موسوعة التفسير

سورةُ نوحٍ
الآيات (26-28)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غريب الكلمات:

دَيَّارًا: أي: أحَدًا يَدورُ فيها، وهو مِن ألفاظِ العُمومِ الَّتي تُستَعمَلُ في النَّفيِ العامِّ، وهو فَيْعالٌ مِنَ الدَّوَرانِ، وقيل: مِن الدَّارِ، أي: نازِلَ دارٍ، وأصلُ (دور): يدُلُّ على إحداقِ الشَّيءِ بالشَّيءِ مِن حوالَيه [203] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 488)، ((تفسير ابن جرير)) (23/307)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 221)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/310)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/457). .
تَبَارًا: أي: هَلاكًا وخُسرانًا، وأصلُ (تبر) هنا: الهلاكُ [204] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 488)، ((تفسير ابن جرير)) (23/309)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 158)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/362)، ((المفردات)) للراغب (ص: 162)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 419)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 428). .

المعنى الإجمالي:

يَحكي الله تعالى ما دعا به نوحٌ عليه السَّلامُ على قومِه -بعْدَ أنْ يئِس مِن إيمانِهم-، وما دعا به للمؤمِنينَ، فيقولُ: وقال نوحٌ: رَبِّ لا تُبْقِ على الأرضِ أحَدًا حيًّا مِنَ الكافِرينَ.
ثمَّ ذكَر نوحٌ عليه السَّلامُ السَّببَ في ذلك، فقال: إنَّك إنْ أبقَيْتَهم أحياءً يُضِلُّوا عِبادَك المؤمِنينَ، ولا يَلِدوا إلَّا مَن سيَكونُ فاجِرًا شديدَ الفَسادِ، وكثيرَ الكُفرِ برَبِّه.
ثمَّ ختَم نوحٌ عليه السَّلامُ دعاءَه بقولِه: رَبِّ اغفِرْ لي ولوالِدَيَّ، ولِمَن دَخَل مَنزِلي مِنَ المُؤمِنينَ، واغفِرْ للمُؤمِنينَ والمؤمِناتِ، ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أنفُسَهم بكُفرِهم إلَّا هَلاكًا.

تفسير الآيات:

وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26).
أي: وقال نوحٌ: رَبِّ لا تُبْقِ على الأرضِ أحَدًا حيًّا مِنَ الكافِرينَ [205] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 488)، ((تفسير ابن جرير)) (23/307)، ((تفسير القرطبي)) (18/313)، ((تفسير ابن كثير)) (8/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/213). قال الأُلوسيُّ: (الدَّيَّارُ مِن الأسماءِ الَّتي لا تُستعمَلُ إلَّا في النَّفْيِ العامِّ؛ يُقالُ: ما بالدَّارِ دَيَّارٌ أو دَيُّورٌ -كقَيَّامٍ وقيُّومٍ- أي: ما بها أحدٌ، وهو فَيْعالٌ؛ مِن الدَّارِ أو مِن الدَّوْرِ، كأنَّه قِيل: لا تَذَرْ على الأرضِ مِنَ الكافِرِينَ مَن يَسكُنُ دارًا، أو لا تَذَرْ عليها منهم مَن يَدورُ ويَتحرَّكُ). ((تفسير الألوسي)) (15/88). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ في الجملةِ -أي: أنَّ الدَّيَّارَ مأخوذٌ مِن الدَّارِ، والمعنى: الَّذي يَنزِلُ ويحلُّ بالدِّيارِ-: ابنُ قُتَيْبةَ، والواحديُّ، وجلال الدين المحلي، والشنقيطي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 488)، ((الوسيط)) للواحدي (4/360)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 769)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/461)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/213). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (18/313). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ في الجملةِ -أي: أنَّ الدَّيَّارَ مأخوذٌ مِن الدَّوَرانِ، والمعنى: الَّذي يَدورُ في الأرضِ فيَذهَبُ ويَجيءُ-: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، والبغوي، وابن عطية، والنسفي، والعُلَيمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/307)، ((تفسير الثعلبي)) (10/47)، ((تفسير البغوي)) (5/158)، ((تفسير ابن عطية)) (5/377)، ((تفسير النسفي)) (3/546)، ((تفسير العليمي)) (7/178)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). قال البِقاعي: (دَيَّارًا أي: أحدًا يَدورُ فيها، وهو مِن ألفاظِ العُمومِ الَّتي تُستَعمَلُ في النَّفيِ العامِّ، فيُقالُ مِن الدَّورِ أو الدَّارِ، لا فَعَّالٌ، وإلَّا لَكان دَوَّارًا، ويجوزُ -وهو أقرَبُ- أن يكونَ هذا الدُّعاءُ عندَ رُكوبِه السَّفينةَ، وابتِداءِ الإغراقِ فيهم، يريدُ به العُمومَ؛ كراهيةَ أن يبقى أحدٌ منهم على ذِروةِ جَبَلٍ أو نحوِه، لا أصل الإغراقِ، وأن يكونَ معنى ما قَبْلَه الحُكمَ بإغراقِهم، وتحتُّمَ القَضاءِ به، أو الشُّروعَ فيه). ((نظم الدرر)) (20/457). .
كما قال تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: 76] .
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يَقولونَ ولا يَفعَلونَ إلَّا ما فيه مَصلحةُ الدِّينِ؛ عَلَّل نوحٌ عليه السَّلامُ دُعاءَه بقَولِه [206] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/457). :
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ.
أي: إنَّك إنْ أبقَيْتَهم أحياءً يُضِلُّوا عِبادَك المؤمِنينَ، فيَصُدُّوهم عن الحَقِّ، ويُزَيِّنوا لهم الباطِلَ [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/307)، ((تفسير ابن كثير)) (8/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/214). .
وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا.
أي: ولا يَلِدوا إلَّا مَن سيَكونُ فاجِرًا شديدَ الفَسادِ، وكثيرَ الكُفرِ برَبِّه [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/307)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/1109، 1110)، ((تفسير ابن كثير)) (8/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/214). قال السعدي: (أي: بَقاؤُهم مَفسَدةٌ مَحْضةٌ لهم ولِغَيرِهم، وإنَّما قال نوحٌ عليه السَّلامُ ذلك؛ لأنَّه مع كثرةِ مخالطتِه إيَّاهم، ومُزاوَلَتِه لأخلاقِهم، عَلِمَ بذلك نتيجةَ أعمالِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 889). وقال ابنُ عاشور: (عَلِمَ نُوحٌ أنَّهم لا يَلِدونَ إلَّا فاجِرًا كَفَّارًا بأنَّ أولادَهم يَنشَؤونَ فيهم، فيُلَقِّنونَهم دينَهم، ويَصُدُّونَ نُوحًا عن أن يُرشِدَهم، فحَصَل له عِلمٌ بهذه القِضيَّةِ بدَليلِ التَّجرِبةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/214). واستظهَر البِقاعي أنَّ هذا الكلامَ لا يَقولُه إلَّا عن وَحيٍ، كما في سورةِ هودٍ عليه السَّلامُ، مِن قَولِه تعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ [هود: 36] . يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 458). .
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا دعا نوحٌ عليه السَّلامُ على الكُفَّارِ، استَغفَرَ للمُؤمِنينَ؛ فبدأ بنَفْسِه، ثمَّ بمَن وجَبَ بِرُّه عليه، ثمَّ للمُؤمِنينَ [209] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/288). .
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ.
أي: وقال نوحٌ: رَبِّ امْحُ الذُّنوبَ عنِّي وعن والِدَيَّ، واسْتُرْها علينا، ولا تُؤاخِذْنا بها [210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/308)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7749)، ((تفسير القرطبي)) (18/313)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/314). .
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا.
أي: واغفِرْ لِمَن دَخَل مَنزِلي مِنَ المُؤمِنينَ [211] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((تفسير ابن كثير)) (8/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/215). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بـ بَيْتِيَ: مَنْزلي: الثعلبيُّ، والبغوي، والزمخشري، وابنُ جُزَي، والعليمي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/48)، ((تفسير البغوي)) (5/158)، ((تفسير الزمخشري)) (4/621)، ((تفسير ابن جزي)) (2/416)، ((تفسير العليمي)) (7/179)، ((تفسير أبي السعود)) (9/42). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/459). وقال ابنُ كثير: (ولا مانِعَ مِن حَملِ الآيةِ على ظاهِرِها، وهو أنَّه دعا لكُلِّ مَن دَخَل مَنزِلَه وهو مُؤمِنٌ). ((تفسير ابن كثير)) (8/237). وذهب ابن عاشور إلى أنَّ المرادَ أهلُه وذَووه المؤمِنونَ، فدَخَل أولادُه وبَنوهم والمؤمِناتُ مِن أزواجِهم الَّذين يَسكُنون معه، فالمرادُ بالدُّخولِ في الآيةِ دُخولٌ مخصوصٌ، وهو الدُّخولُ المتكَرِّرُ الملازِمُ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/215). وقيل: المرادُ: مَسْجِدي. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والقرطبي، ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ إلى جمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/308)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7749)، ((تفسير القرطبي)) (18/314)، ((تفسير ابن عطية)) (5/377). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/308)، ((تفسير البغوي)) (5/158). وقريبٌ مِن هذا القولِ قولُ مَن قال: دَخَلَ بَيْتِيَ: أي: دخَل شريعتي، واختاره ابنُ عرفة، ورُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ دَخَلَ بَيْتِيَ، أي: في ديني، وهو قولُ جُوَيْبِرٍ؛ وذلك لأنَّ مَن دخَل مَسجِدَه مؤمِنًا، فقد دخل في دينِه. يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (4/302)، ((البسيط)) للواحدي (22/275)، ((تفسير الماوردي)) (6/106). وقيل: المرادُ: سَفينتي. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: السمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/ 61). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمرقندي)) (3/502). .
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
أي: واغفِرْ ذُنوبَ جَميعِ المُؤمِنينَ والمؤمِناتِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/309)، ((تفسير القرطبي)) (18/314)، ((تفسير ابن كثير)) (8/237). قال القرطبي: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عامَّةً إلى يومِ القيامةِ. قاله الضَّحَّاكُ. وقال الكلبيُّ: مِن أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: مِن قَومِه. والأوَّلُ أظهَرُ). ((تفسير القرطبي)) (18/314). .
وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا.
أي: ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أنفسَهم بكُفرِهم إلَّا هَلاكًا [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/309)، ((تفسير ابن كثير)) (8/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا في كَلامِ نُوحٍ عليه السَّلامُ دَلالةٌ على أنَّ المُصلِحينَ يَهتَمُّونَ بإصلاحِ جِيلِهم الحاضِرِ، ولا يُهمِلونَ تأسيسَ أُسُسِ إصلاحِ الأجيالِ الآتيةِ؛ إذ الأجيالُ كُلُّها سواءٌ في نَظَرِهم الإصلاحيِّ [214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/214). .
2- قَولُ اللهِ تعالى حكايةً عن نوحٍ عليه السَّلامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فيه أدَبٌ عَظيمٌ مِن آدابِ الدُّعاءِ، وهو جَمعُ الوالِدَينِ والمؤمِنينَ في الدُّعاءِ، والابتِداءُ بنَفْسِه [215] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 274). ، فيُؤخَذُ مِنه: أنَّ سُنَّةَ الدُّعاءِ أنْ يُقدِّمَ الإنسانُ الدُّعاءَ لنفْسِه على الدُّعاءِ لغَيرِه [216] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/416). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا دعا نوحٌ عليه السَّلامُ على الكافِرينَ أجمَعينَ، ودعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَن تحزَّبَ على المؤمِنينَ، وألَّبَ عليهم [217] يُنظر ما أخرجه البخاري (2933)، ومسلم (1742). ، وكان هذا أصلًا في الدُّعاءِ على الكُفَّارِ في الجُملةِ [218] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/312). .
2- في قَولِه تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ردٌّ على المُعتَزِلةِ والقَدَرِيَّةِ شَديدٌ؛ وذلك أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ مع نُبُوَّتِه جَمَع في دُعائِه بيْنَ إضلالِهم للعِبَادِ وإيلادِهم الفُجَّارَ والكُفَّارَ؛ فلم يُنكِرْه عليه ربُّه، ثُمَّ أنزَلَه على نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كتابِه مَدْحًا للدَّاعي، وذَمًّا للمَدعُوِّ عليه، وأخبَرَ نصًّا بغَيرِ تفسيرٍ ولا تأويلٍ أنَّ المولودَ مِن قَومِه يُولَدُ فاجِرًا كافِرًا قبْلَ أنْ يَكتَسِبَهما كَبيرًا بسَيِّئِ عَمَلِه [219] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/424). !
فإن قيل: ما الجمعُ بيْنَ هذا وبيْن حديثِ: ((كُلُّ مَولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ )) [220] أخرجه البخاري (1385) واللفظ له، ومسلم (2658). ؟
فالجوابُ: أنَّه يولَدُ على الفِطرةِ، ثمَّ يَصيرُ في ثاني حالٍ فاجِرًا كَفَّارًا [221] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (4/300). .
وأيضًا فقوله تعالى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا مُختَصٌّ بِمَن عاشَ منهم إلى أن بلَغ، بدليلِ حديثِ الفِطرةِ السَّابقِ [222] يُنظر: ((الفتاوى الحديثية)) لابن حجر الهيتمي (ص: 78). وقال ابن القيِّم: (إن قيل: فالغلامُ الَّذي قتَلَه الخَضِرُ طُبِع يومَ طُبِع كافرًا، وقال نوحٌ عن قومِه: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا... قيل: هذا لا يُناقِضُ كونَه مولودًا على الفِطرةِ؛ فإنَّه طُبِع وَوُلِد مُقدَّرًا كُفْرُه إذا عقَلَ، وإلَّا ففي حالِ ولادتِه لا يَعرِفُ كفرًا ولا إيمانًا، فهي حالٌ مُقدَّرةٌ لا مُقارِنةٌ للعامِلِ، فهو مولودٌ على الفِطرةِ ومولودٌ كافرًا باعتِبارَينِ صحيحَينِ ثابتَينِ له، هذا بالقَبولِ وإيثار الإسلامِ لو خُلِّيَ، وهذا بالفعلِ والإرادةِ إذا عقَلَ. فإذا جمَعْتَ بيْن الفِطرةِ السَّابقةِ والرَّحمةِ السَّابقةِ العاليةِ والحِكمةِ البالغةِ والغِنى التَّامِّ، وقرَنْتَ بيْن فِطرتِه ورحمتِه وحكمتِه وغِناهُ؛ تبيَّنَ لك الأمرُ). ((شفاء العليل)) (ص: 262). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا فيه سُؤالٌ: كيف دعا نوحٌ على قَومِه بذلك، مع أنَّه أُرسِلَ إليهم؛ لِيَهدِيَهم ويُرشِدَهم؟
والجوابُ: أنَّه لم يَدْعُ عليهم هذا الدُّعاءَ إلَّا بَعْدَ أن تحَدَّوه، ويَئِسَ منهم؛ أمَّا تحَدِّيهم ففي قَولِهم: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [هود: 32] ، وقَولِه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 9، 10]. وأمَّا يأسُه منهم فلِقَولِه تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ [223] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 583)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/313). [هود: 36] .
4- قولُه تعالَى حكايةً عن نوحٍ عليه السَّلامُ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا احتَجَّ به الخوارجُ على أنَّ أطْفالَ المشركينَ كُفَّارٌ، في النَّارِ. ولا حُجَّةَ لهم في هذه الآيةِ؛ لأنَّ نُوحًا عليه السَّلامُ إنَّما أرادَ قَومَه خاصَّةً؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال له: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ [هود: 36] ، فأيْقَنَ نوحٌ بهذا؛ أنَّه لنْ يُؤمِنَ منهم أحَدٌ [224] يُنظر: ((الفصل في المِلَل والأهواء والنِّحَل)) لابن حزم (4/61)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/597). وأطفالُ المشركين الَّذين ماتوا قبلَ أن يُمَيِّزوا شيئًا قد اختلَفوا في حُكمِهم اختلافًا كثيرًا، وذكر ابنُ القيِّم في هذه المسألةِ ثمانيةَ مَذاهِبَ، والمذهبُ الثَّامنُ: أنَّهم يُمتحَنونَ في عَرْصةِ القيامةِ، ويُرسَلُ إليهم هناك رسولٌ، وإلى كلِّ مَن لم تَبْلُغْه الدَّعوةُ، فمَن أطاع الرَّسولَ دخل الجنَّةَ، ومَن عصاه أدخله النَّارَ. قال: (وعلى هذا فيكونُ بعضُهم في الجنَّةِ، وبعضُهم في النَّارِ. وبهذا يتألَّفُ شملُ الأدِلَّةِ كلِّها، وتَتوافَقُ الأحاديثُ). ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 387- 396). .
5- في قَولِه تعالى: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا جوازُ الدُّعاءِ على القومِ إذا أيِسَ مِن صلاحِهم، وتَمَرَّدوا تَمَرُّدًا بالِغًا [225] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 149). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا إنْ قيلَ: كيف عَرَف نوحٌ عليه السَّلامُ ذلك؟
الجوابُ: بالنَّصِّ والاستِقراءِ؛ أمَّا النَّصُّ فقَولُه تعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ [هود: 36] ، وأمَّا الاستِقراءُ فهو أنَّه لَبِثَ فيهم ألْفَ سَنةٍ إلَّا خَمِسينَ عامًا، فعرَف طِباعَهم وجَرَّبَهم، وكان الرَّجُلُ منهم يَنطَلِقُ بابنِه إليه، ويقولُ: (احذَرْ هذا؛ فإنَّه كَذَّابٌ! وإنَّ أبي أوصاني بمِثلِ هذه الوَصيَّةِ!)، فيموتُ الكبيرُ، ويَنشأُ الصَّغيرُ على ذلك [226] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/659). !
فلا تَعارُضَ بيْن هذه الآيةِ والآياتِ الأُخَرِ الَّتي تدُلُّ على أنَّ الغَيبَ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، كقولِه: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] ، وكقولِ نوحٍ نفْسِه فيما ذَكَرَه اللهُ عنه في سُورةِ (هودٍ): وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [هود: 31] الآيةَ؛ لأنَّه عَلِم ذلك بوَحْيٍ مِن اللهِ أنَّ قومَه لا يُؤمِنُ منهم أحدٌ إلَّا مَنْ آمَنَ [227] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 245). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا سُؤالٌ: هل يُخبِرُ نوحٌ اللهَ تعالى بالواقِعِ، ألَيسَ اللهُ تعالى عالِمًا به؟!
الجوابُ: بلى، هو عالِمٌ به، لكِنَّ قَصْدَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بيانُ الحاملِ له على هذا الدُّعاءِ، وهو أنَّه يَعتَقِدُ أنَّه إذا أبقاهم فإنَّهم لا يَلِدونَ إلَّا فاجِرًا كفَّارًا، وإلَّا فاللهُ تعالى عليمٌ به؛ فيكونُ هذا كالاعتِذارِ عن هذا السُّؤالِ العامِّ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [228] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 203). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ خَصَّ نَفْسَه أوَّلًا بالدُّعاءِ، ثمَّ المتَّصِلينَ به؛ لأنَّهم أَولى وأحَقُّ بدُعائِه [229] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/660). .
9- قال اللهُ تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ هذا يدُلُّ على أنَّ أبوَيْ نُوحٍ عليه السَّلامُ كانا مُؤمِنَينِ [230] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/83). .
10- في قَولِه تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِشارةٌ لكلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنةٍ تَكونُ إلى يومِ القيامةِ؛ لأنَّ نوحًا عليه السَّلامُ نبيٌّ، ودُعاؤُه مُستقيمٌ [231] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/426). .
11- في قَولِه تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ دَلالةٌ على أنَّ الميِّتَ يَنتَفِعُ بدُعاءِ الخَلْقِ له [232] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (24/306). .
12- قولُه تعالى: وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا فيه سُؤالٌ: ما جُرْمُ الصِّبيانِ حِين أُغرِقوا؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: قال الحسَنُ: (عَلِمَ اللهُ بَراءةَ الصِّبيانِ، فأهْلَكَهم بغَيرِ عَذابٍ).
الوجهُ الثَّاني: غَرِقوا معهم لا علَى وجْهِ العِقابِ، بلْ كما يَموتون بالغَرَقِ والحَرْقِ، وكان ذلك زِيادةً في عَذابِ الآباءِ والأمَّهاتِ إذا أبْصَروا أطْفالَهم يَغرَقون.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّه قيل: إنَّ اللهَ تعالَى أيْبَسَ أصلابَ آبائِهم، وأعْقَمَ أرحامَ نِسائهِم قبْلَ الطُّوفانِ بأربعينَ سَنةً أو تِسعينَ، فلم يكُنْ معهم صَبيٌّ حينَ أُغرِقوا، ويدُلُّ عليه قولُه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إلى قولِه: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ [نوح:10-12] ، وهذا يدُلُّ -بحسَبِ المفهومِ- على أنَّهم إذا لم يَستغفِروا فإنَّه تَعالى لا يُمْدِدُهم بالبَنينَ [233] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/660). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا
- قولُه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا عطْفٌ على قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح: 21] ؛ أعْقَبَه بالدُّعاءِ عليهم بالإهلاكِ والاستِئصالِ بألَّا يُبقِيَ منهم أحَدًا، أي: لا تُبْقِ منهم أحدًا على الأرضِ. وأُعِيدَ فِعلُ (قال)؛ لوُقوعِ الفَصلِ بيْن أقوالِ نُوحٍ عليه السَّلامُ بجُملةِ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ... [نوح: 25] إلخ، أو بها وبجُملةِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا [نوح: 24] . وقُرِنَت بواوِ العطْفِ لتَكونَ مُستقِلَّةً فلا تَتبَعَ جُملةَ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي؛ للإشارةِ إلى أنَّ دَعوةَ نُوحٍ عليه السَّلامُ حَصَلَت بعْدَ شِكايتِه بقولِه: إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/213). .
- ودَيَّارًا: اسمٌ مَخصوصٌ بالوُقوعِ في النَّفيِ يَعُمُّ كلَّ إنسانٍ، ومعْنى دَيَّارٍ: مَن يحُلُّ بدارِ القَومِ، كِنايةً عن إنسانٍ [235] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/621)، ((تفسير البيضاوي)) (5/250)، ((تفسير أبي حيان)) (10/288)، ((تفسير أبي السعود)) (9/41)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/213). .
- وجُملةُ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ تَعليلٌ لسُؤالِه ألَّا يَترُكَ اللهُ على الأرضِ أحدًا مِن الكافِرين، يُريدُ أنَّه خَشِيَ أنْ يُضِلُّوا بعضَ المؤمنينَ، وأنْ يَلِدوا أبناءً يَنْشَؤون على كُفْرِهم [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/214)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/233). .
- و(الكَفَّارُ): مُبالَغةٌ في الموصوفِ بالكُفْرِ، أي: إلَّا مَن يَجمَعُ بيْنَ سُوءِ الفِعلِ، وسُوءِ الاعتقادِ [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/214). .
2- قولُه تعالَى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا جَعَل الدُّعاءَ لنفْسِه ووالِدَيْه خاتمةَ مُناجاتِه؛ فابْتَدَأَ بنَفْسِه، ثمَّ بأقرَبِ النَّاسِ به -وهما والِداهُ-؛ لأنَّهم أَولى وأحقُّ بدُعائِه، ثمَّ عمَّمَ أهْلَه وذَوِيه المؤمنينَ، فدَخَل أولادُه وبَنُوهم والمؤمناتُ مِن أزواجِهم، وعبَّرَ عنهم بمَن دَخَلَ بَيْتَه كِنايةً عن سُكْناهم معه -على قولٍ-؛ فالمُرادُ بقولِه: دَخَلَ بَيْتِيَ دُخولٌ مَخصوصٌ، وهو الدُّخولُ المُتكرِّرُ الملازِمُ، ثمَّ عمَّمَ المؤمنينَ والمؤمناتِ، ثمَّ عاد بالدُّعاءِ على الكَفَرةِ بأنْ يَحرِمَهم اللهُ النَّجاحَ؛ فختَم الكلامَ مرَّةً أُخرى بالدُّعاءِ على الكافِرينَ، وهو على حدِّ قولِه المُتقدِّمِ: وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا [238] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/621)، ((تفسير الرازي)) (30/660)، ((تفسير أبي حيان)) (10/288)، ((تفسير أبي السعود)) (9/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/215). [نوح: 24] .
- و(التَّبارُ): الهَلاكُ والخَسارُ؛ فهو تَخصيصٌ للظَّالِمينَ مِن قَومِه بسُؤالِ استِئصالِهم بعْدَ أنْ شَمِلَهم وغيرَهم بعُمومِ قولِه: لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26] ؛ حِرصًا على سَلامةِ المجتمَعِ الإنسانيِّ مِن شَوائبِ المَفاسِدِ، وتَطهيرِه مِن العناصرِ الخبيثةِ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/215). .