موسوعة التفسير

سورةُ نوحٍ
الآيات (1-4)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

نَذِيرٌ: أي: مُنذِرٌ مُخَوِّفٌ، وأصلُ (نذر): يدُلُّ على تخويفٍ [4] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((تفسير القرطبي)) (14/85)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 232). .
أَجَلٍ مُسَمًّى: أي: مُعَيَّنٍ، مَعلومٍ سَمَّاهُ اللهُ للأعمارِ، والأجَلُ: غايةُ الوَقتِ، والمدَّةُ المضروبةُ للشَّيءِ في الموتِ وغَيرِه [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150، 154)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/64)، ((المفردات)) للراغب (ص: 639)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93، 406، 418)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 49 - 50، 882). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مخبِرًا عن نبيِّه نوحٍ عليه السَّلامُ: إنَّا أرسَلْنا نوحًا إلى قَومِه المُشرِكينَ بأنْ حذِّرْ قَومَك مِنَ الاستِمرارِ على شِرْكِهم، مِن قبْلِ أن يأتيَهم عذابٌ أليمٌ.
ثمَّ يَحكي سُبحانَه بعْدَ ذلك ما قاله نوحٌ عليه السَّلامُ لقَومِه، فيقولُ: قال نوحٌ مُبَلِّغًا رِسالةَ رَبِّه: يا قَومِ، إنِّي نَذيرٌ لكم ظاهِرُ النِّذارةِ، آمُرُكم بعِبادةِ اللهِ وَحْدَه، وعَدَمِ الإشراكِ به شَيئًا، وآمُرُكم أن تتَّقُوه وتُطيعوني؛ فإنَّكم إنْ فعَلْتُم ذلك يَغفِرْ لكم مِن ذُنوبِكم، ولا يُعاجِلْكم بعذابِ الاستِئصالِ، وإنَّما يُعافيكم إلى منتَهَى آجالِكم المُقَدَّرةِ، إنْ آمَنْتُم وأطَعْتُم، إنَّ أجَلَ اللهِ الَّذي حَدَّده لِمَوتِ كُلِّ أحدٍ مِن خَلْقِه: لا يُؤخَّرُ عن وَقتِه، لو كنتُم تَعلَمونَ!

تفسير الآيات:

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1).
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ.
أي: إنَّا أرسَلْنا نوحًا إلى قَومِه المُشرِكينَ بأنْ حذِّرْ قَومَك مِنَ الاستِمرارِ على شِرْكِهم [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/288)، ((تفسير السمرقندي)) (3/499)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .
كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59] .
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: مِن قبْلِ أن يأتيَهم عذابٌ مُؤلِمٌ في غايةِ الإيلامِ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/288)، ((الوسيط)) للواحدي (4/356)، ((تفسير ابن عطية)) (5/372)، ((الفواتح الإلهية)) لعلوان (2/446). قال ابن عرفة: (يَأْتِيَهُمْ ولم يقُلْ: يَنزِلَ بهم؛ إمَّا إشارةٌ إلى أنَّه يَقصِدُهم ويَنزِلُ بسَبَبِهم، أو أنَّه يأتيهم مِن كُلِّ الجهاتِ). ((تفسير ابن عرفة)) (4/293). قال الماوَرْدي: (عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: يعني: عذابَ النَّارِ في الآخرةِ، قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: عذابُ الدُّنيا، وهو ما يَنزِلُ عليهم بعْدَ ذلك مِن الطُّوفانِ، قاله الكلبيُّ). ((تفسير الماوردي)) (6/98). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالعَذابِ هنا: الطُّوفانُ الَّذي غرَّقَهم اللهُ تعالى به: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، وابن عطية، والخازن، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/449)، ((تفسير ابن جرير)) (23/288)، ((الوسيط)) للواحدي (4/356)، ((تفسير ابن عطية)) (5/372)، ((تفسير الخازن)) (4/344)، ((تفسير القاسمي)) (9/322). وممَّن اختار أنَّه عذابُ النَّارِ: الشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/355). وقال العُلَيمي: (عذابُ الآخرةِ والطُّوفانُ إن لم يؤمِنوا). ((تفسير العليمي)) (7/169). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14] .
وقال سُبحانَه: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [نوح: 25] .
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن رسالةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ ومَضمونِها، بما أعلَمَ مِن أنَّ الفَسادَ كان غالِبًا عليهم؛ بيَّنَ امتِثالَه [8] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/426). .
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2).
أي: قال نوحٌ مُمتَثِلًا ما أمَرَه اللهُ تعالى به: يا قَومِ، إنِّي نَذيرٌ لكم ظاهِرُ النِّذارةِ، أُخَوِّفُكم عذابَ اللهِ إن عبَدْتُم غَيرَه، وأبَيِّنُ لكم ما أرسَلَني اللهُ به [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/288)، ((تفسير القرطبي)) (18/299)، ((تفسير ابن كثير)) (8/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 25، 26].
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان تَركُ ما أنذَرَهم بسَبَبِه مِنَ الكُفرِ لا يُغْنِيهم إلَّا إن آمَنوا، وكان الإيمانُ مُخلِّصًا مِن عواقِبِ الإنذارِ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ إلَّا معَ تركِ جَميعِ أنواعِ الكُفرِ؛ فَسَّرَ الإنذارَ بقَولِه [10] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/426). :
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ.
أي: قال نوحٌ لِقَومِه: آمُرُكم بعبادةِ اللهِ وَحْدَه، وعَدَمِ الإشراكِ به شَيئًا [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/288)، ((تفسير القرطبي)) (18/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ.
أي: وآمُرُكم بأن تَجعَلوا بيْنَكم وبيْنَ سَخَطِ اللهِ وعِقابِه حاجِزًا يَقيكم ذلك؛ بامتِثالِ ما أمَرَ به، واجتِنابِ ما نهَى عنه، وآمُرُكم بطاعتي [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/288)، ((تفسير القرطبي)) (18/299)، ((تفسير ابن كثير)) (8/231)، ((تفسير الشوكاني)) (5/355). .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء: 106 - 108] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] .
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4).
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.
أي: فإنَّكم إنْ عَبَدْتُم اللهَ وَحْدَه واتَّقَيْتُموه وأطَعْتُموني، يَمْحُ مِن ذُنوبِكم فلا يُؤاخِذْكم بها [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/289)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7729)، ((تفسير ابن كثير)) (8/231)، ((تفسير القاسمي)) (9/322). اختلَف المفَسِّرون في معنى مِنْ؛ فقيل: هي صِلةٌ للتَّأكيدِ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، والواحديُّ. وضَعَّفَ هذا القولَ: مكِّيُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ كثيرٍ؛ لأنَّ زيادتَها في غيرِ النَّفيِ قليلٌ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/449)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/39)، ((تفسير الثعلبي)) (10/44)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1135)، ((الهداية)) لمكي (12/7729)، ((تفسير ابن كثير)) (8/231). وقيل: هي بمعنى: عن. وهو ظاهرُ اختيارِ الفرَّاءِ، وذهب إليه: ابنُ جريرٍ، ومكِّيٌّ. والمعنى: يَصفَحْ لكم عن ذُنوبِكم. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/187)، ((تفسير ابن جرير)) (23/289)، ((الهداية)) لمكي (12/7729). قال ابن عطيَّة: (وهذا غيرُ معروفٍ في أحكامِ «مِن»). ((تفسير ابن عطية)) (5/372). وقيل: هي لبيانِ الجِنسِ، واختاره القُشَيْريُّ، وردَّه الزَّجَّاجُ، وضعَّفه مكيُّ بنُ أبي طالبٍ، والقُرطبيُّ؛ لكَونِه لم يَتقدَّمْ جِنسٌ يليقُ به بحيث تُبَيِّنُه «مِن» بما بَعْدَه. يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/635)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/228)، ((الهداية)) لمكي (12/7729)، ((تفسير القرطبي)) (18/299). وممَّن ذهب إلى أنَّها للتَّبعيضِ: ابنُ عطيَّة، وصحَّحه ابنُ جُزَي، واختاره أبو حيَّانَ، والشَّوكانيُّ، والمعنى: يَغفِرْ لكم ذُنوبَكم الماضيةَ قبْلَ الإسلامِ؛ فهي بعضُ ذُنوبِهم، ولم يَضمَنِ اللهُ لهم مغفرةَ ذُنوبِهم المتأخِّرةِ بعْدَ إسلامِهم؛ فهي تحتَ مشيئةِ اللهِ تعالى. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/372)، ((تفسير ابن جزي)) (2/413)، ((تفسير أبي حيان)) (10/280)، ((تفسير الشوكاني)) (5/356). وقيل: المرادُ بالبعضِ: ما لا يتعلَّقُ بحُقوقِ العبادِ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/356). وقيل: المعنى على ذلك القولِ: يَغفِرْ لكم الذُّنوبَ العِظامَ الَّتي وَعَدكم على ارتِكابِكم إيَّاها الانتِقامَ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/231). قال ابن كثير: (و«مِن» هاهنا قيل: إنَّها زائدةٌ. ولكنَّ القولَ بزيادتِها في الإثباتِ قليلٌ. ومنه قولُ بعضِ العربِ: «قد كان مِن مَطَرٍ». وقيل: إنَّها بمعنَى «عن» تقديرُه: يَصْفَحْ لكم عن ذُنوبِكم، واختارَه ابنُ جريرٍ. وقيل: إنَّها للتَّبعيضِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/231). .
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
أي: ولا يُعاجِلْكم اللهُ تعالى بعذابِ الاستِئصالِ الَّذي تَستَحِقُّونَه؛ بسَبَبِ شِرْكِكم، وإنَّما يُعافيكم إلى منتَهَى آجالِكم المُقدَّرةِ، إن آمَنْتُم وأطَعْتُم [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/290)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/228)، ((الوسيط)) للواحدي (4/356)، ((تفسير ابن كثير)) (8/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/192). وقال البِقاعي: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أي: قدْ سمَّاه اللهُ وعَلِمه قبْلَ إيجادِكم، فلا يُزادُ فيه ولا يُنقَصُ منه، فيكونُ مَوتُكم على العادةِ مُتفرِّقًا، وإلَّا أخَذَكم جَميعًا بعَذابِ الاستئصالِ. فهذا مِن عِلمِ ما لا يكونُ لو كان كيف يكونُ؛ وذلك أنَّه عَلِم أنَّهم إنْ أطاعوا نُوحًا عليه السَّلامُ كان مَوتُهم على العادةِ، وإلَّا هَلَكوا هَلاكَ نفْسٍ واحدةٍ، وعَلِم أنَّهم لا يُطِيعونه، وأنَّ مَوتَهم إنَّما يكونُ بعَذابِ الاستئصالِ). ((نظم الدرر)) (20/428، 429). .
كما قال تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [إبراهيم: 10] .
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: إنَّ الأجَلَ الَّذي كتَبَه اللهُ لِمَوتِ كُلِّ أحدٍ مِن خَلْقِه: لا يُؤخَّرُ عن وَقتِه، فلو كنتُم تَعلَمونَ ذلك لَتُبْتُم إلى اللهِ سُبحانَه مِمَّا أنتم عليه مِنَ الشِّركِ به [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/290)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/228)، ((الوسيط)) للواحدي (4/356)، ((تفسير القرطبي)) (18/299، 300)، ((تفسير ابن كثير)) (8/231). قال الواحدي: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ يقولُ: آمِنوا قبْلَ الموتِ تَسْلَموا مِن العُقوباتِ؛ فإنَّ أجَلَ الموتِ إذا حَلَّ لم يُؤخَّرْ، فلا يُمكِنُكم الإيمانُ إذا جاء الأجَلُ). ((الوسيط)) (4/356). .
كما قال اللهُ تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .
وقال سُبحانَه: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 11] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ هذا وعدٌ بخَيرٍ دُنْيويٍّ يَستوي النَّاسُ في رغبتِه، وهو طولُ البَقاءِ؛ فإنَّه مِنَ النِّعَمِ العظيمةِ؛ لأنَّ في جِبِلَّةِ الإنسانِ حُبَّ البقاءِ في الحياةِ، على ما في الحياةِ مِن عوارِضَ ومُكَدِّراتٍ، وهذا ناموسٌ جعَلَه اللهُ تعالى في جبِلَّةِ الإنسانِ؛ لتَجريَ أعمالُ النَّاسِ على ما يُعِينُ على حِفظِ النَّوعِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/189). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه سؤالٌ: ما الفائِدةُ في قَولِه تعالى: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟
الجوابُ: الغَرَضُ: الزَّجرُ عن حُبِّ الدُّنيا، وعن التَّهالُكِ عليها، والإعراضِ عن الدِّين بسبَبِ حُبِّها، يعني: أنَّ غُلُوَّهم في حُبِّ الدُّنيا، وطَلَبِ لذَّاتِها بَلَغ إلى حيثُ يدُلُّ على أنَّهم شاكُّونَ في المَوتِ [17] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/650). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ رِسالةُ نُوحٍ عليه السَّلامُ مَقصورةٌ على قَومِه، ومَن قال بعُمومِها فهي للإنسِ فقطْ، وأمَّا الرِّسالةُ العامَّةُ فخاصَّةٌ بِنبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والفرْقُ بيْنَهما أيضًا: أنَّ رِسالةَ نُوحٍ عليه السَّلامُ أتَتْ لجَميعِ أهْلِ زَمانِه دونَ مَن بَعْدَهم، ونبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تَزالُ شَريعتُه ورِسالتُه إلى يومِ قِيامِ السَّاعةِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (4/293). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ذِكْرُ نوعِ الإرسالِ الدِّينيِّ، ويُقابِلُه الإرسالُ الكَونيُّ، كما في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [19] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/269). [مريم: 83] .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إلى قَولِه: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أنَّ أعمالَ المُشرِكينَ كانت ذُنوبًا قَبْلَ إنذارِ الرُّسُلِ إيَّاهم [20] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/679). .
4- إن قيل: كيف قال تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فإن كان المرادُ به تأخيرَهم عن الأجَلِ المُقدَّرِ لهم في الأزَلِ فهو مُحالٌ؛ لقولِه تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 11] ، وقولِه تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وإن كان المرادُ به تأخيرَهم إلى مجيءِ الأجَلِ المُقدَّرِ لهم في الأزَلِ فما فائدةُ تخصيصِهم بهذا وهُم وغيرُهم في ذلك سَواءٌ، على تقديرِ وُجودِ الإيمانِ منهم وعدمِ وُجودِه؟
والجوابُ: أنَّ معناه: ويُؤَخِّرْكم عن العذابِ إلى مُنتهى آجالِكم على تقديرِ الإيمانِ، فلا يُعذِّبْكم في الدُّنيا كما عذَّب غيرَكم مِن الأُمَمِ الكافرةِ.
وقيل: إنَّه سُبحانَه قضى أنَّهم إن آمَنوا عمَّرَهم ألْفَ سَنةٍ، وإن لم يؤمِنوا أهلَكهم بالعذابِ لتَمامِ خَمْسِمِئةِ سَنةٍ، فقيل لهم: آمِنوا يؤَخِّرْكم إلى ذلك الأجَلِ [21] يُنظر: ((أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل)) لزين الدين الرازي (ص: 540). قال الكوراني: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ والتَّوفيقُ بينَه وبينَ تأخيرِ الأجلِ: أنَّ القضاءَ مُعلَّقٌ ومُبرَمٌ، فالتَّأخيرُ بالنَّظرِ إلى الأوَّلِ، وعدمُه بالنَّظرِ إلى الثَّاني. أي: لو آمَنوا عاشوا كذا، وإنْ لم يُؤمِنوا فكذا). ((تفسير الكوراني)) (ص: 236). وقال ابن عاشور: (لا تعارُضَ بيْنَ قَولِه: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وبيْن قَولِه: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ؛ إمَّا لاختِلافِ المرادِ بلَفظَيِ «الأجَلِ» في قَولِه: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وقَولِه: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وإمَّا لاختلافِ معنَيَيِ المجيءِ ومَعنَيَيِ التَّأخيرِ في قَولِه: إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ؛ فانفَكَّت جِهةُ التَّعارُضِ). يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/191). .
5- قال اللهُ تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قد يَستَدِلُّ بهذه الآيةِ مَن يَقولُ: إنَّ البِرَّ وصِلةَ الرَّحِمِ: يُزادُ بها في العُمُرِ حقيقةً، كما ورَد به الحديثُ [22] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/231). قال القَصَّاب: (معناه: تَزيدُ في الأجَلِ الَّذي أُجِّل بغيرِ صِلهِ الرَّحمِ، كأنَّه قد سبَق في القضاءِ أن يُوهبَ لواصِلي الأرحامِ عُمُرًا يكونُ زيادةً في أعمارِهم). ((النكت الدالة على البيان)) (4/409). وقد أخرج البخاريُّ (2067)، ومسلمٌ (2557) مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن سرَّه أن يُبسَطَ له في رِزْقِه، أو يُنْسَأَ له في أثَرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه)). .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ حُجَّةٌ على المعتزلةِ والقَدَريَّةِ فيما يَزعُمونَ: أنَّ المقتولَ ميِّتٌ بغيرِ أَجَلِه! فالأَجَلُ المُؤَجَّلُ مِن الموتِ لا تَقَدُّمَ فيه ولا تأخُّرَ [23] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/409). وقال ابنُ عطيَّةَ: (وقولُه تَعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ممَّا تَعلَّقَ المعتزلةُ به في قولِهم: إنَّ للإنسانِ أجَلَينِ؛ وذلك أنَّهم قالوا: لو كان واحدًا مَحدودًا لَما صحَّ التَّأخيرُ إنْ كان الحدُّ قدْ بَلَغ، ولا المُعاجَلةُ إنْ كان الحدُّ لم يَبلُغْ. وليس لهم في الآيةِ تَعلُّقٌ؛ لأنَّ المعنى: أنَّ نُوحًا عليه السَّلامُ لم يَعلَمْ هلْ همْ ممَّن يُؤخَّرُ أو ممَّن يُعاجَلُ؟ ولا قال لهم: إنَّكم تُؤخَّرون عن أجَلٍ قد حانَ لكم، لكنْ قد سَبَق في الأزَلِ أنَّهم إمَّا ممَّن قُضِيَ لهم بالإيمانِ والتَّأخيرِ، وإمَّا ممَّن قُضِيَ عليه بالكفْرِ والمعاجَلةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/373). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- افتتاحُ الكلامِ بالتَّوكيدِ بـ (إنَّ) للاهتمامِ بالخبَرِ؛ إذ ليس المَقامُ لرَدِّ إنكارِ مُنكِرٍ، ولا دفْعِ شَكٍّ عن مُتردِّدٍ في هذا الكلامِ [24] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/186). .
- وإضافةُ (قوم) إلى ضَميرِ نُوحٍ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه أُرسِلَ إليهم، فلَهم مَزيدُ اختصاصٍ به، ولأنَّه واحدٌ منهم، وهمْ بيْن أبناءٍ له وأنسباءَ، فإضافتُهم إلى ضَميرِه تَعريفٌ لهم؛ إذ لم يكُنْ لهم اسمٌ خاصٌّ مِن أسماءِ الأُمَمِ الواقعةِ مِن بعْدُ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/187). .
- وعُدِلَ عن أنْ يُقالَ له: (أنذِرِ النَّاسَ) إلى قولِه: أَنْذِرْ قَوْمَكَ؛ إلْهابًا لنفْسِ نُوحٍ؛ ليكونَ شَديدَ الحرْصِ على ما فيه نَجاتُهم مِن العذابِ؛ فإنَّ فيهم أبناءَه وقَرابتَه وأحبَّتَه [26] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/187). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ فِعلِ أَنْذِرْ؛ لدَلالةِ ما يأْتي بعْدَه مِن قولِه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/187). [نوح: 3] .
- وحرْفُ (مِن) صِلةٌ للتَّوكيدِ، أي: قبْلَ أنْ يَأتِيَهم عَذابٌ، فهي قبْليَّةٌ مُؤكَّدةٌ، وتأْكيدُها باعتبارِ تَحقيقِ ما أُضِيفَ إليه (قبْل) [28] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/187). .
2- قولُه تعالَى: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- لم تُعطَفْ جُملةُ قَالَ يَا قَوْمِ بالفاءِ التَّفريعيَّةِ على جُملةِ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [نوح: 1] ؛ لأنَّها في معْنى البَيانِ لجُملةِ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [نوح: 1] ؛ لدَلالتِها على أنَّه أنذَرَ قَومَه بما أمَرَه اللهُ أنْ يَقولَه لهم، وإنَّما أُدمِجَ فيه فِعلُ قَولِ نوحٍ؛ للدَّلالةِ على أنَّه أُمِرَ أنْ يقولَ فقال، تَنْبيهًا على مُبادَرةِ نوحٍ عليه السَّلامُ لإنذارِ قَومِه في حِينِ بُلوغِ الوحْيِ إليه مِن اللهِ بأنْ يُنذِرَ قَومَه. ولك أنْ تَجعَلَها استئنافًا بَيانيًّا لجوابِ سُؤالِ السَّامعِ أنْ يَسألَ: ماذا فَعَلَ نوحٌ حينَ أرسَلَ اللهُ إليه أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ؟ وهما مُتقارِبانِ [29] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/36)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/187، 188). .
- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ افتتاحُ دَعوتِه قَومَه بالنِّداءِ؛ لطَلَبِ إقبالِ أذْهانِهم. ونِداؤُهم بعُنوانِ أنَّهم قَومُه تَمهيدٌ لقَبولِ نُصْحِه؛ إذ لا يُريدُ الرَّجلُ لقَومِه إلَّا ما يُريدُ لنفْسِه. وتَصديرُ دَعوتِه بحرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ لأنَّ المخاطَبينَ يَتردَّدونَ في الخبَرِ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/188). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ نَذِيرٌ؛ لدَلالةِ قولِه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ عليه، والتَّقديرُ: إنِّي لكم نَذيرٌ بعَذابٍ أليمٍ إنْ لم تَعبُدوا اللهَ ولم تتَّقُوه ولم تُطِيعوني [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/188). .
- وتَقديمُ لَكُمْ على عامِلِه -وهو نَذِيرٌ مُبِينٌ-؛ للاهتِمامِ بتَقديمِ ما دلَّت عليه اللَّامُ مِن كَونِ النِّذارةِ لفائدتِهم لا لِفائدتِه [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/188). .
- وقدْ جمَعَ في صَدْرِ دَعوتِه خَمسةَ مُؤكِّداتٍ؛ وهي: النِّداءُ، وجَعْلُ المُنادى لَفظَ (يا قومِ) المُضافَ إلى ضَميرِه، وافتتاحُ كَلامِه بحرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)، واجتلابُ لامِ التَّعليلِ، وتَقديمُ مَجرورِها [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/188). .
- وأمَرَهم بعِبادةِ اللهِ؛ لأنَّهم أعْرَضوا عنها ونَسُوها بالتَّمحُّضِ لأصنامِهم، وكان قومُ نوحٍ مُشرِكين، كما دلَّ عليه قولُه تَعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ [يونس: 71] ، وبذلك كان تَمثيلُ حالِ المشركين مِن العرَبِ بحالِ قومِ نُوحٍ تَمثيلًا تامًّا [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/188). .
- قولُه: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قيل: حرْفُ (مِنْ) صِلةٌ للتَّوكيدِ، وهذا مِن زيادةِ (مِن) في الإيجابِ، فيُفيدُ أنَّ الإيمانَ يَجُبُّ ما قبْلَه في شَريعةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ مِثلَ شَريعةِ الإسلامِ. ويجوزُ أنْ تكونَ (مِنْ) للتَّبعيضِ، أي: يَغفِرْ لكم بعضَ ذُنوبِكم، أي: ذُنوبَ الإشراكِ وما معه، فيَكون الإيمانُ في شرْعِ نُوحٍ عليه السَّلامُ لا يَقْتضي مَغفرةَ جَميعِ الذُّنوبِ السَّابقةِ، وليس يَلزَمُ تَماثُلُ الشُّرائعِ في جَميعِ الأحكامِ الفرعيَّةِ، ومَغفرةُ الذُّنوبِ مِن تَفاريعِ الدِّينِ وليست مِن أُصولِه، أو معْنى التَّبعيضِ: مَغفرةُ الذُّنوبِ السَّابقةِ دونَ ما يُذنِبون مِن بعْدُ. وهذا يَتِمُّ ويَحسُنُ إذا قدَّرنا أنَّ شَريعةَ نوحٍ عليه السَّلامُ تَشتمِلُ على أوامرَ ومَنهيَّاتٍ عمَليَّةٍ، فيَكونُ ذِكرُ (مِن) التَّبعيضيَّةِ اقتصادًا في الكلامِ بالقدْرِ المُحقَّقِ، أو هي لابتداءِ الغايةِ، كأنَّه يقولُ: يَبتدِئُ الغُفرانُ مِن هذه الذُّنوبِ العِظامِ الَّتي لهم [35] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/372)، ((تفسير أبي السعود)) (9/36)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/189)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/222). .
- قولُه: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، الأجلُ المُسمَّى: هو الأجَلُ المُعيَّنُ بتَقديرِ اللهِ عِندَ خَلْقِه كلَّ أحدٍ منهم؛ فالتَّنوينُ في أَجَلٍ للنَّوعيَّةِ، أي: الجنسِ، وهو صادقٌ على آجالٍ مُتعدِّدةٍ بعدَدِ أصحابِها، ومعْنى مُسَمًّى أنَّه مُحدَّدٌ مُعيَّنٌ، وعُبِّرَ عن التَّعيينِ بالتَّسميةِ؛ لشَبَهِ عَدَمِ الاختلاطِ بيْنَ أصحابِ الآجالِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/190). .
- قولُه: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَحتمِلُ أنْ تكونَ الجُملةُ استِئنافًا بَيانيًّا ناشئًا عن تَحديدِ غايةِ تأْخيرِهم إلى أجَلٍ مُسمًّى، أي: دونَ تأْخيرِهم تأخيرًا مُستمِرًّا، فيَسألُ السَّامعُ في نفْسِه عن عِلَّةِ تَنْهيةِ تأخيرِهم بأجَلٍ آخَرَ، فيكونَ أَجَلَ اللَّهِ غيرَ الأجَلِ الَّذي في قولِه: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ قولُه: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَعليلًا لِكِلا الأجَلَينِ: الأجَلِ المُفادِ مِن قولِه تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [نوح: 1] ؛ فإنَّ لَفظَ (قبْل) يُؤذِنُ بأنَّ العذابَ مُوقَّتٌ بوقْتٍ غيرِ بَعيدٍ، فله أجَلٌ مُبهَمٌ غيرُ بعيدٍ، والأجَلِ المذكورِ بقولِه: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فيَكونَ أَجَلَ اللَّهِ صادقًا على الأجَلِ المُسمَّى، وهو أجَلُ كلِّ نفْسٍ مِن القومِ، وقيل غيرُ ذلك [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/190، 191)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/223). قال أبو السعود: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي: ما قدَّرَ لكُم على تقديرِ بقائِكم على الكُفرِ... ويجوزُ أن يُرادَ بهِ وقْتُ إتْيانِ العذابِ المذكورِ في قولِه تعالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ فإنَّه أجَلٌ مُؤقَّتٌ له حَتْمًا، وحمْلُه على الأجَلِ الأطولِ ممَّا لا يُساعدُه المَقامُ، كيفَ لا والجُملةُ تَعليلٌ للأمرِ بالعِبادةِ المُستتبِعةِ للمَغفرةِ والتأْخيرِ إلى الأجَلِ المسمَّى، فلا بُدَّ أنْ يكونَ المَنفيُّ عندَ مَجيءِ الأجَلِ هو التَّأخيرَ الموعودَ، فكيفَ يُتصوَّرُ أنْ يكونَ ما فُرِضَ مَجيئُه هو الأجلُ المسمَّى؟!). ((تفسير أبي السعود)) (9/37). .
- قوله: أَجَلَ اللَّهِ أضاف الأجَلَ إليه سُبحانَه؛ لأنَّه الَّذي أثبَتَه، فالإضافةُ إضافةُ كشْفٍ، أي: الأجَلُ الَّذي عيَّنه اللهُ وقدَّره لكلِّ أحدٍ. وقد يُضافُ إلى القَومِ، كقَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ [النحل: 61] ؛ لأنَّه مَضروبٌ لهم [38] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/299، 300)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/190، 191)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/223). .
- وفي مجيءِ فِعلِ كُنْتُمْ قبْلَ تَعْلَمُونَ إيذانٌ بأنَّ عِلمَهم بذلك المنتفيَ -لوُقوعِه شَرْطًا لحرْفِ (لو)- مُحقَّقٌ انتفاؤُه [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/192). .
- وجَوابُ (لو) مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: لَا يُؤَخَّرُ، والتَّقديرُ: لَأيقنْتُم أنَّه لا يُؤخَّرُ، أو لآمَنْتُم. وأيضًا حُذِفَ مَفعولُ تَعْلَمُونَ، أي: لو كُنتُم تَعلَمون ذلك [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/193)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/223). .