موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيتان (77-78)

ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

اجْتَبَاكُمْ: أي: اختَاركم واصطَفاكم واستخلَصَكم، وأصلُ (جبي): يدُلُّ على الجَمعِ على طَريقِ الاصطِفاءِ [1164] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 295)، ((تفسير ابن جرير)) (16/640)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/503)، ((المفردات)) للراغب (ص: 186). .
مِلَّةَ: أي: دِينَ وطَريقةَ، وإنَّما سُمِّيَ الدِّينُ مِلَّةً؛ لأنَّه يُمَلُّ، أي: يُملَى على المَدعُوِّ إليه، فالمِلَّةُ تُبنَى على مَسموعٍ ومتلوٍّ [1165] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/275)، ((البسيط)) للواحدي (3/285)، ((المفردات)) للراغب (ص: 773، 774)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 91)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 443). .
وَاعْتَصِمُوا: أي: استَمسِكوا وامتنِعوا، وأصلُ العَصْمِ: المنعُ، فكلُّ مانعٍ شيئًا فهو عاصِمُه، والمُمتنِعُ به مُعتصِمٌ به، يُقال: عَصَمَه الطَّعامُ؛ أي: مَنعَه مِن الجوع، وأصلُ (عصم) أيضًا: يَدُلُّ على إمساكٍ ومُلازمةٍ، والمعنَى في ذلك كُلِّه معنًى واحِدٌ [1166] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1 /108)، ((تفسير ابن جرير)) (5/635)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1 /504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4 /331)، ((المفردات)) للراغب (ص: 570)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 77)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/127). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
في نَصبِ مِلَّةَ أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّها مَنصوبةٌ على المصدريَّةِ بفِعلٍ دلَّ عليه ما قَبْلَه مِن نَفيِ الحَرَجِ بعد حَذفِ مُضافٍ، أي: وسَّعَ دينَكم تَوسِعةَ مِلَّةِ أبيكم، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. الثَّاني: أنَّها مَنصوبةٌ على الاختِصاصِ بتَقديرِ أعني أو أخُصُّ. الثالثُ: أنَّها مَنصوبةٌ على الإغراءِ بتَقديرِ: (اتَّبِعوا) أو (الزَمُوا)؛ لأنَّ الكلامَ قَبْلَه أمْرٌ، فكأنَّه قيل: اركَعوا واسجُدوا، والزَموا مِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ. الرَّابِعُ: أنَّها مَنصوبةٌ بنَزعِ الخافِضِ، أي: كمِلَّةِ أبيكم، فلَمَّا حُذِفَ حَرفُ الجَرِّ نُصِبَ، وتقديرُه: وسَّعَ عليكم في الدِّينِ كمِلَّةِ أبيكم؛ لِأَنَّ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يدُلُّ على وسَّعَ عليكم [1167] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/231)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/495)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/309)، ((تفسير الآلوسي)) (9/199). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: يا أيُّها الذينَ آمَنوا، اركَعوا واسجُدوا في صَلاتِكم، واعبُدوا ربَّكم وَحْدَه لا شَريكَ له، وافعَلوا الخيرَ؛ لِتُفلِحوا، وجاهِدوا لله ومِن أجْلِه أنفُسَكم، وجاهِدوا الشَّيطانَ والكفَّارَ وأهلَ الظُّلمِ والزَّيغِ والهوَى جهادًا خالصًا لوجهِ الله، هو اصطفاكم لحَملِ هذا الدِّينِ ونَصْرِه، وقد مَنَّ عليكم بأنْ جعَلَ شريعتَكم سَمْحةً، فما جعَل عليكم مِن ضِيقٍ وعُسرٍ في دِينِ الإسلامِ، بل وَسَّع دينَكم كمِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ.
وقد سَمَّاكم اللهُ المُسلِمينَ مِن قبْلُ في الكتُبِ المنزَّلةِ السَّابقةِ، وفي هذا القُرآنِ، وقد اختَصَّكم بهذا الفَضلِ والاجتباءِ؛ ليكونَ خاتَمُ الرُّسُلِ مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شاهِدًا عليكم بأنَّه بلَّغكم رِسالةَ رَبِّه، وتكونوا شُهَداءَ على الأُمَمِ أنَّ رُسُلَهم قد بلَّغَتْهم؛ فعليكم أن تَشكُروا هذه النعمةَ بأداءِ الصَّلاةِ بأركانِها وحُدودِها، وإخراجِ الزَّكاةِ المَفروضةِ، وأن تَلجَؤوا إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، وتتوكَّلوا عليه في جَميعِ أمورِكم؛ فهو نِعْمَ المَولى، ونِعْمَ النَّصيرُ.

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تَكلَّم اللهُ سبحانه في الإلهيَّاتِ، ثُمَّ في النُّبوَّاتِ؛ أتْبعَه بالكلامِ في الشَّرائعِ [1168] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/253). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه اصطفى رُسلًا مِن البَشرِ إلى الخَلقِ؛ أمرَهم بإقامةِ ما جاءتْ به الرُّسُلُ مِن التكاليفِ [1169] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/539). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ.
أي: يا أيُّها الذينَ آمَنوا، اركَعوا واسجُدوا لله في صَلاتِكم، وذِلُّوا واخضَعوا لرَبِّكم بطاعتِه، مُخلِصينَ له في عبادتِه [1170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/639)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/346). .
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: وافعَلوا -أيُّها المُؤمِنونَ- أنواعَ الخَيراتِ مِمَّا أمَرَكم اللهُ به؛ لعَلَّكم تفوزونَ بما تَرغَبونَ فيه في الدُّنيا والآخِرةِ، وتنجَوْنَ ممَّا ترهبونَه [1171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/639)، ((تفسير الرازي)) (23/254)، ((تفسير الشوكاني)) (3/556)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). قال الثعالبي: (هذه الآيةُ الكريمةُ عامَّةٌ في أنواعِ الخَيراتِ، ومِن أعظَمِها الرَّأفةُ والشَّفَقةُ على خَلقِ اللهِ، ومُواساةُ الفُقَراءِ وأهلِ الحاجةِ). ((تفسير الثعالبي)) (4/138). .
كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .
وقال الله عزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 5-7] .
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الجِهادُ أساسَ العِبادةِ، وهو -مع كَونِه حقيقةً في قِتالِ الكُفَّارِ- صالِحٌ لأنْ يَعُمَّ كُلَّ أمرٍ بمَعروفٍ ونَهيٍ عن مُنكَرٍ؛ بالمالِ والنَّفسِ، بالقَولِ والفِعلِ، بالسَّيفِ وغَيرِه، وكُلَّ اجتِهادٍ في تهذيبِ النَّفسِ وإخلاصِ العَمَلِ- ختَمَ به، فقال تعالى [1172] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/100، 101). :
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ.
أي: جاهِدوا -للهِ ومِن أجْلِه- أنفُسَكم، وجاهِدوا الشَّيطانَ والكفَّارَ وأهلَ الظُّلمِ والزَّيغِ والهوَى جهادًا خالصًا لوجهِ الله؛ بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم، مُستَفرغينَ فيه طاقتَكم [1173] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/457)، ((تفسير القرطبي)) (12/99)، ((تفسير البيضاوي)) (4/80)، ((تفسير ابن كثير)) (5/455)، ((تفسير القاسمي)) (7/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). قال القرطبي: (قَولُه تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ قيل: عَنى به جِهادَ الكُفَّارِ. وقيل: هو إشارةٌ إلى امتِثالِ جميعِ ما أمَرَ اللهُ به، والانتهاءِ عن كُلِّ ما نهى اللهُ عنه، أي: جاهِدوا أنفُسَكم في طاعةِ اللهِ، ورُدُّوها عن الهوى، وجاهِدوا الشَّيطانَ في رَدِّ وَسوَستِه، والظَّلَمةَ في رَدِّ ظُلْمِهم، والكافِرينَ في رَدِّ كُفرِهم). ((تفسير القرطبي)) (12/99).  وممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ جرير، والشوكانيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/640)، ((تفسير الشوكاني)) (3/556)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/347). قال ابنُ جرير: (والصَّوابُ مِن القَولِ في ذلك: قَولُ مَن قال: عنى به الجِهادَ في سَبيلِ اللهِ؛ لأنَّ المعروفَ مِن الجِهادِ ذلك، وهو الأغلَبُ على قَولِ القائِلِ: جاهَدْتُ في اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (16/640). قال ابن عطية: (والعمومُ حسَنٌ، وبيِّنٌ أنَّ عرفَ اللفظةِ تقتضي القتالَ في سبيلِ الله). ((تفسير ابن عطية)) (4/135). وممن اختار القولَ الثانيَ -وهو العمومُ-: الزمخشريُّ، والرازي، وأبو حيان، والبقاعي، والسيوطي، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/173)، ((تفسير الرازي)) (23/255)، ((تفسير أبي حيان)) (7/539)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/101)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 185)، ))تفسير القاسمي)) (7/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 547). وعزا ابنُ الجوزي القولَ بأنَّ معناه: فعلُ جميعِ الطاعاتِ، إلى الأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/252، 253). قال الرازي: (والأَوْلَى أن يُحملَ ذلك على كلِّ التكاليفِ، فكلُّ ما أُمِر به ونُهِى عنه فالمحافظةُ عليه جهادٌ). ((تفسير الرازي)) (23/255). وقال ابنُ الجوزي: (فأمَّا حَقُّ الجِهادِ ففيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: أنَّه الجِدُّ في المجاهَدةِ، واستيفاءُ الإمكانِ فيها. والثَّاني: أنَّه إخلاصُ النيَّةِ لله عزَّ وجَلَّ. والثَّالِثُ: أنَّه فِعلُ ما فيه وَفاءٌ لحَقِّ اللهِ عزَّ وجَلَّ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/253). وقال البغوي: (قال أكثَرُ المفَسِّرينَ: حَقُّ الجهادِ أن تكونَ نيَّتُه صادِقةً خالِصةً لله عَزَّ وجلَّ). ((تفسير البغوي)) (3/354). وممَّن اختار أنَّ معنى حَقَّ جِهَادِهِ: استفراعُ الوسعِ والطاقةِ: ابنُ جرير، وأبو حيان، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/640)، ((تفسير أبي حيان)) (7/539)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 445). قال البقاعي: (حَقَّ جِهَادِهِ باستِفراغِ الطَّاقةِ في إيقاعِ كُلِّ ما أمَرَ به؛ مِن جِهادِ العَدُوِّ والنَّفْسِ على الوَجهِ الذي أمَرَ به من الحَجِّ والغَزْوِ وغَيرِهما جِهادًا يليقُ بما أفهَمَتْه الإضافةُ إلى ضميرِه سُبحانَه مِن الإخلاصِ والقُوَّةِ؛ فإنَّه يُهلِكُ جَميعَ مَن يَصُدُّكم عن شَيءٍ منه). ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/101). وقال مكِّي: (وأكثَرُ النَّاسِ على أنَّه غيرُ مَنسوخٍ، وواجِبٌ على كلِّ مُسلمٍ أن يجاهِدَ في اللهِ حَقَّ جهادِه على قَدْرِ استطاعتِه، ويكونُ قَولُه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] بيانًا لهذا، وليس بناسِخٍ له). ((الهداية)) (7/4937). .
كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] .
وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جاهِدوا المُشرِكينَ بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم )) [1174] أخرجه أبو داود (2504)، والنسائي (3096) واللفظُ له، وأحمد (12268). أخرجه ابنُ حبَّان في ((صحيحه)) (4708)، وقال ابن حزم في ((أصول الأحكام)) (1/27): (في غاية الصحَّةِ)، وصحَّح إسناده النووي في ((رياض الصالحين)) (437)، وصحَّحَ الحديثَ ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (114)، وقال محمد ابن عبد الهادي في ((المحرر)) (286): (إسناده على رسم مُسلِم)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (8/27): (رجالُه رجال الصحيح)، وصَحَّحه ابن باز في ((مجموع فتاواه)) (4/296)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3096). .
وعن فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المجاهِدُ مَن جاهَدَ نَفسَه)) [1175] أخرجه الترمذي (1621)، وأحمد (23951). قال الترمذي: (حسن صحيح)، وأخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) (4624)، وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (10/635): (ثابت)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1621). .
هُوَ اجْتَبَاكُمْ.
أي: اللهُ هو الذي اختاركم -أيُّها المُؤمِنونَ- لاتِّباعِ دينِه، ونَصْرِه، والجِهادِ في سَبيلِه [1176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/640)، ((تفسير القرطبي)) (12/100)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/349). .
كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .
وعن أبي عِنَبةَ الخَوْلانيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يَزالُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ يَغرِسُ في هذا الدِّينِ بغَرسٍ يَستَعمِلُهم في طاعتِه)) [1177] أخرجه ابن ماجه (8)، وأحمد (17787) واللفظ له. أخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) (326)، وصحَّح إسنادَه ووثَّقَ رِجالَه البوصيريُّ في ((مصباح الزجاجة)) (1/44)، وحَسَّن الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (8). .
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
أي: وما جعل اللهُ عليكم -أيُّها المُؤمِنونَ- مِن ضِيقٍ وعُسرٍ ومشقَّةٍ في دِينِ الإسلامِ، بل يسَّرَ لكم هذا الدِّينَ غايةَ التيسيرِ [1178] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/556، 557)، ((تفسير السعدي)) (ص: 547). قيل: المرادُ: أنَّه سُبحانَه ما جعَلَ عليهم حَرَجًا بتَكليفِ ما يَشُقُّ عليهم، ولكِنْ كَلَّفَهم بما يَقدرِونَ عليه، ورَفَع عنهم التَّكاليفَ التي فيها حَرَجٌ، فلم يتعَبَّدْهم بها؛ ومن ذلك: قَصرُ الصَّلاةِ في السَّفَرِ، والإفطارُ في رَمَضانَ فيه، وصلاةُ العاجِزِ عن القيامِ قاعِدًا، وإباحةُ المحظورِ للضَّرورةِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجُملةِ: البيضاويُّ، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/80)، ((تفسير ابن كثير)) (5/455)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/300، 301). وقيل: المرادُ: أَّنه جَعَل لهم مِن الذَّنْبِ مَخرَجًا، بفتْحِ بابِ التَّوبةِ وقَبولِ الاستغفارِ والتَّكفيرِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/640). قال الشوكانيُّ بَعد أنْ ذَكَر اختلافَ العُلماءِ في الحرَجِ المرفوعِ: (والظَّاهرُ أنَّ الآيةَ أَعَمُّ مِن هذا كلِّه، فقد حَطَّ سُبحانَه ما فيه مَشقَّةٌ مِن التَّكاليفِ على عِبادِه، إمَّا بإسقاطها من الأصلِ وعدَمِ التَّكليفِ بها كما كُلِّف بها غَيرُهم، أو بالتَّخفيف وتَجويزِ العُدولِ إلى بَدَلٍ لا مَشقَّةَ فيه، أو بمَشروعيَّةِ التَّخلُّصِ عن الذَّنْبِ بالوجْهِ الذي شَرَعَه اللهُ، وما أَنفعَ هذه الآيةَ، وأَجَلَّ مَوقِعَها، وأَعظمَ فائدتَها!). ((تفسير الشوكاني)) (3/556، 557). .
كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .
وقال عزَّ وجَلَّ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28] .
وقال تبارك وتعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((لَمَّا نزَلَت هذه الآيةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ، قال: دخَلَ قُلوبَهم منها شَيءٌ لم يَدخُلْ قُلوبَهم مِن شَيءٍ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: سَمِعْنا، وأطَعْنا، وسَلَّمْنا. قال: فألقى اللهُ الإيمانَ في قُلوبِهم، فأنزل اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] ، قال: قد فعَلْتُ، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة: 286] ، قال: قد فعَلْتُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا [البقرة: 286] ، قال: قد فعَلْتُ)) [1179] رواه مسلم (126). .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قيل لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّ الأديانِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ)) [1180] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (39) باختلاف يسيرٍ، وأخرجه موصولًا في ((الأدب المفرد)) (287)، وأحمد (2107)، والطبراني (11/227) (11572). قال ابن الملقِّن في ((شرح البخاري)) (3/80): (إسنادُه لا بأس به)، وحسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (1/116)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (3/355)، وحسَّن الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (160). .
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
أي: وما جعَلَ عليكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ، بل وسَّعه كمِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ [1181] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/231)، ((تفسير ابن جرير)) (16/644)، ((تفسير العليمي)) (4/453). ممن اختار المعنى المذكورَ: الفرَّاءُ، وابن جرير، والعليمي. يُنظر: ((المصادر السابقة)). وقيل: المعنى: وَسَّع عليكم دينَكم توسعةَ مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ. وممَّن اختاره: الشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/557)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/173). وقيل: المرادُ: اتَّبِعوا والْزَموا مِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: الزجَّاجُّ، وابن أبي زمنين، والواحديُّ، والسمعاني، والسعديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/440)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/191)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 742)، ((تفسير السمعاني)) (3/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). ونسبه الواحديُّ لأكثرِ النحْويِّينَ. يُنظر: ((البسيط)) (15/508). وقيل: قوله: مِلَّةَ منصوبةٌ على الاختصاصِ، أي: أعني الدينَ ملةَ أبيكم. وممَّن اختاره: النيسابوريُّ. يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (5/103). قال الشِّنقيطيُّ: (ولا يَبعُدُ أنْ يكونَ قولُه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج: 78] شامِلًا لِما ذُكِر  قَبْلَه مِنَ الأوامرِ في قَوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77]، ويُوضِّحُ هذا قولُه تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [الأنعام: 161] ، والدِّينُ القَيِّمُ الذي هو مِلَّةُ إبراهيمَ: شاملٌ لِما ذُكر كله). ((أضواء البيان)) (5/302). وقال السَّمعاني: (وقَولُه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ فيه قَولانِ: أحَدُهما: أنَّ الآيةَ خِطابٌ مع العَرَبِ، وقد كان إبراهيمُ أبًا لهم. والقَولُ الثَّاني: أنَّ الآيةَ خِطابٌ مع جميعِ المُسلِمينَ، وجَعْلُ إبراهيمَ أباهم على معنَى وُجوبِ احترامِه وحِفظِ حَقِّه، كما يَجِبُ احترامُ الأبِ وحِفظُ حَقِّه). ((تفسير السمعاني)) (3/458). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135] .
وقال سُبحانَه: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 95] .
وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا.
أي: اللهُ سمَّاكم المُسلِمينَ مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ في كُتُبِ الأنبياءِ السَّابقةِ، وسمَّاكم المُسلِمينَ أيضًا في هذا القُرآنِ [1182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/644، 646)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (1/17)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 28)، ((تفسير ابن كثير)) (5/456)، ((تفسير أبي السعود)) (6/122)، ((تفسير السعدي)) (ص: 547)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/351)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/302). قال الواحدي: (قال جماعةُ المُفَسِّرينَ وأهلُ المعاني: هو كنايةٌ عن اللهِ تعالى، أي: اللهُ تعالى سَمَّاكم المُسلِمينَ قبْلَ إنزالِ القُرآنِ في الكُتُبِ التي أُنزِلَت قَبْلَه). ((البسيط)) (15/511). ونَسَبه البغَوي لأكثَرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/355). وقيل: المعنى: إبراهيمُ سَمَّاكم المُسلِمينَ. وهو قَولُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ زَيدِ بنِ أسلَمَ، قال ابنُ جريرٍ: (ولا وَجْهَ لِما قال ابنُ زيدٍ مِن ذلك؛ لأنَّه معلومٌ أنَّ إبراهيمَ لم يُسَمِّ أمَّةَ مُحمَّدٍ مُسلِمينَ في القُرآنِ؛ لأنَّ القُرآنَ أُنزِلَ مِن بَعدِه بدَهرٍ طويلٍ، وقد قال الله تعالى ذِكرُه: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج: 78] ، ولكِنَّ الذي سَمَّانا مُسلِمينَ مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ وفي القُرآنِ: اللهُ الذي لم يَزَلْ ولا يَزالُ). ((تفسير ابن جرير)) (16/646). وذكَرَ الشنقيطيُّ قرينةً أُخرى تدُلُّ على أنَّ هذا القَولَ غيرُ صَوابٍ، وهي (أنَّ الأفعالَ كُلَّها في السِّياقِ المذكورِ راجِعةٌ إلى الله تعالى لا إلى إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ فقَولُه: هُوَ اجْتَبَاكُمْ أي: اللهُ. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي: اللهُ. هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ أي: اللهُ. فإنْ قيل: الضَّميرُ يَرجِعُ إلى أقرَبِ مَذكورٍ، وأقرَبُ مَذكورٍ للضَّميرِ المذكورِ هو إبراهيمُ؛ فالجَوابُ: أنَّ محَلَّ رُجوعِ الضَّميرِ إلى أقرَبِ مَذكورٍ محَلُّه ما لم يَصرِفْ عنه صارِفٌ، وهنا قد صَرَف عنه صارِفٌ). ((أضواء البيان)) (5/302). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/456). .
كما قال تعالى: قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] .
وقال سُبحانَه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] .
وعن الحارِثِ الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... ومَن دعا بِدَعوى الجاهليَّةِ، فهو مِن جُثا [1183] الجُثَا: جمعُ جُثْوةٍ، والجُثوةُ: الشَّيءُ المجموعُ، والمرادُ: مِن جماعاتِ جَهَنَّمَ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن الجوزي (1/137). جَهنَّمَ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وإنْ صام وإن صلَّى؟ قال: وإن صام وإن صَلَّى وزعَمَ أنَّه مُسلِمٌ، فادْعُوا المُسلِمينَ بأسمائِهم؛ بما سَمَّاهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ: المُسلِمينَ المُؤمِنينَ عبادَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ)) [1184] أخرجه مطوَّلًا الترمذي (2863)، وأحمد (17170) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11349) باختلافٍ يسيرٍ. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ غريب)، وأخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) (6233)، وصحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/8)، وابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (1/208)، وحسنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (1/87)، وقال ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (6/264): (جيد عظيمٌ جدًّا؛ جيد الإسناد جيدُ المعنى)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2863). .
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.
أي: اجتَباكم اللهُ وفضَّلَكم، ونَوَّهَ باسمِكم؛ لِيَكونَ الرَّسولُ -الذي هو خَيرُكم- شَهيدًا عليكم يومَ القيامةِ أنَّه قد بلَّغكم رسالةَ ربِّه [1185] ممن اختار أنَّ المرادَ: يشهَدُ بأنَّه بلَّغَهم رسالةَ ربِّه: مقاتلُ بن سليمان، وابن جرير، والسمرقندي، والبغوي، والقرطبي، والبيضاوي، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/140)، ((تفسير ابن جرير)) (16/647)، ((تفسير السمرقندي)) (2/472)، ((تفسير البغوي)) (3/355)، ((تفسير القرطبي)) (12/101)، ((تفسير البيضاوي)) (4/81)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 445)، ((تفسير الشوكاني)) (3/557)، ((تفسير القاسمي)) (7/279)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/303). وقال يحيى بن سلام: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ على الأُمَمِ، بأنَّ الرُّسُلَ قد بلَّغَت قَومَها). ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/391). وقيل: شهيدٌ على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ بأنَّها آمنت به. وممن قال بذلك: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/351). وقيل: شهيدٌ على صِدقِ الأمَّةِ فيما شَهِدَت به للرُّسُلِ على أُمَمِهم مِنَ التَّبليغِ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/303). ، وتكونوا شُهَداءَ على جَميعِ الأُمَمِ أنَّ رُسُلَهم قد بلَّغُوهم ما أرسَلَهم اللهُ به [1186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/647)، ((تفسير القرطبي)) (12/101)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/303). .
كما قال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُدعَى نوحٌ يَومَ القيامةِ، فيَقولُ: لبَّيكَ وسَعْديكَ [1187] لبَّيك: أي: أدومُ على طاعتِك دوامًا بعد دوامٍ، وأُقيمُ على طاعتِك إقامةً بعد إقامةٍ، مِن: ألَبَّ بالمكانِ: إذا أقام به. وسعديك: أي: ساعدتُ طاعتَك يا ربِّ مساعدةً بعد مساعدةٍ، وهي الموافَقةُ والمسارعةُ، أو أسعدُ بإقامتي على طاعتِك وإجابتي لدعوتِك سعادةً بعد سعادةٍ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/673). يا رَبِّ، فيقولُ: هل بلَّغْتَ؟ فيقولُ: نعَمْ، فيُقالُ لأُمَّتِه: هل بلَّغَكم؟ فيقولونُ: ما أتانا مِن نَذيرٍ! فيقولُ: مَن يَشهَدُ لك؟ فيقولُ: مُحمَّدٌ وأمَّتُه. فتَشهَدونَ أنَّه قد بلَّغَ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] )) [1188] رواه البخاري (4487). .
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ.
أي: قابِلُوا تلك النِّعمةَ العَظيمةَ بالقيامِ بشُكرِها، فأقيمُوا -أيُّها المُسلِمونَ- الصَّلاةَ للهِ بحُدودِها وأركانِها، وأعطُوا زَكاةَ أموالِكم لِمُستحقِّيها [1189] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/140)، ((تفسير ابن جرير)) (16/648)، ((تفسير ابن كثير)) (5/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 547)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/352). .
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ.
أي: وثِقُوا باللهِ وتوَكَّلوا عليه في جَميعِ أمورِكم، واعمَلوا بوَحْيِه وتمَسَّكوا به؛ لأنَّه وليُّكم وحافِظُكم، ومُدَبِّرُ أمورِكم، وناصِرُكم على أعدائِكم [1190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/648)، ((تفسير السمرقندي)) (2/472)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/198، 457-460)، ((تفسير ابن كثير)) (5/457)، ((تفسير الشوكاني)) (3/557)، ((تفسير السعدي)) (ص: 547)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/352). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] .
فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
أي: فنِعْم المَولى هو سُبْحانَه، ونِعْمَ النَّاصِرُ [1191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/648)، ((تفسير السمعاني)) (3/460)، ((تفسير ابن كثير)) (5/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 547)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/353). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فيه أمرٌ بإسداءِ الخَيرِ إلى النَّاسِ مِنَ الزَّكاةِ، وحُسنِ المُعامَلةِ؛ كصِلةِ الرَّحِمِ، والأمرِ بالمَعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وسائِرِ مَكارِمِ الأخلاقِ، وهذا مُجمَلٌ بيَّنَتْه وبيَّنَت مراتِبَه أدِلَّةٌ أُخرى [1192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/346). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (لعلَّ) كَلِمةُ تَرَجٍّ تُشعِرُ بأنَّ الإنسانَ قَلَّما يخلو في أداءِ فَريضةٍ مِن تَقصيرٍ، وليس هو على يقينٍ مِن أنَّ الذي أتى به مَقبولٌ عندَ اللهِ، والعواقِبُ مَستورةٌ، وكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له [1193] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/567). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ علَّق تعالى الفَلاحَ على هذه الأمورِ، فلا طريقَ للفَلاحِ سوِى الإخلاصِ في عبادةِ الخالِقِ، والسَّعيِ في نَفعِ عَبيدِه، فمن وُفِّقَ لذلك فله القِدْحُ المُعَلَّى [1194] القِدْحُ المُعَلَّى: أي: الحَظُّ الأوفَرُ. والقِدْحُ: السَّهمُ: والمعلَّى: السَّابعُ مِن سِهامِ المَيسِرِ، وهو أفضَلُها عندَهم. يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/118)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 217). مِنَ السَّعادةِ والنَّجاحِ والفَلاحِ [1195] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 546). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ باستِفراغِ الطَّاقةِ في إيقاع كلِّ ما أَمَر به مِنَ الجهادِ للعدوِّ والنَّفْسِ على الوجْهِ الَّذي أَمَر به، مِنَ الحجِّ والغَزوِ وغَيرِهما، جهادًا يَليقُ بما أَفهَمَتْه الإضافةُ إلى ضَميرِه سبحانه مِنَ الإخلاصِ والقوَّةِ [1196] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/101). .
5- قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فمتى اعتصَمْتُم به سُبحانَه تولَّاكم ونصَرَكم على أنفُسِكم وعلى الشَّيطانِ، وهما العدوَّانِ اللَّذانِ لا يُفارِقانِ العبدَ، وعداوتُهما أضَرُّ مِن عَداوةِ العَدُوِّ الخارجِ؛ فالنَّصرُ على هذا العدوِّ أهمُّ، والعَبدُ إليه أحوَجُ، وكمالُ النُّصرةِ على العَدُوِّ بحَسَبِ كَمالِ الاعتصامِ باللهِ [1197] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/198). .
6- قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ، والاعتِصامُ به نوعانِ: اعتِصامُ توكُّلٍ واستعانةٍ، وتَفويضٍ ولَجَأٍ وعِياذٍ، وإسلامُ النَّفْسِ إليه، والاستِسلامُ له سُبحانَه. والثاني: اعتِصامٌ بوَحْيِه، وهو تحكيمُه دونَ آراءِ الرِّجالِ ومقاييسِهم ومَعقولاتِهم، وأذواقِهم وكُشوفاتِهم ومَواجيدِهم، فمَن لم يكُنْ كذلك فهو مُنسَلٌّ مِن هذا الاعتصامِ؛ فالدِّينُ كُلُّه في الاعتصامِ به وبحَبلِه؛ عِلمًا وعمَلًا، وإخلاصًا واستِعانةً، ومُتابعةً واستِمرارًا على ذلك إلى يومِ القيامةِ [1198] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/303). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تخصيصُ المُؤمِنينَ بالذِّكرِ لا يدُلُّ على نَفيِ ذلك عمَّا عداهم، بل قد دَلَّت هذه الآيةُ على كَونِهم على التَّخصيصِ مأمورينَ بهذه الأشياءِ، ودَلَّت سائِرُ الآياتِ على كَونِ الكُلِّ مأمورينَ بها. ويُمكِنُ أن يُقالَ: فائِدةُ التَّخصيصِ أنَّه لَمَّا جاء الخِطابُ العامُّ مَرَّةً بعدَ أخرى، ثمَّ إنَّه ما قَبِلَه إلَّا المُؤمِنونَ، خَصَّهم اللهُ تعالى بهذا الخِطابِ؛ لِيَكونَ ذلك كالتَّحريضِ لهم على المُواظَبةِ على قَبولِه، وكالتَّشريفِ لهم في ذلك الإقرارِ والتَّخصيصِ [1199] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/254). .
2- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا دلالةٌ على أنَّ الركوعَ ركنٌ في الصلاةِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بالركوعِ، ومِن المعلومِ أنَّه لا يُشرَعُ لنا أنْ نركعَ ركوعًا مجرَّدًا، وإذا لم يُشرعْ لنا الرُّكوعُ المجرَّدُ وَجَب حَمْلُ الآيةِ على الرُّكوع الذي في الصلاةِ [1200] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/303). .
3- تَضمَّنَ قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ذِكْرَ الواجِباتِ والمُستحبَّاتِ كلِّها؛ توَحيدًا، وصلاةً وزكاةً، وحَجًّا وصِيامًا، فيدخُلُ في قَولِه: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كلُّ واجِبٍ ومُستحَبٍّ، فخَصَّصَ في هذه الآيةِ وعمَّمَ، ثمَّ قال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، فهذه الآيةُ وما بَعْدَها لم تَترُكْ خَيرًا إلَّا جمعَتْه؛ ولا شَرًّا إلَّا نفَتْه [1201] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/266). .
4- إنَّ حَقَّ تُقاتِه وحَقَّ جِهادِه سُبحانَه في قَولِه تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102] ، وقَولِه: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هو ما يُطيقُه كلُّ عَبْدٍ في نَفْسِه، وذلك يختَلِفُ باختِلافِ أحوالِ المكلَّفينَ في القُدرةِ والعَجزِ، والعِلمِ والجَهلِ؛ فحَقُّ التَّقوى وحقُّ الجِهادِ بالنِّسبةِ إلى القادِرِ المتمَكِّنِ العالِم شَيءٌ، وبالنِّسبةِ إلى العاجِزِ الجاهِلِ الضَّعيفِ شَيءٌ، وتأمَّلْ كيف عَقَّبَ الأمرَ بذلك بقَولِه تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، والحَرَجُ: الضِّيقُ، بل جَعَلَه واسِعًا يَسَعُ كلَّ أَحَدٍ [1202] يُنظر: ((زاد المَعاد)) لابن القيم (3/8). !
5- عن الحَسَنِ رَضِي اللهُ عنه: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، قال: (إنَّ الرجُلَ لَيُجاهِدُ في اللَّهِ حقَّ جِهادِه وما ضَرَب بسيفٍ) [1203] يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2506). .
6- قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ قاعِدةٌ شَرعيَّةٌ، وهي أنَّ (المشقَّةَ تَجلِبُ التَّيسيرَ)، و(الضَّروراتُ تُبيحُ المحظوراتِ)، فيَدخُلُ في ذلك مِنَ الأحكامِ الفَرعيَّةِ شَيءٌ كثيرٌ مَعروفٌ في كُتُبِ الأحكامِ [1204] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 546). .
7- قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، ورفعُ الحرَجِ إنَّما هو لِمَنِ استقامَ على مِنهاجِ الشَّرْعِ، وأمَّا السَّلَّابَةُ وَالسُّرَّاقُ وأصحابُ الحُدودِ فعليهم الحَرَجُ، وهم جاعِلوه على أنفسِهم بمُفارَقَتِهم الدِّينَ [1205] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/101). .
8- قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، فقد أخبَرَ أنَّه ما جَعَلَ علينا في الدِّينِ مِن حَرَجٍ، ونفاه نفيًا عامًّا مؤكَّدًا، فمَنِ اعتقدَ أنَّ فيما أمَرَ اللهُ به مِثقالَ ذرَّةٍ مِن حَرَجٍ، فقد كَذَّبَ اللهَ ورَسولَه، فكيف بمَن اعتقدَ أنَّ المأمورَ به قد يكونُ فَسادًا وضَررًا لا مَنفعةَ فيه ولا مَصلحةَ لنا؟! ولهذا لَمَّا لم يكُنْ فيما أمَرَ اللهُ ورَسولُه حَرَجٌ علينا، لم يكُنِ الحَرَجُ من ذلك إلَّا مِن النَّفاقِ، كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] ، وقال الله تعالى فيما أمَرَ به مِن الصِّيامِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، فإذا كان لا يُريدُ فيما أمَرَنا به ما يَعسُرُ علينا، فكيف يريدُ ما يكونُ ضَررًا وفَسادًا لنا بما أمَرَنا به إذا أطعناه فيه [1206] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/370). !!
9- قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فيه بيانُ أنَّ هذه الحنيفِيَّةَ السَّمحةَ الَّتي جاءَ بها نبيُّنا مُحَمَّدٌ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّم، أنَّها مَبْنِيَّةٌ على التَّخفيفِ والتَّيسيرِ، لا على الضِّيقِ والحرجِ، وقد رَفَعَ اللَّهُ فيها الآصارَ والأغلالَ الَّتي كانت على مَنْ قبْلَنا. وهذا المعنَى الَّذي تَضَمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمَةُ ذَكَره -جَلَّ وعَلا- في غيرِ هذا الموضعِ؛ كقولِه تعالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، وقولِه: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [1207] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/300). [النساء: 28].
10- قَولُ اللهِ تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ المقصودُ مِن ذِكرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ التَّنبيهُ على أنَّ هذه التَّكاليفَ والشَّرائِعَ هي شَريعتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والعَرَبُ كانوا مُحبِّينَ لإبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّهم مِن أولادِه، فكان التَّنبيهُ على ذلك كالسَّبَبِ لصَيرورتِهم مُنقادينَ لِقَبولِ هذا الدِّينِ [1208] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/256). .
11- في قوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ دَلالةٌ على أنَّ اسمَ «الآباءِ» يَشمَلُ الأجدادَ؛ وإنْ عَلَوا [1209] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (12/119). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ فيه سؤالٌ: أنَّ هذا يقتَضي أن تكونَ مِلَّةُ مُحمَّدٍ كمِلَّةِ إبراهيمَ -عليهما السَّلامُ- سواءً، فيكونَ الرَّسولُ ليس له شَرعٌ مَخصوصٌ، ويؤكِّدُه قَولُه تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النحل: 123] ؟
 والجوابُ: أنَّ هذا الكلامَ إنَّما وَقَع مع عَبَدةِ الأوثانِ، فكأنَّه تعالى قال: عبادةُ اللهِ وتَرْكُ الأوثانِ هي مِلَّةُ إبراهيمَ، فأمَّا تفاصيلُ الشَّرائعِ فلا تعَلُّقَ لها بهذا الموضِعِ [1210] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/256). .
 وقيل: إنَّ الإسلامَ احْتَوى على دِينِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَعلومٌ أنَّ للإسلامِ أحكامًا كثيرةً، ولكنَّه لَمَّا اشتمَلَ على ما لم يَشتمِلْ عليه غيرُه مِن الشَّرائعِ الأُخرى مِن دِينِ إبراهيمَ، جُعِلَ كأنَّه عَينُ مِلَّةِ إبراهيمَ [1211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/350، 351). قال ابن عاشور: (فعلى هذا الاعتبارِ يكونُ انتصابُ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ على الحالِ مِن الدِّينِ باعتبارِ أَنَّ الإسلامَ حَوَى مِلَّةَ إبراهيمَ) ((تفسير ابن عاشور)) (17/350). .
13- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ أُخِذَ منه ما يدُلُّ على أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ [1212] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/257) و (4/88). .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فيه دليلٌ على أنَّ شهادةَ غيرِ المسلمِ ليسَتْ مقبولةً [1213] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/103)، ((تفسير الشربيني)) (2/569). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث خُتِمَتِ السُّورة بالإقبالِ على خِطابِ المُؤمنينَ بما يُصلِحُ أعْمالَهم، ويُنَوِّهُ بشأْنِهم، بعْدَ استيفاءِ ما سِيقَ إلى المُشرِكينَ من الحُجَجِ والقوارِعِ والنِّداءِ على مَساوي أعمالِهم، حيث كان خِطابُ المُشرِكين فاتِحًا لهذه السُّورة، وشاغِلًا لمُعْظَمِها، عدا ما وقَعَ اعتراضًا في خلالِ ذلك، فقد خُوطِبَ المُشرِكون بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أربَعَ مرَّاتٍ. وفي هذا التَّرتيبِ إيماءٌ إلى أنَّ الاشتغالَ بإصلاحِ الاعتقادِ مُقدَّمٌ على الاشتغالِ بإصلاحِ الأعمالِ [1214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/345، 346). .
- قولُه: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فيه حُسْنُ تَرتيبٍ؛ حيث يَظهَرُ في هذا التَّرتيبِ أنَّهم أُمِرُوا أوَّلًا بالصَّلاةِ، وهي نَوعٌ من العِبادةِ، وثانِيًا بالعِبادةِ، وهي نَوعٌ من فِعْلِ الخيرِ، وثالِثًا بفِعْلِ الخيرِ، وهو أعَمُّ من العِبادةِ؛ فبدَأَ بخاصٍّ، ثمَّ بعامٍّ، ثمَّ بأعمَّ [1215] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/172)، ((تفسير أبي حيان)) (7/539). . وتَخصيصُ الصَّلاةِ بالذِّكْرِ قبْلَ الأمْرِ ببقيَّةِ العِباداتِ المَشمولةِ بقولِه: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ: تَنبيهٌ على أنَّ الصَّلاةَ عِمادُ الدِّينِ [1216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/346). .
2- قوله تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
- قولُه: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ كان القِياسُ أنْ يُقالَ: (حَقَّ الجِهادِ فيه)، أو: (حَقَّ جِهادِكم فيه)؛ ووَجْهُ العُدولِ عن ذلك: أنَّ الإضافةَ تكونُ بأدْنى مُلابَسةٍ واختصاصٍ؛ فلمَّا كان الجِهادُ مُخْتَصًّا باللهِ، من حيث إنَّه مَفعولٌ لِوَجْهِه ومِن أجْلِه؛ صَحَّتْ إضافَتُه إليه، فقال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [1217] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/173)، ((تفسير أبي حيان)) (7/539)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/348). . أو التَّقديرُ: جِهادًا فيه حَقًّا خالِصًا لِوَجْهِه؛ فعُكِسَ، وأُضِيفَ الحَقُّ إلى الجِهادِ؛ مُبالَغةً [1218] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/80)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/536)، ((تفسير أبي السعود)) (6/122). .
- وجُملةُ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ إنْ حُمِلَتْ على أنَّها واقعةٌ مَوقِعَ العِلَّةِ لِمَا أُمِرُوا به، ابتداءً مِن قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا... [الحج: 77] إلخ، أي: لأنَّه لَمَّا اجْتَباكم، كان حَقيقًا بالشُّكرِ له بتلك الخِصالِ المأْمورِ بها، أي: هو اختارَكم لِتَلقِّي دِينِه ونَشْرِه ونَصْرِه على مُعانديهِ، فيَظهَرُ أنَّ هذا مُوجَّهٌ لأصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصالةً، ويُشارِكُهم فيه كلُّ مَن جاء بَعْدهم بحُكْمِ اتِّحادِ الوَصفِ في الأجيالِ، كما هو الشَّأنُ في مُخاطَباتِ التَّشريعِ. وإنْ حُمِلَ قولُه: هُوَ اجْتَبَاكُمْ على معنى التَّفضيلِ على الأُمَمِ، كان مَلحوظًا فيه تَفضيلُ مَجموعِ الأُمَّةِ على مَجْموعِ الأُمَمِ السَّابقةِ، الرَّاجِعِ إلى تَفضيلِ كلِّ طَبقةٍ مِن هذه الأُمَّةِ على الطَّبقةِ المُماثِلَةِ لها مِن الأُمَمِ السَّالفةِ. وأُعْقِبَ ذلك بتَفضيلِ هذا الدِّينِ المُستتبِعِ تَفضيلَ أهْلِه بأنْ جعَلَه دِينًا لا حرَجَ فيه؛ لأنَّ ذلك يُسهِّلُ العمَلَ به، مع حُصولِ مَقْصدِ الشَّريعةِ مِن العمَلِ، فيَسعَدُ أهْلُه بسُهولةِ امتثالِه [1219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/349). .
- ولَفظةُ (هو) في قولِه: هُوَ اجْتَبَاكُمْ فيها تَفخيمٌ واختصاصٌ [1220] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/539). . والجملةُ فيها تأكيدٌ للأمرِ بالمجاهدةِ، أي: وجَب عليكم أن تُجاهِدوا؛ لأنَّ الله اختاركم له [1221] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/100). .
- وقولُه: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ عِلَّةٌ لِرَفْعِ الحرَجِ عن هذه الأُمَّةِ المرحومةِ [1222] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/538). .
- قولُه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ فيه زِيادةٌ في التَّنويهِ بهذا الدِّينِ، وتَحضيضٌ على الأخْذِ به، بأنَّه اخْتُصَّ بأنَّه دِينٌ جاء به رسولانِ: إبراهيمُ، ومحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهما وسلَّمَ، وهذا لم يَستتِبَّ لِدِينٍ آخَرَ، فمحملُ الكلامِ أنَّ هذا الدِّينَ دينُ إبراهيمَ، أيْ: أنَّ الإسلامَ احْتَوى على دينِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهذا على قولٍ في التفسيرِ.
ثمَّ إنْ كان الخِطابُ مُوجَّهًا إلى الَّذين صَحِبوا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإضافةُ أُبُوَّةِ إبراهيمَ إليهم باعتبارِ غالِبِ الأُمَّةِ يومَئذٍ. وإنْ كان الخِطابُ لِعُمومِ المُسلمينَ، كانت إضافةُ أُبُوَّةِ إبراهيمَ لهم على معنى التَّشبيهِ في الحُرْمةِ واستحقاقِ التَّعظيمِ، كقولِه تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، ولأنَّه أبو النَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومحمَّدٌ له مَقامُ الأُبُوَّةِ للمُسلمينَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على طَريقةِ التَّعظيمِ؛ كأنَّه قال: مِلَّةَ أبيك إبراهيمَ، والضَّميرُ في هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ عائدٌ إلى الجَلالةِ كضَميرِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ؛ فتكون الجُملةُ استئنافًا ثانيًا، أي: هو اجْتَباكم وخَصَّكم بهذا الاسمِ الجليلِ، فلم يُعْطِه غيرَكم، ولا يعودُ إلى إبراهيمَ [1223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/350، 351). ؛ فالقاعدةُ: أنَّ الضمائرَ إذا تعاقبتْ فالأصلُ أنْ يتَّحدَ مَرجعُها؛ فتوحيدُ مرجِعِ الضمائرِ أَوْلَى مِن تَفريقِها؛ فالضمائرُ السابقةُ كلُّها ترجِعُ إلى اللهِ تعالى، وهذا أرجحُ مِن كونِ الضميرِ في الآيةِ يعودُ إلى إبراهيمَ عليه السلامُ باعتبارِ أنَّه أقربُ مذكورٍ [1224] يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/414- 419). .
- قولُه: وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قُدِّمَت شَهادةُ الرَّسولِ للأُمَّةِ هنا، وقُدِّمَت شَهادةُ الأُمَّةِ في سُورةِ (البقرةِ) في قولِه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ هنا في سُورةِ (الحجِّ) في مَقامِ التَّنويهِ بالدِّينِ الَّذي جاء به الرَّسولُ؛ فالرَّسولُ هنا أسبَقُ إلى الحُضورِ؛ فكان ذِكْرُ شَهادتِه أهَمَّ، وأنَّ آيةَ البقرةِ صُدِّرَت بالثَّناءِ على الأُمَّةِ؛ فكان ذِكْرُ شَهادةِ الأُمَّةِ أهَمَّ [1225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/352). .
- قولُه: فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ تَفريعٌ على جُملةِ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وما بَعْدها، أي: فاشْكُروا اللهَ بالدَّوامِ على إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والاعتصامِ باللهِ [1226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/352). . وخَصَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذِّكْرِ؛ لإنافَتِهما وفضْلِهما على غَيرِهما من العِباداتِ [1227] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/122). .
- قولُه: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ جُملةُ: هُوَ مَوْلَاكُمْ مُستأْنفةٌ مُعلِّلةٌ للأمْرِ بالاعتصامِ باللهِ، وفُرِّعَ عليها إنشاءُ الثَّناءِ على اللهِ بأنَّه (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)، أي: نِعْمَ المُدبِّرُ لِشُؤونِكم، ونِعْمَ النَّاصِرُ لكم. والنَّصِيرُ مُبالَغةٌ في النَّصرِ؛ أي: نِعْمَ المولى لكم، ونِعْمَ النَّصيرُ لكم، وهذا الإنشاءُ يَتضمَّنُ تَحقيقَ حُسْنِ ولايةِ اللهِ تعالى وحُسْنِ نَصْرِه، وبذلك الاعتبارِ حَسُنَ تَفريعُه على الأمْرِ بالاعتصامِ به، وهذا مِن بَراعةِ الخِتامِ [1228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/352، 353). .