موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (75-82)

ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى قصصَ بعضِ الأنبياءِ السَّابقينَ مع أقوامِهم، مبتدئًا بنُوحٍ عليه السَّلامُ، فيقولُ: ولقد نادانا نُوحٌ داعِيًا بهَلاكِ قَومِه، فأجَبْناه؛ فنِعْمَ المُجيبونَ نحنُ، ونَجَّيْنا نوحًا وأهلَه المؤمِنينَ مِنَ الغَمِّ الشَّديدِ، وجعَلْنا ذُرِّيَّةَ نوحٍ بعدَ إغراقِ قَومِه هم الباقينَ في الأرضِ، وأنعَمْنا على نوحٍ بالثَّناءِ الباقي فيمَن بعدَه، سَلامٌ عليه في العالَمينَ، مِثلَ هذا الجزاءِ نَجزي كُلَّ مَن كان مُحسِنًا.
إنَّ نوحًا مِن عبادِنا المُؤمِنينَ، ثمَّ أغرَقْنا قَومَ نُوحٍ الكافِرينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال مِن قَبْلُ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: 71] ، وقال: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات:73] ؛ أتْبَعَه بشَرحِ وقائِعِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ [510] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/339). . فأُتبِعَ التَّذكيرُ والتَّسليةُ مِن جانبِ النَّظرِ في آثارِ ما حَلَّ بالأُمَمِ المرسَلِ إليهم، وما أُخبِرَ عنه مِن عاقِبَتِهم في الآخِرةِ، بتَذكيرٍ وتَسليةٍ مِن جانبِ الإخبارِ عن الرُّسلِ الَّذين كذَّبهم قَومُهم وآذَوْهم، وكيف انتصَرَ اللهُ لهم؛ لِيَزيدَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَثبيتًا، ويُلقِمَ المشركينَ تَبكيتًا [511] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/129). .
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75).
أي: ولقد دعانا نوحٌ أن نُهلِكَ قَومَه المُشرِكينَ، فأجَبْنا دُعاءَه فأهلَكْناهم؛ فلَنِعْمَ المجيبونَ نحنُ [512] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/559)، ((تفسير القرطبي)) (15/89)، ((تفسير ابن كثير)) (7/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/130). !
كما قال تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ... [الأنبياء: 76] .
وقال سُبحانَه: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون: 26] .
وقال جلَّ جلالُه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10].
وقال تبارك وتعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح: 26 - 28] .
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه نِعمَ المُجيبُ على سَبيلِ الإجمالِ؛ بيَّنَ أنَّ الإنعامَ حَصَل في تلك الإجابةِ مِن وُجوهٍ [513] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/339). ، فقال:
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76).
أي: ونجَّيْنا نوحًا وأهلَه المُؤمِنينَ مِن الغَمِّ الشَّديدِ العَظيمِ [514] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/610)، ((تفسير ابن جرير)) (19/559)، ((تفسير الماوردي)) (5/53)، ((تفسير الرازي)) (22/163)، ((تفسير ابن كثير)) (7/22)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/130)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 177، 178).        قيل: المرادُ بالكَربِ العَظيمِ: الغَرَقُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بنُ سلام، والزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والبغوي، والقرطبي، ونسَبَه الرازي إلى أكثرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/610)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/835)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/307)، ((الوسيط)) للواحدي (3/527)، ((تفسير البغوي)) (4/34)، ((تفسير القرطبي)) (15/89)، ((تفسير الرازي)) (22/163). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/560). قال ابن عاشور: (المعنيُّ به الطُّوفانُ، وهو كربٌ عظيمٌ على الَّذين وقَعوا فيه، فإنجاءُ نوحٍ منه هو سلامتُه مِن الوقوعِ فيه كما عَلِمتَ؛ لأنَّه هَولٌ في المنظرِ، وخَوفٌ في العاقبةِ، والواقعُ فيه موقِنٌ بالهلاكِ. ولا يَزالُ الخوفُ يَزدادُ به حتَّى يَغمُرَه الماءُ، ثمَّ لا يَزالُ في آلامٍ مِن ضيقِ النَّفَسِ ورِعْدةِ القرِّ والخَوفِ وتحقُّقِ الهلاكِ حتَّى يَغرَقَ في الماءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/131). وقيل: المرادُ بالكَربِ العَظيمِ: تكذيبُ قَومِ نُوحٍ الكافِرينَ وأذاهم. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ كثير، والإيجي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/22)، ((تفسير الإيجي)) (3/448). وقيل: المرادُ: مَجموعُ الأمْرَينِ: الغَرَقُ، وأذى الكافِرينَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، وابن عطيَّة، والرازي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/559)، ((تفسير ابن عطية)) (4/476، 477)، ((تفسير الرازي)) (22/163)، ((تفسير الألوسي)) (12/95). .
كما قال تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الأنبياء: 76، 77].
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77).
أي: وجعَلْنا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ بعدَ إغراقِ قَومِه هم الباقِينَ في الأرضِ؛ فجَميعُ الأُمَمِ مِن نَسْلِه [515] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/560)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 77)، ((تفسير ابن كثير)) (7/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/131). قال ابنُ القيم: (اتَّفَق العُلَماءُ أنَّ نُوحًا لَمَّا نَزَل مِنَ السَّفينةِ مات مَن كان معه، ثمَّ مات نَسْلُهم، ولم يبقَ غَيرُ نَسلِ نوحٍ، والدَّليلُ على هذا قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ). ((المنار المُنِيف)) (ص: 74). .
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78).
أي: وأثنَيْنا على نُوحٍ، وأنعَمْنا عليه بالذِّكرِ الجَميلِ، والثَّناءِ الباقي في الَّذين يأتُونَ مِن بَعدِه [516] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/561)، ((الوسيط)) للواحدي (3/527)، ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير القرطبي)) (15/90)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/388)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 457 - 462)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/132، 133). ممَّن قال إنَّ المعنى: أنَّ الله أبقى له الثَّناءَ الحسَنَ، والذِّكرَ الجميلَ في الآخِرينَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بنُ سلام، وابنُ جرير، والثعلبيُّ، والبغوي، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/610)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/840)، ((تفسير ابن جرير)) (19/561)، ((تفسير الثعلبي)) (8/147)، ((تفسير البغوي)) (4/34)، ((تفسير القرطبي)) (15/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/561)، ((تفسير ابن عطية)) (4/477). قال البِقاعي: (فِي الْآَخِرِينَ أي: كُلُّ مَن تأخَّرَ عن زمانِه إلى يومِ الدِّينِ). ((نظم الدرر)) (16/247). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/561)، ((تفسير الشوكاني)) (4/459). وقال ابنُ عاشور: (وظاهِرُ الْآَخِرِينَ أنَّها باقيةٌ في جميعِ الأُمَمِ إلى انقِضاءِ العالَمِ... فكان نوحٌ مذكورًا بمحامِدِ الخِصالِ، حتَّى قيل: لا تجهَلُ أمَّةٌ مِن أُمَمِ الأرضِ نُوحًا وفَضْلَه وتمجيدَه، وإن اختَلَفت الأسماءُ الَّتي يُسَمُّونَه بها باختلافِ لُغاتِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (23/132). وقال ابنُ عثيمين: (الظَّاهِرُ مِن الآياتِ الكريمةِ أنَّ جميعَ الأنبياءِ الَّذين جاؤوا مِن بعدِ نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يُذكَرُ فيهم نوحٌ بالثَّناءِ الحَسَنِ، فتكونُ الأنبياءُ كُلُّهم والأُمَمُ يُطْرُونَ نُوحًا -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بما أثنى اللهُ به عليه؛ لأنَّه مذكورٌ في كلِّ الكُتُبِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 181). .
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79).
أي: سلامٌ على نوحٍ وثناءٌ حسَنٌ ثابتٌ في العالَمينَ، فلا يُذكَرُ بسُوءٍ، بل يُثْنونَ عليه ثناءً حسَنًا، ويُسلِّمون عليه، ويَدْعون له [517] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/308)، ((الوسيط)) للواحدي (3/527)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 461، 462)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/133، 134). قيل: المرادُ بالعالَمينَ: كُلُّ حَيٍّ مِن الثَّقَلَينِ (الجِنِّ والإنسِ) والملائكةِ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: الزمخشريُّ، والرازي، والرسعني، والنسفي، وابن القيم، والبِقاعي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير الرازي)) (26/339)، ((تفسير الرسعني)) (6/396)، ((تفسير النسفي)) (3/127)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 462)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/247)، ((تفسير أبي السعود)) (7/196). وقيل: المرادُ بالعالَمينَ: الأُمَمُ والقُرونُ وجميعُ الطَّوائفِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ كثير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/133). وقال ابن عثيمين: (المراد بـ الْعَالَمِينَ هنا مَن بَعْدَ نوحٍ لا مَن قَبْلَه فيما يَظهَرُ، وعلى هذا فيكونُ عامًّا يُرادُ به الخاصُّ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 181). واختلف المفَسِّرونَ في قَولِه تعالى: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ هل هو مُفَسِّرٌ للآيةِ السَّابِقةِ: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ، أو هو جملةٌ استِئنافيَّةٌ مُستقِلَّةٌ عمَّا قَبْلَها؟ فمِمَّن قال بالقَولِ الأوَّلِ: الزَّجَّاجُ، والزمخشريُّ، وابنُ القيم، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/308)، ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 457)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير الشوكاني)) (4/459). قال الشوكاني: (المتروكُ هذا هو قَولُه: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ، أي: ترَكْنا هذا الكلامَ بعَيْنِه، وارتفاعُه على الحكايةِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/459). قال الزمخشري: (فإن قلتَ: فما معنى قَولِه فِي الْعَالَمِينَ؟ [أي: بِناءً على هذا القولِ] قلتُ: معناه الدُّعاءُ بثُبوتِ هذه التَّحيَّةِ فيهم جميعًا، وألَّا يخلوَ أحدٌ منهم منها، كأنَّه قيل: ثبَّت اللهُ التَّسليمَ على نوحٍ وأدامَه في الملائكةِ والثَّقَلينِ يُسَلِّمونَ عليه عن آخِرِهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/48). وممَّن ذهب إلى القَولِ الثاني: ابنُ جرير، وابن جُزَي، والبِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/561)، ((تفسير ابن جزي)) (2/193)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/247)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 180، 181). قال ابن القيِّم: (مَن قال بأنَّ المتروكَ هو السَّلامُ عليهم في الآخِرينَ نَفْسُه فلا ريبَ أنَّ قولَه سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ جملةٌ في موضعِ نَصبٍ بـ «تَرَكْنَا»، والمعنى: أنَّ العالَمينَ يُسلِّمونَ على نوحٍ ومَن بَعْدَه مِن الأنبياءِ. ومَن فَسَّره [أي: قولَه: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ] بلِسانِ الصِّدقِ والثَّناءِ الحَسَنِ نَظَر إلى لازمِ السَّلامِ ومُوجَبِه، وهو الثَّناءُ عليهم وما جُعِلَ لهم [أي: للأنبياءِ] مِن لسانِ الصِّدقِ الَّذي لأجْلِه إذا ذُكِروا سُلِّم عليهم)، وذكر أنَّهما قولٌ واحدٌ، ولا ينبغي حكايتُهما على أنَّهما قولانِ. يُنظر: ((جلاء الأفهام)) (ص: 457، 458). وذكر ابنُ جُزَي أنَّ معنى فِي الْعَالَمِينَ -على القولِ بأنَّ جملةَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ استئنافيَّةٌ-: تخصيصُه بالسَّلامِ عليه بيْن العالَمينَ، كما تقولُ: أُحِبُّ فُلانًا في النَّاسِ، أي: أُحِبُّه خصوصًا مِن بيْنِ النَّاسِ. قال: (وهذا الخلافُ يجري حيث ما ذُكِر ذلك في هذه السُّورةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/193). .
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شَرَح اللهُ تعالى تفاصيلَ إنعامِه على نُوحٍ؛ أخبَرَ أنَّه إنَّما خَصَّص نوحًا عليه السَّلامُ بتلك التَّشريفاتِ الرَّفيعةِ، مِن جَعلِ الدُّنيا مملوءةً مِن ذُرِّيَّتِه، ومِن تَبقيةِ ذِكرِه الحَسَنِ في ألسِنةِ جَميعِ العالَمينَ؛ لأجْلِ أنَّه كان مُحسِنًا [518] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/340). .
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80).
أي: مِثلَ هذا الجزاءِ الَّذي جازَيْنا به نُوحًا [519] قيل: المرادُ بجزاءِ الله تعالى له: هو إنجاؤُه مِن الكَربِ العظيمِ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/477). وقيل: المرادُ بالجزاءِ: هو إبقاءُ الثَّناءِ الحَسَنِ عليه. ومِمَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/611)، ((تفسير القرطبي)) (15/90)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705). وقيل: جزى الله نوحًا بأمْرَينِ: بما تَرَك عليه في الآخِرينَ، وبما سَلَّمه في العالَمينَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزمخشري، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 188). وممَّن ذهب إلى جميعِ تلك المعاني: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/562)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/248). -لأنَّه كان مِنَ المُحسِنينَ- [520] قال ابن جرير: (كذلك نَجزي الَّذين يُحسِنونَ فيُطيعونَنا، ويَنتَهونَ إلى أمرِنا، ويَصبِرون على الأذى فينا). ((تفسير ابن جرير)) (19/563). وقال ابنُ عطيَّة: (أثنى تعالى على نُوحٍ بالإحسانِ؛ لِصَبرِه على أذى قَومِه، ومُطاوَلَتِه لهم، وغيرِ ذلك مِن عبادتِه وأفعالِه صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عطية)) (4/477). ويَشملُ الإحسانُ: الإحسانَ في عبادةِ الخالقِ، والإحسانَ إلى المخلوقِ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 182، 183). وذكر ابنُ عاشور أنَّ الإحسانَ هو الإيمانُ الخالِصُ المفسَّرُ في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الإحسانُ أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنَّه يَراك)) [البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هُرَيرةَ. ومسلم (8) من حديث عُمَرَ]. ثمَّ قال: (وأيُّ دليلٍ على إحسانِه أجلَى مِن مُصابرتِه في الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ والتَّقْوى، وما ناله مِن الأذى مِن قَومِه طُولَ مُدَّةِ دَعوتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (23/134). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/248). وقيل: قولُه تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ هو بيانٌ لإحسانِ نوحٍ عليه السَّلامُ. ومِمَّن قال بذلك: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/90). نَجزي كلَّ مَن كان مُحسِنًا [521] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/562)، ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير ابن عطية)) (4/477)، ((تفسير القرطبي)) (15/90)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/134)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 182-184). .
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81).
أي: إنَّ نُوحًا مِن عِبادِنا المؤمِنينَ باللهِ، فوحِّدُوا اللهَ تعالى، وأخلِصوا في عبادتِه وَحْدَه لا شَريكَ له [522] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/611)، ((تفسير ابن جرير)) (19/563)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23). .
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى نجاةَ نُوحٍ ونجاةَ أهلِه؛ إذ كانوا مُؤمِنينَ- ذكَرَ هلاكَ غَيرِهم بالغَرَقِ [523] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/109). .
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82).
أي: ثمَّ أغرَقْنا قومَ نُوحٍ الكافِرينَ [524] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/563)، ((تفسير القرطبي)) (15/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/135). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المقصودُ منه بيانُ أنَّ أعظَمَ الدَّرَجاتِ وأشرَفَ المقاماتِ: الإيمانُ باللهِ، والانقيادُ لطاعتِه [525] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/340). .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ عَلَّل التَّحيَّةَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ بأنَّه كان مُحسِنًا، ثمَّ عَلَّل إحسانَه بكَونِه مُؤمِنًا؛ فدَلَّ على جلالةِ الإيمانِ ومحَلِّه عندَ اللهِ [526] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/134). ، وأنَّه أرفَعُ مَنازِلِ العبادِ، وأنَّه مُشتمِلٌ على جميعِ شَرائِعِ الدِّينِ وأصولِه وفُروعِه؛ لأنَّ اللهَ مَدَح به خواصَّ خَلقِه [527] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 705). ، وعُلِمَ منه أنَّ الإيمانَ هو المرادُ الأقصى مِن الإنسانِ؛ لأنَّه عَلَّل الإنجاءَ بالإحسانِ، والإحسانَ بالإيمانِ [528] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/248). . وهذا على القولِ بتفسيرِ الإحسانِ بما بعدَه وهو الإيمانُ.

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ إلى قَولِه: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ في هذه القِصَّةِ عِبرةٌ للمُشرِكينَ بما حَلَّ بقَومِ نُوحٍ، وتسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَعْلُ نوحٍ قُدوةً له، وإيماءٌ إلى أنَّ اللهَ يَنصُرُه كما نصَرَ نُوحًا على قَومِه، ويُنَجِّيه مِن أذاهم، وتنويهٌ بشأنِ المؤمِنينَ [529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/135). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ إثباتُ سَمْعِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه لا إجابةَ إلَّا بعدَ السَّمعِ [530] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 185). .
3- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ يدُلُّ على أنَّ تلك الإجابةَ كانت مِنَ النِّعَمِ العظيمةِ، وبَيانُه مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه تعالى عبَّرَ عن ذاتِه بصيغةِ الجَمعِ، فقال: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ، والقادِرُ العَظيمُ لا يليقُ به إلَّا الإحسانُ العَظيمُ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه أعاد صيغةَ الجَمعِ في قَولِه: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وذلك أيضًا يدُلُّ على تَعظيمِ تلك النِّعمةِ، لا سيَّما وقد وَصَف تلك الإجابةَ بأنَّها نِعْمَتِ الإجابةُ.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ الفاءَ في قَولِه: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ تدُلُّ على أنَّ حُصولَ هذه الإجابةِ مُرتَّبٌ على ذلك النِّداءِ، والحُكمُ المرَتَّبُ على الوَصفِ المُناسِبِ: يَقتضي كَوْنَه مُعلَّلًا به، وهذا يدُلُّ على أنَّ النِّداءَ بالإخلاصِ سَبَبٌ لحُصولِ الإجابةِ [531] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/339). .
4- في قَولِه تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ جوازُ إطلاقِ العامِّ وإنْ كان مخصوصًا؛ لأنَّ قَولَه: وَأَهْلَهُ يَشملُ المؤمِنَ والكافِرَ منهم، وقد دلَّت آيةٌ أخرى على أنَّ مِن أهلِه مَن لم يَنْجُ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 187). والآية هي قولُه تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 42، 43]. .
5- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ هو الَّذي بَقِيَ نَسْلُه مِن بني آدَمَ، فكُلُّ مَن بَقِيَ مِن بعدِ نُوحٍ فهو مِن نَسلِه؛ ولهذا يُسمَّى الأبَ الثَّانيَ للبَشريَّةِ [533] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 187). ؛ فالآيةُ تُفيدُ الحَصرَ، وذلك يدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَن سِواه وسِوى ذُرِّيَّتِه قد فَنُوا [534] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/339). ، وهذا جارٍ على أنَّ الطُّوفانَ قد عَمَّ الأرضَ كُلَّها، واستأصَلَ جميعَ البَشَرِ إلَّا مَن حمَلَهم نوحٌ في السَّفينةِ. وعُمومُ الطُّوفانِ هو مُقتضى ظواهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ [535] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/131، 132). .
6- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ لَمَّا نَزَلَ مِن السَّفينةِ مات مَن كان معه، ثمَّ مات نَسْلُهم، ولم يَبقَ غيرُ نَسْلِ نُوحٍ، وهذا يُبطِلُ قَولَ مَن قال: «إنَّ الخَضِرَ كان قَبْلَ نوحٍ» [536] يُنظر: ((المنار المُنِيف)) لابن القيم (ص: 74). !
7- قَولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فيه تَنويهٌ بنُوحٍ عليه السَّلامُ بأنَّ جَزاءَه كان هو المثالَ والإمامَ لِجزاءِ المحسنينَ على مَراتبِ إحسانِهم، وتَفاوُتِ تَقارُبِها مِن إحسانِ نُوحٍ عليه السَّلامُ، وقُوَّتِه في تَبليغِ الدَّعوةِ؛ فهو أوَّلُ مَن أُوذِيَ في اللهِ، فسَنَّ الجزاءَ لِمَن أُوذِيَ في اللهِ، وكان على قالَبِ جَزائِه، فلعلَّه أنْ يكونَ له كِفْلٌ مِن كلِّ جَزاءٍ يُجْزاهُ أحدٌ على صَبْرِه إذا أُوذِيَ في اللهِ، فثبَتَ لِنُوحٍ بهذا وَصْفُ الإحسانِ، وثبَتَ له أنَّه مَثَلٌ للمُحسنينَ في جَزائهِم على إحسانِهم [537] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/134). .
8- قَولُ الله تعالى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ جَعَل لنُوحٍ عليه السَّلامُ ثَناءً حَسَنًا مُستَمِرًّا إلى وقتِ الآخِرينَ؛ وذلك لأنَّه مُحسِنٌ في عبادةِ الخالِقِ، مُحسِنٌ إلى الخَلقِ، وهذه سُنَّتُه تعالى في المحسِنينَ: أن يَنشُرَ لهم مِنَ الثَّناءِ على حَسَبِ إحسانِهم [538] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 705). .
9- قَولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ سلَّم اللهُ عليه؛ لِيَقتديَ بذلك البَشَرُ، فلا يَذكُرَه أحَدٌ مِن العالَمينَ بسُوءٍ [539] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/108). . وذلك على القولِ بأنَّ الجملةَ استئنافيَّةٌ.
10- يُجزئُ السَّلامُ بقَولِ: «سَلامٌ عليكم» بحذفِ اللَّامِ؛ قال الله تعالى: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، وقال تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23، 24]، وقال تعالى: فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54]، لكِنْ باللَّامِ أَولى -أي: السَّلامُ عليكم-؛ لأنَّها للتَّفخيمِ والتَّكثيرِ [540] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/4). .
11- في قَولِه تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أنَّ المُحسِنَ يُجازى بمِثلِ ما جُوزيَ به نوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وذلك بإنجائِه مِن الهَلاكِ، وسَلامةِ عِرضِه مِن الذِّكرِ السَّيِّئِ، وكُلَّما كان الإنسانُ أكثرَ إحسانًا كان أكثَرَ ثوابًا وأسلَمَ [541] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 188). .
12- في قَولِه تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُرَتِّبُ الجزاءَ والعقوبةَ، والثَّناءَ والقَدْحَ: على الأوصافِ لا على الأشخاصِ؛ لأنَّه هنا عَلَّقَ الجزاءَ على الإحسانِ؛ ولهذا لم يأتِ شَيءٌ مِن أحكامِ اللهِ سُبحانه وتعالى مُقَيَّدًا بشَخصٍ لِشَخصِه أبدًا، حتَّى خصائِصُ الرُّسُلِ ليست مِن بابِ خَصائصِ الأشخاصِ، لكِنْ مِن بابِ خصائِصِ الأوصافِ؛ لأنَّ فيهم وَصفًا زائدًا على غَيرِهم، وهو وَصفُ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ؛ فخُصُّوا ببعضِ الأحكامِ المناسِبَةِ لِمقامِهم، أمَّا أنْ يُخَصَّ شَخصٌ بعَيْنِه لأنَّه فُلانُ بنُ فُلانٍ مثلًا، فهذا لا يُوجَدُ في الشَّريعةِ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُرَتِّبُ الأحكامَ ويُعَلِّقُها على الأوصافِ لا على الأشخاصِ [542] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 189). .
13- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الإشارةُ إلى كَمالِ هذَينِ الوَصفَينِ -وهما العُبوديَّةُ والإيمانُ-، وأنَّهما أشرَفُ وَصفٍ يَتَّصِفُ به الإنسانُ: أنْ يكونَ عبدًا للهِ، مؤمنًا به؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يعني: نُوحًا، ونوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أُولي العَزمِ مِن الرُّسُلِ، فإذا كان مِن مَناقبِه وفَضائلِه أنْ يكونَ مِن عبادِ اللهِ المؤمِنينَ؛ دَلَّ ذلك على فَضيلةِ العُبوديَّةِ والإيمانِ [543] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 189). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
- ابتُدِئَ بقِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ مع قَومِه؛ فإنَّه أوَّلُ رَسولٍ بعَثَه اللهُ إلى النَّاسِ، وهو الأُسوةُ الأُولى، والقُدْوةُ المُثْلى. وابتداءُ الإخبارِ بذِكرِ نِداءِ نُوحٍ ربَّه مَوعظةٌ للمشرِكينَ؛ لِيَحْذَروا دُعاءَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ربَّه تعالى بالنَّصرِ عليهم كما دعا نُوحٌ على قَومِه [544] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/195)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/130). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ وتأْكيدُ ما فُرِّعَ عليه بلامِ القَسَمِ وَلَقَدْ؛ لِتَحقيقِ الأمْرَينِ؛ تَحذيرًا للمشرِكينَ بعْدَ تَنزيلِهم مَنزلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ نوحًا دعا فاستُجِيبَ له [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/130). .
- والفاءُ في قولِه: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ تَفريعٌ على نَادَانَا، أي: نادانا فأجَبْناهُ، فحُذِف المُفرَّعُ؛ لدَلالةِ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ عليه؛ لِتَضمُّنِه معنى فأجَبْناهُ جوابَ مَن يُقالُ فيه: نِعمَ المُجِيبُ [546] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/130). .
- وضَميرُ المُتكلِّمِ المشارَكِ في قولِه: نَادَانَا الْمُجِيبُونَ مُستعمَلٌ في التَّعظيمِ [547] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير أبي السعود)) (7/195)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/130). .
- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، والتَّقديرُ: وباللهِ لقدْ دعانا نوحٌ حينَ يَئِسَ مِن إيمانِ قَومِه بعْدَما دَعاهُم إليه أحقابًا ودُهُورًا، فلَمْ يَزِدْهم دُعاؤُه إلَّا فِرارًا ونُفورًا، فأجَبْناهُ أحسَنَ الإجابةِ، فواللهِ لَنِعْمَ المُجيبونَ نحنُ. فحُذِفَ ما حُذِفَ مِن المخصوصِ بالمدْحِ؛ ثِقةً بدَلالةِ ما ذُكِرَ عليه [548] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير البيضاوي)) (5/12)، ((تفسير أبي السعود)) (7/195)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/130). .
- وذُكِرَ في هذه السُّورةِ سِتُّ قِصَصٍ مِن قِصَصِ الرُّسلِ مع أقوامِهم؛ لأنَّ في كلِّ قِصَّةٍ منها خاصِّيَّةً لها شَبَهٌ بحالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع قَومِه، وبحالِه الأكمَلِ في دَعوتِه؛ ففي القِصصِ كلِّها عِبرةٌ وأُسوةٌ وتَحذيرٌ، ويَجمَعُها كلَّها مُقاوَمةُ الشِّركِ ومُقاوَمةُ أهْلِه [549] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/129). .
2- قولُه تعالَى: وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ التَّنجيةُ: الإنجاءُ -وهو جَعلُ الغيرِ ناجيًا-، والنَّجاةُ: الخلاصُ مِن ضُرٍّ واقعٍ، وأُطلِقَت هنا على السَّلامةِ مِن ذلك قبْلَ الوُقوعِ فيه؛ لأنَّه لمَّا حصَلَت سَلامَتُه في حينِ إحاطةِ الضُّرِّ بقَومِه، نُزِّلَت سَلامَتُه منه مع قُرْبِه منه بمَنزلةِ الخَلاصِ منه بعْدَ الوُقوعِ فيه؛ تَنزيلًا لِمُقارَبةِ وُقوعِ الفِعلِ مَنزلةَ وُقوعِه [550] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/130). قال ابن تيميَّةَ: (النَّجاةُ مِنَ الشَّرِّ لا تَستلزِمُ حُصولَه، بل تَستلزِمُ انعِقادَ سَبَبِه؛ فمَن طلَبَه أعداؤه لِيُهلِكوه ولم يَتمَكَّنوا منه، يقال: نجَّاه اللهُ منهم؛ ولهذا قال تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: 76] ، ومعلومٌ أنَّ نوحًا لم يَغرَقْ ثمَّ خَلَص، بل نُجِّيَ مِن الغَرَقِ الَّذي أهلَكَ اللهُ به غيرَه). ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/50). .
- والمرادُ بأهْلِه: عائِلتُه إلَّا مَن حَقَّ عليه القولُ منهم، وكذلك المؤمنون مِن قَومِه؛ قال تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] ؛ فالاقتِصارُ على أهْلِه هنا؛ لِقِلَّةِ مَن آمَنَ به مِن غَيرِهم. أو أُرِيدَ بالأهْلِ أهْلُ دِينِه، كقَولِه تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمران: 68] . وأشعَرَ قولُه: وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أنَّ استجابةَ دُعاءِ نُوحٍ كانتْ بأنْ أُهلِكَ قَومُه [551] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/131). .
- ووُصِفَ الكَرْبُ بالعظيمِ؛ لإفادةِ أنَّه عظيمٌ في نَوعِه، فهو غَمٌّ على غَمٍّ، والمعنيُّ به الطُّوفانُ [552] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/131). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
3- قولُه تعالَى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ
- ضَميرُ الفَصلِ في قولِه: هُمُ الْبَاقِينَ للحصْرِ، أي: لمْ يَبْقَ أحدٌ مِن النَّاسِ إلَّا مَن نجَّاهُ اللهُ مع نُوحٍ في السَّفينةِ مِن ذُرِّيَّتِه، ثمَّ مَن تَناسَلَ منهم، فلمْ يَبْقَ مِن أبناءِ آدَمَ غيرُ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، فجميعُ الأُمَمِ مِن ذُرِّيَّةِ أولادِ نُوحٍ الثَّلاثةِ [553] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/131). .
4- قولُه تعالَى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ
- قولُه: عَلَيْهِ مُتعلِّقٌ بفِعلِ وَتَرَكْنَا بتَضمينِ هذا الفِعلِ معنى (أنْعَمْنا)، فأفادَ بمادَّتِه معنى الإبقاءِ له، فكان مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُعدَّى هذا الفِعلُ باللَّامِ، فلمَّا ضُمِّنَ معنى (أنْعَمْنا) أفاد بمادَّتِه معنى الإبقاءِ له، أي: إعطاءَ شَيءٍ مِن الفضائلِ المدَّخرةِ الَّتي يُشْبِهُ إعطاؤُها تَرْكَ أحدٍ مَتاعًا نَفيسًا لِمَن يُخلِّيه هو له ويَخلُفُه فيه. وأفاد بتَعليقِ حَرْفِ (على) به أنَّ هذا التَّركَ مِن قَبيلِ الإنعامِ والتَّفضيلِ، وكذلك شأْنُ التَّضمينِ أنْ يُفِيدَ المُضمَّنُ مُفادَ كَلمتينِ، فهو مِن ألْطَفِ الإيجازِ. ثمَّ إنَّ مَفعولَ (تَرَكْنَا) لَمَّا كان مَحذوفًا، وكان فِعلُ (أنْعَمْنا) الَّذي ضُمِّنَه فِعلُ (تَرَكْنَا) ممَّا يَحتاجُ إلى مُتعلَّقِ معنى المفعولِ؛ كان مَحذوفًا أيضًا مع عامِلِه، فكان التَّقديرُ: وتَرَكْنا له ثَناءً وأنْعَمْنا عليه؛ فحصَلَ في قولِه: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ حَذْفُ خَمْسِ كَلماتٍ، وهو إيجازٌ بَديعٌ [554] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/133). . وذلك على قول في التَّفسيرِ.
5- قولُه تعالَى: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ
- إذا كان معنى وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ: تَرَكْنا في الآخرينَ مِن الأُمَمِ أنْ يُسلِّموا عليه تَسليمًا ويَدْعوا له -على أحدِ القولينِ في التَّفسيرِ-، فما معنى فِي الْعَالَمِينَ؛ فإنَّه كالتَّكرارِ؟
والجوابُ: أنَّ في إعادةِ ذِكرِ العالَمينَ الشُّمولَ والاستغراقَ؛ لئلَّا يَخرُجَ أحدٌ ممَّن يَدخُلُ في العالَمينَ مِن الملائكةِ والثَّقلينِ منه -على قولٍ في التَّفسيرِ-، والحاصلُ أنَّ فِي الْعَالَمِينَ كالتَّتميمِ للمعنى السَّابقِ والمبالَغةِ فيه، ولو اكْتَفى بقولِه: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ لَقَصَّرَ عن هذا المعنى، فكان معنى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، أي: ثبَّتَ اللهُ التَّسليمَ على نُوحٍ وأدامَه في الملائكةِ والثَّقَلينِ يُسلِّمون عليه عن آخِرِهم [555] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/162). .
- وتَنوينُ سَلَامٌ للتَّعظيمِ [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/133). .
- والمرادُ بالعالَمينَ: الأُمَمُ والقُرونُ، وهو كِنايةٌ عن دَوامِ السَّلامِ عليه [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/133). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، وبعْدَه: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثم سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، وكذلك سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ، ولم يَقُلْ في قِصَّةِ لُوطٍ ولا يُونُسَ ولا إلياسَ: سَلَامٌ؛ لأنَّه لَمَّا قال: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وكذلك وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، فقد قال: سلامٌ على كلِّ واحدٍ منهم؛ لِقَولِه في آخِرِ السُّورةِ: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [558] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 214)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/396)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 479). .
- وزِيدَ في سَلامِ نُوحٍ وَصْفُه بأنَّه فِي الْعَالَمِينَ دونَ السَّلامِ على غَيرِه، في قِصَّةِ إبراهيمَ، ومُوسى، وهارونَ، وإلياسَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ التَّنويهَ بنُوحٍ كان سائرًا في جَميعِ الأُمَمِ؛ لأنَّهم كلَّهم يَنتمُون إليه، ويَذكُرونه ذِكرَ صِدقٍ [559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/134). . وقيل: لَمَّا كان لِسانُ جَميعِ أهلِ الأرضِ في زَمانِه عليه السَّلامُ واحِدًا، فكانوا كُلُّهم قَومَه، ولم يكُنْ في زمانِه نَبيٌّ، فكانت نبُوَّتُه قُطبَ دائرةِ ذلك الوَقتِ، فكانت رِسالتُه عامَّةً لأهلِه، وكان غيرُ النَّاسِ مِن الخَلقِ لهم تَبَعًا: خَصَّه في السَّلامِ بأن قال: فِي الْعَالَمِينَ [560] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/247). .
- ومِن المناسَبةِ أيضًا: قولُه تعالى في خِتامِ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 80] ، ثمَّ أعقَبَ قِصَّةَ إبراهيمَ وقِصَّةَ مُوسى وهارونَ وقِصَّةَ إلياسٍ بمِثلِ هذا، إلَّا أنَّه ورَدَ في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 109 - 110] ، فسَقَطَ منه لَفظُ (إنَّا)، وثبَتَ في القِصَصِ الأُخَرِ؛ ووَجْهُه: أنَّه تَقدَّمَ في قِصَّةِ إبراهيمَ بعَينِها قولُه: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 104 - 105] ، ثمَّ لَمَّا كرَّرَ لِيَنْبَنيَ عليه قولُه: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات: 111] كما في نَظائرِه مِن خِتامِ القصصِ الأُخَرِ، كرَّرَ هنا الجُملةَ بأسْرِها، وهي قولُه: كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ؛ لِيَنْبَنيَ عليها ما ورَدَ عِلَّةً مُوجِبةً لِجَزائهم؛ لِتَجْريَ هذه القصَّةُ مَجْرى نَظائرِها، ولم يُكرَّرْ حَرْفُ التَّأكيدِ والضَّميرُ المنصوبُ به إيجازًا واختصارًا؛ لذِكْرِه فيما تَقدَّمَ في القصَّةِ نفْسِها [561] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1092-1095)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 214)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/410، 411)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/396). .
6- قولُه تعالَى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تَذْييلٌ لِمَا سبَقَ مِن كَرامةِ اللهِ نُوحًا. و(إنَّ) تُفِيدُ تَعليلًا لِمُجازاةِ اللهِ نُوحًا بما عدَّه مِن النِّعَمِ بأنَّ ذلك لأنَّه كان مُحسِنًا، أي: متُخلِّقًا بالإحسانِ [562] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير أبي السعود)) (7/196)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/134)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/285). .
- قولُه: كَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن الكَراماتِ السَّنيَّةِ الَّتي وَقَعَتْ جَزاءً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما فيه مِن مَعنى البُعدِ مع قُرْبِ العهدِ بالمُشارِ إليه؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتْبتِه، وبُعدِ مَنزلتِه في الفضْلِ والشَّرفِ [563] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/196). .
7- قولُه تعالَى: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تَعليلٌ لاستحقاقِ نُوحٍ عليه السَّلامُ المُجازاةَ الموصوفةَ بقولِه: كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، فاختلَفَ مَعلولُ هذه العِلَّةِ، ومَعلولُ العِلَّةِ الَّتي قبْلَها [564] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير البيضاوي)) (5/13)، ((تفسير أبي السعود)) (7/196)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/134)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/285). .
- وأفادَ وَصْفُه بـ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا أنَّه ممَّن استحقَّ هذا الوصفَ، وإضافةُ وصف (عبد) إلى ضَميرِ الجلالةِ مُشعِرٌ بالتَّقريبِ، ورَفْعِ الدَّرجةِ والتَّشريفِ [565] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/134، 135). .
- واقتُصِرَ على وَصفِ العِبادِ بالمؤمنينَ؛ تَنويهًا بشَأْنِ الإيمانِ؛ لِيَزدادَ الَّذين آمَنوا إيمانًا، ويُقلِعَ المشرِكونَ عن الشِّركِ. وأُقحِمَ معها مِنْ عِبَادِنَا؛ لِتَشريفِه بتلك الإضافةِ. وفي ذلك تَنبيهٌ على عَظيمِ قَدْرِ الإيمانِ [566] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/134، 135). .
- وتَكرَّرَ وَصْفُ الرُّسلِ ومَدْحُهم بأنَّهم مِن المؤمنينَ، فمدَحَ تعالى نُوحًا وغيرَه -كإبراهيم، ومُوسى، وعِيسى عليهم السَّلامُ- بذلك، مع أنَّ مَرتبةَ الرُّسلِ فوقَ مَرتبةِ المؤمنينَ؛ تَنبيهًا لنا على جَلالةِ مَحلِّ الإيمانِ وشَرَفِه، وتَرْغيبًا في تَحصيلِه، والثَّباتِ عليه، والازديادِ منه، كما قال تعالى في مَدْحِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [567] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير البيضاوي)) (5/13)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/162)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 479، 480)، ((تفسير أبي السعود)) (7/196)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/285). [البقرة: 130] .
8- قولُه تعالَى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ
- حَرفُ (ثُمَّ) للتَّرتيبِ والتَّراخي الرُّتبيَّينِ [568] وقال القرطبي: («ثمَّ» ليس للتَّراخي هاهنا، بل هو لتعديدِ النِّعَمِ، كقَولِه: ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا [البلد: 16، 17]، أي: ثمَّ أُخبِرُكم أنِّي قد أغرَقْتُ الآخَرينَ). ((تفسير القرطبي)) (15/90). ؛ لأنَّ بعضَ ما ذُكِرَ قبْلَها في الكلامِ هو ممَّا حصَلَ بعْدَ مَضمونِ جُملتِها في نفْسِ الأمْرِ كما هو بيِّنٌ، ومعنى التَّراخي الرُّتبيِّ هنا أنَّ إغراقَ الَّذين كذَّبوه مع نَجاتِه ونَجاةِ أهْلِه، أعظَمُ رُتبةً في الانتصارِ له والدَّلالةِ على وَجاهتِه عندَ اللهِ تعالى، وعلى عَظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالى ولُطْفِه. ومعنى الْآَخَرِينَ: مَن عداهُ وعَدا أهْلَه، أي: بقيَّةُ قَومِه، وفي التَّعبيرِ عنهم بالآخَرينَ ضَرْبٌ مِن الاحتقارِ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/135)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/285). .