موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (26- 28)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

غريبُ الكَلِمات:

سُنَنَ: أي: طَرائِقَ ومَناهِجَ، جمْع سُنَّةٍ، وهي الطَّريقةُ المسلوكةُ، والمنهاج المُتَّبع يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 429)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 497- 498)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
تَمِيلُوا مَيْلًا: أي: تَجورُوا جَورًا وتَنحرِفوا انحرافًا، والمَيل: العدولُ عن الوسَط إلى أحدِ الجانبَيْن، وأصلُه: الانحرافُ في الشَّيء إلى جانبٍ منه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/290)، ((المفردات)) للراغب (ص: 783). .

المَعْنى الإجماليُّ:

يخاطِب اللهُ تعالى عباده مخبرًا إيَّاهم أنَّه يُريد بما يأتي به من أحكامٍ وتشريعاتٍ أن يُبيِّنَ لهم ما يحِلُّ لهم، وما يَحْرُمُ عليهم، كما يُريد أن يُرشِدَهم عزَّ وجلَّ إلى الطَّريقة الَّتي كان عليها الأنبياءُ الَّذين كانوا قبلهم، وأتباعُهم، ويريد أنَّ يوفِّقَهم سبحانه وتعالى للتَّوبة ويتقبَّلَها منهم، والله عليمٌ حكيم.
وبمقابل إرادةِ الله للتَّوبةِ على عباده، يريد منهم الَّذين يطلُبونَ لذَّاتِ الدُّنيا، وشهواتِ أنفسهم- مِن الكفرةِ وأهلِ الفِسق- أن يميلوا ميلًا شديدًا من الحقِّ إلى الباطلِ، وعمَّا أحَلَّه اللهُ إلى ما حرَّمه.
واللهُ سبحانه وتعالى يريد التَّيسيرَ على العبادِ فيما يشرَعُه مِن أوامرَ ونواهٍ؛ لعِلْمِه عزَّ وجلَّ بأنَّ الإنسانَ خُلِق ضعيفًا.

تفسير الآيات:

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ المحَرَّماتِ من النساء أخبر أنَّ في ذلك بيانًا وهدًى، حتَّى لا تكونَ شريعةُ هذه الأُمَّةِ دون شرائعِ الأُمَمِ الَّتي قبلها، بل تفُوقُها في انتظامِ أحوالها، يُقصَد منه استئناسُ المؤمنين واستنزالُ نفوسِهم إلى امتثالِ الأحكامِ المتقدِّمةِ من أوَّلِ السُّورة إلى هنا؛ فإنَّها أحكامٌ جمَّةٌ، وأوامرُ ونواهٍ تُفضي إلى خَلعِ عوائدَ ألِفوها، وصَرْفِهم عن شهواتٍ استباحوها، كما أشار إليه قولُه بعد هذا: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ فكان هذا كالاعتذارِ على ما ذُكِر مِن المحرَّماتِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/18). فقال تعالى:
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ
أي: يُريد اللهُ تعالى أن يبيِّنَ لكم ما أحَلَّ لكم، وما حرَّم عليكم، ممَّا تقدَّم ذِكرُه في هذه السُّورة وغيرِها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/619)، ((تفسير ابن كثير)) (2/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/237-238). .
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
أي: ويريدُ الله تعالى أن يُرشدَكم إلى سُبل مَن قَبلكم مِن الَّذين أنعَم اللهُ عليهم من النَّبيِّين وأتباعِهم، ويوفِّقَكم لتسلكوا طرائقَهم الحميدةَ، وتتَّبِعوا شرائعَه الَّتي يُحبُّها ويرضاها سبحانه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/619)، ((تفسير ابن كثير)) (2/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/238-239). .
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ
أي: ويريد اللهُ عزَّ وجلَّ أن يوفِّقَكم للتَّوْبةِ إليه ويقبَلَها منكم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/239). .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو علمٍ بكلِّ شيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما يُصْلِح عبادَه في دِينهم ودنياهم، ومن ذلك هذه الأحكامُ والحدودُ الَّتي علَّمهم إيَّاها.
وهو ذو الحِكمة، الَّذي مِن حكمتِه هذه الأحكامُ الَّتي شرَعها لعباده، ومن حكمته أنَّه يتوب على مَن اقتضَتْ حكمتُه ورحمتُه التَّوبةَ عليه، ويخذُلُ مَن اقتضَتْ حكمتُه وعدلُه مَن لا يصلُحُ للتَّوبة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/619)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/240). .
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ يريد أن يوفِّقَكم للتَّوْبةِ إليه ويقبَلَها منكم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/239). .
وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا
أي: ويريد الَّذين يطلُبون لذَّاتِ الدُّنيا وشهواتِ أنفسِهم فيها، مِن أهل الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، أن تَميلوا ميلًا شديدًا من الحقِّ إلى الباطلِ، وممَّا أحلَّ اللهُ تعالى لكم إلى ما حرَّم عليكم، فتكونوا أمثالَهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/621-624)، ((تفسير ابن كثير)) (2/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/245). .
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أعقَب الاعتذارَ الَّذي تقدَّم بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء: 26] بالتَّذكير بأنَّ اللهَ لا يزال مراعيًا رِفقَه بهذه الأمَّة، وإرادتَه بها اليُسرَ دون العُسرِ، إشارةً إلى أنَّ هذا الدِّين بيَّن حِفظَ المصالح ودَرْءَ المفاسد، في أيسرِ كيفيَّةٍ وأرفَقِها، فربَّما ألغت الشَّريعةُ بعضَ المفاسِدِ إذا كان في الحَملِ على تركِها مشقَّةٌ أو تعطيلُ مصلحةٍ، كما ألغت مفاسدَ نكاحِ الإماء نظرًا للمشقَّةِ على غيرِ ذي الطَّول يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/22). .
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
أي: يريد اللهُ عزَّ وجلَّ أن ييسِّرَ عليكم في أوامرِه ونواهيه، ومن ذلك إباحتُه نكاحَ الإماءِ بشروط يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/624)، ((تفسير ابن كثير)) (2/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/246). .
وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا
أي: خفَّف اللهُ تعالى عنكم؛ لعِلْمِه بضَعف الإنسانِ في نفسِه، وبَدَنه، وضَعْف عَزمه، وهِمَّته، وصَبْره يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/624)، ((تفسير ابن كثير)) (2/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/247). .

الفوائد التربوية:

1- مراقبة اللهِ في السِّرِّ والعلانية، وتؤخذ مِن ثبوت صفةِ العِلم؛ لأنَّك متى علمتَ أنَّ اللهَ عالمٌ بك، فإنَّ ذلك يُوجِبُ لك مراقبةَ اللهِ سبحانه؛ فلا يَفْقِدُك حيث أمَرك، ولا يَجِدُك حيث نهاك، قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/244). .
2- في قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إثباتُ اسمِ الله «الحكيم» وصِفةِ الحكمةِ له: الذي يجعل الإنسان مقتنعًا بما يُجري اللهُ عزَّ وجلَّ من حُكمٍ شرعيٍّ وحُكم كونيٍّ، وجهُ ذلك: أنَّ ما يُجريه اللهُ عزَّ وجلَّ من الأحكام مقرونٌ بالحِكْمة، وإذا علِمْتَ ذلك اقتنعْتَ، سواءٌ كان هذا في الأحكامِ الكونيَّةِ، أو في الأحكام الشَّرعيةِ، حتَّى المصائبُ الَّتي تنالُ العبادَ لا شكَّ أنَّ لها حِكمةً ينبغي أن يقتنعَ الإنسانُ بوجودِها، ولا يَعترِضَ على اللهِ تعالى بها يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/244). .
3- الحَذَرُ من الَّذين يتَّبِعون الشَّهوات؛ لأنَّهم يريدون منَّا أن نَميل ميلًا عظيمًا، والشَّهواتُ قد تكونُ شهوةَ بطنٍ وفَرْجٍ، وقد تكون شهوةَ فِكرٍ وقَلْب، وكِلا الأمرين مرادٌ هنا، قال تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/248). .
4- قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا فيه الحَذَر مِن أهل البِدَع؛ لأنَّ أهلَ البِدَع ينقسمون إلى قِسْمين: قسمٍ عندهم شبهاتٌ، وقسمٍ عندهم شهواتٌ؛ فالجاهلُ منهم عنده شبهاتٌ حتَّى يلتبسَ عليه الحقُّ بالباطِلِ، والعالِم منهم عنده شهواتٌ؛ فهو يريد ما لا يريدُ اللهُ ورسولُه، ففي الآية التَّحذيرُ من هؤلاء وهؤلاء يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/248). .
5- في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ إشارةٌ إلى انحطاط مرتبةِ الَّذين يتَّبِعون الشَّهواتِ؛ حيث جعَلهم اللهُ أتباعًا تقُودُهم الشَّهواتُ، ومن الذُّلِّ أن يكونَ الإنسانُ تابعًا للشَّهوات؛ لأنَّ العزَّة أن يكونَ الإنسانُ متبوعًا، فإذا كان تابعًا فمعناه أنَّ شهواتِه ملَكَتْه حتَّى صار تابعًا، وكأنَّه مجبَرٌ على ذلك يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/248). .
6- أنَّ إرادةَ المتَّبِعين للشَّهواتِ بنا لا تقتصِرُ على أدنى مَيْلٍ، وتؤخَذُ من قوله: أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، فإذا كان كذلك فإنَّنا إذا مِلْنا قليلًا تابَعوا حتَّى نميلَ ميلًا عظيمًا، نسأل اللهَ السَّلامةَ! يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/248). .
7- أنَّ الإنسانَ ينبغي له إذا شمَخَتْ به نفسُه وعلا أنفُه أن يذكُرَ حقيقةَ نفسِه، وهي الضَّعفُ، حتَّى لا يطغَى؛ لقوله: وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/249). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- سَعةُ رحمةِ الله عزَّ وجلَّ بعباده؛ حيث أراد أن يبيِّنَ لهم؛ لأنَّ مِن لُطفِه وكرَمِه ألَّا يدَعَ النَّاسَ على جهلِهم؛ قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ؛ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/240). .
2- أنَّه ليس في الشَّرع شيءٌ مجهولٌ لكلِّ أحدٍ؛ لقوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ؛ فالشَّرعُ لا يُمكِنُ أن يكونَ خفيًّا على كلِّ أحدٍ، لكنَّه يخفى على الإنسانِ لأسباب: إمَّا قلَّة العِلم، وإمَّا قصورُ الفَهم، وإمَّا التَّقصيرُ في الطَّلب، وإمَّا سوءُ القصد، فهذه أربعةُ أسبابٍ لخفاءِ الحُكم الشَّرعيِّ على الإنسانِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/240). .
3- كمالُ هذه الأمَّةِ وشريعتِها؛ لقوله: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فما من خيرٍ كانت عليه الأُممُ إلَّا ولهذه الأمَّةِ منه نصيبٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/243). .
4- في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْأنَّ اليُسرَ أحبُّ إلى اللهِ من العُسرِ؛ لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ففيه الحثُّ على اتِّباعِ رُخَصِ اللهِ؛ لأنَّ الرُّخَصَ من التَّيسيرِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/249). .
5- أنَّه إذا تعارَضَتِ الأدلَّةُ عند المستدِلِّ بين التَّيسيرِ والتَّعسيرِ، فالْأَوْلى أن يؤخَذَ بالتَّيسيرِ؛ لأنَّ هذا هو مرادُ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/249). .
6- الإشارةُ إلى العلَّة بإرادةِ التَّخفيفِ على العبادِ، وهي قوله: وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/249). .
7- أنَّ ما كان مكروهًا للعبدِ، فإنَّ الله يُعبِّرُ عنه بالبناءِ للمفعولِ: وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ولم يقُلْ: خلَق اللهُ، مع أنَّ ذِكرَ اللهِ واردٌ في الجملة الَّتي قبلها، ويؤيِّد هذا قولُ الجِنِّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] ، ويؤيِّده أيضًا ما في سورة الفاتحة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فأضاف النِّعمةَ إلى اللهِ، وقال في الغضَب: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، ولم يقُلِ: الَّذين غضِبْتَ عليهم، مع أنَّ أوَّلَ مَن غضِب عليهم هو اللهُ عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/249). .  

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ: تذييلٌ قُصِد منه استئناسُ المؤمنين، واستنزالُ نفوسِهم إلى امتثالِ الأحكامِ المتقدِّمة من أوَّلِ السُّورةِ إلى هنا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/18-19). .
- وهو استئنافٌ مسُوقٌ لتقريرِ ما سبَق من الأحكام، وبيان كونها جاريةً على مناهجِ المهتدينَ من الأنبياءِ والصَّالحين يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/168). .
- وعبَّر بصيغةِ المضارعِ هنا يُرِيدُ؛ للدَّلالةِ على تجدُّدِ البيانِ واستمرارِه؛ فإنَّ هذه التَّشريعاتِ دائمةٌ مستمرَّةٌ، فيكون بيانًا للمخاطَبينَ ولِمَن جاء بعدَهم، وللدَّلالةِ على أنَّ الله يُبقي بعدها بيانًا متعاقبًا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/18-19). .
- وزِيدت اللَّامُ في قوله: لِيُبَيِّنَ؛ للتَّأكيدِ على إرادةِ التَّبيينِ، وكذلك لتأكيدِ معنى الاستقبال اللَّازم للإرادة يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/501)، ((تفسير البيضاوي)) (2/70)، ((تفسير أبي السعود)) (2/168). .
2- قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: فيه مبالغةٌ في الوصْفِ بالعِلم بالأشياء، الَّتي مِن جملتِها ما شرَع لكم من الأحكامِ، كما فيه مبالغةٌ في وصْفِه بمراعاةِ الحِكمةِ والمصلحة في جميعِ أفعالِه سبحانه يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/168- 169). ، مع ما في جمْعِ الوصفينِ من الكَمالِ والمبالغةِ كذلك.
 3- قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ: جملةٌ مسُوقةٌ لبيانِ كمالِ منفعةِ ما أراده اللهُ تعالى، وكمالِ مَضرَّةِ ما يريد الفجرةُ، لا لبيانِ إراداتِه تعالى لتوبتِه عليهم؛ حتَّى يكونَ مِن بابِ التَّكريرِ للتقريرِ؛ ولذلك غيَّر الأسلوبَ إلى الجملةِ الاسميَّة؛ للدَّلالةِ على دوامِ الإرادةِ يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/70)، ((تفسير أبي السعود)) (2/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/20). .
- وقد كرَّر قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ؛ للتَّأكيدِ والمبالغةِ يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/70)، ((تفسير أبي السعود)) (2/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/20). ، وما في ذلك من سرور المؤمنين وزيادة نشاطِهم في التَّعرُّضِ لتوبة الله عزَّ وجلَّ، وأيضًا توطئةً وتمهيدًا لقوله: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ...، والمعنى أنَّ اللهَ له هذه الإرادةُ، وللَّذين يتَّبِعون الشَّهواتِ تلك الإرادةُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النِّساء)) (1/245). ، وقيل: ليس هذا بتأكيدٍ لفظيٍّ، وهذا كما يُعادُ اللَّفظُ في الجزاء والصِّفةِ ونحوهما يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/20). .
4- قوله: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مسُوقٌ لتقريرِ ما قبله من التَّخفيفِ بالرُّخصةِ في نكاحِ الإماء، وليس لضعفِ البِنية مدخلٌ في ذلك، وإنَّما الَّذي يتعلَّقُ به التَّخفيفُ في العبادات الشَّاقَّة يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/169). ، ففيه إظهارٌ لمزيَّةِ هذا الدِّينِ، وأنَّه أليقُ الأديانِ بالنَّاسِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ولذلك فما مضى من الأديانِ كان مُراعًى فيه حالٌ دون حالٍ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/22). .
وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به؛ فإنَّ الخالقَ هو الله عزَّ وجلَّ، وذلك معلومٌ بالضَّرورةِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/249). .
- وقوله: ضَعِيفًا فيه التَّعبيرُ باسمِ ما يؤولُ إليه، أو باسْمِ أصلِه يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/607). .