موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (61-68)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها: أي: جعَلَكم عُمَّارَها، وأصلُ (عمر): يدُلُّ على بقاءٍ، وامتدادِ زَمانٍ .
فَعَقَرُوهَا: أي: فنَحَروها، وأصلُ (عقر): يدلُّ على جَرْحٍ .
الصَّيْحَةُ: المرَّةُ من الصَّوتِ الشَّديدِ، وهي صاعِقةُ العذابِ، وأصلُ (صيح): يدلُّ على الصَّوتِ العالي .
جَاثِمِينَ: أي: خامِدينَ، لاصقينَ بالأرضِ على رُكَبِهم ووُجوهِهم، وأصلُ (جثم): يدُلُّ على تجمُّعِ شَيءٍ .
يَغْنَوْا: أي: يَعيشوا، أو يُقيموا، وغَنِيَ القومُ في دارِهم: أقاموا، كأنَّهم استغنَوْا بها، وأَصْلُ (غني): يدُلُّ على الكِفايةِ، والاسْتغناءِ عن الغَيرِ .
مَرْجُوًّا: أي: نُؤَمِّلُ فيك أن تكونَ لنا سَيِّدًا، وأصلُ (رجا): يدُلُّ على الأمَلِ .
مُرِيبٍ: أي: مُوقِعٍ للتُّهمةِ، والريبةُ: التهمةُ، وهي ظنُّ السوءِ، فهي قسمٌ مِن الشكِّ، والريبةُ: قَلَقُ النَّفسِ، وانتفاءُ الطُّمأْنينةِ، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ .
تَخْسِيرٍ: أي: نقصانٍ، أو: هلكةٍ، أو: تضليلٍ وإبعادٍ مِن الخيرِ، وأصل (خسر): يَدُلُّ عَلَى النَّقْصِ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه أرسلَ إلى ثمودَ أخاهم صالحًا، فقال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم من إلهٍ يستحِقُّ العبادةَ غيرُه جلَّ وعلا، فأخلِصوا له العبادةَ، هو الذي بدأ خَلقَكم من الأرضِ بخَلقِ أبيكم آدمَ منها، وجعَلَكم عُمَّارًا لها، فاسألوه أن يغفِرَ لكم ذُنوبَكم، وارجِعوا إليه بالتَّوبةِ النَّصوحِ؛ إنَّ ربي قريبٌ لِمَن أخلصَ، ورَغِبَ إليه في التَّوبةِ، مُجيبٌ له إذا دعاه.
فقال قومُ صالحٍ له: لقد كنَّا نرجو أن تكونَ فينا صاحبَ مكانةٍ، سيِّدًا مُطاعًا قبل هذا القَولِ الذي قُلتَه لنا، أتَنهانا أن نعبُدَ الآلهةَ التي كان يعبُدُها آباؤنا؟ وإنَّنا لفي شكٍّ مُريبٍ مِن دعوتِك لنا إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، فقال لهم: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على برهانٍ مِن اللهِ، وآتاني منه النبوَّةَ والحِكمةَ؛ فمَن الذي يدفَعُ عني عِقابَ اللهِ تعالى لو استجبتُ لكم وعصيتُه؛ فلم أبلِّغِ الرِّسالةَ، وأنصحْ لكم؟ فما تزيدونَني غيرَ تَضليلٍ، وإبعادٍ عن الخيرِ، ويا قومِ هذه ناقةُ اللهِ جعَلَها لكم حُجَّةً وعلامةً تدُلُّ على صِدقي فيما أدعوكم إليه، فاترُكوها تأكُلْ في أرضِ الله؛ فليس عليكم رِزقُها، ولا تمَسُّوها بسُوءٍ من عَقرٍ أو غيرِه؛ فإنَّكم إن فعلتُم ذلك يأخُذْكم من اللهِ عذابٌ قريبٌ مِن وَقتِ إيذائِكم للنَّاقة، فكذَّبوه ونَحَروا النَّاقةَ، فقال لهم صالحٌ: استمتِعوا بحياتِكم في بلَدِكم ثلاثةَ أيَّامٍ؛ فإنَّ العذابَ نازِلٌ بكم بعدَها، وذلك وَعْدٌ مِن الله غيرُ مَكذوبٍ، لا بدَّ مِن وقوعِه.
 فلمَّا جاء أمرُنا بهلاكِ ثمودَ نَجَّينا صالحًا والذين آمَنوا معه من الهلاكِ برَحمةٍ مِنَّا، ونجَّيناهم مِن هوانِ ذلك اليومِ وذِلَّتِه، إنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- هو القَويُّ العزيزُ، وأخذَتِ الصَّيحةُ القويَّةُ ثَمودَ الظَّالمينَ، فأصبحوا في ديارِهم موتى ساقطينَ على وُجوهِهم، كأنَّهم في سرعةِ زَوالِهم وفنائِهم لم يَعيشوا فيها، ألا إنَّ ثَمودَ كفروا بربهم وجَحَدوا بآياتِه وحُجَجِه، ألا بُعْدًا لثمودَ وطردًا لهم مِن رَحمةِ اللهِ.

تفسير الآيات:

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا انقَضَت قِصَّةُ عادٍ على ما أراد سُبحانه، أتبَعَها قِصَّةَ من كانوا عَقِبَهم في الزَّمَنِ، ومِثلَهم في سُكنَى أرضِ العَرَبِ، وعبادةِ الأوثانِ .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا.
أي: وأرسَلْنا إلى قبيلةِ ثَمودَ أخاهم في النَّسَبِ صالِحًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ.
أي: قال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم معبودٌ يستَحِقُّ العبادةَ غيرُ اللهِ، فلا تُشرِكوا به شيئًا .
هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.
أي: اللهُ هو الذي ابتدأَ خَلْقَكم من الأرضِ بخَلقِ أبيكم آدَمَ منها، وجعَلَكم تسكُنونَها وتَعمُرونَها وتستغِلُّون خيراتِها .
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ.
أي: فاطلُبوا من اللهِ سَترَ ذُنوبِكم الماضِيةِ، والتَّجاوُزَ عن مؤاخَذتِكم بها، ثمَّ توبوا إلى اللهِ توبةً نَصوحًا فيما تستَقبِلونَه، بالرُّجوعِ إلى عبادتِه وَحدَه وطاعتِه .
إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ.
أي: إنَّ رَبِّي قريبٌ ممَّن أطاعَه مخلِصًا له، وتابَ إليه، مُجيبٌ له إذا دعاه .
كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] .
قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62).
قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا.
أي: قال قومُ صالحٍ عليه السلامُ له: يا صالِحُ قد كنَّا نرجو فيك الخيرَ، وكَمالَ العقلِ، ونُؤمِّلُ أن تكونَ فينا سيِّدًا قبل هذا القولِ الذي تدَّعي فيه النبُوَّةَ، وتَدعُونا إلى تَركِ عِبادةِ غيرِ الله .
أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا.
أي: أتنهانا- يا صالِحُ- أن نعبُدَ الأصنامَ التي كان يعبُدُها أسلافُنا ؟!
وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.
أي: وإنَّنا لفي شكٍّ كبيرٍ مِن صِحَّةِ ما تدعُونا إليه مِن توحيدِ اللهِ، شَكًّا يُوجِب تُهمَتَك .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63).
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً.
أي: قال صالحٌ عليه الصلاةُ والسلامُ: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على بُرهانٍ من اللهِ قد عَلِمتُه وأيقَنتُه، ورَزَقني مِن عندِه النبوَّةَ والرِّسالةَ رَحمةً للخلقِ .
فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ.
أي: فمَن يمنَعُني من عذابِ اللهِ إنْ عصيتُه، فتَرَكتُ دَعْوتَكم للحقِّ، وعبادةِ اللهِ وَحدَه، بعد أنْ أنعَمَ عليَّ بالنُّبوَّةِ ؟!
فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ.
أي: لو تابعتُكم فتَرَكتُ تبليغَكم رِسالةَ اللهِ وعبادتَه وَحدَه، فلن تَزيدوني غيرَ الخَسارةِ والضَّرَرِ والتَّضليلِ، والإبعادِ مِن الخَيرِ .
وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ العادةَ فيمن يدَّعي النبوَّةَ عند قومٍ يَعبُدونَ الأصنامَ أن يبتدئَ بالدَّعوةِ إلى عبادةِ اللهِ، ثمَّ يُتبِعَه بدَعوَى النبوَّةِ، لا بدَّ أن يَطلُبوا منه المعجزةَ، وأمرُ صالحٍ عليه السَّلامُ هكذا كان .
وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً.
أي: ويا قَومِ هذه ناقةُ اللهِ حُجَّةً وعلامةً ودَلالةً لكم على صِدقِ نبوَّتي، وصِحَّةِ ما أدعوكم إليه .
فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ.
أي: فاترُكوا هذه النَّاقةَ تأكُلْ ممَّا شاءت في أرضِ اللهِ؛ فليس عليكم رِزقُها ولا مُؤنَتُها .
وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ.
أي: ولا تَنالوا النَّاقةَ بشَيءٍ مِن الأذى- مِن عَقرٍ أو غيرِه- فيُصيبَكم كلَّكم عذابٌ قريبُ النُّزولِ، عَاجِلٌ لَا يَتَأَخَّرُ عن إيذائِكم للنَّاقةِ .
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65).
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
أي: فقتل الكُفَّارُ النَّاقةَ، فقال لهم نبيُّهم صالحٌ: استمتِعوا بالحياةِ والعَيشِ في دارِكم ثلاثةَ أيَّامٍ قبل نزولِ العذابِ بكم .
ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ.
أي: نُزولُ العَذابِ بكم بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ وعدٌ صادِقٌ، لا بدَّ مِن وُقوعِه .
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66).
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ.
أي: فلمَّا جاء عذابُنا نجَّينا صالحًا والمؤمنينَ معه بنعمةٍ وفَضلٍ منَّا عليهم، ونجَّيناهم من هوانِ ذلك اليومِ وذُلِّ عذابِه الذي أصاب الكافرينَ .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ.
أي: إنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- هو القويُّ في بَطشِه، القادِرُ على إنجاءِ المُؤمِنينَ، وإهلاكِ الكافرينَ، العزيزُ القاهِرُ الذي لا يَغلِبُه شَيءٌ .
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بيَّن تعالى إيقاعَه بأعدائِه بعد إنجائِه لأوليائِه، فقال :
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ.
أي: وأصاب الذين ظَلموا أنفُسَهم بالكُفرِ، وعَقرِ النَّاقةِ، الصيحةُ العَظيمةُ .
فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ.
أي: فصار الكُفَّارُ في ديارِهم ساقطينَ على ركبِهم ووُجوهِهم، موتَى خامِدينَ .
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ (68).
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا.
أي: كأنَّ الكفَّارَ لَمَّا جاءهم العذابُ لم يعيشُوا في ديارِهم، ولم يتمتَّعوا فيها .
ثمَّ نبَّه على ما استحَقُّوا به ذلك بقَولِه :
أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ.
أي: ألَا إنَّ ثمودَ- قومَ صالحٍ- كفروا بربِّهم، وجَحَدوا وحدانيتَه، وكَفَروا بآياتِه .
أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ.
أي: ألا أبعدَ اللهُ ثمودَ عن كلِّ خَيرٍ وأهلَكَهم .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ الله تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا يدُلُّ على أنَّ اللهَ يُريدُ عِمارةَ الأرضِ، لا التخلِّيَ والتبتُّلَ .
2- في قَولِه تعالى: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ دَلالةٌ على أنَّ قُربَه سُبحانه مَقرونٌ بالتَّوبةِ والاستغفارِ، وأراد به: قريبٌ مُجِيْبٌ لاستغفارِ المُستَغفرينَ التَّائبينَ إليه، وقد قُرِنَ القريبُ بالمُجيبِ؛ ومعلومٌ أنَّه لا يُقالُ: إنه مُجِيْبٌ لكلِّ موجودٍ، وإنَّما الإجابةُ لِمَن سألَه ودعاه؛ فكذلك قُربُه سُبحانه وتعالى ، فهو سبحانه قريبٌ ممَّن دعاه دعاءَ مَسألةٍ، أو دعاءَ عبادةٍ، يُجيبُه بإعطائِه سُؤلَه، وقَبولِ عِبادتِه، وإثابتِه عليها أجلَّ الثَّوابِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قربُ الله تعالى نوعانِ: عامٌّ، وخاصٌّ، فالقربُ العامُّ: قربُه بعلمِه مِن جميعِ الخلقِ، والقربُ الخاصُّ: قربُه مِن عابديه، وسائليه، ومحبِّيه، وهو المذكورُ في قولِه تعالى: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وفي قولِه تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وهذا النوعُ قربٌ يقتضي إلطافَه تعالى، وإجابتَه لدعواتِهم، وتحقيقَه لمراداتِهم، ولهذا يقرنُ باسمِه (القريبِ) اسمَه (المجيبَ) .
2- قَولُ الله تعالى: فَعَقَرُوهَا نُسِبَ إلى جميعِهم- وإن كان العاقِرُ واحدًا- لأنَّه كان برِضًا منهم وتَمالُؤٍ .
3- قَولُ الله تعالى: قَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عبَّر عن الحياةِ بالتمتعِ؛ لأنَّ التمتُّع لا يحصُلُ إلَّا للحَيِّ، فالحيُّ يكونُ متمتعًا بالحواسِّ .
4- قولُ الله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ استُدِلَّ به في إمهالِ الخَصمِ ونَحوِه ثلاثةً، وفيه دليلٌ على أنَّ للثَّلاثةِ نَظرًا في الشَّرعِ؛ ولهذا شُرِعَت في الخِيارِ ونَحوِه .
5- قَولُ الله تعالى: بِرَحْمَةٍ مِنَّا بيَّن أنَّ إحسانَه سُبحانَه لا يكونُ إلَّا فَضلًا منه .
6- قولُه تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ مُتعلِّقُ نَجَّيْنَا مَحذوفٌ، وعُطِف وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ على مُتعلِّقِ نَجَّيْنَا المحذوفِ، أي: نجَّينا صالِحًا عليه السَّلامُ ومَن معَه مِن عذابِ الاستئصالِ، ومِن الخزْيِ المكيَّفِ به العذابُ؛ فإنَّ العذابَ يكونُ على كَيفيَّاتٍ، بعضُها أخزَى مِن بعضٍ؛ فالمقصودُ مِن العطفِ عطفُ مِنَّةٍ على مِنَّةٍ، لا عطْفُ إنجاءٍ على إنجاءٍ؛ ولذلك عطَفَ المتعلِّقَ، ولم يَعطِفِ الفِعلَ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ
- قولُه: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا في موضِعِ التَّعليلِ للأمْرِ بعبادةِ اللهِ، ونَفْيِ إلهيَّةِ غيرِه في قولِه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وكأنَّهم كانوا مِثْلَ مُشرِكي قُريشٍ، لا يَدَّعُون لأصنامِهم خَلْقًا ولا رِزْقًا؛ فلذلك كانت الحُجَّةُ عليهم ناهِضةً واضحةً .
- وَفَرَّعَ على التَّذْكيرِ بهذه النِّعَمِ أَمْرَهم باستغفارِه وَالتَّوْبَةِ إليه، أَيْ طَلَبِ مغْفرَة إجرامِهم، والإقلاعِ عمَّا لا يرضاه مِنَ الشِّركِ والفسادِ. ومِن تفنُّنِ الأسلوبِ أنْ جُعلت هذه النعم علةً لأمرِهم بعبادةِ اللَّهِ وَحْدَه بطريقِ جملةِ التَّعليلِ، وَجُعِلَتْ عِلَّةً أيضًا للأمرِ بالاستغفارِ والتَّوبةِ بطريقِ التَّفْريعِ .
- وجعَلَ الخبَرينِ عن الضَّميرِ هُوَ فِعْلَين (أَنْشَأَكُمْ- اسْتَعْمَرَكُمْ)؛ لإفادةِ القَصْرِ، أي: لم يُنشِئْكم مِن الأرضِ إلَّا هو، ولم يَستعمِرْكم فيها غيرُه .
- قولُه: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ استئنافٌ بيانيٌّ، كأنَّهم استَعظَموا أن يَكونَ جُرْمُهم ممَّا يَقبَلُ الاستغفارَ عنه، فأُجيبوا بأنَّ اللهَ قريبٌ مُجيبٌ، وبذلك ظهَر أنَّ الجملةَ ليسَت بتَعليلٍ، وحرفُ (إنَّ) فيها للتَّأكيدِ؛ تَنْزيلًا لهم في تَعْظيمِ جُرمِهم منزِلةَ مَن يَشُكُّ في قَبولِ استغفارِه .
2- قولُه تعالى: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ
- قولُه: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا فيه افتتاحُ الكلامِ بالنِّداءِ؛ لِقَصْدِ التَّوبيخِ، وهو مُستَفادٌ مِن قولَهم: قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا؛ فإنَّه تَعريضٌ بخَيبةِ رَجائِهم فيه؛ فهو تَعْنيفٌ، وحُذِفَ مُتعلَّقُ مَرْجُوًّا لِدَلالةِ فِعْلِ الرَّجاءِ على أنَّه ترقُّبُ الخيرِ، أي: مرجُوًّا للخيرِ .
- وجملةُ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا بيانٌ لجُملَةِ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا باعتِبارِ دَلالتِها على التَّعنيفِ، والاستفهامُ فيها: للإنكارِ والتَّوبيخِ .
- قولُهم: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فيه العُدولُ إلى صيغةِ المضارِعِ يَعْبُدُ لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ، كأنَّ آباءَهم مَوجودُونَ؛ فلا تُمكِنُ مُخالفتُهم؛ إجلالًا لهم .
- وفي قولِهم: مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا عَبَّروا عن أصنامِهم بالموصولِ مَا؛ لِمَا في الصِّلَةِ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِن الدَّلالةِ على استِحْقاقِ تلك الأصنامِ أن يَعبُدوها في زَعْمِهم اقتِداءً بآبائِهم؛ لأنَّهم أُسْوةٌ لهم، وذلك مِمَّا يَزيدُ الإنكارَ اتِّجاهًا في اعتِقادِهم .
- وجملةُ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ تُفيدُ شَكَّهم في صِدْقِ أنَّه مُرسَلٌ إليهم، ولتأكيد ذلك زِيدَ حرف التَّأكيدِ (إنَّ) مع إثباتِ نونِ (إنَّ) مع نونِ ضَميرِ الجمعِ؛ زِيادةَ إظهارٍ لحَرْفِ التَّوكيدِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في قِصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، وقال في سورةِ (إبراهيمَ) عليه السَّلامُ: وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم: 9] . فقال في الأُولى: وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ على الأصلِ، ومِمَّا تَدْعُونَا بنونٍ واحدةٍ، وقال في الثَّانيةِ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ على التَّخفيفِ، بحذفِ إحدى النُّوناتِ وهي المتوسِّطةُ، ثمَّ جاء بعْدَه: تَدْعُونَنَا بنونَينِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ تَدْعُونَا في الأولى وتَدْعُونَنَا في الثَّانيةِ لا يَصِحُّ مَكانَهما غَيرُهما؛ فلا يَجوزُ في الأولى إلَّا (نونٌ) واحدةٌ ولا يَجوزُ في الثَّانيةِ إلَّا (نونانِ) اثنَتانِ؛ لأنَّ الأولى خِطابٌ لصالِحٍ عليه السَّلامُ، و(النُّونُ) معَ (الألِفِ) ضَميرُ المتكلِّمِ، و(تَدْعو) فِعْلٌ واحدٌ، لا (نونَ) فيه، وليس كذلك تَدْعُونَنَا الثَّانيةُ؛ لأنَّه خطابٌ للرُّسلِ وهم جَماعةٌ، ولا يُقالُ لهم في حالِ الجمعِ إلَّا تَدْعُونَنَا عِندَ الرَّفْعِ .
3- قولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي... جوابٌ عن كَلامِهم؛ فلِذلك لَم تُعطَفْ جملةُ قَالَ، وهو الشَّأنُ في حكايةِ المُحاوَراتِ، وابتداءُ الجوابِ بالنِّداءِ يَا قَوْمِ؛ لِقَصدِ التَّنبيهِ إلى ما سيَقولُه اهتِمامًا بشأنِه .
- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي صَدَّر كلامَه بالحرْفِ المفيدِ للشَّكِّ إِنْ مع أنَّ هذه الأمورَ محقَّقةُ الوُقوعِ؛ اعتبارًا لحالِ المخاطَبين، ورِعايةً لِحُسنِ المحاوَرةِ؛ لاستِنْزالِهم عن المُكابَرةِ ، فخِطابُ المُخالِفِ على هذا الوَجهِ أقرَبُ إلى القَبولِ .
- قولُه: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ فيه العدولُ إلى الإظهارِ في موضِعِ الإضمارِ- حيث لَم يَقُلْ: (فمَنْ يَنصُرُني مِنه)-؛ لِزِيادةِ التَّهويلِ، والفاءُ لِتَرتيبِ إنكارِ النُّصرةِ على ما سبَق مِن إيتاءِ النُّبوَّةِ، وكونِه على بَيِّنَةٍ مِن رَبِّه على تقديرِ العِصْيانِ .
- وفي قولِه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قدَّم الجارَّ والمجرورَ مِنْهُ على المفعولِ رَحْمَةً هنا، بينَما تأخَّر مِنْ عِنْدِهِ عن رَحْمَةً في قصَّةِ نوحٍ السَّابقةِ، ووجهُ ذلك: أنَّ ذلك معَ ما فيه مِن التَّفنُّنِ بعدَمِ الْتِزامِ طريقةٍ واحدةٍ في إعادةِ الكلامِ المتماثِلِ، هو أيضًا أسعَدُ بالبيانِ في وُضوحِ الدَّلالةِ، ودَفْعِ اللَّبْسِ؛ فلمَّا كان مجرورُ (مِن) الابتدائيَّةِ ظرْفًا وهو (عِنْدَ) كان صَريحًا في وصْفِ الرَّحمةِ بصِفَةٍ تَدُلُّ على الاعتناءِ الرَّبَّانيِّ بها وبمَن أُوتِيَها، ولَمَّا كان المجرورُ هنا ضميرَ الجلالةِ كان الأحسَنُ أن يقَعَ عَقِبَ فِعْلَ آتَانِي لِيَكونَ تَقْييدُ الإيتاءِ بأنَّه مِن اللهِ مُشيرًا إلى إيتاءٍ خاصٍّ ذي عِنايةٍ بالمؤتَى؛ إذ لولا ذلك لكان كونُه مِن اللهِ تَحصيلًا لِما أُفيدَ مِن إسنادِ الإيتاءِ إليه؛ فتَعيَّن أن يَكونَ المرادُ إيتاءً خاصًّا، ولو أُوقِعَ مِنه عَقِبَ رَحْمَةً لتَوهَّم السَّامِعُ أنَّ ذلك عِوَضٌ عن الإضافةِ، أي: عن أن يُقالَ: وآتاني رَحمتَه، كقولِه: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مريم: 21] ، أي: ورَحمتَنا لهم، أي: لِنَعِظَهم ونَرحَمَهم .
4- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ
- قولُه: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ الإضافةُ في نَاقَةُ اللَّهِ للتَّشريفِ، والتَّنبيهِ على أنَّها مُفارِقةٌ لِسائرِ ما يُجانِسُها من حيث الخِلْقةُ، ومِن حيثُ الطبعُ .
- قولُه: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فيه المبالغةُ في النَّهيِ عن التَّعرُّضِ لها بما يَضُرُّها؛ حيث نَهى عن المسِّ الَّذي هو مِن مَبادِئِ الإصابةِ، ونَكَّر السُّوءَ؛ أي: لا تَضْرِبوها ولا تَطرُدوها، ولا تَقْرَبوها بشَيءٍ مِن السُّوءِ، فَضلًا عن عَقْرِها وقَتْلِها .
5- قولُه تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ
- قولُه: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ فيه التَّعبيرُ عن ثَمودَ بـ الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ للإيماءِ بالموصولِ إلى عِلَّةِ تَرتُّبِ الحُكمِ، أي: لِظُلمِهم، وهو ظلمُ الشِّركِ، وفيه تعريضٌ بمُشرِكي أهْلِ مكَّةِ بالتَّحذيرِ مِن أن يُصيبَهم مِثلُ ما أصاب أولئك؛ لأنَّهم ظالِمون أيضًا .
- وقولُه: أَلَا إِنَّ ثَمُودَ وُضِعَ موضِعَ الضَّميرِ لزيادةِ البيانِ .
- قولُه: أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ فيه التَّصريحُ بكُفْرِهم مع كَونِه مَعلومًا ممَّا سبَق مِن أحوالِهم؛ تَقْبيحًا لحالِهم، وتَعليلًا لاستِحْقاقِهم بالدُّعاءِ عليهم بالبُعْدِ والهلاكِ .
- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في قصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وقال في هذه السُّورةِ في قصَّةِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 94] ؛ فاختَلَف الفِعْلان في اتِّصالِ عَلامةِ التَّأنيثِ بأحَدِهما، وسُقوطِها مِن الآخَرِ، مع أنَّ الفاعِلَ في الموضِعَين شيءٌ واحدٌ، وهو الصَّيْحَةُ مع أنَّ الحاجِزَ بين الفعلِ والفاعلِ في المكانَينِ حاجِزٌ واحدٌ، وهو الَّذِينَ ظَلَمُوا، وهذا إذا جاء في كلامِ العرَبِ سَهُلَ الكلامُ فيه؛ لأنَّه يُقالُ: حُمِل على المعنى، والصَّيحةُ بمعنى الصِّياحِ، إلَّا أنَّ تَخْصيصَ قصَّةِ شُعيبٍ بـ أَخَذَتِ إنَّما هو لفائدةٍ ليستْ في قِصَّةِ صالحٍ عليه السَّلامُ، وهي: أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ عن العذابِ الَّذي أهلَكَ به قومَ شُعيبٍ عليه السَّلامُ بثلاثةِ ألفاظٍ: مِنها (الرَّجْفةُ) في سورةِ الأعرافِ في قولِه: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الأعراف: 90 - 92] ، وذكَر ذلك قبْلَه في مكانٍ آخَرَ، ومنها (الصَّيحةُ) في سورةِ (هودٍ) في قولِه تعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 94] ، ومنها (الظُّلَّةُ) في سورةِ الشُّعراءِ في قولِه تعالى: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشعراء: 189] ؛ فلمَّا اجتمَعَتْ ثلاثةُ أشياءَ مُؤنَّثةِ الألفاظِ في العبارةِ عن العَذابِ الَّذي أُهلِكوا به، غُلِّب التَّأنيثُ في هذا المكانِ على المكانِ الَّذي لم تتَوالَ فيه هذه المؤنَّثاتُ؛ فلذلك جاء في قِصَّةِ شُعَيبٍ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] . وقيل: وجهُ ذلك أنَّ التَّذكيرَ والتَّأنيثَ حَسَنانِ، لكنَّ التَّذكيرَ أخَفُّ في وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ بحذْفِ حرفٍ منه، وفي الأُخرَى وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 94] ، حيث وافَقَ ما بَعْدَها، وهو كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 95] .