موسوعة التفسير

سورةُ نوحٍ
الآيات (5-12)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ

غريب الكلمات:

وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ: أي: تغطَّوْا بها، وجَعَلوها غِشاوةً على أسماعِهم وأبصارِهم، وذلك عبارةٌ عن الامتِناعِ عن الإصغاءِ، وأصلُ (غشي): يدُلُّ على تغطيةِ شَيءٍ بشَيءٍ [41] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 112)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 418)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 323)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 115). .
مِدْرَارًا: أي: مُتتابِعًا غَزيرًا، والدَّرُّ: تحلُّبُ الشَّيءِ حالًا بعدَ حالٍ، وأصلُه مِنَ الدَّرِّ، أي: اللَّبَنِ، ويُستعارُ ذلك للمَطَرِ [42] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 455)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/255)، ((البسيط)) للواحدي (22/253)، ((المفردات)) للراغب (ص: 310)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 189)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 875). .

المعنى الإجمالي:

يَحكي الله تعالى شكوى نوحٍ -عليه السَّلامُ- إليه مِن إعراضِ قومِه، فيقولُ: قال نوحٌ: رَبِّ إنِّي دَعَوتُ قَومي لَيلًا ونهارًا إلى توحيدِك، فلم يَزِدْهم دُعائي لهم إلَّا هَرَبًا وإعراضًا! وإنِّي كُلَّما دَعوتُهم إلى الإيمانِ بك لكي تَغفِرَ لهم ذُنوبَهم، جَعَلوا أصابِعَهم في آذانِهم؛ كي لا يَسمَعوا كَلامي، وتغَطَّوا بثِيابِهم؛ لئَلَّا يَرَوني، واستَمَرُّوا على شِرْكِهم ولم يَتوبوا، وتكبَّروا عن قَبولِ الحقِّ.
ثمَّ يذكرُ اللهُ تعالى ما أخبَر به نوحٌ عليه السَّلامُ عن طُرقِه في دعوةِ قَومِه، وتوجيهاتِه ونصائحِه لهم، فيقولُ: ثمَّ إنِّي دَعَوتُ قَومي إلى الحَقِّ مجاهرًا، ثمَّ إنِّي أظهَرتُ دَعوتي لهم ونشَرْتُها بيْنَهم، ودَعَوتُهم سِرًّا فيما بيْني وبيْنَهم، فقُلْتُ لهم: استَغفِروا رَبَّكم؛ إنَّه سُبحانَه متَّصِفٌ أزَلًا وأبدًا بكَمالِ المَغفِرةِ لذُنوبِ عِبادِه؛ فإنَّكم إنِ استَغْفَرتُم رَبَّكم يُرسِلْ عليكم أمطارًا مُتتابِعةً مُتواصِلةً، ويُعْطِكم أموالًا وأبناءً، ويجعَلْ لكم في الدُّنيا بَساتينَ فيها أنواعُ الثِّمارِ، ويَجعَلْ لكم أنهارًا جارِيةً.

تفسير الآيات:

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5).
أي: قال نوحٌ مُشتَكِيًا إلى رَبِّه طُغيانَ قَومِه: رَبِّ إنِّي دَعَوتُ قَومي في اللَّيلِ والنَّهارِ إلى توحيدِك، وحذَّرْتُهم مِنَ الشِّركِ بك ومَعصيتِك [43] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/290)، ((تفسير الزمخشري)) (4/616)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232). .
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6).
أي: فلم يَزِدْهم دُعائي لهم إلى الحقِّ ليتَّبِعوه إلَّا هَرَبًا منه، وإعراضًا عنه [44] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/290)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/194). !
كما قال الله تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر: 9].
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7).
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ.
أي: وإنِّي كُلَّما دَعوتُهم إلى سَبَبِ المَغفِرةِ -وهو الإيمانُ بك، وتوحيدُك وطاعتُك- لِتَمحوَ بذلك ذُنوبَهم، وتتجاوَزَ عن مؤاخَذتِهم بها؛ جَعَلوا أصابِعَهم في آذانِهم، فسَدُّوها؛ كي لا يَسمَعوا كَلامي [45] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/291)، ((تفسير القرطبي)) (18/300)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ.
أي: وتغَطَّوا بثِيابِهم لئَلَّا يَرَوني؛ مُبالَغةً منهم في الإعراضِ عَنِّي [46] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1136)، ((تفسير القرطبي)) (18/300)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/431، 432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). قال الشوكاني: (وقيل: جَعلوا ثيابَهم على رؤوسِهم لئلَّا يَسْمَعوا كلامي، فيَكونُ استِغشاءُ الثِّيابِ على هذا زيادةً في سَدِّ الآذانِ. وقيلَ: هو كنايةٌ عن العداوةِ، يُقالُ: لَبِس فُلانٌ ثيابَ العداوةِ. وقيل: استَغشَوْا ثيابَهم؛ لئلَّا يَعْرِفَهم فيَدْعُوهم). ((تفسير الشوكاني)) (5/356). .
وَأَصَرُّوا.
أي: واستَمَرُّوا على شِرْكِهم ولم يَتوبوا [47] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/291)، ((تفسير القرطبي)) (18/300)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/196). .
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا.
أي: وتعاظَموا وتكبَّروا عن قَبولِ الحقِّ، وعن اتِّباعِه [48] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/292)، ((تفسير القرطبي)) (18/300)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/196). .
كما قال تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ [هود: 27] .
وقال سُبحانَه: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] .
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ نُوحًا عليه السَّلامُ ارتقى في شَكواه واعتِذارِه بأنَّ دَعوتَه كانت مختَلِفةَ الحالاتِ في القَولِ؛ مِن جَهرٍ وإسرارٍ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/196). .
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8).
أي: ثمَّ إنِّي دَعَوتُ قَومي إلى الحَقِّ بمَسمَعٍ منهم، مجاهِرًا بالدَّعوةِ [50] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/292)، ((تفسير السمعاني)) (6/55)، ((تفسير ابن عطية)) (5/373)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/435)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9).
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ.
أي: ثمَّ إنِّي أظهَرتُ دَعوتي لهم، وأشَعْتُها ونشَرْتُها بيْنَهم [51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/292)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/435، 436)، ((تفسير الشوكاني)) (5/356). .
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا.
أي: ودَعَوتُهم سِرًّا فيما بيْني وبيْنَهم في الخَفاءِ [52] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/293)، ((تفسير ابن عطية)) (5/373)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/436). قال الماوَرْدي: (فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّه دعاهم في وقتٍ سرًّا، وفي وقتٍ جهرًا. الثَّاني: دعا بعضَهم سرًّا، وبعضَهم جهرًا). ((تفسير الماوردي)) (6/101). وقال الزمخشري: (فإنْ قُلْتَ: ذَكَر أنَّه دعاهم لَيلًا ونَهارًا، ثمَّ دعاهم جِهارًا، ثمَّ دعاهم في السِّرِّ والعَلَنِ، فيَجِبُ أن تكونَ ثلاثَ دَعَواتٍ مُختَلِفاتٍ حتَّى يَصِحَّ العَطفُ. قلتُ: قد فَعَل عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كما يَفعَلُ الَّذي يأمُرُ بالمعروفِ ويَنهى عن المنكَرِ: في الابتداءِ بالأهوَنِ، والتَّرَقِّي في الأشَدِّ فالأشَدِّ؛ فافتَتَح بالمناصَحةِ في السِّرَّ، فلمَّا لم يَقبَلوا ثَنَّى بالمجاهَرةِ، فلمَّا لم تؤثِّرْ ثَلَّث بالجَمعِ بيْن الإسرارِ والإعلانِ. ومعنى ثُمَّ الدَّلالةُ على تباعُدِ الأحوالِ؛ لأنَّ الجِهارَ أغلَظُ من الإسرارِ، والجَمعَ بيْن الأمْرَينِ أغلَظُ مِن إفرادِ أحَدِهما). ((تفسير الزمخشري)) (4/616). .
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ نوحٌ عليه السَّلامُ أنَّه بالَغَ في الدَّعوةِ إلى حَدٍّ لا مَزيدَ عليه، فلم يَدَعْ مِنَ الأوقاتِ ولا مِن الأحوالِ شَيئًا؛ سَبَّبَ عنه بيانَ ما قال في دَعوتِه، وهو التَّسَبُّبُ في السَّعادةِ كُلِّها بدَفعِ المَضارِّ، وجَلبِ المسارِّ [53] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/437). .
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.
أي: فقُلْتُ لهم: اطلُبوا مِن رَبِّكم أن يَغفِرَ لكم ذُنوبَكم، فيَمحوَها عنكم، ويَتجاوَزَ عن مؤاخَذتِكم بها [54] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/293)، ((تفسير القرطبي)) (18/301)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/314)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/437)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). .
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا.
أي: إنَّ اللهَ متَّصِفٌ أزَلًا وأبدًا بكَمالِ المَغفِرةِ لذُنوبِ عِبادِه [55] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/293)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/437، 438)، ((تفسير الشوكاني)) (5/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/197). .
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11).
أي: فإنَّكم إنِ استَغْفَرْتُم رَبَّكم يُرسِلْ عليكم أمطارًا مُتتابِعةً مُتواصِلةً [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/293)، ((تفسير القرطبي)) (18/301)، ((تفسير ابن كثير)) (8/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/198). .
كما قال هودٌ عليه السَّلامُ لقومِه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [هود: 52] .
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12).
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ.
أي: ويُعْطِكم رَبُّكم أموالًا وأبناءً، ويُكَثِّرْ ذلك لكم [57] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/294)، ((تفسير ابن كثير)) (8/233)، ((تفسير السعدي)) (ص: 889). .
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ.
أي: ويجعَلْ لكم في الدُّنيا بساتينَ فيها أنواعُ الثِّمارِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/294)، ((البسيط)) للواحدي (22/253)، ((تفسير ابن كثير)) (8/233). .
وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.
أي: ويَجعَلْ لكم أنهارًا جارِيةً [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/294)، ((تفسير ابن كثير)) (8/233)، ((تفسير الشوكاني)) (5/357). .
كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] .
وقال سُبحانَه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .
وقال عزَّ وجَلَّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [النحل: 30] .
وقال تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97] .
وقال جَلَّ شأنُه: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا جَمَع بيْنَ الجَهرِ والإسرارِ؛ لأنَّ الجَمعَ بيْنَ الحالتَينِ أقوى في الدَّعوةِ وأغلَظُ من إفرادِ إحداهما [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/197). .
2- في قَولِه تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا حَثٌّ على الاستِغفارِ، وإشارةٌ إلى وُقوعِ المغفرةِ لِمَنِ استغفَرَ [61] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/98). .
3- قال اللهُ تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الاستِغفارَ يُستَنزَلُ به الرِّزقُ والأمطارُ [62] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/302). . ففيها استِحبابُ الاستِغفارِ عِندَ الجَدْبِ وضِيقِ الرِّزقِ، وأنَّه مَجلَبةٌ له [63] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 274). .
4- في قَولِه تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا دليلٌ على تكثيرِ الأولادِ بالعَمَلِ الصَّالحِ؛ لأنَّ نوحًا عليه السَّلامُ وَعَدَ قومَه على الاستِغفارِ إمدادًا بالبَنينَ [64] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/416). ، ولو أنَّ رجُلًا ممَّن لا يُولَدُ له اشْتَهَى أنْ يكونَ له ولدٌ فاستَغفَرَ محتَسِبًا مُستعطِفًا به أولادًا، لَوُلِدَ له، وإنْ كان مِئْنَاثًا [65] مِئناث -على وزن مِفْعال- مِن الأبنيةِ الدَّالَّةِ على الكثرةِ، يُقالُ: امرأةٌ مِذْكارٌ، إذا كانت تلِدُ الذُّكورَ، وكذلك «مِئناثٌ» في الإناثِ. يُنظر: ((الصاحبي)) لابن فارس (ص: 170). فأَحَبَّ الذُّكورَ مِن الأولادِ لم يَعْدَمْهم؛ فإنَّ اللهَ صادِقٌ في قَولِه، لا يُخْلِفُ مِيعادَه [66] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (1/601). .
5- في قَولِه تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا أنَّ مَن أراد أنْ تُرفَعَ عنه العقوبةُ فَلْيَتُبْ إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّ التَّوبةَ مِن أسبابِ رَفْعِ العُقوبةِ، وجَلْبِ المَثُوبةِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 258). .
6- في قَولِه تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا أنَّه لا بأسَ مِن مُلاحظةِ الأمورِ الدُّنيويَّةِ في الاستِقامةِ، وأنَّ مُلاحظتَها لا تَضُرُّه؛ فالرُّسُلُ يأمُرون أقوامَهم بالطَّاعةِ، ثُمَّ يَذكُرونَ المصالحَ الدُّنيويَّةَ، فقولُ نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا هذه المصلحةُ الدِّينيَّةُ، ويُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا هذه مصلحةٌ دُنيويَّةٌ، ولولا أنَّ الإنسانَ لا يَضُرُّه إذا لاحظَها ما ذَكَرَها الرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ [68] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (1/337). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا استُدِلَّ به على أنَّ اسمَ «القومِ» واقِعٌ على الرِّجالِ والنِّساءِ، وأنَّه لا يُفْرَدُ به الرِّجالُ إلَّا بإرادةِ ذلك وإضمارِه، لا أنَّه اسمٌ لا يَقَعُ إلَّا على الرِّجالِ فقط؛ لإحاطةِ أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ دَعَا الرِّجالَ والنِّساءَ إلى دِينِه [69] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/415). قيل: القَوْمُ: الجماعةُ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ معًا؛ لأنَّ قَومَ كلِّ رجُلٍ شِيعَتُه وعَشِيرتُه، ولأنَّ في التَّنزيلِ: قَوْمِ فِرْعَوْنَ [الشعراء: 11] ، وقَوْمِ نُوحٍ وقَوْمِ هُودٍ وقَوْمَ صَالِحٍ وقَوْمُ لُوطٍ [هود: 89] ، وهو اسمٌ يَجمَعُ الرِّجالَ والنِّساءَ. وقيل: القَومُ هم الرِّجالُ خاصَّةً، ولا يقعُ على النِّساءِ إلَّا على وجْهِ التَّبعِ، واستدَلُّوا بقولِه تعالَى: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات: 11] ؛ أي: رِجالٌ مِن رِجالٍ، ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ، فلو كانت النِّساءُ مِن القَومِ لم يَقُلْ: ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دُرَيْد (2/977، 978)، ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 280)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/124)، ((لسان العرب)) لابن منظور (12/505)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (33/305، 306). .
2- قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، جَعَل دَعوتَه مَظروفةً في زَمنَيِ اللَّيلِ والنَّهارِ؛ للدَّلالةِ على عدَمِ الهوادةِ في حِرْصِه على إرشادِهم، وأنَّه يَترصَّدُ الوقتَ الَّذي يَتوسَّمُ أنَّهم فيه أقرَبُ إلى فَهْمِ دَعوتِه منهم في غيرِه مِن أوقاتِ النَّشاطِ، وهي أوقاتُ النَّهارِ، ومِن أوقاتِ الهُدوِّ وراحةِ البالِ، وهي أوقاتُ اللَّيلِ [70] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/616)، ((تفسير أبي حيان)) (10/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/194). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا يدُلُّ على أنَّ جميعَ الحوادِثِ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه؛ وذلك لأنَّا نرى إنسانَينِ يَسمَعانِ دَعوةَ الرَّسولِ في مجلِسٍ واحِدٍ بلَفظٍ واحِدٍ، فيَصيرُ ذلك الكلامُ في حَقِّ أحدِهما سَبَبًا لحُصولِ الهِدايةِ، والمَيلِ والرَّغبةِ، وفي حَقِّ الثَّاني سَبَبًا لِمَزيدِ العُتُوِّ والتَّكَبُّرِ، ونهايةِ النَّفرةِ [71] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/650). .
4- في قَولِه تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا أنَّه سُبحانَه يُعَلِّلُ أحكامَه وأفعالَه بأسمائِه؛ فليست أسماؤُه ألفاظًا مُجَرَّدةً لا مَعانيَ لها! ولو لَمْ يكُنْ لها معنًى لَمَا كان التَّعليلُ صحيحًا [72] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 173). !
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، فيه سؤالٌ: نوحٌ عليه السَّلامُ أمَر الكفَّارَ قبْلَ هذه الآيةِ بالعبادةِ والتَّقْوى والطَّاعةِ، فأيُّ فائدةٍ في أنْ أمَرهم بعدَ ذلك بالاستِغفارِ؟
الجوابُ: كأنَّهم لَمَّا أمَرَهم بالعبادةِ قالوا: إنْ كنَّا على حقٍّ فلا نَترُكُه، وإنْ كنَّا على باطلٍ، فكيف يَقبَلُنا ويَلطُفُ بنا مَن عَصَيْناهُ؟ فأمَرَهم بما يَجُبُّ مَعاصيَهم، ويَجلِبُ إليهم المِنَحَ، ولذلك وَعَدَهم عليه بما هو أوقَعُ في قُلوبِهم [73] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/652)، ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/32)، ((تفسير أبي السعود)) (9/38). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا فيه سُؤالٌ: لِمَ قال: إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، ولم يقُلْ: (إنَّه غَفَّارٌ)؟
الجوابُ: أنَّ المرادَ: أنَّه كان غَفَّارًا في حَقِّ كُلِّ مَن استَغفَروه، كأنَّه يقولُ: لا تظُنُّوا أنَّ مَغفِرتَه إنَّما حَدَثَت الآنَ، بل هو أبدًا هكذا كان [74] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/652). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا فيه دَلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى يُجازي عِبادَه الصَّالِحينَ بطِيبِ العَيشِ؛ قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97] ، وقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] ، وقال: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/199). [الجن: 16] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا
- قولُه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا جُرِّدَ فِعلُ (قال) مِن العاطفِ؛ لأنَّه حِكايةُ جَوابِ نوحٍ عن قولِ اللهِ له: أَنْذِرْ قَوْمَكَ، عُومِلَ مُعامَلةَ الجوابِ الَّذي يُتلقَّى به الأمْرُ على الفورِ على طَريقةِ المُحاوَراتِ؛ تَنبيهًا على مُبادَرةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ بإبلاغِ الرِّسالةِ إلى قَومِه، وتَمامِ حِرصِه في ذلك كما أفادَه قولُه: لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح: 5] ، وحُصولِ يأْسِه منهم، فجَعَل مُراجَعتَه ربَّه بعْدَ مُهلةٍ مُستفادةٍ مِن قولِه: لَيْلًا وَنَهَارًا بمَنزلةِ المراجَعةِ في المقامِ الواحدِ بيْنَ المُتحاورَيْنِ. ولك أنْ تَجعَلَ جُملةَ قَالَ رَبِّ إلخ مُستأنَفةً استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ السَّامعَ يَترقَّبُ مَعرفةَ ماذا أجاب قومُ نُوحٍ دَعوتَه؟ فكان في هذه الجُملةِ بَيانُ ما يَترقَّبُه السَّامعُ مع زِيادةِ مُراجَعةِ نُوحٍ ربَّه تَعالى [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/193). .
- وهذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في لازِمِ معْناه، وهو الشِّكايةُ والتَّمهيدُ لطلَبِ النَّصرِ عليهم؛ لأنَّ المخاطَبَ به عالِمٌ بمَدلولِ الخبَرِ، وذلك ما سيُفْضي إليه بقولِه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا الآياتِ [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/193). .
- وفائدةُ حِكايةِ ما ناجَى به نوحٌ ربَّه إظهارُ تَوكُّلِه على اللهِ، وانتصارُ اللهِ له، والإتيانُ على مُهِمَّاتٍ مِن العِبرةِ بقصَّتِه، بتَلوينٍ لحِكايةِ أقوالِه، وأقوالِ قَومِه، وقَولِ اللهِ له، وتلك ثَمانِ مَقالاتٍ؛ هي:
أ- أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ... إلخ [نوح: 1] .
ب- قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ... إلخ [نوح: 2] .
ج- قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي ... إلخ [نوح: 5] .
د- فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... إلخ [نوح: 10] .
هـ- قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ... إلخ [نوح: 21] .
و- وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ... إلخ [نوح: 24] .
ز- وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ ... إلخ [نوح: 26] .
ح- رَبِّ اغْفِرْ لِي ... إلخ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/193، 194). [نوح: 28] .
- قولُه: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا فيه تأْكيدٌ للمدْحِ بما يُشبِهُ الذَّمَّ، أو تأْكيدُ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه، وهو هنا تأْكيدُ إعراضِهم المُشبَّهِ بالابتعادِ بصُورةٍ تُشبِهُ ضِدَّ الإعراضِ، ولَمَّا كان فِرارُهم مِن التَّوحيدِ ثابتًا لهم مِن قبْلُ، كان قولُه: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا مِن تأْكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/194). .
- وتَصديرُ كلامِ نُوحٍ بالتَّأكيدِ؛ لإرادةِ الاهتِمامِ بالخبرِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/194). .
2- قولُه تعالَى: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا
- قولُه: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ جاء بكَلمةِ (كلَّما) الدَّالَّةِ على شُمولِ كلِّ دَعوةٍ مِن دَعَواتِه مُقترِنةً بدَلائلِ الصَّدِّ عنها؛ لأنَّ المعنى: أنَّهم لم يُظهِروا مَخِيلةً مِن الإصغاءِ إلى دَعوتِه، ولم يَتخلَّفوا عن الإعراضِ والصُّدودِ عن دَعوتِه طَرْفةَ عَينٍ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/195). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ دَعَوْتُهُمْ؛ لدَلالةِ ما تَقدَّمَ عليه مِن قولِه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [نوح: 3] ، والتَّقديرُ: كلَّما دَعوتُهم إلى عِبادتِك وتَقْواك وطاعَتي فيما أمَرْتُهم به [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/195). .
- واللَّامُ في قولِه: لِتَغْفِرَ لامُ التَّعليلِ، أي: دَعوتُهم بدَعوةِ التَّوحيدِ، فهو سبَبُ المغفرةِ، فالدَّعوةُ إليه مُعلَّلةٌ بالغُفرانِ. وجُعِلَت الدَّعوةُ مُعلَّلةً بمَغفرةِ اللهِ لهم؛ لأنَّها دَعوةٌ إلى سَببِ المغفرةِ، وهو الإيمانُ باللهِ وحْدَه وطاعةُ أمْرِه على لِسانِ رَسولِه، وفي ذلك تَعريضٌ بتَحميقِهم، وتَعجُّبٌ مِن خُلُقِهم؛ إذ يُعرِضون عن الدَّعوةِ لِما فيه نَفْعُهم، فكان مُقْتضى الرَّشادِ أنْ يَسمَعوها ويَتدبَّرُوها [83] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/616)، ((تفسير البيضاوي)) (5/248)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/30)، ((تفسير أبي حيان)) (10/281)، ((تفسير أبي السعود)) (9/37)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/195، 196). .
- قولُه: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ يَجوزُ أنْ يكونَ كِنايةً عن المُبالَغةِ في إعراضِهم عمَّا دَعاهم إليه، فهمْ بمَنزلةِ مَن سَدَّ سَمْعَه، ومنَعَ بَصَرَه [84] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/281)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/224). . ويجوزُ أنْ يكونَ تَمثيلًا لحالِهم في الإعراضِ عن قَبولِ كَلامِه، ورُؤيةِ مَقامِه بحالِ مَن يسُكُّ سمْعَه بأُنملتَيْه، ويَحجُبُ عَينَيه بطَرَفِ ثَوبِه [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/196). .
- وعُبِّرَ عن الأناملِ بالأصابعِ؛ للمُبالَغةِ في إرادةِ سَدِّ المَسامِعِ، بحيث لو أمكَنَ لأدْخَلوا الأصابعَ كلَّها [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/195). .
- والسِّينُ والتَّاءُ في (اسْتَغْشَوْا) للمُبالَغةِ [87] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/248)، ((تفسير أبي السعود)) (9/37)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/195). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ وَأَصَرُّوا؛ لظُهورِه، أي: أصَرُّوا على ما همْ عليه مِن الشِّركِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/196). .
- قولُه: وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (اسْتَكْبَرُوا) مُبالَغةٌ في تَكبَّروا، أي: جَعَلوا أنفُسَهم أكبَرَ مِن أنْ يَأْتمِروا لواحدٍ منهم. وتأْكيدُ وَاسْتَكْبَرُوا بمَفعولِه المُطلَقِ اسْتِكْبَارًا؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِ الاستِكبارِ [89] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/616)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/196). .
- وتَنوينُ اسْتِكْبَارًا للتَّعظيمِ، أي: استِكبارًا شَديدًا، لا يَفُلُّه حدُّ الدَّعوةِ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/196). .
- قولُه: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا عُطِفَ الكلامُ بـ (ثُمَّ) الَّتي تُفيدُ في عَطْفِها الجُمَلَ أنَّ مَضمونَ الجُملةِ المعطوفةِ أهمُّ مِن مَضمونِ المعطوفِ عليها؛ لأنَّ اختِلافَ كَيفيَّةِ الدَّعوةِ ألْصَقُ بالدَّعوةِ مِن أوقاتِ إلْقائِها؛ لأنَّ الحالةَ أشدُّ مُلابَسةً بصاحِبِها مِن مُلابَسةِ زَمانِه، فذَكَر أنَّه دَعاهم جِهارًا، أي: عَلَنًا، ثمَّ ارْتَقى فذَكَرَ أنَّه جمَعَ بيْن الجَهرِ والإسرارِ؛ لأنَّ الجمْعَ بيْنَ الحالتَينِ أقْوى في الدَّعوةِ، وأغلَظُ مِن إفرادِ إحْداهما، فقولُه: أَعْلَنْتُ لَهُمْ تأْكيدٌ لقولِه: دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا؛ ذُكِرَ ليُبْنى عليه عطْفُ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا، والمعْنى: أنَّه تَوخَّى ما يَظُنُّه أوْغَلَ إلى قُلوبِهم مِن صِفاتِ الدَّعوةِ؛ فجَهَر حينَ يكونُ الجهرُ أجْدى مِثلُ مَجامعِ العامَّةِ، وأسرَّ للَّذين يَظُنُّهم مُتجَنِّبينَ لَوْمَ قَومِهم عليهم في التَّصدِّي لسَماعِ دَعوتِه، وبذلك تكونُ ضَمائرُ الغَيبةِ في قولِه: دَعَوْتُهُمْ، وقولِه: أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ مُوزَّعةً على مُختَلِفِ النَّاسِ [91] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/616)، ((تفسير البيضاوي)) (5/248، 249)، ((تفسير أبي حيان)) (10/282)، ((تفسير أبي السعود)) (9/37)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/196، 197)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/224). .
- وانتصَب جِهَارًا بالنيابةِ عن المفعولِ المطلقِ المبيِّنِ لنوعِ الدعوةِ، وانتصَبَ إِسْرَارًا على أنَّه مَفعولٌ مُطلَقٌ مُفيدٌ للتَّوكيدِ، أي: إسرارًا خَفيًّا [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/197). .
3- قولُه تعالَى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا فصَّل دَعوتَه بفاءِ التَّفريعِ فقال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ؛ فهذا القولُ هو الَّذي قالَه لهم ليلًا ونهارًا، وجِهارًا وإسرارًا [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/197). .
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا تعليلٌ لقولِه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ؛ علَّلَ لهم بأنَّ اللهَ مَوصوفٌ بالغُفرانِ صِفةً ثابتةً تَعهَّدَ اللهُ بها لعِبادِه المستغفرينَ، فأفادَ التَّعليلَ بحرْفِ (إنَّ)، وأفاد ثُبوتَ الصِّفةِ للهِ بذِكرِ فِعلِ (كان)، وأفاد كَمالَ غُفرانِه بصِيغةِ المُبالَغةِ بقولِه: غَفَّارًا، وهذا وعْدٌ بخَيرِ الآخِرةِ. ورتَّبَ على الوعْدِ بخيرِ الآخرةِ وعْدًا بخيرِ الدُّنيا بطَريقِ جَوابِ الأمرِ، وهو يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ ... الآيةَ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/197، 198). .
- قولُه: غَفَّارًا  صيغةُ مبالغةٍ، وهو أبلغُ في المغفرةِ مِن (غافر)؛ لأنَّ (فعَّالًا) يدلُّ على كثرةِ صدورِ الفعلِ، و(فاعلًا) لا يدلُّ على الكثرةِ، وقوَّةُ اللفظِ تدلُّ على قوةِ المعنَى، فالألفاظُ أدلةٌ على المعاني، وأمثلةٌ للإبانةِ عنها [95] يُنظر: ((المثل السائر)) لابن الأثير (2/197، 198). .
- وقدَّمَ إليهم الموعدَ بما هو أوقَعُ في نُفوسِهم وأحَبُّ إليهم؛ مِن المنافعِ الحاضرةِ، والفوائدِ العاجلةِ؛ تَرغيبًا في الإيمانِ وبَرَكاتِه، والطَّاعةِ ونَتائجِها مِن خَيرِ الدَّارَينِ [96] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/617)، ((تفسير أبي حيان)) (10/282). .
- قولُه: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا الإرسالُ: مُعبَّرٌ به عن الإيصالِ والإعطاءِ، وتَعديتُه بـ عَلَيْكُمْ لأنَّه إيصالٌ مِن عُلوٍّ. والمِدرارُ: الكثيرةُ الدَّرِّ والدُّرورِ، وهو السَّيَلانُ، ومعْنى ذلك: أنْ يَتبَعَ بَعضُ الأمطارِ بَعضًا، ومِدرارٌ زِنةُ مُبالَغةٍ [97] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/617)، ((تفسير البيضاوي)) (5/249)، ((تفسير أبي السعود)) (9/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/198). .
4- قولُه تعالَى: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا فيه إعادةُ فِعلِ (يَجعَل) بعْدَ واوِ العطفِ في قولِه: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا للتَّوكيدِ؛ اهتمامًا بشأْنِ المعطوفِ؛ لأنَّ الأنهارَ قِوامُ الجنَّاتِ، وتَسْقي المزارعَ والأنعامَ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/198). .