موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (61-64)

ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ

غريب الكلمات:

مُفْرَطُونَ: أي: مُخَلَّفونَ، مَتروكونَ في النَّارِ، مَنسيُّونَ فيها. وقيل: مُعَجَّلونَ إلى النَّارِ مُقَدَّمونَ إليها؛ مِن الفَرَطِ: وهو السَّابِقُ إلى الوِرْدِ [679] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 244)، ((تفسير ابن جرير)) (14/263)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 443)، ((تفسير ابن كثير)) (4/580). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّه لو يُؤاخِذُ النَّاسَ بكُفرِهم وافتِرائِهم، لأهلكَهم جميعًا وما ترَكَ على الأرضِ مَن يتحرَّكُ، ولكِنْ يُمهلُهم إلى وقتٍ مُحَدَّدٍ وَقَّتَه لهم، فإذا جاء الوَقتُ المُقَدَّرُ لهَلاكِ الظَّالِمينَ، لا يُؤخَّرونَ عن الهَلاكِ ساعةً فيُمهَلونَ، ولا يتقدَّمون عنه فيُهلَكونَ قَبلَه.
ويخبرُ الله سبحانَه عن إحدَى رذائلِ المشركينَ، وهي أنهم يَجعَلونَ لله ما يكرهونَه لأنفُسِهم مِن البَناتِ، وتقولُ ألسِنَتُهم كَذِبًا: إنَّ لهم حُسنَ الجزاءِ في الدُّنيا والآخِرةِ. ويكذِّبُهم الله تعالى على زعمِهم هذا، متوعدًا لهم بقولِه: حقًّا أنَّ لهم النَّارَ، وأنَّهم مُعجَّلون إليها مَتروكونَ مَنسيُّونَ فيها.
ثمَّ قال الله تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم مسلِّيًا له ومثبِّتًا: تاللهِ- يا مُحمَّدُ- لقد أرسَلْنا رسُلًا إلى أمَمٍ مِن قَبلِك، فحسَّن لهم الشَّيطانُ ما عَمِلوه مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ، فهو وليُّهم يومَ القيامةِ، ولا قدرةَ له على نصرِهم ولا نفعِهم، ولهم عذابٌ مُوجِعٌ.
وقال له أيضًا: وما أنزَلْنا عليك القُرآنَ- يا مُحمَّدُ- إلَّا لتُوَضِّحَ للنَّاسِ ما اختَلَفوا فيه مِن الدِّينِ والأحكامِ، وأنزَلْنا القُرآنَ هِدايةً ورحمةً للمُؤمِنينَ.

تفسير الآيات:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن القَومِ عَظيمَ كُفرِهم وقَبيحَ قَولِهم؛ ذكَرَ كَمالَ حِلمِه وصَبرِه، وأنَّه يُمهِلُهم، ولا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ [680] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .
وأيضًا لمَّا وصَف جَعْلَهم للهِ البناتِ اللَّاتي يَأنَفون مِنها لأنفُسِهم، ووَصَف ذلك بأنَّه حُكمُ سَوءٍ، ووَصَف حالَهم بأنَّها مَثَلُ سَوءٍ، وعرَّفهم بأخَصِّ عَقائدِهم أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخِرةِ؛ أتبَعَ ذلك بالوعيدِ على أقوالِهم وأفعالِهم [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/186). ، فقال تعالى:
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ.
أي: ولو يُعاجِلُ اللهُ النَّاسَ بالعُقوبةِ؛ بسَبَبِ شِرْكِهم وكُفرِهم، وافتِرائِهم على اللهِ، وعِصيانِهم له- لأهلَكَ بسببِ شؤمِ ذلك جميعَ النَّاسِ وغيرهم مِن الدَّوابِّ [682] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/259)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/188)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/391). قال الشنقيطي: (اعلمْ أنَّ قولَه تعالى: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ فيه وجهان للعلماءِ: أحدهما: أنَّه خاصٌّ بالكفارِ؛ لأنَّ الذنبَ ذنبُهم، والله يقولُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] ، ومَن قال هذا القولَ قال: مِنْ دَابَّةٍ أي: كافرةٍ، ويُروى عن ابنِ عباسٍ. وقيل: المعنى: أنَّه لو أهلَك الآباءَ بكفرِهم لم تكنِ الأبناءُ. وجمهورُ العلماءِ، منهم ابنُ مسعودٍ، وأبو الأحوصِ، وأبو هريرةَ وغيرُهم- كما نَقَله عنهم ابنُ كثيرٍ وغيرُه- على أنَّ الآيةَ عامَّةٌ؛ حتَّى إنَّ ذنوبَ بني آدمَ لَتُهْلِكُ الجُعْلَ في جُحْرِه، والحُبارى في وَكْرِها، ونحوَ ذلك؛ لولا أنَّ اللَّه حليمٌ لا يُعَجِّلُ بالعقوبةِ، ولا يؤاخِذُهم بِظُلْمِهم... وهذا القولُ هو الصَّحيحُ؛ لما تقَرَّر في الأُصولِ مِنْ: أنَّ النَّكرةَ في سياقِ النَّفيِ إذا زيدَتْ قبلَها لفظةُ مِنْ تكونُ نصًّا صريحًا في العمومِ. وعليه فقولُه: مِنْ دَابَّةٍ يشملُ كلَّ ما يُطلَقُ عليه اسمُ الدَّابَّةِ نصًّا). ((أضواء البيان)) (2/391). وممن اختار أنَّ المرادَ بالدابةِ هنا: الكافرُ على وجهِ الخصوصِ: الواحدي، والقرطبيُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 610)، ((تفسير القرطبي)) (10/119). .
كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .
وقال سُبحانَه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] .
وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
أي: ولكِنْ يُمهِلُ اللهُ بحِلْمِه الظَّالِمينَ، فلا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ إلى وقتٍ وَقَّتَه لهم [683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/259)، ((الوسيط)) للواحدي (3/68)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/390). قال الرازي: (في تفسيرِ هذا الأجَلِ قولان: القول الأول:... أنَّه يريدُ أجَلَ القيامةِ. والقول الثاني: أنَّ المرادَ مُنتهى العُمرِ). ((تفسير الرازي)) (20/229). وممن اختار القولَ الأوَّل: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 443). وممن اختار القولَ الثاني: الواحدي، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/68)، ((تفسير البغوي)) (3/84)، ((تفسير الخازن)) (3/83). .
كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم: 42] .
وعن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُمْلي للظَّالِمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) [684] رواه البخاري (4686) واللفظ له، ومسلم (2583). .
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
أي: فإذا جاء الوَقتُ المُقَدَّرُ لهَلاكِ الظَّالِمينَ، لا يُؤخَّرونَ عن الهَلاكِ ساعةً فيُمهَلونَ، ولا يتقدَّمون عنه فيُهلَكونَ قَبلَه، فلْيَحْذروا ما داموا في وَقتِ الإمهالِ قبل أن يَحِينَ الوَقتُ الذي لا يُمهَلونَ فيه [685] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/259)، ((تفسير القاسمي)) (6/381)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/390). .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62).
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ.
أي: وينسبُ المُشرِكونَ لله البَناتِ اللَّاتي يَكرَهونَهنَّ لأنفُسِهم، ويَعُدُّونَ نِسبَتَهنَّ إلى أحَدِهم نقصًا وعيبًا، ويَجعَلونَ له شُرَكاءَ مِن عَبيدِه في عبادتِه، وهم يَكرهونَ أن يكونَ عبيدُهم شُرَكاءَ لهم في أموالِهم [686] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/261)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/566)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/81)، ((تفسير الشوكاني)) (3/205). قال الواحدي: (قولُه تعالى: مَا يَكْرَهُونَ يعني: البَناتِ، في قَولِ جميعِ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (13/100). وقال ابنُ تيمية: (هو قولُ مَن قال من العربِ: إنَّ الملائكةَ بناتُ الله). ((مجموع الفتاوى)) (2/440). وقال ابنُ كثير: (أي: من البناتِ ومِن الشُّركاءِ الذين هم مِن عَبيدِه، وهم يأنَفونَ أن يكونَ عند أحَدِهم شريكٌ له في مالِه). ((تفسير ابن كثير)) (4/579). وممَّن قال بأنَّ المقصودَ البناتُ والشُّركاءُ: السعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/390). .
كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 57 - 59] .
وقال سُبحانَه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف: 15- 19] .
وقال عزَّ وجلَّ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى.
أي: ويَكذِبُ المُشِركونَ بألسِنَتِهم، فيَزعُمونَ أنَّ لهم الجَزاءَ الحسَنَ في الدُّنيا وفي الآخِرةِ [687] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/579)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/394). وممَّن اختار هذا المعنى المذكور: ابنُ كثير، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. قال الشنقيطي: (والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه: أنَّ المرادَ بالحُسنى: هو زَعمُهم أنَّه إن كانت الآخرةُ حَقًّا فسيكونُ لهم فيها أحسَنُ نصيبٍ، كما كان لهم في الدُّنيا. ويدُلُّ على صِحَّةِ هذا القولِ الأخيرِ دليلانِ: أحدهما: كثرةُ الآياتِ القُرآنيَّةِ المُبَيِّنةِ لهذا المعنى، كقَولِه تعالى عن الكافِرِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت: 50] ... والدليل الثاني: أنَّ اللهَ أتبَعَ قَولَه: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى بقَولِه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ الآية، فدلَّ ذلك دَلالةً واضِحةً على ما ذَكَرْنا. والعِلمُ عند الله). ((أضواء البيان)) (2/394). وقيل: الحُسنى التي جعلوها لأنفُسِهم: الذُّكورُ مِن الأولاد. وممن اختار هذا القول: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/261). وممن قال بهذا القول من السلفِ: مجاهدٌ، وقتادةُ، ومقاتلٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/262)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/567). وقيل: هي الجنَّةُ. وممن اختار هذا القول: الواحدي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/102). وممن قال بهذا القول من السلفِ: أبو سليمان الدمشقي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/567). .
كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت: 50] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف: 35-36] .
وقال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 77-78] .
لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ.
أي: حَقًّا لا بُدَّ مِنه أنَّ لهم النَّارَ يومَ القيامةِ [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/262)، ((تفسير ابن كثير)) (4/579)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/395). .
وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ مُفْرِطُونَ بكَسرِ الرَّاءِ وتَخفيفِها، اسِمُ فاعلٍ مِن أفْرَطَ في الأمرِ: إذا أسرَفَ فيه وجاوزَ الحَدَّ. بمعنى: أنَّهم مُفْرِطونَ في الذُّنوبِ والمعاصي، أي: مُسرِفونَ على أنفُسِهم بالإكثارِ منها [689] قرأ بها نافع. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/304). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (14/267)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/80)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 391)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/395). .
2- قِراءةُ مُفَرِّطُونَ بكَسرِ الرَّاءِ وتَشديدِها، اسمُ فاعلٍ مِن فَرَّط في الأمرِ: إذا ضَيَّعَه وقَصَّر فيه. بمعنى: أنَّهم مُقَصِّرونَ في أداءِ الواجِباتِ، وفَرَّطوا في الدُّنيا فلم يَعمَلوا فيها للآخرةِ [690] قرأ بها أبو جعفر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/304). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (14/267)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/567)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/249). .
3- قِراءةُ مُفْرَطُونَ بفَتحِ الرَّاء مُخفَّفةً، اسمُ مَفعولٍ من أُفْرِطَ: إذا نُسِي وتُرِكَ غَيرَ مُلتَفَتٍ إليه. والمعنى: أنَّهم مَتروكونَ في النَّارِ مَنْسِيُّونَ فيها. وقيل: هو مِن أفرَطْتُ فُلانًا في طَلَبِ الماءِ: إذا قَدَّمْتَه. والمعنى: أنَّهم مُعَجَّلونَ ومقدَّمونَ إلى النَّارِ [691] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/304). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/80، 81)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 391). .
  وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.
أي: وحَقًّا أنَّهم مُعجَّلونَ ومُقَدَّمونَ إلى النَّارِ، مَنْسِيُّونَ ومَترُوكونَ فيها أبدًا [692] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/263)، ((تفسير القرطبي)) (10/121)، ((تفسير ابن كثير)) (4/580)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/395). قال ابنُ كثيرٍ: (قال مجاهدٌ، وسعيدُ بن جُبير، وقتادةُ وغيرُهم: مَنْسِيُّونَ فيها مُضَيَّعونَ. وعن قتادة أيضًا: مُفْرَطُونَ أي: مُعَجَّلونَ إلى النَّارِ، من الفَرَط: وهو السَّابِقُ إلى الوِردِ، ولا مُنافاةَ؛ لأنَّهم يُعَجَّلُ بهم يومَ القيامةِ إلى النَّارِ، ويُنسَونَ فيها، أي: يُخَلَّدونَ). ((تفسير ابن كثير)) (4/580). وذكر السَّعدي نحو ذلك، فجمَع بينَ كلا المعنيَينِ. قال: (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ مُقَدَّمونَ إليها، ماكِثونَ فيها، غيرُ خارجينَ منها أبدًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .
كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف: 51] .
وقال سُبحانَه: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 14] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية: 34] .
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ أنَّ مِثلَ هذا الصُّنعِ الذي يَصدُرُ مِن مُشرِكي قُرَيشٍ، قد صدَرَ مِن سائِرِ الأُمَم السَّابقينَ في حَقِّ الأنبياءِ المتقَدِّمينَ عليهم السَّلامُ [693] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/230). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى مآلَ الكافرينَ، وكانوا يقولونَ: إنَّ لهم مَن يَشفَعُ فيهم؛ بيَّنَ لهم ما يكونُ مِن حالِهم، بالقياسِ على أشْكالِهم؛ تهديدًا، وتَسلِيةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم [694] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/189). .
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ.
أي: واللهِ- يا مُحمَّدُ- لقد أرسَلْنا رُسُلًا إلى أُمَمٍ ماضيةٍ مِن قَبلِك بمِثْلِ ما أرسَلْناك به؛ مِن الدُّعاءِ إلى توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ له، وطاعتِه [695] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/268)، ((تفسير ابن كثير)) (4/580)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .
فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
أي: فحسَّنَ الشَّيطانُ لهم ما كانوا يَعمَلونَه؛ مِن كُفرٍ وشِركٍ باللهِ، وتَكذيبٍ للرُّسُلِ [696] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/268)، ((تفسير ابن كثير)) (4/580)، ((تفسير البيضاوي)) (3/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ.
أي: فالشَّيطانُ يومَ القيامةِ هو وليُّ المشركينَ الذين كذَّبوا الرُّسلَ، وزيَّن لهم سوءَ أعمالِهم، وهو ناصرُهم، ليس لهم ناصرٌ غيرُه، ولا قدرةَ له على نصرِهم، ولا يملكُ خلاصَهم ولا نفعَهم [697] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/69)، ((تفسير ابن كثير)) (4/580)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/189)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/426). وممن اختار أنَّ المرادَ باليوم: يومُ القيامةِ- أي: أن الشَّيطانَ وليُّهم يومَ القيامةِ-: مقاتلُ بنُ سليمانَ، والواحدي، والسمين الحلبي، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ كثيرٍ، واختيارُ البقاعي، والعليمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/475)، ((الوسيط)) للواحدي (3/69)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/249)، ((تفسير ابن كثير)) (4/580)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/189)، ((تفسير العليمي)) (4/35)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/426). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ السائبِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/567). قال السمين الحلبي: (يجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ- أي: فهو ناصرُهم- أو آتيةٍ، ويراد باليومِ: يومُ القيامة، هذا إذا عاد الضميرُ على أُمَمٍ وهو الظاهرُ). ((الدر المصون)) (7/249). وقال الشوكاني: (يحتملُ أنْ يكونَ الْيَوْمَ عبارةً عن يومِ القيامةِ وما بعدَه، فيكونَ للحالِ الآتيةِ، ويكونَ الوليُّ بمعنَى الناصرِ، والمرادُ: نفيُ الناصرِ عنهم على أبلغِ الوجوهِ؛ لأنَّ الشيطانَ لا يُتصوَّرُ منه النصرةُ أصلًا في الدارِ الآخرةِ، وإذا كان الناصرُ منحصرًا فيه لزِم أن لا نصرةَ مِن غيرِه). ((تفسير الشوكاني)) (3/207). وقيل: المرادُ باليومِ هنا: الدُّنيا. وممَّن اختار هذا القولَ: ابنُ جرير، والقرطبي، والرسعني، والقاسمي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/268)، ((تفسير القرطبي)) (10/121)، ((تفسير الرسعني)) (4/50)، ((تفسير القاسمي)) (6/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/194-195). وولايةُ الشيطانِ في الدُّنيا قيل: هي نصرُه لهم. وممن اختار ذلك: ابنُ جرير، والقرطبي، والرسعني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/268)، ((تفسير القرطبي)) (10/121)، ((تفسير الرسعني)) (4/50). وقيل: هي بتزيينِه أعمالَهم، وكونِه قرينًا لهم يُغويهم، فيطيعونَه ويتبعونه. وممن اختار هذا المعنى: القاسمي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/194-195). قال السعدي: (لمَّا زيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم، صار وليَّهم في الدُّنيا، فأطاعوه واتَّبعوه وتولَّوْه). (( تفسير السعدي)) (ص: 443). وقيل: المرادُ بقولِه: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي: الشيطانُ وليُّ كفارِ مكةَ اليومَ؛ يتولَّى إغواءَهم وصرفَهم عنك، كما فعَل بكفارِ الأممِ قبلَك، فهو متولِّي أمرِهم، كما كان وليَّ الأممِ مِن قبلِهم، إذْ زيَّن لهم أعمالَهم، فيكونُ على هذا التقديرِ رجَع عن أخبارِ الأممِ الماضيةِ إلى الإخبارِ عن كفارِ مكةَ. وممن اختار هذا القولَ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/194). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (20/230). وممن قال مِن السلفِ: إنَّ المرادَ باليومِ هنا الدُّنيا: أبو سليمان الدمشقي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/567). قال الماتُرِيدي: (قال بعضُهم: هو وليُّهم اليومَ في الدُّنيا؛ لأنَّ الدُّنيا هي دارُ الوَلايةِ بينهم، كقَولِه: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الجاثية: 19] ، وقوله: أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] ، وأمَّا في الآخرة فيَصيرونَ أعداءً، كقوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، وقوله: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ [العنكبوت: 25] الآية، وقَولِه: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ [ق: 27]، ونحوه). ((تفسير الماتريدي)) (6/524). قال الشوكاني: (يحتملُ أن يكونَ الْيَوْمَ عبارةً عن زمانِ الدنيا، فيكونَ المعنَى: فهو قرينُهم في الدنيا... ويحتملُ أن يُرادَ بـ الْيَوْمَ بعضُ زمانِ الدنيا، وهو على وجهينِ: الأول: أنْ يُرادَ البعضُ الذي قد مضَى، وهو الذي وقَع فيه التزيينُ مِن الشيطانِ للأممِ الماضيةِ، فيكون على طريقِ الحكايةِ للحالِ الماضيةِ. الثاني: أنْ يُرادَ البعضُ الحاضرُ، وهو وقتُ نزولِ الآيةِ، والمرادُ: تزيينُ الشيطانِ لكفَّارِ قريشٍ، فيكونُ الضميرُ في وَلِيُّهُمُ لكفارِ قريشٍ، أي: فهو وليُّ هؤلاءِ اليومَ، أو: على حذفِ مضافٍ، أي: فهو وليُّ أمثالِ أولئك الأممِ اليومَ). ((تفسير الشوكاني)) (3/207). .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: وللمُشرِكينَ عَذابٌ مُؤلِمٌ في الآخرةِ، فلا تَنفَعُهم وَلايةُ الشَّيطانِ [698] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/268)، ((تفسير البغوي)) (3/85)، ((تفسير الشربيني)) (2/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
ذكَرَ تعالى أنَّه مع هذا الوَعيدِ الشَّديدِ المتَقَدِّم قد أقام الحُجَّةَ، وأزاح العِلَّةَ [699] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/230). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان حاصِلُ ما مضَى الخِلافَ والضَّلالَ والنِّقمةَ، كان كأنَّه قيل: فبَيِّنْ لهم وخَوِّفْهم ليَرجِعوا؛ فإنَّا ما أرسَلْناك إلَّا لذلك [700] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/190). .
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ.
أي: وما أنزَلْنا عليك القُرآنَ- يا مُحمَّدُ- إلَّا من أجلِ أن تُبَيِّنَ للنَّاسِ بواسطةِ بياناتِ هذا القُرآنِ ما اختَلَفوا فيه من الدِّينِ، فتُرشِدَهم إلى الحَقِّ والصَّوابِ [701] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/268)، ((تفسير ابن عطية)) (3/404)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/567)، ((تفسير الرازي)) (20/230)، ((تفسير القرطبي)) (10/122). قال الشوكاني : (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوحيدِ، وأحوالِ البعثِ، وسائرِ الأحكامِ الشرعيَّةِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/208). .
كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] .
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أي: وأنزَلْنا القُرآنَ هاديًا للقُلوبِ مِن كُلِّ ضَلالةٍ، ورَحمةً في الدُّنيا والآخِرةِ لِقَومٍ يُصَدِّقونَ بما فيه، ويُقِرُّونَ بما تضَمَّنَه، ويَعمَلونَ به [702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/268، 269)، ((تفسير ابن كثير)) (4/580)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/195). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .
وقال عزَّ وجَلَّ: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] .
وقال سُبحانَه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
وقال تبارك وتعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 20] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ مَن تقَدَّمَه مِن الأنبياءِ قد كَفَرَ بهم قَومُهم [703] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/121). .
2- القُرآنُ فاصِلٌ بين النَّاسِ في كُلِّ ما يَتنازَعونَ فيه؛ قال الله تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [704] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/580). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ دليلٌ على أنَّ اسمَ الدَّابَّةِ واقِعٌ على النَّاسِ؛ لِدَبيبِهم على الأرضِ [705] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/78). .
2- قال الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى في هذا التَّأخيرِ حِكمةٌ بالِغةٌ:
 منها: الإعذارُ إليهم، وإرخاءُ العِنانِ معهم.
ومنها: حُصولُ مَن سبَقَ في عِلمِه مِن أولادِهم.
 ومنها: أن يَستَغفِرَ منهم من يَستَغفِرُ، فيُغفَرَ له، ويُصِرَّ مَن يُصِرُّ، فيزدادَ عذابًا، فإذا جاء أجَلُهم الذي سَمَّاه لهم، حَقَّت عليهم كَلِمةُ اللهِ سُبحانَه في ذلك الوَقتِ، مِن دُونِ تقَدُّمٍ عليه ولا تأخُّرٍ عنه [706] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/205)، كما يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/381). .
3- جانِبُ الرَّحمةِ أغلَبُ في هذه الدَّارِ الباطِلةِ الفانِيةِ الزَّائِلةِ عن قُرْبٍ، مِن جانبِ العُقوبةِ والغَضَبِ، ولولا ذلك لَمَا عَمَرَت [707] عَمَرَت: أي: سُكِنَت وأقيمَ فيها. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/429). ، ولا قام لها وُجودٌ، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [708] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 385). .
4- في قَولِه تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ إن قيل: كيف يَعُمُّ بالهَلاكِ مع أنَّ فيهم مؤمِنًا ليس بظالمٍ؟
قيل: يجعلُ هلاكَ الظالمِ انتقامًا وجزاءً، وهلاكَ المؤمنِ معوضًا بثوابِ الآخرةِ، وفي ((صحيح مسلم)) [709] أخرجه مسلم ( 2879). عن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا أراد الله بقومٍ عذابًا أصاب العذابُ مَن كان فيهم ثمَّ بُعثوا على أعمالِهم) ) [710] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/120). . وقيل: ظاهرُ الآيةِ العمومُ؛ والإنسانُ لا يخلو مِن تقصيرٍ وإساءةٍ، فهو لا يؤدِّي شكرَ نعمِ الله عليه، على وجهٍ يكافئُها.
5- إنْ قيل: لماذا أبهَمَ سُبحانَه فاعِلَ التَّزيينِ، فقال: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال هنا: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، وقال في آيةٍ أخرى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فمَن هو مُزَيِّنُ الأعمالِ للكُفَّارِ في الحَقيقةِ؟
الجوابُ: المُزَيِّنُ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى، وإنَّما جَعَل الشَّيطانَ آلةً بإلقاءِ الوَسْوسةِ في قُلوبِهم، وليس له قُدرةٌ أن يُضِلَّ أحدًا، أو يَهديَ أحدًا، وإنَّما له الوَسْوسةُ فقط، فمن أراد شَقاوَتَه سَلَّطَه عليه حتى يَقبَلَ وَسْوسَتَه؛ فالتَّزيينُ مِن الشَّيطانِ بالإغواءِ، والإضلالِ، والوَسْوَسةِ، وإيرادِ الشُّبَهِ، ومِنَ الله تعالى بخَلقِ جَميعِ ذلك؛ فصَحَّت الإضافتانِ [711] يُنظر: ((أنموذج جليل)) لزين الدين الرازي (ص: 130)، ((تفسير الخازن)) (3/84). .
6- قوله تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فالقرآنُ أهَمُّ مَقاصِدِه هذه الفوائدُ الجامعةُ لأصولِ الخيرِ، وهي كَشفُ الجَهالاتِ، والهُدى إلى المَعارفِ الحقِّ، وحُصولُ أثَرِ ذَيْنِك الأمرَينِ، وهو الرَّحمةُ النَّاشئةُ عن مُجانَبةِ الضَّلالِ واتِّباعِ الهُدى [712] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/196). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ اعتراضٌ في أثناءِ التَّوبيخِ على كفرِهم الَّذي مِن شرائِعِه وَأْدُ البناتِ [713] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/187). .
- قولُه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ: المؤاخَذةُ: الأخذُ، والمقصودُ منه الجزاءُ، فهو أخذٌ شديدٌ؛ ولذلك صِيغَت له صيغةُ المفاعَلةِ: يُؤاخِذُ الدَّالَّةُ على الكثرةِ، فدَلَّ على أنَّ المؤاخَذةَ المنتفِيَةَ بـ (لو) هي الأخذُ العاجِلُ المناسِبُ للمُجازاةِ؛ لأنَّ شأنَ الجزاءِ في العُرفِ أن لا يتَأخَّرَ عن وقتِ حُصولِ الذَّنبِ [714] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/190). وقال الشنقيطي: (وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: يُؤَاخِذُ... الآيةَ، الظاهرُ أنَّ المفاعلةَ فيه بمعنى الفعلِ المجردِ؛ فمعنى آخَذ الناسَ يؤاخذُهم: أخذَهم بذنوبِهم؛ لأنَّ المفاعلةَ تقتضي الطرفين، ومجيئُها بمعنى المجردِ مسموعٌ نحو: سافَر وعافَى). ((أضواء البيان)) (2/392). .
- والتَّعريفُ في النَّاسَ يُحمَلُ على تعريفِ الجنسِ؛ لِيَشمَلَ جميعَ النَّاسِ؛ لأنَّ ذلك أنسَبُ بمَقامِ الزَّجْرِ، فليس قولُه: النَّاسَ مُرادًا به خُصوصُ المشرِكين مِن أهلِ مكَّةَ الَّذين عادَتْ عليهِم الضَّمائرُ المتقدِّمةُ في قولِه: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ [النحل: 55] وما بعدَه مِن الضَّمائرِ، وبذلك لا يَكونُ لفظُ النَّاسِ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ [715] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/188). .
- قولُه: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ، أي: على الأرضِ، وإنَّما أضمرَها مِن غيرِ ذِكرٍ؛ لِدَلالةِ النَّاسِ والدَّابَّةِ عليها [716] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/231). .
- قولُه: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ فيه التَّعبيرُ بصيغةِ الاستِفْعالِ: يَسْتَأْخِرُونَ؛ للإشعارِ بعَجْزِهم عنه، مع طلَبِهم له [717] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/122). .
- وتَعرَّض لذِكْرِ يَسْتَقْدِمُونَ مع أنَّه لا يُتَصوَّرُ الاستِقْدامُ عندَ مَجيءِ الأجَلِ؛ مُبالَغةً في بَيانِ عدَمِ الاستِئْخارِ بنَظْمِه في سِلْكِ ما يَمتنِعُ، كما في قولِه تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء: 18] ؛ فإنَّ مَن مات كافِرًا مع أنَّه لا توبةَ له رأسًا قد ذُكِر معَ مَن لم تُقبَلْ توبتُه؛ للإيذانِ بأنَّهما سِيَّانِ في ذلك [718] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/122). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وقال في سورةِ (فاطِرٍ): وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] ؛ فقال في الأُولى: بِظُلْمِهِمْ ومَا تَرَكَ عَلَيْهَا، وقال في الثَّانيةِ: بِمَا كَسَبُوا ومَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا؛ فقيل: إنَّ وجهَ ذلك أنَّ آيةَ (النَّحلِ) تَقدَّمَها قولُه تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، فلَمَّا أشار في الآيةِ إلى وَأْدِهِمُ البَناتِ- وهو ظلمٌ عظيمٌ شنيعٌ؛ إذْ لم يتَقدَّمْ للمَوْءودةِ جَريمةٌ ولا شُبهةٌ يتَعلَّقُ بها قاتِلُها- ناسَب هذا ذِكْرُ الظُّلمِ؛ فقال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ؛ فناسَب ما أُشيرَ إليه مِن عَظيمِ ظُلمِهم التَّوبيخُ بذِكْرِ الظُّلمِ. ولَمَّا لم يتَقدَّمْ في آيةِ سورةِ (فاطِرٍ) إفصاحٌ بذِكْرِ الظُّلمِ، بل تَقدَّمَها قولُه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: 42- 43] فأشيرَ إلى اجْتِراماتِهم وسَيِّئِ اكتِسابِهم بنُفورِهم ومَكْرِهم السَّيِّئِ؛ فناسَبَ ذلك قولُه: بِمَا كَسَبُوا؛ فورَدَ كلٌّ على ما يُناسِبُه [719] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/300). . وقيل: لأنَّ مَا كَسَبُوا [فاطر: 45] يعمُّ الظلمَ وغيرَه [720] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/339). .
وقيل: آيةُ (النحلِ) جاءتْ بعدَ أوصافِ الكفارِ بأنواعِ كفرِهم في اتخاذِهم إلهينِ اثنينِ، وكفرِهم وشركِهم في عبادةِ الله سبحانَه، وجعلِهم للأصنامِ نصيبًا مِن مالِهم، ووأدِ البناتِ، وغيرِ ذلك، وكلٌّ ظلمٌ منهم، فناسَب قولُه تعالى : بِظُلْمِهِمْ، ولم يتقدَّمْ مثلُ ذلك في (فاطرٍ) [721] يُنظر: ((كشف المعاني)) لابن جماعة (ص: 228). . وقال هنا : مَا تَرَكَ عَلَيْهَا وقال في (فاطر): مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا وهو تفنُّنٌ [722] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/339). .
2- قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ
- قولُه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ تكريرٌ لما سبَق؛ تثنيةً للتَّقريعِ وتَوطِئةً لقولِه تعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [723] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/123). .
- وخَصَّ في هذه الآيةِ ذِكْرَ الكَراهيةِ تَصريحًا؛ ولذلك كان الإتيانُ بالموصولِ والصِّلةِ: مَا يَكْرَهُونَ هو مُقتَضى المقامِ الَّذي هو تَفظيعُ قولِهم، وتَشنيعُ استِئْثارِهم. وقد يَكونُ الموصولُ للعُمومِ؛ فيُشيرُ إلى أنَّهم جعَلوا للهِ أشياءَ يَكْرَهونها لأنفُسِهم مِثلَ الشَّريكِ في التَّصرُّفِ، وأشياءَ لا يَرْضَونها لآلهتِهم ونَسَبوها للهِ، كما أشار إليه قولُه تعالى: فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [724] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/191). [الأنعام: 136] .
3- قوله تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- قولُه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ استئنافٌ ابتِدائيٌّ داخِلٌ في الكلامِ الاعتِراضيِّ؛ قُصِد منه تَنظيرُ حالِ المشرِكين المتحدَّثِ عنهم، وكُفْرِهم في سوءِ أعمالِهم وأحكامِهم بحالِ الأُممِ الضَّالَّةِ مِن قَبلِهم الَّذين استَهْواهم الشَّيطانُ مِن الأُممِ البائدةِ، مِثلِ عادٍ وثمودَ، والحاضرةِ كاليَهودِ والنَّصارى [725] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/193). .
- قولُه: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حكايةُ الحالِ الماضِيَةِ الَّتي كان يُزيِّنُ لهم الشَّيطانُ أعمالَهم فيها. أو فهُو وليُّهم في الدُّنيا، فجَعَل اليومَ عِبارةً عن زَمانِ الدُّنيا. أو يُجعَلُ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حِكايةً للحالِ الآتيَةِ، وهي حالُ كونِهم معذَّبين في النَّارِ، أي: فهُو ناصِرُهم اليومَ لا ناصِرَ لهم غيرُه؛ نفيًا للنَّاصرِ لهم على أبلَغِ الوُجوهِ [726] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/614). . وقيل: الْيَوْمَ مُستعمَلٌ في زمانٍ معهودٍ بعهدِ الحضورِ، أي: فهو وَلِيُّهم الآنَ، وهو كنايةٌ عن استمرارِ ولايتِه لهم إلى زمَنِ المتكلِّمِ مُطلَقًا بدونِ قصدٍ [727] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/195). .
- قولُه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ: فيه تأكيدُ إرسالِ الرُّسلِ إلى الأُممِ السَّابقةِ بالقَسَمِ تَاللَّهِ، وبـ (قَد) الَّتي تقتَضي تحقيقَ الأمرِ؛ على سَبيلِ التَّسْليَةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَا كان يَنالُه بسبَبِ جَهالاتِ قومِه، ونِسْبتِهم إلى اللهِ ما لا يَجوزُ [728] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/552)، ((تفسير أبي السعود)) (5/123). .
- قولُه: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ تَزْيينُ الشَّيطانِ أعمالَهم كِنايةٌ عن المَعاصي؛ فمِن ذلك عدَمُ الإيمانِ بالرُّسلِ، وهو كَمالُ التَّنظيرِ بحالِ المشرِكين المكذِّبين بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حيث سلَكوا مَسلَكَ مَن قبلَهم مِن الأممِ الَّتي زيَّن لهم الشَّيطانُ أعمالَهم [729] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/194). .
4- قوله تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هذه الآيةُ بمنزِلَةِ التَّذييلِ للعِبَرِ والحُجَجِ النَّاشئةِ عن وصفِ أحوالِ المخلوقاتِ، ونِعَمِ الخالقِ على النَّاسِ، المبتدِئَةِ مِن قولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [730] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/197). [النحل: 17] .
- قولُه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ: فيه الإتيانُ بصِيغةِ القَصْرِ (ما... إلَّا)؛ لِقَصدِ الإحاطةِ بالأَهمِّ مِن غايةِ القرآنِ وفائدتِه الَّتي أُنزِل لأجلِها؛ فهو قصرٌ ادِّعائيٌّ؛ لِيَرغَبَ السَّامِعون في تَلَقِّيه وتَدبُّرِه مِن مؤمنٍ وكافرٍ كلٌّ بما يَليقُ بحالِه، حتَّى يَستَوُوا في الاهتِداءِ. ثمَّ إنَّ هذا القصرَ يُعرِّضُ بتَفْنيدِ أقوالِ مَن حَسِبوا مِن المشرِكين أنَّ القرآنَ أُنزِلَ لِذِكْرِ القَصصِ؛ لِتَعليلِ الأنفُسِ في الأسمارِ ونَحوِها، حتَّى قال مُضِلُّهم: أنا آتيكُم بأحسَنَ مِمَّا جاء به محمَّدٌ [731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/197). !
- في قَولِ الله تعالى: وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَصْفُ القُرآنِ بكَونِه هُدًى ورَحمةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ، لا ينفي كَونَه كذلك في حَقِّ الكُلِّ، كما أنَّ قَولَه تعالى في أوَّلِ سُورةِ (البَقَرة): هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] لا ينفي كَونَه هُدًى لكُلِّ النَّاسِ، كما ذكَرَه في قَولِه: هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185] ، وإنَّما خَصَّ المُؤمِنينَ بالذِّكرِ؛ مِن حيثُ إنَّهم قَبِلوه فانتَفَعوا به، كما في قَولِه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ؛ لأنَّه إنما انتفَعَ بإنذارِه هذا القَومُ فقط [732] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/231). .
- وعبَّر بقولِه: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دونَ (للمُؤمِنين)، أو (للَّذين آمَنوا)؛ إشارةً إلى أنَّ إيمانَ هؤلاءِ كالسَّجيَّةِ والعادةِ الرَّاسِخةِ الَّتي تتَقوَّمُ بها قَوميَّتُهم؛ لأنَّ إجراءَ الوَصفِ على لَفْظِ (قوم) يُشيرُ إلى أنَّ ذلك الوَصفَ سجيَّةٌ فيهم، ومِن مُكمِّلاتِ قوميَّتِهم؛ فإنَّ للقَبائِلِ والأُممِ خَصائِصَ تُميِّزُها وتَشتهرُ بها [733] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/89)، و(14/197). .