غريب الكلمات:
الْكَرْبِ: أي: الغمِّ الشَّديدِ، وما حَلَّ بالمكذِّبينَ من الطُّوفانِ والغَرَقِ، وأصلُ (كرب): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ .
الْكَرْبِ: أي: الغمِّ الشَّديدِ، وما حَلَّ بالمكذِّبينَ من الطُّوفانِ والغَرَقِ، وأصلُ (كرب): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ .
يقولُ اللهُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- نوحًا حين نادى ربَّه مِن قَبلِ إبراهيمَ ولُوطٍ أن يَنصُرَه اللهُ على قَومِه، فاستجَبْنا له دُعاءَه، فنجَّيناه وأهلَه المؤمنينَ به مِن الغَمِّ الشَّديدِ، ونَصَرْناه مِن القَومِ الذين كذَّبوا بآياتِنا الدَّالَّةِ على صِدقِه، إنَّهم كانوا قومًا يُسيئُونَ بالشِّركِ، وتَكذيبِ الرَّسولِ، فأغرَقْناهم بالطُّوفانِ أجمعينَ.
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قِصَّةَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وهو أبو العَرَبِ، وتَنجِيَتَه مِن أعدائِه؛ ذكَرَ قِصَّةَ أبي العالَمِ الإنسيِّ كُلِّهم، وهو الأبُ الَّثاني بعدَ آدَمَ؛ لأنَّه ليس أحَدٌ إلَّا مِن نَسْلِه؛ مِن سام وحام ويافِث
.
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- نوحًا حينَ دعا رَبَّه -مِن قَبلِ إبراهيمَ ولوطٍ- أن يَنصُرَه اللهُ على قَومِه الكافرينَ، وأن يُهلِكَهم
.
كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 117- 118] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات: 75] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10].
وقال سُبحانَه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26] .
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ.
أي: فاستجَبْنا لنوحٍ دُعاءَه، فأغرَقْنا قَومَه الكافرينَ، ونجَّيناه معَ أهلِه المؤمِنينَ مِن الغَمِّ الشَّديدِ
.
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77).
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا.
أي: ونجَّينا نوحًا وحمَيناه مِن قَومِه الذين كذَّبوا بحُجَجِنا الدَّالَّةِ على رِسالتِه
، فلا ينالونَه بسوءٍ
.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
أي: نصَرْنا نوحًا، وأهلَكْنا قَومَه؛ لأنَّهم كانوا قومًا يُسيئُونَ أعمالَهم بالشِّركِ والكُفرِ، وتَكذيبِ الرَّسولِ، ومَعصيةِ اللهِ، فأغرَقْناهم كُلَّهم؛ كبيرَهم وصَغيَرهم
.
كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف: 64] .
وقال سُبحانَه: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات: 46].
1- في قوله تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أنَّ النَّجاةَ مِن الشَّرِّ لا تستلزمُ حصولَه! بل تستلزمُ انعقادَ سببِه، فمَن طلَبه أعداؤُه ليُهلِكوه ولم يتمكَّنوا منه؛ يُقالُ فيه: «نجَّاه الله منهم»؛ ومعلومٌ أنَّ نوحًا لم يغرَقْ ثمَّ خُلِّص! بل نُجِّي مِن الغرقِ الذي أهلَك الله به غيرَه
.
2- مِن الأدلةِ على وجودِ الله: الحِسُّ، ومِن ذلك ما يُشاهَدُ ويُسمَعُ مِن إجابةِ الدَّاعينَ، وغَوْثِ المكْروبينَ؛ ما يدلُّ دلالةً حِسِّيَّةً قاطعةً على وجودِه تعالى، ومِن ذلك قولُه تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ، وما زالتْ إجابةُ الدَّاعينَ أمرًا مشهودًا إلى يومِنا هذا لمَن صدَق اللُّجوءَ إلى الله تعالى، وأتَى بشرائطِ الإجابةِ
.
3- في قولِه تعالى: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ سؤالٌ؛ أنَّ الآيةَ الكريمةَ ذُكِر فيها أنَّ نوحًا وأهلَ بيتِه قد نَجَوْا مِن الفيضانِ، ولكنْ في قولِه تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ إلى قولِه: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 42، 43] فيه أنَّ أحدَ أولادِ نوحٍ قد غرِقَ؟
الجواب: أنَّه لا تناقضَ؛ لأنَّ ابنَ نوحٍ لم يكُنْ مِن أهلِه، كما قال تعالى لنوحٍ لمَّا سألَه عن ابنِه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
[هود: 46].
4- في قولِه تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أنَّ الانتقامَ يُسمَّى نصرةً وانتصارًا
.
1- قولُه تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ عُطِفَ وَنُوحًا على (لُوطًا)، أي: آتينَا نُوحًا حُكْمًا وعِلْمًا؛ فحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لـ (آتينَا)؛ لدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: آتيناهُ النُّبوَّةَ حينَ نادانَا
.
- قولُه: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فائدةُ ذِكْرِ هذه القَبْلِيَّةِ التَّنبيهُ على أنَّ نَصْرَ اللهِ أولياءَه سُنَّتُه المُرادةُ له؛ تَعريضًا بالتَّهديدِ للمُشرِكين المُعانِدين؛ لِيتذكَّروا أنَّه لم تَشُذَّ عن نَصْرِ اللهِ رُسَلَه شاذَّةٌ ولا فاذَّةٌ
.
- قولُه: مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فيه وَصْفُ الكرْبِ بالعظيمِ؛ تَهويلًا
.
2- قوله تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
- قولُه: وَنَصَرْنَاهُ في إسنادِ الانتِصارِ إليه تعالى تَهويلٌ لأمْرِ النَّصرِ
.
- قولُه: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا عُدِّيَ (نَصَرْنَاهُ) بحَرْفِ (مِن)؛ لِتَضمينِه معنى المَنْعِ والحِمايةِ، وهو أبلَغُ مِن تَعديَتِه بـ (على)؛ لأنَّه يدُلُّ على نَصْرٍ قَوِيٍّ تَحصُلُ به المَنَعةُ والحِمايةُ، فلا يَنالُهُ العدُوُّ بشَيءٍ. وأمَّا نَصْرُه عليه فلا يدُلُّ إلَّا على المُدافَعةِ والمَعونةِ. ووَصْفُ القومِ بالموصولِ؛ للإيماءِ إلى عِلَّةِ الغرَقِ الَّذي سيُذْكَرُ بعْدُ
. وقيل: لَمَّا كان جُلُّ نُصرَتِه النَّجاةَ، وكانت غَلَبةُ قَومِه بغيرِ يَدَيه بل بأمرٍ أجنبيٍّ منه؛ حَسُنَ أن يكونَ (نَصَرْنَاهُ مِنْ) ولا يتمَكَّنُ هنا (على) كما يتمَكَّنُ في أمرِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع قَومِه
.
- قولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ تَعليلٌ لِمَا قبْلَه، وتَمهيدٌ لِمَا بعْدَه من قولِه تعالى: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ؛ فإنَّ الإصرارَ على تَكذيبِ الحقِّ، والانهماكَ في الشَّرِّ والفسادِ ممَّا يُوجِبُ الإهلاكَ قطْعًا
.
- وإضافةُ (قَومٍ) إلى (السَّوءِ) فيه إشارةٌ إلى أنَّهم عُرِفوا به
.
- وأَجْمَعِينَ حالٌ مِن ضَميرِ النَّصبِ في فَأَغْرَقْنَاهُمْ؛ لإفادةِ أنَّه لم يَنْجُ مِن الغرَقِ أحَدٌ مِن القومِ ولو كان قَريبًا مِن نُوحٍ؛ فإنَّ اللهَ قد أغرَقَ ابنَ نُوحٍ. وفي هذا تَهديدٌ لقُريشٍ؛ لئلَّا يَتَّكِلوا على قَرابتِهم بمحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
.