موسوعة التفسير

سُورةُ البَلَدِ
الآيات (1-10)

ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ

غريب الكلمات:

حِلٌّ: أي: حَلالٌ تَصنَعُ فيه ما تُريدُ مِنَ القَتلِ والأَسْرِ. وقيل: حالٌّ ساكِنٌ به، وأصلُ (حلل): يدُلُّ على فَتحِ الشَّيءِ .
كَبَدٍ: أي: مَشقَّةٍ وتَعَبٍ ومُكابَدةٍ لأُمورِ الدُّنيا والآخِرةِ، وأصلُ (كبد): يدُلُّ على شِدَّةٍ في شَيءٍ وقُوَّةٍ .
لُبَدًا: أي: كثيرًا مجتَمِعًا بَعضُه على بَعضٍ، مِن: تلَبَّدَ الشَّيءُ على الشَّيءِ، أي: تجَمَّعَ، وأصلُ (لبد): يدُلُّ على تكَرُّسِ الشَّيءِ بَعضِه فوقَ بَعضٍ .
النَّجْدَيْنِ: أي: الطَّريقَينِ؛ طَريقَ الخَيرِ، وطريقَ الشَّرِّ، والنَّجْدُ: الطَّريقُ في ارتِفاعٍ. وكلُّ عَالٍ مِنَ الأرضِ: نَجْدٌ، وأصلُ (نجد): يدُلُّ على اعتِلاءٍ وإشرافٍ .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ قائلًا: أُقسِمُ بالبَلَدِ الحَرامِ العَظيمِ القَدْرِ، وهو مَكَّةُ المكَرَّمةُ، والحالُ أنَّك -يا محمَّدُ- حلالٌ به يحِلُّ لك ما يَحرُمُ على غيرِك مِن القتالِ فيه، وأُقسِمُ بوالِدٍ وبوَلَدِه؛ لقد خلَقْنا الإنسانَ في تَعَبٍ وشِدَّةٍ مِن أوَّلِ حياتِه إلى مَوتِه.
ثمَّ قال تعالى: أيَظُنُّ الإنسانُ أنَّه لن يَقهَرَه ويَغلِبَه أحَدٌ؟ يَقولُ وقد بَذَّر أموالَه في الباطِلِ وفي شَهَواتِه: أنفَقْتُ مالًا كَثيرًا! أيظُنُّ أنَّ اللهَ لم يَرَه حالَ إنفاقِ أموالِه في الباطِلِ؟
ثمَّ ذكَرَ اللهُ تعالى جانبًا مِن مَظاهِرِ نِعَمِه، فقال: ألم نجعَلْ له عينَينِ يُبصِرُ بهما، ولِسانًا وشفَتينِ؟ وبَيَّنَّا له طريقَ الخَيرِ والشَّرِّ!

تفسير الآيات:

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1).
أي: أُقسِمُ بهذا البَلَدِ الحَرامِ العَظيمِ القَدْرِ، وهو مَكَّةُ المكَرَّمةُ .
كما قال تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] .
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2).
أي: أُقسِمُ بمكَّةَ والحالُ أنَّك -يا محمَّدُ- حلالٌ به في المُستقبَلِ مِن الزَّمانِ؛ يحِلُّ لك ما يَحرُمُ على غيرِك مِن القِتالِ فيها .
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عنه، قال: ((إِنَّ خُزاعَةَ قَتَلوا رجلًا مِن بني لَيْثٍ عامَ فَتْحِ مَكَّةَ بقَتيلٍ منهم قَتَلوه، فأُخْبِر بذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَكِب راحِلَتَه، فخَطَب، فقالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ حَبَس عن مَكَّةَ الفيلَ، وسَلَّطَ عليها رَسولَه والمُؤْمِنينَ، ألَا وإنَّها لم تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلي، ولنْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدي، ألَا وإنَّها أُحِلَّتْ لي ساعَةً مِن النَّهارِ، ألا وإنَّها ساعَتي هذه حَرامٌ )) .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عنهما، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالَ: ((إنَّ اللَّهَ حَرَّم مَكَّةَ فلم تَحِلَّ لأحَدٍ قبلي ، ولا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدي وإنَّما أُحِلَّتْ لي ساعَةً مِن نَهارٍ )) .
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3).
أي: وأُقسِمُ بوالِدٍ، وأقسِمُ بوَلَدِه .
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4).
أي: لقد خلَقْنا الإنسانَ في تَعَبٍ وشِدَّةٍ مِن أوَّلِ حياتِه إلى مَوتِه، يُكابِدُ أُمورَ حياتِه ومَعيشتِه، وهمومَ دُنياه وآخِرتِه .
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5).
أي: أيَظُنُّ الإنسانُ أنَّه لن يَقهَرَه ويَغلِبَه أحَدٌ؟ فاللهُ غالِبُه وقاهِرُه، وهو قادِرٌ عليه وعلى بَعْثِه وعُقوبتِه .
كما قال الله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 3-4] .
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6).
أي: يَقولُ هذا الإنسانُ المبَذِّرُ أموالَه في الباطِلِ وفي شَهَواتِه ومَلَذَّاتِه: أنفَقْتُ مالًا كَثيرًا .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء: 38] .
وقال سُبحانَه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال: 36] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27] .
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7).
أي: أيَظُنُّ أنَّ اللهَ لم يَرَه حالَ إنفاقِ أموالِه في الباطِلِ، وأنَّه لن يُحاسِبَه ويُجازيَه على ذلك ؟!
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى سُبحانَه عن ذلك الكافِرِ قَولَه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، أقام الدَّلالةَ على كَمالِ قُدرتِه؛ فقال تعالى :
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8).
أي: ألَمْ نجعَلْ له عينَينِ يُبصِرُ بهما ؟
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9).
أي: أوَلم نجعَلْ له لِسانًا وشفَتينِ يَستعينُ بهما على النُّطقِ أو غَيرِه مِنَ المنافِعِ ؟
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10).
أي: وبَيَّنَّا له طريقَ الخَيرِ وطَريقَ الشَّرِّ .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أنَّه سُبحانَه سَمَّى الإنفاقَ في الشَّهَواتِ والمعاصي إهلاكًا، ووَجْهُه: أنَّه لا ينتَفِعُ المُنفِقُ بما أنفَقَ، ولا يَعودُ عليه مِن إنفاقِه إلَّا النَّدَمُ والخَسارُ والتَّعَبُ والقِلَّةُ، لا كمَن أنفَقَ في مَرضاةِ اللهِ في سَبيلِ الخَيرِ؛ فإنَّ هذا قد تاجَرَ مع الله، ورَبِحَ أضعافَ أضعافِ ما أنفَقَ .
2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ أعقَبَ سُبحانَه ما به اكتِسابُ العِلمِ، وما به الإبانةُ عن المعلوماتِ بما يُرشِدُ الفِكرَ إلى النَّظَرِ والبَحثِ، وذلك قَولُه: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، فاستكمَلَ الكلامُ أُصولَ التَّعَلُّمِ والتَّعليمِ؛ فإنَّ الإنسانَ خُلِقَ مُحِبًّا للمَعرفةِ محِبًّا للتَّعريفِ، فبِمَشاعِرِ الإدراكِ يكتَسِبُ المُشاهَداتِ -وهي أصولُ المعلوماتِ اليَقينيَّةِ-، وبالنُّطقِ يُفيدُ ما يَعْلَمُه لغيرِه، وبالهَدْيِ إلى الخَيرِ والشَّرِّ يُمَيِّزُ بيْنَ مَعلوماتِه ويُمَحِّصُها .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ سؤالٌ: أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ يتبادَرُ مِن ظاهِرِها أنَّه تعالى أخبَرَ بأنَّه لا يُقسِمُ بهذا البلَدِ الَّذي هو مكَّةُ المكَرَّمةُ، مع أنَّه تعالى أقسَمَ به في قَولِه تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] .
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
الأوَّلُ -وعليه الجُمهورُ-: أنَّ «لا» هنا صِلةٌ على عادةِ العرَبِ؛ فإنَّها رُبَّما لَفَظَت «لا» مِن غيرِ قَصدِ معناها الأصليِّ، بل لِمُجَرَّدِ تقويةِ الكلامِ وتوكيدِه، كقَولِه: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: 92-93] يعني: أن تتَّبِعَني.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ «لا» نَفيٌ لكلامِ المُشرِكينَ المكَذِّبينَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَولُه: أُقْسِمُ إثباتٌ مُستأنَفٌ، وهذا القَولُ وإن قال به كثيرٌ مِن العُلَماءِ فليس بوَجيهٍ؛ لِقَولِه تبارك وتعالى في سورةِ (القيامةِ): وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: 2] ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ يدُلُّ على أنَّه لم يُرِدِ الإثباتَ المؤتَنِفَ بعدَ النَّفيِ بقَولِه: أُقْسِمُ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّها حَرفُ نَفيٍ أيضًا، ووَجْهُه أنَّ إنشاءَ القَسَمِ يتضَمَّنُ الإخبارَ عن تعظيمِ المقسَمِ به، فهو نفيٌ لذلك الخبَرِ الضِّمنيِّ على سبيلِ الكِنايةِ، والمرادُ أنَّه لا يَعظُمُ بالقَسَمِ، بل هو نَفْسُه عظيمٌ أُقسِمَ به أوْ لا.
الوَجهُ الرَّابِعُ: أنَّ اللَّامَ لامُ الابتِداءِ أُشبِعَت فتحتُها، وأصلُ الكلامِ: لَأُقْسِمُ، والعرَبُ رُبَّما أشبعَتِ الفَتحةَ بألِفٍ، والكسرةَ بياءٍ، والضَّمَّةَ بواوٍ .
2- في قَولِه تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ سؤالٌ عن قَسَمِ اللهِ تعالى بهذه المخلوقاتِ، وقد نُهِينا عن القَسَمِ بغيرِه.
والجوابُ عنه مِن وَجهينِ:
الأوَّلُ: أنَّ هذا مِن فِعْلِ اللهِ تعالى، واللهُ لا يُسْأَلُ عمَّا يَفعَلُ، وله أنْ يُقسِمَ سُبحانَه بما شاء مِن خَلْقِه، وهو سائلٌ غيرُ مَسؤولٍ، وحاكمٌ غيرُ محكومٍ عليه.
الثَّاني: أنَّ قَسَمَ اللهِ بهذه الآياتِ دليلٌ على عَظَمتِه وكمالِ قُدرتِه وحِكمتِه، فيكونُ القَسَمُ بها الدَّالُّ على تعظيمِها ورَفْعِ شأنِها مُتضمِّنًا للثَّناءِ على اللهِ عزَّ وجلَّ بما تَقتَضيه مِن الدَّلالةِ على عَظَمتِه، وأمَّا نحن فلا نُقسِمُ بغيرِ اللهِ أو صِفاتِه؛ لأنَّنا مَنهيُّونَ عن ذلك .
3- في قَولِه تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ تَضَمَّنَ القَسَمُ أصلَ المكانِ وأصلَ السُّكَّانِ؛ فمَرجِعُ البلادِ إلى مكَّةَ، ومَرجِعُ العِبادِ إلى آدمَ . وذلك على قولٍ.
4- في قَولِه تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ استَدَلَّ به مَن مَنَعَ قِتالَ البُغاةِ فيه . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
5- في قَولِه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ إشارةٌ إلى أنَّه ليس في الدُّنيا إلَّا الكَدُّ والمِحْنةُ .
6- قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ هذا الدَّليلُ العقليُّ القاطعُ فيه تنبيهٌ أنَّ الَّذي جَعَلَك تُبْصِرُ وتَتكلَّمُ وتَعلَمُ: أَولى أنْ يكونَ بَصيرًا متكَلِّمًا عالِمًا، فأيُّ دليلٍ عقليٍّ قَطعيٍّ أقوى مِن هذا وأبْيَنُ وأقرَبُ إلى المعقولِ ؟!
7- في قَولِه تعالى: وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ذِكْرُ الشَّفَتينِ مع اللِّسانِ؛ لأنَّ الإبانةَ تَحصُلُ بهما معًا، فلا ينطِقُ اللِّسانُ بدونِ الشَّفَتينِ، ولا تنطِقُ الشَّفتانِ بدونِ اللِّسانِ. ومِن دقائِقِ القرآنِ الكريمِ أنَّه لم يقتَصِرْ على اللِّسانِ ولا على الشَّفَتينِ، خِلافَ عادةِ كلامِ العرَبِ أن يقتَصِروا عليه؛ يقولون: «يَنطِقُ بلِسانٍ فَصيحٍ»، ويقولون: «لم ينطِقْ ببِنتِ شَفَةٍ» أو «لم يَنبِسْ ببِنتِ شَفَةٍ»؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ استِدلالٍ، فجيءَ فيه بما لَه مزيدُ تصويرٍ لخَلْقِ آلةِ النُّطقِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
- ابتُدِئَت السُّورةُ الكريمةُ بالقسَمِ؛ تَشويقًا لِما يَرِدُ بعْدَه، وأُطِيلَت جُملةُ القسَمِ؛ زِيادةً في التَّشويقِ .
- والإشارةُ بـ (هذا) مع بَيانِه بـ الْبَلَدِ إشارةٌ إلى حاضرٍ في أذهانِ السَّامِعينَ، كأنَّهم يَرَونه؛ لأنَّ رُؤيتَه مُتكرِّرةٌ لهم، وهو بلَدُ مَكَّةَ، وفائدةُ الإتيانِ باسمِ الإشارةِ تَمييزُ المُقسَمِ به أكمَلَ تَمييزٍ؛ لقصْدِ التَّنويهِ به .
- والقسَمُ بالبَلدةِ -مع أنَّها لا تدُلُّ على صِفةٍ مِن صِفاتِ الذَّاتِ الإلهيَّةِ، ولا مِن صِفاتِ أفعالِه-؛ كِنايةٌ عن تَعظيمِ اللهِ تعالَى إيَّاها وتَفضيلِها .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى في سُورةِ (التِّينِ): وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] ، ولم يَصِفْه -هنا- بالأمْنِ؛ لأنَّه لا يُناسِبُ سِياقَ المشَقَّةِ، بخِلافِ ما في (التِّينِ)؛ فإنَّ المرادَ هناك الكَمالاتُ .
- وجُملة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ مُعترِضةٌ لتَسليتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالوعْدِ بفتْحِه، على مَعْنى: وأنتَ حِلٌّ بهِ في المُستقبَلِ، و(أنت) على هذا الوجْهِ مِن بابِ التَّقديمِ للاختِصاصِ، وقيل غيرُ ذلك . والمقصودُ مِن الاعتراضِ يَختلِفُ باختلافِ مَحمَلِ معْنى وَأَنْتَ حِلٌّ .
- وتَكريرُ لَفظِ بِهَذَا الْبَلَدِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لقصْدِ تَجديدِ التَّعجيبِ، ولقَصْدِ تَأكيدِ فتْحِ ذلك البلدِ العزيزِ عليه، والشَّديدِ على المشرِكين أنْ يَخرُجَ عن حَوزتِهِم .
وقيل: إنَّه لمْ يُكرِّرْه؛ إذِ التَّقديرُ: لا أُقسِمُ بهذا البلدِ المحرَّمِ الَّذي جُبِلَت العرَبُ على تَعظيمِه وتَحريمِه، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، أي: أُحِلَّ لك فيه مِن حُرُماتِه ما لمْ يَحِلَّ لأحدٍ قبْلَك ولا بعْدَك؛ مِن قتْلِ ابنِ خَطَلٍ، وقِتالِ المشركين ساعةً مِن نَهارٍ، فالمرادُ بالبلدِ الأوَّلِ الباقي على تَحريمِه، وبالثَّاني الَّذي أُحِلَّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إكرامًا له، وتَعظيمًا لمَنزلتِه .
- قولُه: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ نُكِّرَ الوالدُ والولَدُ للإبهامِ المُستقِلِّ بالمدْحِ والتَّعجُّبِ، وجِيءَ باسمِ الموصولِ (ما) في قولِه: وَمَا وَلَدَ دونَ (مَن)، مع أنَّ (مَن) أكثَرُ استعمالًا في إرادةِ العاقلِ، وهو مُرادٌ هنا؛ فعُدِلَ عن (مَن)؛ لأنَّ (ما) أشدُّ إبهامًا، فأُرِيدَ تَفخيمُ أصحابِ هذه الصِّلةِ، فجِيءَ لهم بالمَوصولِ الشَّديدِ الإبهامِ؛ لإرادةِ التَّفخيمِ، ونَظيرُه قولُه تعالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران: 36] ، يعْني: مَولودًا عَجيبَ الشَّأنِ، ولأنَّ قُوَّةَ الإبهامِ في (ما) أنسَبُ بإرادةِ الجَماعةِ دونَ واحدٍ مُعيَّنٍ .
2- قولُه تعالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ الجُملةُ جَوابُ القَسَمِ، وهو الغرَضُ مِن السُّورةِ .
- قولُه: فِي كَبَدٍ، أي: تعَبٍ ومَشقَّةٍ، وهو تَسليةٌ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا كان يُكابِدُه مِن قُرَيشٍ .
3- قولُه تعالَى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ
- قولُه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ الهَمزةُ للإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّخطئةِ .
- وفي قولِه: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أُعقِبَت مَساوي نفْسِه بمَذامِّ أقوالِه، وهو التَّفخُّرُ الكاذبُ، والتَّمدُّحُ بإتلافِ المالِ في غيرِ صَلاحٍ .
- قولُه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ الاستِفهامُ للإنكارِ والتَّوبيخِ .
- وأيضًا قولُه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ كِنايةٌ عن عِلمِ اللهِ تعالَى بدَخيلتِه، وأنَّ افتِخارَه بالكرَمِ باطلٌ .
4- قولُه تعالَى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ
- قولُه: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ تَعليلٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ في قولِه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد: 5] ، أو قولِه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد: 7] ، أي: هو غافلٌ عن قُدرةِ اللهِ تعالَى، وعن عِلمِه المُحيطِ بجَميعِ الكائناتِ الدَّالِّ عليهما أنَّه خلَقَ مَشاعرَ الإدراكِ، الَّتي منها العَينانِ، وخلَقَ آلاتِ الإبانةِ، وهي اللِّسانُ والشَّفتانِ، فكيف يكونُ مُفيضُ العِلمِ على النَّاسِ غيرَ قادرٍ وغيرَ عالِمٍ بأحوالِهم ؟!
- قولُه: أَلَمْ نَجْعَلْ الهَمزةُ للاستِفهامِ، ويجوزُ أنْ يكونَ هذا الاستِفهامُ تَقْريريًّا، وأنْ يكونَ إنكاريًّا .
- والاقتِصارُ على العَينينِ؛ لأنَّهما أنفَعُ المشاعِرِ، ولأنَّ المُعلَّلَ إنكارُ ظنِّه أنْ لم يَرَه أحدٌ .
- قولُه: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ النَّجْدُ: الأرضُ المرتفِعةُ ارتفاعًا دُونَ الجبَلِ، وعُبِّرَ بالنَّجْدَينِ عن الخَيرِ والشَّرِّ، وجُعِلَا نَجْدينِ؛ لصُعوبةِ اتِّباعِ أحدِهما، وهو الخيرُ، فغُلِّبَ على الطَّريقَينِ. أو لأنَّ كلَّ واحدٍ صعْبٌ باعتبارٍ؛ فطَريقُ الخَيرِ صُعوبتُه في سُلوكِه، وطَريقُ الشَّرِّ صُعوبتُه في عَواقبِه؛ ولذلك عُبِّرَ عنه بعْدَ هذا بـ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] .
- وأُدمِجَ في هذا الاستِدلالِ امتِنانٌ على الإنسانِ بما وُهِبَه مِن وَسائلِ العَيشِ المُستقيمِ .