موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (29- 31)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريبُ الكَلِمات:

نُصْلِيهِ نَارًا: نُدخِله فيها، ونَشويه بها؛ يقال: صَلَى النارَ، أي: دخَل فيها، وأصلُ (الصَّلَى): الإيقادُ بالنَّار .
نُكَفِّرْ: أي: نَغْفِر، ونَمحُ، ونستُر، وأصْل الكَفْر في اللُّغة: سَتْر الشَّيءِ وتَغطيتُه .

مشكل الإعراب:

- قَوْله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
تِجَارَةً: قُرِئت بالنَّصب، وبالرَّفْع؛ فعلى قِراءة النَّصبِ يكون قوله: تِجَارَةً خبرَ تَكُونَ، ويكون اسم تَكُونَ مُضمرًا فيها، تَقْدِيره: إِلَّا أنْ تكون الأموالُ أموالَ تِجَارَةٍ، ثمَّ حذف المُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إليه مقَامه، وَقيل: تَقْدِيره إِلَّا أنْ تكون التِّجَارَةُ تِجَارَةً، وَالتَّقْدِير الأوَّل أحسن؛ لتقدُّم ذِكرِ الْأَمْوَال. وأمَّا على قِراءة الرفع، فيكون قوله: تَجِارَة فاعلًا، بَجَعْل تَكُون تَامَّة بِمَعْنى يَقَع، ومثلُ قولِه: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً قَولُه: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً فِي النَّصب والرفع. والاستثناءُ هنا منقطِعٌ لوجهينِ؛ أحدُهما: أنَّ التِّجارةَ لم تندَرِجْ في الأموالِ المأكولةِ بالباطلِ حتى يُستثنَى عنها، والثاني: أنَّ المُسْتَثنى كَوْنٌ، والكونُ ليس مالًا من الأموالِ .

المَعْنى الإجماليُّ:

ينهى اللهُ المؤمنين أن يأخذ بعضُهم أموالَ بعضٍ بغيرِ حقٍّ، لكنْ إن كان ما يأخُذُه بعضُهم من بعضٍ عن طريقِ التِّجارةِ المبنيَّة على رضا المتبايِعَيْن، فذلك حلالٌ لهم، كما ينهاهم سبحانه عن أن يقتُلَ أحدُهم نفسَه، أو يقتُل أخاه في الدِّين، إنَّه سبحانه كان بهم رحيمًا.
ثمَّ توعَّد سبحانه مَن يأخُذ أموالَ النَّاس بالباطلِ، ويقتُلُ الأنفُسَ الَّتي حرَّمها الله تعالى بغير حقٍّ، متجاوزًا حدودَ الله عن قصدٍ وعلمٍ بكونه محرَّمًا، بأنه سيُحرِقه سبحانه بنارٍ يُدْخِله فيها، وكان ذلك أمرًا سهلًا على الله.
ثمَّ يخاطِبُ اللهُ عباده: أنَّهم إن يبتعدوا عن الوقوع في كبائر السَّيِّئاتِ الَّتي نهى عنها، فإنَّ الله سيتجاوزُ عمَّا يصدُرُ منهم من صغائرِها، ويُدخِلُهم الجنَّةَ دارَ كرامَتِه.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ الله سبحانه وتعالى لَمَّا بيَّن كيفيَّةَ التَّصرُّف في النُّفوسِ بالنِّكاحِ، بيَّن كيفيَّةَ التَّصرُّفِ في الأموالِ المُوصِلَةِ إلى النِّكاح، وإلى مِلْكِ اليمينِ، وأنَّ المهورَ والأثمانَ المبذولةَ في ذلك لا تكونُ ممَّا مُلِكَت بالباطِلِ .
أو أنه لَمَّا كان غالبُ ما مضى من السُّورة في معاملةِ اليتامى والأقارب والنِّساء، وسائر النَّاس، من أحكامٍ في المواريثِ والنِّكاحِ وما يُفرَض للنساء وما يجب مِن إيتائِهنَّ أجورَهنَّ ومن أوامرَ بإيتاءِ ذي الحقِّ في المال حقَّه إلى غير ذلك، وكان مدارُ الكلامِ في تلك المعاملات على المال، وبعد ذِكرِ تلك الأنواعِ من الحقوقِ الماليَّةِ ذكَرَ قاعدةً عامَّةً للتَّعاملِ الماليِّ وتشريعًا عامًّا في الأموال والأنفُسِ فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، لا يأخُذْ بعضُكم أموالَ بعضٍ بغيرِ حقٍّ، من وسائلِ الكَسْبِ المحرَّمةِ؛ كالرِّبا والقِمارِ، وغيرِ ذلك من الأمور الَّتي نهاكم اللهُ عزَّ وجلَّ عنها .
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ
أي: لكنْ إن كان هذا المالُ الَّذي يأخذُه بعضُكم من بعضٍ، إنَّما يؤخَذُ بسببِ تجارةٍ صادرةٍ عن رضًا بين المتبايِعَيْنِ منكم، فذلك حلالٌ لكم .
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
مناسبتها لما قبلها
أنَّ المال لَمَّا كان عديلَ الرُّوح، ونهى عن إتلافِه بالباطلِ، نهى عن إتلافِ النَّفسِ؛ لكونِ أكثرِ إتلافِهم لهما بالغارات لنَهْبِ الأموالِ، وما كان بسببها أو تسبيبها، على أنَّ مَن أُكِل مالُه ثارت نفسُه، فأدَّى ذلك إلى الفِتَن الَّتي ربَّما كان آخرَها القتلُ، فكان النَّهيُ عن ذلك أنسبَ شيءٍ لِما بُنِيَتْ عليه السُّورةُ من التَّعاطُفِ والتَّواصلِ .
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
أي: لا يقتُلْ أحدُكم نفسَه الَّتي بين جنبيه، ولا يُلقِ بنفسه إلى التَّهلُكة، بفعلِ ما يُفضي إلى التَّلَف، ولا يقتُلْ أيضًا أخاه في الدِّين، (فمن قتَل غيرَه من إخوانِه في الدِّين، فكأنَّما قتَل نفسَه؛ لأنَّهم أهلُ دِينٍ واحدٍ) .
فعن ثابت بن الضَّحَّاكِ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((... ومَن قَتلَ نفسَهُ بشيءٍ في الدُّنيا، عُذِّبَ بِه يومَ القيامةِ )) .
وعن أبي هريرة رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَنْ قتَلَ نفسَهُ بحديدَةٍ، فحديدتُهُ في يدِهِ يتوَجَّأُ بها في بطنِهِ في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَنْ شرِبَ سَمًّا فقتَلَ نَفْسَهُ، فهو يتحسَّاهُ في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جبَلٍ فقتَلَ نفسَهُ، فهو يتردَّى في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا )) .
وعن جُندُبِ بنِ عبد الله رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جرحٌ، فجَزِع، فأخَذ سِكِّينًا فحزَّ بها يدَه، فما رقأ الدَّمُ حتَّى مات، قال اللهُ تعالى: بادَرني عبدي بنفسِه، حرَّمتُ عليه الجنَّةَ )) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو رحمةٍ بكم أيُّها العبادُ، ومن رحمتِه سبحانه بِكُم: أنْ نهاكم عن قتلِ نفوسِكم، وعن إتيانِ ما فيه هلاكُها، ومن رحمتِه أيضًا: أنْ حرَّم دماءَ بعضِكم على بعضٍ إلَّا بحقِّها, وحظَر أَخْذَ أموالِ بعضِكم من بعضٍ بالباطل, إلَّا عن تجارةٍ برضًا وطِيبِ نفسٍ, ولولا ذلك لهلَكْتم، ولأهلَك بعضُكم بعضًا، قتلًا وسلبًا وغصبًا .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا
أي: إنَّ مَن يأكُل أموالَ النَّاس بالباطل، ويقتُل النُّفوسَ الَّتي حرَّم اللهُ تعالى قتلها بغير حقٍّ، متجاوزًا بذلك حدودَ الله تعالى إلى ما حرَّمه، ومتجاسرًا على انتهاكِ ذلك، عن قصدٍ وعلمٍ بتحريمِه، لا عن جهلٍ أو نسيانٍ .
فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا
أي: فسوف ندخِلُه نارًا عظيمةً تُحرِقه .
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
أي: إنَّ إدخالَه النَّارَ وإحراقَه بها، أمرٌ سهلٌ على الله تعالى، لا يمتنعُ عليه .
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى الوعيدَ على فِعلِ بعضِ الكبائر، ذكَر الوعدَ على اجتنابِ الكبائر تبشيرًا للمُجتنب، كأنَّ قائلًا قال عن الوعيدِ المذكور: هذا للفاعل، فما للمُجتنِبِ؟ فقال على وجهٍ عامٍّ :
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
أي: إذا ابتعدْتُم عن كبائرِ السَّيِّئاتِ الَّتي نُهِيتم عنها .
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
أي: فإنَّ اللهَ تعالى يتجاوَزُ لكم عن صغائرِها .
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا
أي: ونُدخِلْكم الجنَّةَ .

الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ أضاف الأموالَ إلى الجميعِ، فلم يقُلْ: لا يأكُلْ بعضُكم مالَ بعضٍ؛ للتَّنبيهِ على تكافُلِ الأمَّةِ في حقوقِها ومصالحِها، كأنَّه يقولُ: إنَّ مالَ كلِّ واحد منكم هو مالُ أمَّتِكم، فإذا استباح أحدُكم أن يأكُلَ مالَ الآخَرِ بالباطل، كان كأنَّه أباح لغيرِه أكلَ مالِه وهَضْمَ حقوقِه; لأنَّ المرءَ يُدانُ كما يَدِينُ .
2- وممَّا يُستفادُ أيضًا من إضافةِ الأموالِ للجميع في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ أنَّ صاحبَ المالِ الحائزَ له يجبُ عليه بذلُه- أو البذلُ منه- للمحتاجِ، فكما لا يجوزُ للمحتاج أن يأخُذَ شيئًا من مالِ غيرِه بالباطل- كالسَّرقةِ والغَصْبِ- لا يجوزُ لصاحبِ المال أن يبخَلَ عليه بما يحتاجُ إليه .
3- أنَّ مِن مقتضى الإيمانِ تجنُّبَ أكلِ المالِ بالباطل؛ لأنَّه وجَّه الخطابَ إلى المؤمنين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ .
4- أنَّ الله عزَّ وجلَّ أرحمُ بالإنسانِ من نفسِه؛ لأنَّه نهاه أن يقتُلَ نفسَه، فصار أرحَمَ به مِن نفسِه، قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- في قوله تعالى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ تحريمُ التَّعامُلِ المحرَّمِ ولو كان برِضًا من الطَّرَفينِ؛ لأنَّ التَّعاملَ المحرَّمَ أكلٌ للمالِ بالباطل، وعلى هذا فلو تراضى الطَّرفانِ على تعامُلٍ رِبويٍّ فإنَّ ذلك محرَّمٌ .
2- ويؤخَذُ من قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ أنَّه تنعقِدُ العقودُ بما دلَّ عليها من قولٍ أو فِعل؛ لأنَّ اللهَ شرَط الرِّضا، فبأيِّ طريقٍ حصَل الرِّضا انعقَد به العقدُ .
3- في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً: خصَّ التِّجارة بالذِّكرِ؛ لأنَّ أسبابَ الرِّزق أكثرُها متعلِّقٌ بها .
4- أنَّ فِعلَ المنهيَّاتِ المذكورةِ في الآية من كبائر الذُّنوب؛ لأنَّه تُوُعِّدَ عليه بالنَّارِ، فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وكلُّ ذنْبٍ تُوُعِّدَ عليه بالنَّارِ فهو من كبائرِ الذُّنوب .
5- دلَّتْ إضافةُ كبائر إلى ما تُنهَون عنه على أنَّ المنهيَّاتِ قسمان: كبائر، ودونها، وهي الَّتي تُسمَّى الصَّغائر، وصفًا بطريق المقابلة، وقد سُمِّيت هنا سيِّئات .
6- قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ فيه تفاضُلُ النَّاسِ في الإيمانِ، وجهُه: أنَّ الإيمانَ يزدادُ بزيادة العملِ كَمِّيَّةً أو كيفيَّة أو نوعًا، وهنا قسَّم اللهُ المعاصيَ إلى قسمينِ، وكلَّما كان الإنسانُ في معصيةٍ أشدَّ، كان إيمانُه أنقَصَ وأقلَّ، فيؤخَذُ منه أنَّ الإيمانَ يزيدُ وينقُصُ، وهذا هو الَّذي عليه جمهورُ أهلِ السُّنَّة، بدليلِ الكتاب والسُّنَّةِ والواقع .
7- أنَّ الصَّغائرَ تقعُ مُكفَّرةً باجتنابِ الكبائرِ؛ لقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، أي: فإن لم يَجتنِبِ الكبائرَ أُخِذَ بالصَّغائرِ، لكنَّ الكبائرَ والصَّغائرَ تحت المشيئة ما لم تكُنْ كفرًا .
8- قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ فيه سَعةُ فَضلِ الله سبحانه؛ وذلك بتكفير السَّيِّئاتِ باجتنابِ كبائرِ الذُّنوب، وإلَّا لو جازى النَّاسَ بالعدل لعاقَبهم على الصَّغائر وعلى الكبائرِ، كلٌّ منها بحسَبِه؛ فالكبائرُ عقوبتُها شديدةٌ، والصَّغائرُ دون ذلك، ولكن مِن فَضْله عزَّ وجلَّ جعَل الصَّغائرَ مُكفَّرةً باجتنابِ الكبائرِ .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: فيه تصديرُ الخِطاب بالنِّداءِ والتَّنبيهِ بـيَا أَيُّهَا؛ لإظهارِ كمال العناية بمَضمونِه ، مع ما في وصْفِ الإيمانِ من التَّرغيبِ في الامتثالِ اللَّائقِ بأهلِ هذا الوَصْفِ.
2- قوله: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ: خصَّ الأكلَ ها هنا بالذِّكرِ، وإنْ كانت سائرُ التَّصرُّفات الواقعةِ على الوجه الباطل محرَّمةً؛ لأنَّ المقصودَ الأعظمَ من الأموال: الأكلُ؛ إذ إنَّ الأكلَ يعبَّرُ عنه في الانتفاعِ بالشَّيء انتفاعًا تامًّا، لا يعود معه إلى الغير؛ فأكلُ الأموالِ هو الاستيلاءُ عليها بنيَّةِ عدمِ إرجاعها لأربابها، وغالب هذا المعنى أن يكونَ استيلاءَ ظُلمٍ، وقد يُطلقُ على الانتفاعِ المأذون فيه؛ ولذلك غلَب تقييدُ المنهيِّ عنه من ذلك بقيدِ: "بالباطل" ونحوِه .
3- قوله: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ... وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: فيه تقديمُ النَّهيِ عن أكلِ الأموالِ على النَّهيِ عن قتلِ الأنفُس، مع أنَّ الثَّانيَ أخطرُ، إمَّا لأنَّ مناسبةَ ما قبله أفضَتْ إلى النَّهيِ عن أكلِ الأموالِ، فاستحقَّ التَّقديمَ لذلك، وإمَّا لأنَّ المخاطَبين كانوا قريبي عهدٍ بالجاهليَّةِ، وكان أكلُ الأموالِ أسهلَ عليهم، وهم أشدُّ استخفافًا به منهم بقتلِ الأنفُس؛ لأنَّه كان يقعُ في مواقعِ الضَّعف حيث لا يدفَعُ صاحبُه عن نفسه؛ كاليتيمِ والمرأةِ والزَّوجة؛ فآكِلُ أموالِ هؤلاء في مأمنٍ من التَّبعاتِ بخلاف قَتْلِ النَّفس؛ فإنَّ تبِعاتِه لا يسلَمُ منها أحدٌ، وإن بلَغ من الشَّجاعةِ والعزَّة في قومه كلَّ مبلغٍ .- أو لأنَّه أكثرُ وقوعًا، وأفشى في النَّاس من القتلِ، لا سيَّما إن كان المرادُ ظاهرَ الآية، مِن أنَّه نهى أن يقتُلَ الإنسانُ نفسَه، فإنَّ هذه الحالةَ نادرةٌ . ويُمكن أنْ يكونَ ذلِكَ من بابِ التدرُّجِ مِن الأدْنى إلى الأعْلى- كما هو الغالِبُ.
- والتَّعبير عنهم بالأنفُسِ؛ للمبالَغةِ في الزَّجرِ عن قتلِهم بتصويرِه بصورةِ ما لا يكادُ يفعَلُه .
4- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا: تعليلٌ للنَّهيِ بطريق الاستئنافِ، أي: مبالِغًا في الرَّحمة والرَّأفةِ؛ ولذلك نهاكم عمَّا نهى؛ فإنَّ ذلك رحمةٌ عظيمةٌ لكم بالزَّجرِ عن المعاصي، وللَّذين هم في مَعرِضِ التعرُّضِ لهم بحفظِ أموالِهم وأنفسِهم .