موسوعة التفسير

سُورةُ السَّجْدةِ
الآيات (12-14)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غَريبُ الكَلِماتِ:

نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ: أي: مُطَأْطِئُوها، وأصلُ (نكس): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ على رأسِه [151] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/477)، ((المفردات)) للراغب (ص: 824)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 295). .
حَقَّ: أي: وجَب ولَزِمَ، والحَقُّ في أصلِه: المُطابقةُ والموافقةُ، وأصلُ (حَقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [152] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 246، 247)، ((تحفة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 107)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 536). .
عَذَابَ الْخُلْدِ: أي: الدَّائمَ الَّذي لا ينقطِعُ أبدًا، والخُلدُ: البقاءُ والدوامُ كالخُلودِ، وأصلُ (خلد): يدُلُّ على الثَّباتِ والمُلازمةِ [153] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/207)، ((تفسير الماوردي)) (4/360)، ((تفسير السمعاني)) (4/247)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 434)، ((تفسير الشوكاني)) (4/292). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا أحوالَ هؤلاء الكافرينَ يومَ القيامةِ عندمَا يَقِفونَ للحسابِ: ولو تَرى -يا مُحمَّدُ- حينَ يُنَكِّسُ المُجرِمونَ رُؤوسَهم يومَ القيامةِ عندَ اللهِ تعالى، يقولونَ: ربَّنا أبصَرْنا وسَمِعْنا ما كُنَّا نُنكِرُه مِن الحَقِّ، فارجِعْنا إلى الدُّنيا نَعمَلْ صالِحًا؛ إنَّا الآنَ مُوقِنونَ بالحَقِّ!
ثمَّ يَرُدُّ الله تعالى عليهم، فيقولُ: ولو شِئْنا لهَدَيْنا كلَّ إنسانٍ في الدُّنيا إلى الحَقِّ، ولكِنْ حَقَّ القَولُ مِنِّي أنْ أمْلأَ جهنَّمَ مِن كُفَّارِ الجِنِّ والنَّاسِ أجمَعينَ، فيُقالُ لهم: ذوقوا العذابَ -أيُّها الكافِرونَ- بسَبَبِ تَكذيبِكم بيَومِ القيامةِ، إنَّا سنَتْرُكُكم في هذا العَذابِ، وذوقوا العذابَ غيرَ المُنقَطِعِ؛ بسَبَبِ كُفرِكم وتَكذيبِكم.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى رجوعَهم إليه يومَ القيامةِ؛ ذكَرَ حالَهم في مُقامِهم بينَ يَديه [154] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 654). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ إنكارَهم البَعثَ؛ أردفَ بتصويرِ حالِ المُنكِرينَ أثَرَ البَعثِ، وذلك عندَ حَشرِهم إلى الحِسابِ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). .
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
أي: ولو ترى -يا مُحمَّدُ- حينَ يُطأطِئُ المُجرِمونَ [156] قيل: المرادُ بهم هنا: القائِلونَ: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة: 10] مِن مُنكِري البعثِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والقرطبي، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/605)، ((تفسير القرطبي)) (14/95)، ((تفسير القاسمي)) (8/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). وقيل: يجوزُ أن يكون المرادُ كُلَّ مُجرِمٍ، ويدخُلُ فيهم أولئك المنكِرونَ للبَعثِ دُخولًا أوَّليًّا. وممَّن قال بذلك: الشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/291). رُؤوسَهم يومَ القيامةِ عندَ اللهِ تعالى [157] قيل: ناكِسو رؤوسِهم حياءً وخجلًا. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/605)، ((تفسير ابن كثير)) (6/362). وممَّن أضاف إلى الحياءِ أو الخجَلِ: النَّدمَ: ابنُ الجوزي، والرسعني، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/439)، ((تفسير الرسعني)) (6/81)، ((تفسير العليمي)) (5/325)، ((تفسير الشوكاني)) (4/291). وقال القرطبي: (نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ أي: مِن النَّدمِ والخِزْيِ والحزنِ والذُّلِّ والغَمِّ). ((تفسير القرطبي)) (14/95). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة السجدة)) (ص: 66). وقال البقاعي: (نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ أي: مُطَأْطِئوها خجلًا وخوفًا، وخِزْيًا وذُلًّا). ((نظم الدرر)) (15/251). ؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم وعِصيانِهم [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/605)، ((تفسير القرطبي)) (14/95)، ((تفسير ابن كثير)) (6/362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 654)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). !
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ.
أي: يَقولونَ: يا رَبَّنا أبصَرْنا وسَمِعْنا ما كُنَّا نُنكِرُه أو نَشُكُّ فيه مِنَ الحَقِّ، فارجِعْنا إلى الدُّنيا؛ لِنَعمَلَ فيها عَمَلًا صالِحًا، إنَّا الآنَ مُوقِنونَ بالحَقِّ [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/605)، ((تفسير القرطبي)) (14/95، 96)، ((تفسير ابن كثير)) (6/362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 654)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/221، 222). قيل: جوابُ الشَّرطِ محذوفٌ، تقديرُه: لرأيتَ أمرًا عَجَبًا عَظيمًا. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/95)، ((تفسير الشوكاني)) (4/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 654)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). وقيل: المعنى: يا محمَّدُ، قُلْ للمُجرِمِ: ولو تَرى إذِ المجرِمونَ ناكِسو رؤوسِهم عند رَبِّهم، لَنَدِمْتَ على ما كان منك. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/95). !
كما قال سُبحانَه: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم: 38] .
وقال تعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 44] .
وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا جوابٌ عن قَولِهم: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا [السجدة: 12] ، وبيانُه هو أنَّه تعالى قال: إنِّي لو أردْتُ منكم الإيمانَ لهَديتُكم في الدُّنيا، ولَمَّا لم أهْدِكم تبيَّنَ أنِّي ما أردتُ وما شِئتُ إيمانَكم، فلا أرُدُّكم [160] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/144)، ((تفسير الشربيني )) (3/207). .
وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا .
أي: ولو شِئْنا لهَدَينا كُلَّ إنسانٍ في الدُّنيا إلى الحَقِّ، فوفَّقْناه للإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ فمَشيئةُ اللهِ تعالى صالحةٌ لذلك [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/606)، ((تفسير ابن عطية)) (4/361)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/251)، ((تفسير أبي السعود)) (7/83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 654)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/221، 222). .
كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام: 35] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99] .
وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
أي: ولكِنْ وجَبَ القَولُ منِّي، وثَبَت ثُبوتًا لا تغيُّرَ فيه: أنْ أمْلأَ جهنَّمَ مِن كُفَّارِ الجِنِّ والنَّاسِ، فأُعَذِّبَهم فيها جميعًا [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/606)، ((تفسير السمرقندي)) (3/36)، ((تفسير القرطبي)) (14/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 654، 655). والمرادُ بالقولِ هو قولُه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/287). .
كما قال الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] .
وقال سُبحانَه: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85].
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ لهم أنَّه لا رُجوعَ إلى الدُّنيا، أنَّبَهم على ما عَمِلوا مِن تَدْسِيةِ نُفوسِهم بفِعلِ المعاصي، وتَرْكِ الطَّاعةِ له، فقال [163] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (21/109). :
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ .
أي: فذُوقوا العذابَ -أيُّها الكافِرونَ- بسَبَبِ نِسيانِكم يومَ القيامةِ وتَكذيبِكم به، وتَرْكِكم العمَلَ استِعدادًا لِلِقاءِ اللهِ تعالى فيه، إنَّا نَترُكُكم في العذابِ [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/606)، ((تفسير ابن كثير)) (6/362)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 655)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/225). قال الواحدي: (وتأويلُ النِّسيانِ هاهنا التَّركُ في قولِ المفسِّرينَ وأهلِ المعاني). ((البسيط)) (18/147). وقال ابنُ كثير: (إِنَّا نَسِينَاكُمْ أي: [إنَّا] سنعامِلُكم معاملةَ النَّاسي؛ لأنَّه تعالى لا ينسَى شيئًا، ولا يضِلُّ عنه شيءٌ، بل مِن بابِ المقابلةِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/362). وقال القاسمي: (إِنَّا نَسِينَاكُمْ أي: جازَيْناكم جزاءَ نسيانِكم. أو ترَكْناكم في العذابِ تركَ المنسيِّ). ((تفسير القاسمي)) (8/41). .
كما قال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية: 34].
وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: وذوقوا عَذابًا تُخلَّدونَ فيه إلى الأبدِ؛ بسَبَبِ ما كُنتُم تَعملونَه في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ والعِصيانِ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/607)، ((تفسير ابن كثير)) (6/362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 655). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا رَدٌّ على القَدَرِيَّةِ الَّذين يقولون: إنَّ الإنسانَ مُستقِلٌّ بعَمَلِه، ليس لله سُبحانه وتعالى فيه تقديرٌ ولا خَلْقٌ! يَشاءُ لنَفْسِه، ويفعَلُ بنَفسِه! وليس لله تَعلُّقٌ بفِعلِه [166] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 71). !
2- في قَولِه تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إثباتُ الكلامِ للهِ، وأنَّ كلامَه تعالى بحرفٍ؛ لأنَّ قولَه تعالى: لَأَمْلَأَنَّ حروفٌ، وفيه الرَّدُّ على مَن زَعَم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى القائِمُ بالنَّفْسِ؛ إذْ لو كان كذلك لَقال سُبحانَه وتعالى: «ولكِنْ أردتُ أنْ أمْلَأَ»، ولم يقُلْ: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 72). .
3- في قَولِه تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أنَّ كُفَّارَ الجِنِّ في النارِ [168] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 417). .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فيه سُؤالٌ: كيف جعَلَ جَميعَ الإنسِ والجِنِّ ممَّا يَملأُ بهم النَّارَ؟
الجوابُ: أنَّ هذا لبيانِ الجِنسِ، أي: جهنَّمُ تُملَأُ مِن الجِنِّ والإنسِ لا غَيرُ؛ أمْنًا للملائِكةِ، ولا يقتضي ذلك دُخولَ الكُلِّ، كما يقولُ القائِلُ: (ملأتُ الكِيسَ مِن الدَّراهِمِ)، لا يلزَمُ ألَّا يبقَى دِرهَمٌ خارِجَ الكيسِ [169] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/145)، ((تفسير الشربيني)) (3/207). .
5- في قَولِه تعالى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أنَّ أهلَ النارِ يُوَبَّخونَ بتركِهم العملَ للنَّجاةِ منها، ويَتَفَرَّعُ على هذه الفائدةِ: زيادةُ التَّعذيبِ بالتَّعذيبِ القلبيِّ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا وُبِّخَ على عمَلٍ عَمِلَه؛ فإنَّه يَزدادُ حسرةً وندمًا [170] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 76). .
6- قال الله تعالى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا لو قال قائِلٌ: النِّسيانُ لا يكونُ إلَّا في المعلومِ أوَّلًا إذا جُهِلَ آخِرًا؟
 فالجَوابُ: لَمَّا ظَهَرت براهينُه فكأنَّه ظَهَر وعُلِمَ، ولَمَّا تَرَكوه بعْدَ الظُّهورِ ذُكِرَ بلَفظِ النِّسيانِ؛ إشارةً إلى كَونِهم مُنكِرينَ لأمرٍ ظاهرٍ، كمَنْ يُنكِرُ أمرًا كان قد عَلِمَه [171] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/146). .
7- في قَولِه تعالى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ، فكما أنَّهم أفنَوا حياتَهم في مَعصيةِ اللهِ؛ فإنَّ حياتَهم الآخِرةَ أيضًا ستكونُ في عذابِ اللهِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 77). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَسِينَاكُمْ إطلاقُ النِّسيانِ على التَّركِ [173] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 76). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَسِينَاكُمْ -يعني: تَرَكْناكم- إثباتُ الأفعالِ الاختياريةِ للهِ، وهذا يدُلُّ على أنَّه تعالى يَتْرُكُ مَن شاء، ويُقْبِلُ على مَن شاء [174] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 76). .
10- قَولُه تعالى: إِنَّا نَسِينَاكُمْ، وقولُه: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف: 51] ، وقولُه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] ، وقولُه: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 126] ، وقولُه: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية: 34] ، لا يُعارِضُ قولَه تعالى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52] ، وقولَه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] ؛ لأنَّ معنى النِّسيانِ المُثبَتِ: هو تَرْكُهم في العذابِ مَحرومينَ مِن كلِّ خيرٍ، فالنِّسيانُ المثبَتُ بمعنَى التَّركِ، والمَنْفيُّ عنه تعالَى هو الَّذي بمعنَى السَّهْوِ؛ لأنَّه مُحالٌ على اللهِ تعالَى [175] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 102)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/58). .
11- قَولُه تعالى: وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ أي: العذابَ غَيرَ المُنقَطِعِ؛ فإنَّ العذابَ إذا كان له أجَلٌ وغايةٌ، كان فيه بعضُ التَّنفيسِ والتَّخفيفِ، وأمَّا عذابُ جَهنَّمَ -أعاذنا اللهُ منه- فليس فيه رَوحُ راحةٍ، ولا انقِطاعَ لِعَذابِهم فيها [176] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 655). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ جِيءَ في تَصويرِ حالِ المنكِرينَ للبعثِ عندَ حَشرِهم إلى الحسابِ بطَريقةِ حَذفِ جَوابِ (لو)، حَذفًا يُرادِفُه أنْ تَذهَبَ نفْسُ السَّامعِ كلَّ مَذهبٍ مِن تَصويرِ فَظاعةِ حالِهم، وهَولِ مَوقفِهم بيْن يَدَيْ ربِّهم [177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). ؛ والخِطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يَصلُحُ له كائنًا مَن كانَ؛ إذِ المُرادُ بَيانُ كَمالِ سُوءِ حالِهم، وبُلوغِها مِن الفَظاعةِ إلى حيثُ لا يَختَصُّ استِغرابُها واستفظاعُها بِرَاءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مُشاهَدةَ الأُمورِ البَديعةِ، والدَّواهي الفظيعةِ، بل كلُّ مَن يَتأتَّى منه الرُّؤيةُ يَتعجَّبُ مِن هَولِها وفَظاعتِها [178] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/83). ، فتوجيهُ الخِطابِ إلى غَيرِ مُعيَّنٍ لإفادةِ تَناهِي حالِهم في الظُّهورِ حتَّى لا يَختَصَّ به مُخاطَبٌ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). وردَّ أبو السعودِ هذا القولَ، فقال: (ومَنْ علَّل عُمومَ الخِطابِ بالقصدِ إلى بيانِ أنَّ حالَهم قد بلغتْ مِن الظُّهورِ إلى حيث يمتنعُ خَفاؤها البتَّةَ، فلا تختصُّ رؤية راءٍ دونَ راءٍ، بل كلُّ مَن يتأتَّى منه الرُّؤيةُ فله مدخَلٌ في هذا الخِطابِ: فقد نأى عن تحقيقِ الحقِّ؛ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمالِ فظاعةِ حالِهم كما يُفصِحُ عنه الجوابُ المحذوفُ، لا بيانُ كمالِ ظهورِها؛ فإنَّه مَسوقٌ مَساقَ المسلَّماتِ). ((تفسير أبي السعود)) (7/83). .
- وقيل: وَلَوْ تَرَى ... يجوزُ أنْ يكونَ خِطابًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفيه وَجهانِ: أنْ يُرادَ به التَّمنِّي، كأنَّه قال: ولَيْتَك تَرى؛ لأنَّه تَجرَّعَ منهم الغُصَصَ ومِن عَداوتِهم وضِرارِهم، فجعَلَ اللهُ له تَمنِّيَ أنْ يَراهم على تلك الصِّفةِ الفظيعةِ؛ مِن الحياءِ، والخِزْيِ، والغَمِّ؛ لِيَشمَتَ بهم، وأنْ تكونَ (لو) الامتناعيَّةُ قد حُذِفَ جَوابُها، وهو: لَرأيتَ أمْرًا فظيعًا، أو: لَرأيتَ أسوَأَ حالٍ تُرى. ويَجوزُ أنْ يُخاطَبَ به كلُّ أحدٍ [180] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/510)، ((تفسير البيضاوي)) (4/221). وقال أبو حيان متعقِّبًا كلامَ الزمخشري: (والتَّمنِّي بـ «لو» في هذا الموضعِ بعيدٌ، وتَسميةُ «لو» الامتناعيَّةَ ليس بجيِّدٍ، بل العبارةُ الصحيحةُ «لو» لِمَا كان سيَقَعُ لِوُقوعِ غَيرِه، وهي عِبارةُ سيبويه. وقولُه: قد حُذِفَ جوابُها، وتقديرُه: ولَيْتَك ترَى، ممَّا يدُلُّ على أنَّها إذا كانتْ للتَّمنِّي لا جوابَ لها، والصَّحيحُ: أنَّها إذا أُشرِبَتْ معنى التَّمنِّي، يكونُ لها جوابٌ كحالِها إذا لم تُشْرَبْه). ((تفسير أبي حيان)) (8/435). ويُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/224). .
- قولُه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (لو) و(إذ) كِلاهما للمُضِيِّ، وإنَّما جازَ ذلك؛ لأنَّ المُترقَّبَ مِن اللهِ بمَنزلةِ المَوجودِ المَقطوعِ به في تَحقُّقِه [181] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/510)، ((تفسير البيضاوي)) (4/221)، ((تفسير أبي حيان)) (8/434)، ((تفسير أبي السعود)) (7/82). .
- والمُجرِمون همُ الَّذين قالوا: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة: 10] -على قولٍ-؛ فهو إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لِقَصدِ التَّسجيلِ عليهم بأنَّهم في قَولِهم ذلك مُجرِمون، أي: آتُونَ بجُرمٍ؛ وهو جُرمُ تَكذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعطيلِ الدَّليلِ [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). .
- وفي قولِه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ عُدولٌ عن الجُملةِ الفِعليَّةِ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ؛ لِتَقريرِ ثَباتِهم على نَكسِ رُؤوسِهم؛ خجَلًا، وحَياءً، وخِزْيًا، عندَما تَبْدو مَثالِبُهم وهَنَاتُهم بصُورةٍ دَميمةٍ شَوهاءَ، تَبعَثُ على الهُزءِ بهم، والسُّخريةِ منهم، كأنَّما استمرَّ ذلك منهم؛ لا يَرتفِعُ لهم رأْسٌ، ولا يَمتدُّ منهم طَرْفٌ [183] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/581). .
- وجُملةُ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ... إلى آخِرِها، مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ هو في مَوضعِ الحالِ، أي: ناكِسو رُؤوسِهم، يَقولون أو قائلِينَ: أبصَرْنا وسمِعْنا. وحُذِفَ مَفعولُ أَبْصَرْنَا ومَفعولُ (سَمِعْنَا)؛ لِدَلالةِ المَقامِ، أي: أبصَرْنا مِن الدَّلائلِ المُبصَرةِ ما يُصدِّقُ ما أُخبِرْنا به -فقد رأَوُا البَعثَ مِن القُبورِ، ورَأَوْا ما يُعامَلُ به المُكذِّبون-، وسَمِعْنا مِن أقوالِ الملائكةِ ما فيه تَصديقُ الوعيدِ الَّذي تُوعِّدْنا [184] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/221). .
- وقولُه: إِنَّا مُوقِنُونَ تَعليلٌ لِتَحقيقِ الوَعدِ بالعمَلِ الصَّالحِ؛ بأنَّهم صاروا مُوقِنينَ بحَقِّيَّةِ ما يَدْعوهم الرُّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليه؛ فكانتْ (إنَّ) مُغْنيةً غَناءَ فاءِ التَّفريعِ المُفيدةِ للتَّعليلِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/222). .
- وعُدِلَ عن الجُملةِ الفِعليَّةِ إلى الاسميَّةِ المُؤكَّدةِ في قولِه: إِنَّا مُوقِنُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم ثابِتون على الإيقانِ، راغِبونَ فيه بعدَ أنْ ظهَرَت لهم المَغابُّ (العواقبُ) مُنادِيةً عليهم بالوَيلِ والثُّبورِ، وكلُّ ذلك للجِدِّ في الاستِدعاءِ؛ طمَعًا في الإجابةِ إلى ما سَأَلوه مِن الرَّجعةِ، وأنَّى لهم ذلك [186] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/82)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/581). ؟!
2- قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
- قولُه: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا اعتراضٌ بيْنَ القولِ المُقدَّرِ قبْلَ قولِه: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة: 12] ، وبيْنَ الجوابِ عنه بقولِه: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ [السجدة: 14] ؛ فالواوُ الَّتي في صَدرِ الجُملةِ اعتراضيَّةٌ، وهي مِن قَبيلِ واوِ الحالِ. ومَفعولُ فِعلِ المَشيئةِ مَحذوفٌ؛ استِغناءً عن المَفعولِ بما يدُلُّ عليه جوابُ الشَّرطِ [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/222). .
- وفي قولِه: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إيجازٌ يَبلُغُ مَبلَغَ الإعجازِ؛ إذ حُذِفَ مُعظَمُ ما أُرِيدَ بحَرفِ الاستِدراكِ الواردِ على قولِه: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا؛ فإنَّ مُقْتضَى الاستدراكِ أنْ يُقدَّرَ: ولكنَّا لمْ نَشَأْ ذلك، بلْ شِئْنا أنْ نَخلُقَ النَّاسَ مُختارينَ بيْنَ طَريقَيِ الهُدى والضَّلالِ، ووَضَعْنا لهم دَواعيَ الرَّجاءِ والخَوفِ، وأرَيْناهم وَسائلَ النَّجاةِ والارتباكِ بالشَّرائعِ؛ قال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] ، أي: الطَّريقينِ، وحَقَّقْنا الأخبارَ عن الجَزاءينِ بالوَعدِ والوعيدِ بالجنَّةِ وجَهنَّمَ، فلَأمْلَأنَّ جهنَّمَ بأهْلِ الضَّلالِ مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ أجمعينَ، فدخَلَ هذا في قولِه تعالى: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ بما يُشبِهُ دَلالةَ الاقتضاءِ، وإنَّما اختِيرَ الاقتصارُ في المَنطوقِ به الدَّالِّ على المَحذوفِ على شِقِّ مَصيرِ أهلِ الضَّلالِ؛ لأنَّه الأنسَبُ بسِياقِ الاعتراضِ إثْرَ كلامِ أهْلِ الضَّلالةِ في يَومِ الجزاءِ، ولأنَّه أظهَرُ في تَعلُّقِ مَضمونِ جُملةِ الاعتراضِ بمَضمونِ اقتراحِهم [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/223، 224). .
- وعُدِلَ عن الإضافةِ في حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي، فلمْ يَقُلْ: (حقَّ قَولي)؛ لأنَّه أُرِيدَ الإشارةُ إلى قَولٍ مَعهودٍ، وهو ما في سُورةِ (ص): لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] ، أي: حَقَّ القولُ المعهودُ. واجتُلِبَت (مِن) الابتدائيَّةُ؛ لِتَعظيمِ شَأنِ هذا القولِ بأنَّه مِن اللهِ، وعُدِلَ عن ضَميرِ العَظَمةِ إلى ضَميرِ النَّفْسِ مَنِيٍّ؛ لإفادةِ الانفرادِ بالتَّصرُّفُ، ولأنَّه الأصلُ، مع ما في هذا الاختلافِ مِن التَّفنُّنِ [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/224). .
- قَولُه مِنَ الْجِنَّةِ، أي: الجِنِّ؛ طائِفةِ إبليسَ، وكأنَّه أنَّثَهم تحقيرًا لهم عندَ مَن يَستَعظِمُ أمْرَهم [190] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/252). .
- قوله: مِنَ الْجِنَّةِ بدأ بالجِنِّ؛ لاستِعظامِ الكافِرينَ لهم، ولأنَّ المقامَ مقامُ تحقيرٍ لهم [191] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/252)، ((تفسير القنوجي)) (11/22)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/579). .
3- قوله تعالى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قولُه: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ جوابٌ عن قولِهم: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة: 12] ؛ فالفاءُ لِتَفريعِ جوابٍ عن إقرارِهم؛ إلْزامًا لهم بمُوجَبِ إقرارِهم، أي: فيَتفرَّعُ على اعترافِكم بحَقِّيَّةِ ما كان الرَّسولُ يَدْعوكم إليه أنْ يَلحَقَكم عذابُ النَّارِ. ومَجِيءُ التَّفريعِ مِن المُتكلِّمِ على ما هو مِن كلامِ المُخاطَبِ فيه إلْزامٌ بالحُجَّةِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/224، 225). .
- وقيل: الفاءُ في قولِه: فَذُوقُوا لِتَرتيبِ الأمْرِ بالذَّوقِ على ما يُعرِبُ عنه ما قبْلَه مِن نَفْيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا، أو على الوَعيدِ المَحكيِّ، والباءُ في قولِه تعالى: بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؛ للإيذانِ بأنَّ تَعذيبَهم ليس لِمُجرَّدِ سَبقِ الوَعيدِ به فقطْ، بلْ هو وسَبْقُ الوعيدِ أيضًا بسَببٍ مُوجبٍ له مِن قِبَلِهم؛ كأنَّه قِيل: لا رَجْعَ لكمْ إلى الدُّنيا أو: حقَّ وَعِيدي، فذُوقوا بسَببِ نِسيانِكم لِقاءَ هذا اليومِ الهائلِ، وتَرْكِكُم التَّفكُّرَ فيه، والاستِعدادَ له بالكُلِّيَّةِ [193] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/84). .
- ومَفعولُ (ذُوقوا) مَحذوفٌ دلَّ عليه السِّياقُ، أي: فَذُوقوا ما أنتم فيه ممَّا دَعاكم إلى أنْ تَسْألوا الرُّجوعَ إلى الدُّنيا [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/225). .
- قولُه: بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا في إضافةِ (يومٍ) إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ تَهكُّمٌ بهم؛ لأنَّهم كانوا يُنكِرونه، فلمَّا تَحقَّقوه جُعِلَ كأنَّه أشدُّ اختِصاصًا بهم. والإشارةُ بـ هَذَا إلى اليومِ؛ تَهويلٌ له [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/225، 226). .
- وجُملةُ إِنَّا نَسِينَاكُمْ مُستأْنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ المُجرِمينَ إذا سَمِعوا ما عَلِموا منه أنَّهم مُلاقو العَذابِ مِن قولِه: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا، تَطلَّعوا إلى مَعرفةِ مَدَى هذا العذابِ المَذوقِ؟ وهل لَهم منه مَخلَصٌ؟ وهلْ يُجابون إلى ما سَأَلوا مِن الرَّجعةِ إلى الدُّنيا؛ لِيَتدارَكوا ما فاتَهم مِن التَّصديقِ؟ فأُعلِمُوا بأنَّ اللهَ مُهمِلٌ شَأْنَهم، أي: لا يَستجيبُ لهم، وهو كِنايةٌ عن تَركِهم فيما أُذِيقوه [196] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/511)، ((تفسير البيضاوي)) (4/221)، ((تفسير أبي حيان)) (8/436)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/226). .
- وقد حُقِّقَ هذا الخبَرُ بمُؤكِّداتٍ؛ وهي: حَرفُ التَّوكيدِ (إنَّ)، وإخراجُ الكلامِ في صِيغةِ الماضي على خِلافِ مُقْتضى الظاهرِ مِن زَمنِ الحالِ؛ لإفادةِ تَحقُّقِ الفِعلِ حتَّى كأنَّه مَضى ووَقَعَ. وصُدِّرتِ الجملةُ بـ (إنَّ)، وعُطِفَ الطَّلَبيُّ على الخَبَريِّ؛ تشديدًا للانتقامِ منهم [197] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/343)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/226). .
- قولُه: وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عَطفٌ على فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا، وهو وإنْ أفادَ تَأكيدَ تَسليطِ العذابِ عليهم، فإنَّ عَطْفَه مُراعًى فيه ما بيْنَ الجُملتينِ مِن المُغايَرةِ بالمُتعلِّقاتِ والقُيودِ، مُغايرةً اقتَضَت أنْ تُعتبَرَ الجُملةُ الثَّانيةُ مُفيدةً فائدةً أُخرى؛ فالجُملةُ الأُولى تَضمَّنتْ أنَّ مِن سَببِ استِحقاقِهم تلك الإذاقةَ: إهمالَهم التَّدبُّرَ في حُلولِ هذا اليومِ، والجُملةُ الثَّانيةُ تَضمَّنَت أنَّ ذلك العذابَ مُستمِرٌّ، وأنَّ سببَ استمرارِ العذابِ، وعَدمِ تَخفيفِه؛ أعمالُهم الخاطئةُ، وهي أعمُّ مِن نِسيانِهم لِقاءَ يَومِهم ذلك [198] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/221)، ((تفسير أبي السعود)) (7/84)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/226). . وفي إبهامِ المَذوقِ أوَّلًا، وبَيانِه ثانيًا بتَكريرِ الأمْرِ، وتَوسيطِ الاستئنافِ المُنبئِ عن كَمالِ السَّخطِ بيْنَهما: مِن الدَّلالةِ على غايةِ التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يَخْفَى [199] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/84). .