال له: فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال عندَ ذلك: قبلتُ يا ربِّ هذا التكليفَ، ولا أعودُ إليه، إلَّا أنِّي لا أقدرُ على الاحترازِ منه إلا بإعانتِك وهدايتِك، فلهذا بدأ أولًا بقولِه: إِنِّي أَعُوذُ [560] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/359). .
2- في قولِ الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ نسبَ نوحٌ النَّقصَ والذَّنبَ إلى نفسِه؛ تأدُّبًا مع ربِّه تعالى لَمَّا قال: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي، أي: ما فرطَ من سؤالي، وَتَرْحَمْنِي بفَضلِك [561] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/163). .
3- في قوله تعالى: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ دَلالةٌ على أنَّ مَن لم يتفضَّلِ اللهُ عليه بمغفرةِ ذُنوبِه؛ أوبقَتْه خطاياه في الآخرةِ [562] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/38). .
4- في قولِه تعالى: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على أنَّ السؤالَ والطلبَ قد يكون بصيغةِ الشَّرطِ [563] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/175). .
5- إنَّ الطَّالبَ السائلَ تارةً يَسألُ بصيغةِ الطَّلبِ، وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخبَرِ؛ إمَّا بوصفِ حالِه، وإمَّا بوصفِ حالِ المسؤولِ، وإمَّا بوصفِ الحالَينِ، وقولُ نوحٍ عليه السلامُ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ليس صيغةَ طلَبٍ، وإنما هو إخبارٌ عن الله أنَّه إنْ لم يَغْفِرْ له ويرحمْه خَسِرَ، ولكنَّ هذا الخبَرَ يتضمَّنُ سؤالَ المغفرةِ، كما في قَوْلِ يونسَ عليه السلامُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] ، فإنَّه اعترافٌ بالذَّنبِ، وهو يَتَضَمَّنُ طلبَ المغفرَةِ [564] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/223). .
6- قَولُ الله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي استُدِلَّ به على أنَّ الابنَ مِن الأهلِ، فمَنْ وصَّى لأهلِه دخَل ابنُه في الوصيَّةِ هو ومن يضُمُّه منزِلُه مِن عيالِه [565] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/17)، ((تفسير القرطبي)) (9/47)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص:150). .
7- قولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ يشيرُ إلى اجتهادِ الأنبياءِ، وجوازِ الخطأِ فيه [566] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/69). . وأنَّ أحدَهم لو سَأَل دُعاءً لا يَصلحُ له لا يُقَرُّ عليه؛ فإنَّهم مَعصومونَ أنْ يُقرُّوا على ذلك [567] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/131). .
8- في قولِه تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ إلى قولِه تعالى: إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ دلالةٌ على أنَّ العاقبةَ للمتَّقينَ، وأنَّ غيرَ المتَّقينَ لهم العاجلةُ دون العاقبةِ، وأنَّ العاقبةَ- وإنْ كانت في الآخرة- فتكونُ في الدُّنيا أيضًا [568] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/163). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ
- قولُه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي خبَرٌ مُستعمَلٌ في الاعتذارِ والتَّمهيدِ؛ لأنَّه يُريدُ أن يَسأَلَ سُؤالًا لا يَدْري قَبولَه، ولكنَّه اقتَحَمه لأنَّ المسؤولَ له مِن أهلِه، فله عُذرُ الشَّفقةِ عليه، وتأكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ)؛ للاهتمامِ به، وكذلك جُملَةُ: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ خبَرٌ مُستعمَلٌ في لازِمِ الفائدةِ، وهو: أنَّه يَعلَمُ أنَّ وعْدَ اللهِ حقٌّ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/84). .
- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ بالفاءِ في فَقَالَ رَبِّ، وقال في سورةِ مريمَ في قصَّةِ زَكريَّا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ [مريم: 3، 4] بلا فاءٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه أريدَ بالنِّداءِ هنا في سورةِ هودٍ إرادتُه؛ فهي سببٌ له؛ فناسَبَتِ الفاءُ الدَّالَّةُ على السَّببيَّةِ، وهناك لم يُرِدْ ذلك؛ فناسَب ترْكُ الفاءِ [570] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:265). ؛ فجملةُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بيانٌ للنِّداءِ، ومُقتَضى الظَّاهرِ ألَّا تُعطَفَ بفاءِ التَّفريعِ كما لم يُعطَفِ البيانُ في قولِه تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 3، 4]، وخولِفَ ذلك هنا؛ ووجْهُ اقتِرانِه بالفاءِ أنَّ فِعلَ نَادَى مُستعمَلٌ في إرادةِ النِّداءِ، أي: مِثْلُ فِعْلِ قُمْتُمْ في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] الآيةَ، وذلك إخراجٌ للكَلامِ على خِلافِ مُقتضَى الظَّاهرِ؛ فإنَّ وُجودَ الفاءِ في الجملةِ الَّتي هي بيانٌ للنِّداءِ قرينةٌ على أنَّ فِعْلَ نَادَى مُستَعارٌ لمعنى إرادةِ النِّداءِ، أي: أراد نِداءَ ربِّه فأعقَبَ إرادتَه بإصدارِ النِّداءِ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه أراد النِّداءَ فتردَّد في الإقدامِ عليه؛ لِمَا عَلِم مِن قولِه تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: 40] ؛ فلم يَطُلْ تَردُّدُه لَمَّا غلَبَتْه الشَّفَقةُ على ابنِه، فأقدَم على نداءِ ربِّه؛ ولذلك قدَّم الاعتِذارَ بقولِه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/84). .
2- قولُه تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
- قولُه عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فيه تَعْريضٌ بالمطلوبِ؛ لأنَّه لم يَذكُرْه، بل اقتَصَر على هذه الجُمَلِ الثَّلاثِ في مَقامِ الدُّعاءِ، وذلك ضَرْبٌ مِن ضُروبِ التَّأدُّبِ، والتَّردُّدِ في الإقدامِ على المسؤولِ؛ استِغْناءً بعِلْمِ المسؤولِ، كأنَّه يَقولُ: أسأَلُك أم أترُكُ [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/85). .
- قولُه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ  فيه نَفْيُ أن يَكونَ ابنُه مِن أهلِ دينِه، وتأكيدُه بـ (إنَّ) لِتَحقيقِه؛ إعلامًا بأنَّ قَرابةَ الدِّينِ بالنِّسبةِ لأهلِ الإيمانِ هي القَرابةُ [573] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/85). .
- وجملةُ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ تعليلٌ لِمَضمونِ جملةِ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [574] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/86). .
- وعَمَلٌ مصدرٌ أُخبِرَ به للمُبالَغةِ؛ حيث جَعَل ابنَه نَفْسَ العمَلِ؛ مبالغةً في ذَمِّه [575] يُنظر: ((البحر المحيط)) (6/160-161)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/86). .
- وإيثارُ غَيْرُ صَالِحٍ على (فاسِدٌ)؛ إمَّا لأنَّ الفاسِدَ ربَّما يُطلَقُ على ما فسَدَ ومِن شَأنِه الصَّلاحُ؛ فلا يَكونُ نَصًّا فيما هو مِن قَبيلِ الفاسِدِ المَحْضِ، كالقَتلِ والْمَظالِمِ، وإمَّا للتَّلويحِ بأنَّ نجاةَ مَن نَجا إنَّما هي لِصَلاحِه [576] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/212). .
- وفي قوله: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ على القول بأنَّ هذا النِّداءِ كان قبلَ غرقِ ابنِه؛ فيكون أُخِّرَ عن حِكايةِ الأمرِ الوارِدِ على الأرضِ والسَّماءِ، وما يَتْلوه مِن زَوالِ الطُّوفانِ، وقَضاءِ الأمْرِ، واستِواءِ الفُلْكِ على الجُوديِّ، والدُّعاءِ بالهَلاكِ على الظَّالِمين، مع أنَّ حقَّه أن يُذْكَرَ عَقِيبَ قولِه تعالى: فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ حسَبَما وقَع في الخارِجِ؛ إذ حينَئذٍ يُتَصوَّرُ الدُّعاءُ بالإنجاءِ لا بَعْدَ العلمِ بالهلاكِ، ووجهُ هذا التَّأخيرِ: أنَّ ذِكْرَ هذا النِّداءِ مُستَدْعٍ لذِكْرِ الجوابِ المستدعي لذِكْرِ ما مرَّ مِن تَوبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المؤدِّي ذِكْرُها إلى ذِكْرِ قَبولِها في ضِمْنِ الأمرِ الوارِدِ بنُزولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن الفُلْكِ بالسَّلامِ والبَرَكاتِ الفائضةِ عليه وعلى المؤمنين، وهذه المعاني آخِذٌ بعضُها بحُجْزةِ بعضٍ بحيثُ لا يَكادُ يُفرَّقُ الآياتُ الكريمةُ المنطوِيَةُ عليها بعضُها مِن بَعضٍ، وأنَّ ذلك إنَّما يَتِمُّ بتَمامِ القِصَّةِ، وذلك إنَّما يكونُ بتمامِ الطُّوفانِ؛ فاقتَضى الحالُ ذِكرَ تمامِها قبلَ هذا النِّداءِ؛  ولهذه النُّكتةِ ازدادَ حُسْنُ موقعِ الإيجازِ البليغِ.
وفيه فائدةٌ أخرى: وهي التَّصريحُ بهَلاكِ ابْنِه الكافِرِ مِن أوَّلِ الأمرِ، ولو ذُكِر النِّداءُ الثَّاني عَقيبَ قولِه تعالى: فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ لَرُبَّما تُوُهِّم مِن أوَّلِ الأمرِ إلى أن يَرِدَ قولُه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أنَّه يَنْجو بدُعائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فنُصَّ على هَلاكِه مِن أوَّلِ الأمرِ، ثمَّ ذُكِرَ الأمرُ الوارِدُ على الأرضِ والسَّماءِ مِن الغَيْضِ والإقلاعِ، وبيَّنَ بُلوغَ أمرِ اللهِ مَحلَّه، وجريانَ قَضائِه ونُفوذَ حُكمِه عليهم بهَلاكِ مَن هلَك ونَجاةِ مَن نجا بتَمامِ ذلك الطُّوفانِ، واستواءِ الفُلْكِ على الجوديِّ؛ فقُصَّتِ القِصَّةُ إلى هذه المرتَبةِ وبُيِّن ذلك أيَّ بيانٍ، ثمَّ تَعرَّضَ لِمَا وقعَ في تَضاعيفِ ذلكَ ممَّا جَرى بينَ نوحٍ عليه السَّلامُ وبينَ ربِّ العِزَّةِ جلَّتْ حِكمَتُه، فذَكَر بعدَ توبَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قَبولَها بقَولِه: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ... [577] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/213). .
3- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
- قولُه: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ فيه حُسنُ تَرتيبٍ، حيث قدَّم طلَبَ المغفرةِ ابتداءً؛ لأنَّ التَّخْليَةَ مُقدَّمةٌ على التَّحْليةِ، ثمَّ أعقَبَها بطلَبِ الرَّحمةِ؛ لأنَّه إذا كان بمحَلِّ الرِّضا مِن اللهِ كان أهلًا للرَّحمةِ [578] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/88). .
4- قوله تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
- فُصِلَتِ الجُملَةُ ولم تُعطَفْ؛ لِوُقوعِها في سِياقِ المُحاوَرةِ بينَ نوحٍ عليه السَّلامُ وربِّه؛ فإنَّ نوحًا عليه السَّلامُ لَمَّا أجابَ بقَولِه: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ إلى آخِرِه [هود: 47] خاطَبَه ربُّه إتمامًا للمُحاوَرةِ بما يُسَكِّنُ جَأْشَه، وكان مُقتَضى الظَّاهِرِ أن يَقولَ: (قال: يا نوحُ اهبِطْ)، ولكنَّه عدَل عنه إلى بناءِ الفِعْلِ للنَّائبِ؛ لِيَجيءَ على وَتيرةِ حِكايةِ أجزاءِ القِصَّةِ المتقدِّمةِ مِن قولِه: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي... وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] ؛ فحصَل بذلك البِناءِ قَضاءُ حَقِّ الإشارةِ إلى جُزءِ القصَّةِ، كما حصَل بالفَصْلِ قَضاءُ حقِّ الإشارةِ إلى أنَّ ذلك القوْلَ جزءُ المحاوَرةِ [579] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/88). .
- وقولُه هنا: اهْبِطْ بِسَلَامٍ نَظيرُ قولِه: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ [الحجر: 46] ؛ فإنَّ السَّلامَ ظاهِرٌ في التَّحيَّةِ لِتَقييدِه بـ (آمِنِينَ)، ولو كان السَّلامُ مُرادًا به السَّلامةُ لكان التَّقييدُ بـ (آمِنِينَ) توكيدًا وهو خِلافُ الأصلِ، ومِنَّا تأكيدٌ لتوجيهِ السَّلامِ إليه؛ لأنَّ (مِن) ابتِدائيَّةٌ، فالمعنى: بسَلامٍ ناشئٍ مِن عِندِنا، كقَولِه: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وذلك كثيرٌ في كَلامِهم، وهذا التَّأكيدُ يُرادُ به زيادةُ الصِّلةِ والإكرامِ؛ فهو أشَدُّ مُبالَغةً مِن الَّذي لا تُذكَرُ معَه (مِن) [580] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/89). .
- وتنكيرُ (أُمَمٍ) في قولِه: وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ؛ لأنَّه لم يُقصَدْ به التَّعميمُ؛ تَمهيدًا لقولِه: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ [581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/90). .
- وجُملةُ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ... إلخ، عطفٌ على جُملةِ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا إلى آخِرِها، وهي استِئْنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّها تَبْيينٌ لِمَا أفادَه التَّنكيرُ في قولِه: وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ مِن الاحتِرازِ عن أُممٍ آخَرينَ [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/91). .
- وفي وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ حُذِفُ الخبر، أي: ومنهم؛ لدَلالةِ ما سبق عليه، والتقدير: (وممَّن معَك أُممٌ سنُمتِّعهم)؛ وإنَّما حذف لأنَّ قوله: مِمَّنْ مَعَكَ يدلُّ عليه، والمعنى: أنَّ السَّلامَ منَّا والبركاتِ عليك وعلى أُممٍ مؤمنين يَنشؤُون ممَّن معك؛ فإنَّ إيرادَ الأممِ المبارَكِ عليهم المتَشعِّبةِ منهم نَكِرةً يَدُلُّ على أنَّ بعضَ مَنْ يتشعَّبُ منهم لَيْسوا على صِفَتِهم، أي: ليس جَميعُ مَن تشعَّب منهم مُسلِمًا ومُبارَكًا عليه، بل مِنهم أممٌ مُمتَّعون في الدُّنيا، مُعذَّبون في الآخرةِ، وعلى هذا لا يَكونُ الكائِنون معَ نوحٍ عليه السَّلامُ مُسلَّمًا ومُبارَكًا عليهم صَريحًا، وإنَّما يُفهَمُ ذلك مِن كَونِهم مع نُوحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومِن كونِ ذُرِّيَّاتِهم كذلك، بدَلالةِ النَّصِّ، ويَجوزُ أن تَكونَ (مِن) بَيانيَّةً، أي: وعلى أُمَمِ هم الَّذين معَك، وإنَّما سُمُّوا أممًا؛ لأنَّهم أممٌ مُتحزِّبةٌ، وجماعاتٌ مُتفرِّقةٌ، أو لأنَّ جميعَ الأممِ إنَّما تشعَّبَت منهم؛ فحينَئذٍ يكونُ المرادُ بالأممِ المشارِ إليهم في قولِه تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعضَ الأممِ المتشعِّبةِ منهم، وهي الأممُ الكافرةُ المتناسِلةُ منهم إلى يومِ القيامةِ، ويَبْقى أمرُ الأممِ المؤمنةِ النَّاشئةِ مِنهم مُبهَمًا، غيرَ مُتعرَّضٍ له، ولا مَدلولٍ عليه مع ذلك؛ ففي دَلالةِ المذكورِ على خبَرِه المحذوفِ خَفاءٌ؛ لأنَّ (مِن) المذكورةَ بيانيَّةٌ، والمحذوفةَ تبعيضيَّةٌ أو ابتدائيَّةٌ [583] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/401)، ((تفسير أبي حيان)) (6/164)، ((تفسير أبي السعود)) (4/215). .
- قولُه: وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه تنبيهٌ على الإيمانِ بأنَّ المتَّصِفين به مِن اللهِ عليهم سلامٌ وبرَكةٌ، وعلى الكفرِ بأنَّ المتَّصِفين به يُمَتَّعون في الدُّنيا، ثمَّ يُعذَّبون في الآخرةِ، وذلك مِن بابِ الكِنايةِ، كقَولِهم: فُلانٌ طَويلُ النِّجادِ، كَثيرُ الرَّمادِ [584] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/165). .
5- قولُه تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ
- قولُه: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ إلى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ استِئْنافٌ أُريدَ به الامتنانُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والموعظةُ والتَّسليةُ؛ فالامتِنانُ من قولِه: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا، والموعظةُ مِن قولِه: فَاصْبِرْ، والتَّسليةُ مِن قولِه: إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [585] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/92). .
- وقولُه: تِلْكَ إشارةٌ إلى ما قُصَّ مِن قِصَّةِ نوحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ إمَّا لكونِها بتَقَضِّيها في حُكْمِ البعيدِ، أو الدَّلالةِ على بُعْدِ مَنزِلَتِها [586] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/215). .
- قولُه: نُوحِيهَا إِلَيْكَ فيه التَّعبيرُ بصيغةِ المضارِعِ نُوحِيهَا؛ لاستحضارِ الصُّورةِ، أو هو حالٌ مِنْ أَنباءِ الغيبِ، أي: مُوحاةً إليك [587] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/215). .
- قولُه: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ في ذِكْرِ جَهْلِهم تنبيهٌ على أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَم يتَعلَّمْه إذ لم يُخالِطْ غيرَهم، وأنَّهم مع كثرَتِهم لَمَّا لم يَعلَموه؛ فكيف بواحدٍ منهم [588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/93). ؟!
- وعَطْفُ وَلَا قَوْمُكَ من التَّرقِّي؛ لأنَّ في قومِه مَن خالَطَ أهْلَ الكتابِ، ومَن كان يَقرَأُ ويَكتُبُ، ولا يَعلَمُ أحَدٌ مِنهم كثيرًا مِمَّا أوحي إليه مِن هذه القصَّةِ [589] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/93). .
- قولُه: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فيه تفريعُ أمرِ الرَّسولِ بالصَّبرِ على هذه القصَّةِ، ووجهُه أنَّ فيها قياسَ حالِه معَ قومِه على حالِ نوحٍ عليه السَّلامُ معَ قومِه؛ فكما صبَر نوحٌ عليه السَّلامُ؛ فكانت العاقبةُ له، كذلك تَكونُ العاقبةُ لك على قومِك [590] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/93). .
- وجملةُ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ عِلَّةٌ للصَّبرِ المأمورِ به؛ أي: اصبِرْ؛ لأنَّ داعِيَ الصَّبرِ قائمٌ، وهو أنَّ العاقِبةَ الحَسَنةَ تَكونُ للمُتَّقين، فستَكونُ لك وللمُؤمِنين معَك [591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/93). .
- واللَّامُ في لِلْمُتَّقِينَ للاختصاصِ والمِلْكِ؛ فيَقْتَضي مِلْكَ المتَّقينَ لجِنْسِ العاقبةِ الحسَنةِ، فهي ثابتةٌ لهم، لا تَفوتُهم، وهي مُنتَفِيَةٌ عن أضدادِهم [592] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/93). .