موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (25-31)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات:

أَرَاذِلُنَا: أي: سَفِلَتُنا وأخِسَّاؤُنا، والرَّذلُ: المرغوبُ عنه لرَداءتِه، والدُّونُ مِن كلِّ شَيءٍ في مَنظَرِه وحالاتِه .
بَادِيَ الرَّأْيِ: أي: في ظاهِرِ الرَّأيِ والنَّظَرِ؛ مِن قَولِهم: بدا الشَّيءُ يَبدو: إذا ظهرَ، وأصلُ (بدو): يدلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ .
فَعُمِّيَتْ: أي: أُخفِيَت، وأصلُ (عمي): يدلُّ على سَترٍ وتَغطيةٍ .
تَزْدَرِي: أي: تحتَقِر وتَعيبُ، وأصلُ (زري): يدلُّ على احتقارِ الشَّيءِ، والتَّهاوُنِ به .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ
بَادِيَ الرَّأيِ بادِيَ: ظرفُ زَمانٍ منَصوبٌ، والعامِلُ فيه اتَّبَعَكَ أي: اتَّبَعوك في أوَّلِ الرأيِ، أو فيما ظهَرَ منه مِن غَيرِ أن يَبحَثوا. أو العاملُ فيه أَرَاذِلُنَا أي: هم أراذِلُنا بظاهِرِ الرَّأيِ نَعلَمُ ذلك. وإضافةُ (بادي) إلى (الرأيِ) مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: في الرأيِ البادي. وقيل: بَادِيَ حالٌ مِن مفعولِ «اتَّبَعَكَ»، أي: اتَّبَعوك وأنت مكشوفُ الرأيِ، لا حصافةَ لك. وقيل غير ذلك .
2- قَولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ
وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ جملةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ، معطوفةٌ على قولِه: وَلَا أَقُولُ، كأنَّه أخبَرَ عن نفسِه بهذه الجُمَل، وليس معطوفًا على قَولِه: عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى أن يصيرَ التَّقديرُ: ولا أقولُ لكم لا أَعْلَمُ الغيبَ، فيَفسُد المعنى .

المعنى الإجمالي:

يُقسِمُ تعالى أنَّه أرسلَ نوحًا إلى قومِه، فقال لهم: إنِّي نذيرٌ لكم مِن عذابِ الله، مُبيِّنٌ ما أُرسِلتُ به إليكم مِن أمرِ اللهِ ونَهيِه، بألَّا تعبدُوا إلَّا اللهَ، إنِّي أخافُ عليكم- إن لم تُفرِدوا اللهَ وحْدَه بالعبادةِ- عذابَ يومٍ مُوجِعٍ، فقال رؤساءُ الكُفرِ مِن قَومِه: ما نراك- يا نوحُ- إلَّا بشرًا  مِثلَنا، ولستَ بمَلَكٍ، فكيف أُوحِيَ إليك مِن دُونِنا؟! وما نراك اتَّبَعَك إلَّا الذين هم أسافِلُنا، وإنَّما اتَّبَعوك مِن غيرِ تفَكُّرٍ ولا رويَّةٍ، وما نرَى لكم مِن شَرَفٍ ومزيَّةٍ علينا حينَ دخَلتُم في دينِكم، فنَتَّبِعَكم، بل نعتَقِدُ أنَّكم كاذبونَ فيما تدَّعونَ، قال نوحٌ: يا قومي أرأيتُم إن كنتُ على حُجَّةٍ ظاهرةٍ مِن ربِّي فيما جئتُكم به، وآتاني رحمةً مِن عندِه- وهي النبوَّةُ والرِّسالةُ- فأخفاها عليكم عقابًا لكم، أنُلزِمُكم إيَّاها بالإكراهِ، وأنتم جاحِدونَ بها؟ لا نفعَلُ ذلك، ولكِنْ نَكِلُ أمرَكم إلى اللهِ حتى يقضيَ في أمرِكم ما يشاءُ.
قال نوحٌ عليه السَّلامُ لِقَومِه: يا قومِ لا أسألُكم على دَعوتِكم لتوحيدِ اللهِ مالًا، ولكِن ثوابُ نُصحي لكم على اللهِ وَحدَه، وليس مِن شأني أن أطرُدَ المُؤمِنينَ؛ فإنَّهم مُلاقو ربِّهم يومَ القيامةِ، ولكِنِّي أراكم قومًا تَجهَلونَ؛ إذ تأمرونَني بطَردِ أولياءِ اللهِ، وإبعادِهم عنِّي، ويا قومِ مَن يمنَعُني مِن عِقابِ الله إن عاقَبَني على طَردي المؤمنينَ؟ أفلا تتدبَّرونَ الأمورَ فتَنتَهوا عن جهلِكم وضَلالِكم؟ ولا أقولُ لكم: إنِّي أملِكُ التصرُّفَ في خزائنِ اللهِ، ولا أدَّعي علمَ الغَيبِ، ولستُ بمَلَكٍ مِن الملائكةِ، ولا أقولُ لهؤلاء الذين تحتَقِرونَ مِن ضُعَفاءِ المؤمنينَ لن يؤتِيَهم اللهُ ثوابًا على إيمانِهم؛ فاللهُ وَحدَه أعلَمُ بما في قلوبِهم، ولئن فعلتُ ذلك إنِّي إذًا لَمِنَ الظَّالمينَ لأنفُسِهم ولغَيرِهم.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه قد جَرَت العادةُ بأنَّ اللهَ تعالى إذا أوردَ على الكافِرِ أنواعَ الدَّلائلِ أتبَعَها بالقَصَصِ؛ ليصيرَ ذِكرُها مُؤَكِّدًا لتلك الدَّلائلِ، وفي هذه السُّورةِ ذَكرَ أنواعًا مِن القَصَصِ؛ القِصَّةُ الأولى قِصَّةُ نوحٍ عليه السَّلامُ .
وأيضًا فإنَّ هذا انتِقالٌ مِن إنذارِ المُشرِكينَ ووَصفِ أحوالِهم وما ناسبَ ذلك، إلى مَوعِظتِهم بما أصاب المكَذِّبينَ قَبلَهم من المصائبِ، وفي ذلك تسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما لاقاه الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ قَبلَه مِن أقوامِهم .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25).
أي: ولقد بعَثْنا نبيَّنا نوحًا إلى قَومِه المُشرِكينَ، فقال لهم: إنِّي نذيرٌ لكم، أُخوَفِّكم عذابَ اللهِ إن عبَدتُم غيرَه، وأُبيِّنُ لكم ما أرسَلَني اللهُ به مِن أمرِه ونَهيِه .
أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26).
أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ.
أي: أرسَلْناه إلى قَومِه بأنْ لا تعبُدوا إلَّا اللهَ وَحْدَه .
إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ.
أي: إنِّي أخافُ عليكم- يا قَومِ- إن لم توحدوا اللهَ، وتَتركوا عِبادةَ الأصنامِ- أن يُعَذِّبَكم عذابًا مُؤلِمًا مُوجعًا يومَ القيامةِ .
فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه دعا قَومَه إلى عبادةِ الله تعالى؛ حكَى عنهم أنَّهم طَعَنوا في نبوَّتِه بثلاثةِ أنواعٍ مِن الشُّبُهاتِ .
فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا.
أي: فقال الأشرافُ والكُبَراءُ الكافرونَ مِن قَومِ نُوحٍ: ما نراك- يا نوحُ- إلَّا آدميًّا مِثلَنا، ولستَ مِن الملائكةِ، فكيف يُرسِلُك اللهُ مِن دُوننا ؟!
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 23-24] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ بَادِئَ بهَمزةٍ في آخِرِه، أي: ابتداءَ الرَّأيِ، والمعنى: اتَّبَعوك ابتداءَ الرَّأيِ مِن غيرِ أن يتدَبَّروا ما قُلتَ، ولم يتفَكَّروا فيه، ولو تفَكَّروا وتدَبَّروا لم يتَّبِعوك .
2- قراءةُ بَادِيَ بغيرِ همزٍ. مِن: بدا يبدو: إذا ظهَرَ، والمعنى: لم يتَّبِعْك إلَّا الذين هم أراذِلُنا فيما يظهرُ لنا ولا يخفَى على أحدٍ. وقيل: المعنى: اتَّبَعوك في الظَّاهِرِ وباطِنُهم على خلافِ ذلك، أي: أنَّهم أظهَروا الإسلامَ، وأبطَنوا الكُفرَ. وقيل: المعنى: اتَّبَعوك في ظاهرِ الرَّأيِ، ولم يتدَبَّروا ما قلتَ، ولم يتفَكَّروا فيه، فتكونُ بمعنى القراءةِ الأولى .
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى.
أي: قال الكُبَراءُ مِن قَومِ نُوحٍ: وما نراك اتَّبَعَك على دينِك إلَّا الضُّعَفاءُ الذين هم سَفِلَتُنا فيما يظهَرُ لنا ولِغَيرِنا .
كما قال تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الشعراء: 111-115] .
وعن أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ رَضِيَ الله عنه، في حديثِ هِرقلَ الطَّويلِ، عندَما سأله عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: (قال: وسألتُك عن أتباعِه: أضُعفاؤُهم أم أشرافُهم؟ فقُلتَ: بل ضُعَفاؤُهم، وهم أتباعُ الرُّسُلِ) .
وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ.
أي: قال الكُبَراءُ مِن قَومِ نُوحٍ له ولأتباعِه المُؤمِنينَ: وما نرى أنَّه حصل لكم شَرَفٌ ومزيَّةٌ علينا حين دخَلتُم في دينِكم هذا، فتَستحقُّوا اتباعَنا لكم .
بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ.
أي: بل نظُنُّكم كاذبينَ فيما تدَّعونَه .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها جوابٌ عن شُبهةِ قَومِ نُوحٍ الأولى، والمعنى: أنَّ حُصولَ المُساواة في البَشَريَّةِ لا يمنَعُ مِن حُصولِ المُفارَقةِ في صِفةِ النبوَّةِ والرِّسالةِ، وذكَرَ الطَّريقَ الدَّالَّ على إمكانِه، وهو كونُه على بيِّنةٍ مِن ربِّه .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ.
أي: قال نوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِقَومِه: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على يقينٍ وعلمٍ مِن اللهِ، وبُرهانٍ على صحَّةِ نبوَّتي ، وبما يجِبُ عليَّ من إخلاصِ العبادةِ له وَحْدَه سُبحانَه .
وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ فَعُمِّيَتْ بضَمِّ العينِ وتشديدِ الميمِ بالبناءِ للمَفعولِ، بمعنى: أُخفِيَت، أي: أخفاها اللهُ عليكم وخَذَلكم؛ عقوبةً لكم .
2- قراءةُ فَعَمِيَتْ بفَتحِ العَينِ وتخفيفِ الميمِ، بمعنى: فعَمِيَت عليكم، فلم تهتَدوا إليها .
وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.
أي: ورَزَقني اللهُ النبوَّةَ، فخَفِيَت عليكم، ومنَعَكم اللهُ معرفةَ الحَقِّ عقوبةً لكم، فلم تهتَدوا إلى اتِّباعي .
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
أي: أنغصِبُكم، ونُكرِهُكم على التَّصديقِ بها واتِّباعِها، والحالُ أنَّكم تَكرهونَها، وتنَفِرونَ منها ؟!
وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا هو الجوابُ عن الشُّبهةِ الثَّانيةِ، وهي قَولُهم: لا يتَّبِعُك إلَّا الأراذِلُ مِن النَّاسِ، وتقريرُ ذلك من وجوهٍ:
الوجه الأول: أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: أنا لا أطلبُ على تبليغِ دَعوةِ الرِّسالةِ مالًا حتى يتفاوتَ الحالُ بسبَبِ كَونِ المُستَجيبِ فقيرًا أو غنيًّا، وإنَّما أَجْري على هذه الطَّاعةِ الشَّاقَّةِ على ربِّ العالَمينَ، وإذا كان الأمرُ كذلك فسواءٌ كانوا فُقَراءَ أو أغنياءَ، لم يتفاوتِ الحالُ في ذلك.
الوجه الثاني: كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال لهم: إنَّكم لَمَّا نَظَرتُم إلى ظواهرِ الأمورِ وَجَدتُموني فقيرًا، وظَنَنتُم أنِّي إنما اشتغلتُ بهذه الحِرفةِ؛ لأتوسَّلَ بها إلى أخذِ أموالِكم، وهذا الظنُّ منكم خطأٌ؛ فإنِّي لا أسألُكم على تبليغِ الرِّسالةِ أجرًا؛ إنْ أجريَ إلَّا على ربِّ العالَمينَ، فلا تَحرِموا أنفُسَكم من سعادةِ الدِّينِ؛ بسبب هذا الظَّنِّ الفاسدِ.
 الوجه الثالث: أنَّهم قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا إلى قَولهم: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فهو عليه السَّلامُ بيَّنَ أنَّ اللهَ تعالى أعطاه أنواعًا كثيرةً توجِبُ فَضلَه عليهم؛ ولذلك لم يسْعَ في طلَبِ الدُّنيا، وإنَّما يسعى في طلَبِ الدِّينِ، والإعراضُ عن الدُّنيا من أُمَّهاتِ الفضائِلِ باتِّفاقِ الكُلِّ، فلعلَّ المرادَ تقريرُ حُصولِ الفَضيلةِ مِن هذا الوَجهِ .
وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ.
أي: ويا قَومِ لا أطلُبُ منكم مالًا أجرةً لي على تبليغي رسالةَ اللهِ، ما أجري على نَصيحَتي ودَعوتي لكم إلَّا على اللهِ الذي أرسَلَني، فهو الذي يُثيبُني .
وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ.
أي: وما أنا بمُقْصٍ الضُّعَفاءَ المُؤمنينَ مِن قُربي وجواري؛ لاحتقارِكم لهم .
كما قال الله تعالى لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ناهيًا إيَّاه أن يطرُدَ جماعةً من ضُعَفاءِ المؤمنينَ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 52] .
إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ.
أي: إنَّ هؤلاء المُؤمِنينَ الضُّعَفاءَ صائِرونَ إلى اللهِ يومَ القيامةِ، فيسألُهم عن أعمالِهم، لا عن شَرَفِهم وحسَبِهم، ويُثيبُهم عليها، ويُجازي مَن ظَلَمَهم .
وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ.
أي: ولكِنِّي أراكم قومًا تجهلونَ كُلَّ ما تنبغي مَعرِفتُه؛ ومن ذلك عَظَمةُ اللهِ وتَوحيدُه، ومَنزلةُ المؤمنينَ عِندَه، فمِن جَهْلِكم سألتُموني طَردَهم، وهم خيرٌ منكم .
وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30).
وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ.
أي: قال نوح عليه الصَّلاة والسَّلام: ويا قَومِ مَن يمنَعُني مِن عذابِ اللهِ إن طَردتُ المؤمنينَ فعاقَبَني ؟
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.
أي: أفلا تتَفَكَّرونَ وتتَّعظونَ، فتَنزَجِروا عمَا تقولونَ، وتَنتَهوا عن جَهلِكم وضَلالِكم ؟!
وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا تفصيلٌ لِما رَدَّ به نوحٌ عليه السَّلامُ مقالةَ قَومِه إجمالًا؛ فهم استدَلُّوا على نفيِ نُبوَّتِه بأنَّهم لم يَرَوا له فضلًا عليهم، فجاء هو في جوابِهم بالقَولِ بالمُوجِبِ أنَّه لم يدَّعِ فَضلًا غيرَ الوحيِ إليه .
وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ.
أي: ولا أقولُ لكم: عندي خزائِنُ رِزقِ اللهِ، أتصرَّفُ فيها بالإعطاءِ والمَنعِ، فأدعوكم إلى اتِّباعي عليها .
وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ.
أي: ولا أدَّعي أنِّي أعلَمُ ما غاب وخَفِيَ من السَّرائِرِ، وغير ذلك ممَّا لا يعلَمُه إلَّا اللهُ وَحْدَه .
وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.
أي: ولا أقولُ لكم: إنِّي مَلَكٌ مِن الملائكةِ، بل أنا بشَرٌ مِثلُكم أبلِّغُكم ما أرسَلَني اللهُ به .
وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا.
أي: ولا أقولُ عن المؤمنينَ الذين تحتَقِرُهم أعيُنُكم: لن يُعطِيَهم اللهُ أجورَهم وثوابَهم على إيمانِهم .
اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ.
أي: اللهُ أعلَمُ بما في قلوبِ أولئك المُؤمِنينَ مِن اعتقاداتٍ ونيَّاتٍ .
إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ.
أي: إنِّي- إن ادَّعيتُ أنَّ اللهَ لن يؤتيَ المؤمنينَ خَيرًا، وحكمتُ بأنَّهم يُظهِرونَ غيرَ ما يُبطنِونَ في نفوسِهم وطَرَدتُهم- لَمِنَ المُعتَدينَ ما أمَرَهم اللهُ به، القائلينَ ما لا عِلمَ لهم به، الفاعلينَ ما ليس لهم فِعلُه .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ الله تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَولُهم هذا قَولُ مَن يعرِفُ الحَقَّ بالرِّجالِ، ولا يَعرِفُ الرِّجالَ بالحَقِّ؛ وذلك أنَّه يستدِلُّ على كونِ الشَّيءِ حَقًّا بعَظَمةِ مُتَّبِعه في الدُّنيا، وعلى كونِه باطلًا بحَقارتِه فيها .
2- قولُهم: بَادِيَ الرَّأْي ليس بمذمةٍ ولا عيبٍ؛ لأنَّ الحقَّ إذا وضَح لا يبقَى للتروِّي ولا للفكرِ مجالٌ- وهذا على أحدِ القولين في التفسيرِ- بل لا بدَّ مِن اتباعِ الحقِّ- والحالة هذه- لكلِّ ذي زكاءٍ وذكاءٍ، ولا يفكِّر وينزوي هاهنا إلا عييٌّ أو غبيٌّ، والرسلُ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمرٍ جليٍّ واضحٍ .
3- إنَّ العَقلُ والشَّرعُ تطابقا على أنَّه لا بُدَّ مِن تعظيمِ المؤمِنِ البَرِّ التقيِّ، وإهانةِ الفاجرِ الكافرِ، فلو عُكِسَت القضيةُ، فقُرِّبَ الكافِرُ الفاجِرُ على سبيلِ التَّعظيمِ، وطُرِدَ المؤمِنُ التَّقيُّ على سبيلِ الإهانةِ، كان ذلك على ضِدِّ أمرِ الله تعالى، وعلى عَكسِ حُكمِه مِن إيصالِ الثَّوابِ إلى المحقِّينِ، والعِقابِ إلى المُبطِلينَ، قال تعالى حكايةً عن نوحٍ عليه السلامُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- ذكَر الله سبحانَه قصصَ الأنبياءِ عليهم السَّلام للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تنبيهًا له على ملازمةِ الصبرِ على أذَى الكفارِ إلى أن يكفيَه الله أمرَهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ... .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ بادرَ الملأُ- أي: الأشرافُ والزُّعَماءُ الذين كَفَروا مِن قَومِه- إلى الجوابِ؛ لِيكونَ الدَّهْماءُ تَبعًا لهم كعادَتِهم، واقتَرَن جوابُهم هنا بـ (الفاء)؛ لأنَّه هو الأصلُ في الرَّدِّ السَّريعِ .
3- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ كرَّرَ نوحٌ عليه السَّلامُ هذه اللَّفظةَ كُلَّ قليلٍ؛ تذكيرًا لهم أنَّه منهم؛ لِتُعَطِّفَهم الأرحامُ، وتَرُدَّهم القَراباتُ عن حَسَدِه أو اتِّهامِه، إلى قَبولِ ما يُلقي إليهم مِن الكلامِ .
4- عُطِفَت جُملةُ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينِ آمَنُوا على جملةِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا؛ لأنَّ مَضمونَها كالنَّتيجةِ لِمَضمونِ المَعطوفِ عليها، لأنَّ نَفيَ طَمَعِه في المُخاطَبينَ يَقتَضي أنَّه لا يُؤذي أتباعَه لأجلِ إرضاءِ هؤلاء .
5- صِفاتُ الكَمالِ تَرجِعُ إلى ثلاثةٍ: العلمِ والقُدرةِ والغِنَى، وهذه الثَّلاثةُ لا تَصلحُ على وجهِ الكَمالِ إلَّا لله وَحدَه؛ فإنَّه الذي أحاط بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، وهو على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وهو غنيٌّ عن العالَمين، وقد أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبرأَ مِن دعوى هذه الثَّلاثةِ بقَولِه: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام: 50] ، وكذلك قال نوحٌ عليه السَّلامُ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فهذا أوَّلُ أولي العَزمِ وأوَّلُ رَسولٍ بَعَثَه الله تعالى إلى أهلِ الأرضِ، وهذا خاتَمُ الرُّسُلِ وخاتَمُ أولي العَزمِ، كِلاهما يتبَرَّأُ من ذلك .
6- دلَّ قولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ على أنَّه ليس مِن شَرْطِ الرَّسولِ أن يَعلمَ كلَّ ما يكونُ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فيه تأكيدُ الجملَةِ بلامِ القسَمِ و(قَدْ)؛ لأنَّ المخاطَبين لَمَّا غفَلوا عَن الحذَرِ ممَّا بِقَومِ نوحٍ مَع مُماثَلةِ حالِهم؛ نُزِّلوا مَنزِلةَ المنكِرِ لوقوعِ رِسالتِه .
- قولُه: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ اقتَصر على النذارةِ دونَ البشارةِ؛ لأنَّ دعوتَه كانت لمجردِ الإنذارِ، أو لكونِهم لم يعمَلوا بما بشَّرهم به .
2- قولُه تعالى: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
- جملةُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ تَعليليَّةٌ لِمُوجِبِ النَّهيِ المستَفادِ مِن أَلَّا تَعْبُدُوا، والمعنى: نَهيتُكم عن عبادةِ غيرِ اللهِ؛ لأنِّي أخافُ عليكم، وفيها تَحقيقٌ لِمَعنى الإنذارِ .
- وقولُه: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فيه وصفُ اليومِ بالأليمِ؛ لِوُقوعِ الألَمِ فيه، وهو أبلَغُ مِن أن يُوصَفَ العذابُ بالأليمِ .
3- قولُه تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
- قولُه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ فيه عطْفُ قولِ الملَأِ مِن قومِه بالفاءِ على فِعْلِ أَرْسَلْنَا؛ للإشارةِ إلى أنَّهم بادَروه بالتَّكذيبِ والمُجادَلةِ الباطلةِ لَمَّا قال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ... [هود: 25] إلى آخِرِه، ولَم تقَعْ حِكايةُ ابتداءِ مُحاوَرتِهم إيَّاه بـ (قال) مجرَّدًا عن الفاءِ، كما وقَع في سورةِ الأعرافِ؛ لأنَّ ابتداءَ مُحاوَرتِه إيَّاهم هنا لم يقَعْ بلَفظِ القولِ؛ فلم يَحْكِ جَوابَهم بطَريقةِ المُحاوَراتِ بخِلافِ آيةِ الأعرافِ .
- قولُه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا فيه تعريضٌ مِنهم بأنَّهم أحَقُّ منه بالنُّبوَّةِ، وأنَّ اللهَ لو أراد أن يَجعَلَها في أحَدٍ مِن البشَرِ لجعَلَها فيهم .
- وقولُه: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا مُبالَغةٌ في الإخبارِ، وكأنَّه مُؤْذِنٌ بتَأكيدِ حَصْرِ مَن اتَّبَعه، وأنَّهم هم الأراذِلُ لم يَشرَكْهم شَريفٌ في ذلك ، وعُبِّر عنهم بالموصولِ والصِّلةِ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا دونَ أن يُقالَ: (إلَّا أراذِلُنا)؛ لحِكايةِ أنَّ في كلامِ الَّذين كفَروا إيماءً إلى شُهرَةِ أتباعِ نوحٍ عليه السَّلامُ بينَ قومِهم بوصفِ الرَّذالةِ والحَقارةِ، وكان أتباعُ نوحٍ عليه السَّلامُ مِن ضُعفاءِ القومِ، ولكنَّهم مِن أَزْكياءِ النُّفوسِ ممَّن سبَق لهم الهُدى .
- وقولُهم: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فيه جمعُ الضَّميرِ في لَكُمْ؛ لأنَّهم لَمَّا وصَفوا كلَّ فَريقٍ مِن التَّابعِ والمتبوعِ بما يَنْفي سِيادةَ المَتْبوعِ، وتَزْكيةَ التَّابعِ- جمَعوا الوَصْفَ الشَّاملَ لهما، وهو المقصودُ مِن الوَصْفَينِ المفرَّقَين، فنَفَوْا أن يَكونَ لنوحٍ عليه السَّلامُ وأتباعِه فضلٌ على الَّذين لم يُؤمِنوا به حتَّى يكونَ نوحٌ عليه السَّلامُ سيِّدًا لهم، ويَكونَ أتباعُه مُفضَّلين بسِيَادةِ مَتْبوعِهم .
4- قولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
- فُصِلَت جملةُ قَالَ يَا قَوْمِ عن الَّتي قبْلَها- أي: لم تُعطَفْ عليها- على طريقةِ حِكايَةِ الأقوالِ في المحاوَراتِ، كما في قولِه تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] ؛ فلمَّا وقَعَت هذه الجملةُ مُقابِلًا لكَلامٍ مَحْكيٍّ يُقالُ، فُصِلَت الجملةُ ولم تُعطَفْ، بخلافِ ما تقدَّم آنِفًا في قولِه: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [هود: 27] .
- قولُه: قالَ يَا قَوْمِ فيه افتِتاحُ مُراجَعتِه عليه السَّلامُ بالنِّداءِ؛ لِطلَبِ إقبالِ أَذْهانِهم لوَعْيِ كلامِه، واختيارِ استِحْضارِهم بعُنوانِ قومِه؛ لاستِنْزالِ طَائرِ نُفورِهم؛ تَذكيرًا لهم بأنَّه مِنهم فلا يُريدُ لهم إلَّا خيرًا .
- قولًه: أَرَأَيْتُمْ استِفهامٌ تقريريٌّ، وهو بمعنى: أَخبِروني .
- قولُه: عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي فيه اختيارُ وَصْفِ الرَّبِّ دونَ اسْمِ الجَلالةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ إعطاءَه البيِّنةَ والرَّحمةَ فضلٌ مِن اللهِ، أراد به إظْهارَ رِفْقِه، وعِنايَتِه به .
- قولُه: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فيه عطفُ فِعْلِ (عُمِّيَت) بفاءِ التَّعقيبِ؛ إيماءً إلى عدَمِ الفترةِ بينَ إيتائِه البيِّنةَ والرَّحمةَ وبينَ خَفائِها عليهم، وهو تعريضٌ لهم بأنَّهم بادَروا بالإنكارِ قبلَ التَّأمُّلِ .
- عُدِّي فِعلُ (عُمِّيَت) بحرفِ (عَلى)؛ لِتَضْمينِه مَعنى: الخَفاءِ .
- ومِن بَديعِ هذا الاستِعْمالِ هنا أنَّ فيه طِباقًا؛ لِمُقابَلةِ قولِهم في مُجادَلتِهم: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَرًا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، فقابَل نوحٌ عليه السَّلامُ كَلامَهم مُقابَلةً بالمعنى واللَّفظِ؛ إذ جعَل عدَمَ رُؤيتِهم مِن قَبيلِ العَمى .
- قولُه: أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، الاستِفْهامُ إنكاريٌّ، أي: ما كان لنا ذلك؛ لأنَّ اللهَ لم يَأمُرْه بإكْراهِهم إعراضًا عن العنايةِ بهم، فتُرِك أمْرُهم إلى اللهِ، وذلك أشَدُّ في تَوقُّعِ العقابِ العظيمِ .
- وفي قولِه: أَنُلْزِمُكُمُوهَا، جيءَ بضَميرِ المتكلِّمِ المشارِكِ هنا، فلم يَقُلْ: (أَأُلْزِمُكُموها)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الإلزامَ لو فُرِض وُقوعُه لكان له أعوانٌ عليه وهم أتباعُه؛ فأراد ألَّا يُهمِلَ ذِكْرَ أتباعِه، وأنَّهم أنصارٌ له، لو شاء أن يُهِيبَ بهم، والقَصْدُ مِن ذلك التَّنويهُ بشَأنِهم في مُقابَلةِ تَحقيرِ الآخَرين إيَّاهم .
- وتَقْديمُ المجرورِ لَهَا على كَارِهُونَ؛ لرِعايةِ الفاصِلَةِ مع الاهتمامِ بشَأنِها، والمقصودُ مِن كَلامِه بَعْثُهم على إعادةِ التَّأمُّلِ في الآياتِ، وتَخفيضِ نُفوسِهم، واستِنْزالِهم إلى الإنصافِ، وليس المقصودُ مَعذِرَتَهم بما صنَعوا، ولا العُدولَ عن تَكْريرِ دَعوَتِهم .
- والتعبيرُ في قَولِ الله تعالى: وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ بالجُملةِ الاسميَّةِ واسمِ الفاعلِ إشارةٌ إلى أنَّ أفعالَهم أفعالُ مَن كراهتُه لها ثابِتةٌ مُستحكمةٌ .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ [هود: 28] ، وقال في قصَّةِ صالحٍ عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 63] ؛ فتَساوَيا في اللَّفْظَين، واختَلفا في تقديمِ المفعولِ الثَّاني في الآيةِ الأولى على الجارِّ والمجرورِ، حيث قال: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وتأخيرِه عَنهما في الآيةِ الثَّانيةِ حيث قال: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قومَ صالحٍ عليه السَّلامُ بالَغوا في إساءةِ الجوابِ حينَ قالوا: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: 62] ، فرَمَوا مَقامَه النَّبويَّ بِحَطِّ مَرتَبتِه عنهم، فلمَّا بالَغوا في إساءةِ الجوابِ ردَّ عليهم عليه السَّلامُ ردًّا لِمَقالِهم الشَّنيعِ بقولِه: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فخاطَبهم على ما يَجْري في مُناظَرةِ مَن فَرَض ما لا يَعتَقِدُه المناظِرُ على حسَبِ نُطقِه، ولكنَّه يَستنزِلُ بذلك مُناظِرَه؛ لِيُقيمَ الحُجَّةَ عليه، فيَقولُ: هَبْ كذا على ما تَقولُه، فعلى هذا جَرى قولُ النَّبيِّ الكريمِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أي: كيف ترَون إنْ كنتُ على واضحةٍ وعلى يقينٍ مِن ربِّي، وآتاني مِنه رحمةً فعَصَيتُه بمُوافَقتِكم، فإن فعَلتُ ذلك فمَن يَنصُرُني ويَمنَعُني مِن عَذابِه، وأكَّد بتَقدُّمِ المجرورِ في قولِه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً؛ لِمَا يُحْرِزُ تَقديمُه مِن التَّأكُّدِ، ويَعِيه مَفهومُه مِن أنَّ الرَّحمةَ مِنه سُبحانه لا يُشرَكُ فيها غيرُه، فهو مخصوصٌ لا يَحصُلُ مع تأخيرِه، فلمَّا بالَغُوا في قُبْحِ الجوابِ بالَغ عليه السَّلامُ في ردِّ مَقالِهم؛ فقَدَّم المجرورَ لتأكيدِ أنَّ الرَّحمةَ مِن عندِ اللهِ تعالى: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً. ولَمَّا لم يَكُنْ في مُراجَعةِ قومِ نوحٍ مثلُ هذا في شَناعةِ الجوابِ؛ لأنَّ أقصى المفهومِ مِن قولِهم: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، إلحاقُه بهم، ومُماثلتُه إيَّاهم، وكلُّهم يقولُ: لو كُنتَ رسولًا لكنتَ مِن الملائكةِ ولم تَكُنْ لِتُماثِلَنا، فلم يَكُنْ في قولِ هؤلاء ما في قولِ قومِ صالحٍ، فجرَى جَوابُه عليه السَّلامُ على نِسْبةِ ذلك، فقال: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فأتى بالمجرورِ مؤخَّرًا في مَحلِّه على ما يَجِبُ، حيث لا يُقصَدُ في إحرازِ المفهومِ ما قُصِد في الآيةِ الأخرى؛ فورَد كلٌّ على ما يُلائِمُ .
- وأيضًا مِن حُسْنِ المناسَبةِ قولُ اللهِ تعالى: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وبعدَه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 23] ، وبعدَهما: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود: 88] ، فقال في الأَوَّلَيْن وَآتَانِي، وفي الثَّالثِ: وَرَزَقَنِي؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الثَّالِثَ تَقدَّمه ذِكرُ الأموالِ، وتأخَّر عنه قولُه: رِزْقًا حَسَنًا، وهُما خاصَّان؛ فناسَبَهما قولُه: وَرَزَقَنِي، بِخِلافِ الأوَّلَين؛ فإنَّه تَقدَّمَهما أمورٌ عامَّةٌ، فناسَبها قولُه: وَآتَانِي .
- وأيضًا ناسبَ قولُه تعالى هنا: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وبعدَه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 23] ، وبعدَهما: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود: 88] ؛ لأنَّ عِنْدِهِ وإن كان ظرفًا فهو اسمٌ، فذَكَر الأُولى بالتَّصريحِ والثَّانيةَ والثَّالثةَ بالكنايةِ؛ لِتَقدُّمِ ذِكْرِه، فلمَّا كَنَى عنه قدَّمَه؛ لأنَّ الكنايةَ يتَقدَّمُ عليها الظَّاهرُ نحوُ: ضرَب زيدٌ عَمْرًا، فإنْ كَنَيتَ عن عَمْرٍو قدَّمتَه، نحوُ: عَمرٌو ضرَب زيدًا، وكذلك: زيدٌ أعطاني دِرْهَمًا مِن مالِه، فإن كنَيْتَ عن المالِ قلتَ: المالُ زيدٌ أَعْطاني منه دِرهَمًا .
5- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
- قولُه: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا في إعادةِ الخِطابِ بـ يَا قَوْمِ تأكيدٌ لِمَا في الخطابِ به أوَّلَ مرَّةٍ مِن المعاني، وعُطِف النِّداءُ بالواوِ- مع أنَّ المخاطَبَ به واحدٌ، وشأنُ عطفِ النِّداءِ أن يَكونَ عندَ اختلافِ المنادَى، فأمَّا إذا اتَّحد المنادى فالشَّأنُ عدَمُ العطفِ، فتَعيَّن هنا أن يَكونَ العطفُ مِن مَقولِ نوحٍ عليه السَّلامُ لا مِن حكايةِ اللهِ عنه، ويجوزُ أن يَكونَ تَنبيهًا على اتِّصالِ النِّداءاتِ بعضِها ببعضٍ، وأنَّ أحَدَها لا يُغْني عن الآخَرِ، ولا يكونُ ذلك مِن قَبيلِ الوصْلِ؛ لأنَّ النِّداءَ افتِتاحُ كلامٍ، فجُملتُه ابتدائيَّةٌ، وعَطفُها إذا عُطِفَت مجرَّدُ عطفٍ لفظيٍّ، ويجوز أيضًا أن يكونَ ذلك تَفنُّنًا عربيًّا في الكلامِ عندَ تَكرُّرِ النِّداءِ؛ استِحْسانًا للمُخالَفةِ بينَ التَّأكيدِ والمؤكَّدِ .
- جملةُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احتِراسٌ؛ لأنَّه لَمَّا نفى أن يَسأَلَهم مالًا، والمالُ أجرٌ، نشَأ توهُّمٌ أنَّه لا يَسأَلُ جَزاءً على الدَّعوةِ؛ فجاء بجملةِ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسًا .
- وفيه المُخالَفةُ بينَ العِبارتَينِ في قولِه: مَالًا وأَجْرِيَ؛ لإفادةِ أنَّه لا يَسْأَلُ مِن اللهِ مالًا، ولكنَّه يَسأَلُ ثَوابًا .
- قولُه: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا فيه التَّعبيرُ عن أَتْباعِه بطريقِ الموصوليَّةِ: الَّذِينَ آمَنُوا؛ لِمَا يُؤْذِنُ به الموصولُ مِن تغليظِ قومِه في تعريضِهم له بأن يَطرُدَهم بما أنَّهم لا يُجالِسون أمثالَهم؛ إيذانًا بأنَّ إيمانَهم يوجِبُ تَفضيلَهم على غيرِهم الَّذين لم يُؤمِنوا به، والرَّغبةَ فيهم؛ فكيف يَطرُدُهم؟! وفيه أيضًا إبطالٌ لِما اقتَضاه قولُهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود: 27] مِن التَّعريضِ بأنَّهم لا يُماثِلونهم في مُتابَعتِه .
- وجملةُ: إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ في مَوضِعِ التَّعليلِ لِنَفْيِ أن يَطرُدَهم؛ بأنَّهم صائِرُون إلى اللهِ في الآخِرةِ، فمُحاسِبٌ مَن يَطرُدُهم ،، وتأكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) لِرَدِّ إنكارِ قومِه البَعْثَ، أو للاهتمامِ بذلك اللِّقاءِ، وقد زِيدَ هذا التَّأكيدُ تأكيدًا بجُملَةِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ .
- قولُه: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ استدراكٌ، وموقِعُ هذا الاستدراكِ هو أنَّ مضمونَ الجُملةِ ضدُّ مَضمونِ التي قبَلَها، وهي جملةُ إِنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ، أي: لا ريبَ في ذلك، ولكنَّكم تَجهلونَ فتَحسَبونَهم لا حُضرةَ لهم، وأنْ لا تَبِعةَ في طَرْدِهم .
- وزيادةُ لفظةِ قَوْمًا في قولِه: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ جَهْلَهم صفةٌ لازمةٌ لهم؛ كأنَّها مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، وحذَفَ مفعولَ تَجْهَلُونَ؛ للعِلْمِ به، أي: تَجهَلون ذلك .
- وفي تَعبيرِه بـ تَجْهَلُونَ دون (جاهلينَ) إشارةٌ إلى أنَّ الجَهلَ مُتجَدِّدٌ لهم، وهو غيرُ عادتِهم؛ استعطافًا لهم إلى الحِلمِ .
- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في قصَّةِ نوحٍ: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود: 29] ، وقاله بعدُ- حِكايةً عن هودٍ- بلفظِ: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [هود: 51] ؛ وذلك لأنَّه في قصَّةِ نوحٍ وقَعَ بعدَها خَزَائِنُ ولفظُ المالِ بالخزائنِ ألْيَقُ ، أو يكونُ هذا الاختلافُ توسِعةً في التَّعبيرِ عن المرادِ بمُتساوِيَيْن .
- ومِن حُسْنِ المناسَبةِ كذلك قولُه أيضًا هنا: وَيَا قَوْمِ بالواوِ، وفي الثَّانيةِ: يَا قَوْمِ [هود:51] بدُونِها؛ وذلك لطولِ الكلامِ الواقعِ بين النِّداءَينِ في قصَّةِ نوحٍ، وقِصَرِ ما بينَهما في قصَّةِ هودٍ، فناسَب ذِكْرُ الواوِ في الأوَّلِ؛ لِتَوصيلِ ما بَعدَها بما قبلَها .
6- قولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
- قولُه: خَزَائِنُ اللَّهِ إضافةُ خَزائِنَ إلى اللهِ لاختِصاصِ اللهِ بها .
- قولُه: وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فيه إعادةُ فِعلِ القولِ؛ لأنَّه نفيٌ لِشُبهةِ قولِهم: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وإبطالُ دَعْوى أُخرَى ألصَقُوها به، وتأكيدُه بـ (إنَّ) لأنَّه قولٌ لا يَقولُه قائلُه إلَّا مؤكَّدًا؛ لشِدَّةِ إنكارِه لو ادَّعاه مُدَّعٍ؛ فلمَّا نَفاه نفَى صيغةَ إثباتِه .
- قولُه: وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا إبطالٌ لقولِهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بطريقةِ التَّغليطِ؛ لأنَّهم جعَلوا ضعْفَهم وفَقْرَهم سببًا لانتِفاءِ فَضْلِهم، فأبطَلَه بأنَّ ضعْفَهم ليس بحائِلٍ بينَهم وبينَ الخيرِ مِن اللهِ؛ إذْ لا ارتِبَاطَ بينَ الضَّعفِ في الأمورِ الدُّنيَويَّةِ مِن فقرٍ وقلَّةٍ، وبينَ الحرمانِ مِن نَوالِ الكمالاتِ النَّفْسانيَّةِ والدِّينيَّةِ .
- وقولُه: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا فيه الإتيانُ بحرفِ النَّفيِ لَنْ الدَّالِّ على تأكيدِ نفْيِ الفعلِ في المستقبَلِ؛ تَعْريضًا بقومِه؛ لأنَّهم جعَلوا ضعْفَ أتباعِ نوحٍ عليه السَّلامُ وفَقْرَهم دليلًا على انتِفاءِ الخيرِ عنهم؛ فاقتَضى دَوامَ ذلك ما داموا ضُعَفاءَ فُقراءَ، فلِسانُ حالِهم يقولُ: لن يَنالوا خيرًا، فكان ردُّه عليهم بأنَّه لا يَقولُ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا .
- وجملةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا في أَنْفُسِهِمْ تعليلٌ لنَفْيِ أن يَقولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا؛ ولذلك فُصِلَت عن الجُملةِ قبْلَها، ولم تُعطَفْ عليها .
- وجملةُ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ تعليلٌ ثانٍ لِنَفيِ أن يقولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وقد أكَّدها بثلاثِ مؤكِّداتٍ: (إنَّ)، ولامِ الابتِداءِ، وحَرْفِ الجزاءِ إِذًا؛ تحقيقًا لِظُلمِ الَّذين رمَوُا المؤمِنين بالرَّذالةِ، وسَلَبوا الفضْلَ عنهم؛ لأنَّه أرادَ التَّعريضَ بقومِه في ذلك، وقولُه: لَمِنَ الظَّالِمِينَ أبلَغُ في إثباتِ الظُّلمِ مِن: (إنِّي ظالمٌ) .