موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (95-97)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريبُ الكَلِمات:

وُضِعَ: بُنِي يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 874). .
بِبَكَّةَ: يعَني: مَكَّة، فَأُبدلت ميمُها باءً، قالوا: والعربُ تُعاقِبُ بين الباء والميم في مواضع، فتقول: لازم ولازِب. أو أنه اسم لبَطْن مكَّة، أو مكان البَيت، وقيل: أصْل بكَك: الجمعُ بين التَّزاحم والمُغالَبة، والبَكُّ: دقُّ العُنق؛ سُمِّيت مكَّة: بكَّة؛ لأنَّ الناس يَبُكُّ- أي: يَدْفَع- بعضُهم بعضًا في الطَّوافِ بالازدِحام، ويُقال: لأنَّها تَبُكُّ (تَدُقُّ) أعناقَ الجبابرةِ إذا أَلْحَدوا فيها بظُلمٍ يُنظر: ((العين)) للخليل (5/285)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/147)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/186)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 48)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 126). .

مشكل الإعراب:

قوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا:
مَقَامُ: مرفوعٌ، على أنَّه بدلٌ من آيَاتٌ، أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: هي مقامُ إبراهيم. ووَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا معطوفٌ عليه، أي: وأَمْنُ مَن دخَلَه، وعلى هذين الوَجهينِ يكونُ فيه إبدالُ المفرد مَقَامُ من الجمع آيَاتٌ، والإخبارُ عن الجَمْعِ بالمفرد؛ وجازَ ذلك على القولِ بأنَّ أقلَّ الجَمْعِ اثنان، فعبَّر عن الجمْع آيَاتٌ بالمقامِ وبأمْنِ الدَّاخل، أو لأنَّ مَقَام وإنْ كانَ مفردًا لفظًا إلَّا أنَّه يَشتمِلُ على آياتٍ كثيرة. وقيل غير ذلك. أو يكون مَقَامُ مرفوعًا على أنَّه مبتدأ والخبر محذوف، أي: مِنها مقامُ إبراهيم، أو خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ، لكن التقدير: أحدُها مقامُ إبراهيم، وعلى هذينِ الوجهينِ فلا إشْكالَ في كونِ مَقَامُ مفردًا وآَيَاتٌ جمعًا [4428] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/169)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/281)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/317- 321). .
قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ:
 مَنِ اسْتَطَاعَ: مَن موصولةٌ بمعنى الذي، وهي في مَوضِعِ جرٍّ، على أنَّها بدلٌ مِن النَّاس- بدَلُ بعضٍ مِن كُلٍّ وبدلُ البعضِ وبدلُ الاشتمالِ لا بدَّ في كلٍّ منهما مِنْ ضميرٍ يعودُ على المُبدَل منه نحو: أَكْلْتُ الرغيفَ ثُلثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس ضَميرٌ، فقيل: هو محذوفٌ تقديرُه: مَنْ استطاع منهم. ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/321). ، أو بدلُ كلٍّ مِن كل-. وقيل: مَن في موضِع رفْعٍ مبتدأ، والتقديرُ: هم مَنِ استطاع، أو والواجبُ عليه مَن استطاع، واسْتَطَاعَ على هذين الوَجهينِ صِلةُ مَن لا محلَّ له من الإعرابِ، وجملة مَنِ اسْتَطَاعَ بدلٌ مِن الناس أيضًا في محلِّ جرٍّ. وقيل: مَنْ شَرْطٌ في موضِع رفْعٍ بالابتداءِ، واسْتَطَاعَ في موضِع جزمٍ بـمَنْ والجواب محذوفٌ، تقديرُه: فعليه الحجُّ، ودلَّ على ذلك قولُه: وَمَنْ كَفَرَ، وقيل غير ذلك [4430] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/169)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/281)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/321- 323). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لليهود: إنَّ كلَّ ما أَخبَر الله تعالى به، وكلَّ ما شرَعه فهو صِدْق، فعليهم أنْ يتَّبِعوا مِلَّة إبراهيم الخليل عليه السَّلام؛ فقد كان مُوحِّدًا، يميل عن الشِّرك، ولم يكُن محسوبًا في عِدادِ المشركين.
ثم يُخبِر تعالى أنَّ أَوْلَ بيتٍ وُضِع لجميع النَّاس مِن أجْل عِبادة الله فيه، هو البيتُ الحرام، الواقعُ في مكَّة المُكرَّمة، وهو مَوضِعٌ مُبارَك، فيه برَكاتٌ كثيرةٌ من المنافع الدِّينيَّة والدُّنيويَّة: كالأجورِ المضاعَفة، والأرزاقِ الوفيرة، وهو مَنارٌ يَهتدي به جميعُ العالَمين.
في هذا البيتِ أدِلَّةٌ واضِحةٌ على توحيدِ الله سبحانه وحِكْمتِه وعظمتِه وقُدْرتِه، وغير ذلك من صِفاتِه الحُسنى، وعلاماتٌ على شرفِه، ومن تلك العلامات: المواضِعُ التي قام فيها الخليلُ إبراهيمُ عليه السَّلام لأداءِ مناسكِ الحَجِّ، ومنها أيضًا: أنَّ مَن دخَله كان آمنًا مِن كلِّ سوء، وقد فرَض اللهُ على مَن قَدَر من أهل التَّكليفِ قصْدَ البيت الحرام لأداءِ شعائر الحَجِّ، ومَن جحَد فريضةَ الحجِّ فإنَّ الله غنيٌّ عنه وعن حَجِّه، وعن سائرِ خَلْقه.

تفسير الآيات:

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95).
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأولئك اليهود: إنَّ كلَّ ما أَخبَر الله تعالى به وكلَّ ما شرَعه فهو صِدْق، ومِن ذلك: إخبارُه بأنَّه لم يُحرِّم على اليهود شيئًا من الأطعمةِ قبل نُزول التَّوراة، إلَّا ما حرَّمه يعقوبُ عليه السَّلام على نَفْسِه، فجاء ما في التَّوراة مُوافِقًا لِمَا أَخبَر الله سبحانه عنه؛ فهُم كَذَبوا، وصدَق اللهُ عزَّ وجلَّ، وممَّا بيَّنه الله تعالى في كتابه الصَّادق مِلَّةَ إبراهيمَ الخليل عليه السَّلام، فإنْ كُنتم صادقينَ في مَحبَّتِكم واعتزازِكم بالانتسابِ إليه، فاتَّبِعوه على توحيدِه اللهَ سبحانه ومَيلانِه عن الشِّرك، وما كان إبراهيمُ مِثْلَكم- مَعشَر اليهودِ- في عِدادِ المحسوبين من المشرِكين بالله جلَّ وعلا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/588، 589)، ((تفسير ابن كثير)) (2/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138، 970، 971)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران))(1/542-545). .
قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 161] .
وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرهم الله تعالى باتِّباع مِلَّةِ إبراهيمَ في التَّوحيد وتَرْكِ الشِّرك، أمَرهم باتِّباعه بتعظيمِ البيتِ الحرام بالحجِّ وغيره؛ فحجُّ البيتِ من أعظمِ شعائر مِلَّة إبراهيمَ ومِن خصوصيَّات دِينه، وأيضًا فإنَّ اليهود حين حُوِّلت القِبْلةُ إلى الكعبة طعَنوا في نُبوَّة رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالوا: بيتُ المقدِس أفضلُ وأحقُّ بالاستقبال؛ لأنَّه وُضِع قَبْل الكعبة، وهو أرضُ المحشر، وقِبْلةُ جميعِ الأنبياء، فأكْذَبهم الله في ذلك يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138). بقوله:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
أي: إنَّ أوَّل بيتٍ وُضِع لجميعِ النَّاس لعبادةِ الله تعالى، فيَطوفون به، ويُصَلُّون إليه، ويَعتكِفون عنده- البيتُ الحرام الواقع في مكَّة، والذي يَزدحِم النَّاس حولَه، وهو الكعبةُ التي بناها إبراهيمُ الخليلُ عليه السَّلام، الذي يَزعُم كلٌّ مِن طائفتي النَّصارى واليهود أنَّهم على مِلَّته، ومع ذلك لا يَحُجُّون إلى البيتِ الذي بناه، ونادى النَّاس إلى حَجِّه! وهو مَوضِع مُبارَكٌ؛ فيه بركاتٌ كثيرةٌ من المنافعِ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة: كالأجورِ المضاعفة، والأرزاقِ الوفيرة، وهو مَنارٌ يُهتدى به، وتَحصُل فيه أنواعُ الهدايات لجميعِ العالَمين، ومِن ذلك: أنَّه قِبْلةٌ يَستقبِلها المسلمون في صَلواتهم، ويَقصِدونه في حَجِّهم وعُمراتِهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/593، 594)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 224)، ((تفسير ابن كثير)) (2/77، 78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138، 971)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/12، 13)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/546-548). .
عن أبي ذَرٍّ رضِي اللهُ عنه قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أوَّلُ؟ قال: المسجدُ الحرامُ، قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: المسجدُ الأقصى، قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصَّلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه )) رواه البخاري واللفظ له (3366)، ومسلم (520). .
وعن عليٍّ رضِي اللهُ عنه قال: (كانتِ البُيوتُ قَبلَهُ، ولكنَّهُ كان أوَّلَ بيتٍ وُضِعَ لعبادَةِ اللَّهِ) أخرجه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (3827). صحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (6/470)، وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/392): فيه مجالد بن سعيد، وهو حسنُ الحديث. .
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97).
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ.
أي: في هذا البيتِ أدِلَّةٌ واضحةٌ على توحيدِه سبحانه، ورحْمتِه وحِكمتِه وعظَمتِه وقُدْرتِه، وغير ذلك من صِفاته الحُسنى، وفيه علاماتٌ ظاهرةٌ على شرَفِ هذا البيت وعظيمِ فضْله، وأنَّه من بِناء إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، ومن تلك العلامات، المواضِع التي قام فيها الخليلُ عليه السَّلام لأداءِ مناسك الحجِّ: كعَرَفة، ومُزْدَلِفة ومِنًى، ومن مَقاماته: الحَجرُ الذي قام عليه لاستِكمالِ بِناء الكعبة لَمَّا ارْتفَع بُنيانُها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/598، 600، 601)، ((تفسير ابن كثير)) (2/79)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138، 139، 971)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/548-550). .
وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
أي: إنَّ مِن الآيات البيِّنات الدالَّةِ على شرفِ البيتِ الحرام وفضْلِه، وغير ذلك: أنَّ مَن يدخُل الحرمَ يكون بمعزلٍ عن أنْ ينالَه أحدٌ من الناس بسوءٍ على وجهِ العموم، وهذا امتنانٌ مِن الله تعالى بما تقرَّر في ماضي العصور، وبما هو متقرِّرٌ شرعًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/606-608)، ((تفسير ابن عطية)) (1/475)، ((تفسير ابن كثير)) (2/79)، ((تفسير السعدي)) (ص: 139، 971)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/18)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران))(1/550-551). وممَّن قال من السلف في معنى مَقَام إِبْرَاهِيمَ بنحو ما ذكَرْنا: ابن عبَّاس، ومجاهد، وسعيد بن جبير. انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (3/711). .
قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
وقال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3-4] .
عن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يوم افْتَتَحَ مكةَ: ((لا هِجرةَ، ولكنْ جهادٌ ونيِّةٌ، وإذا استُنفِرتُم استُنفِرتُم: أي: إذا طُلبَ منكم النُّصرةُ، فأجيبوا وانفروا خارجينَ إلى الإعانةِ. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/92)، ((لسان العرب)) لابن منظور (5/225). فانفِروا، فإنَّ هذا بلدٌ حَرَّمَه اللهُ يومَ خَلَق السمواتِ والأرضَ، وهو حرامٌ بحُرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ، وإنَّه لم يَحِلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قَبْلي، ولم يَحِلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ، فهو حرامٌ بحُرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ، لا يعْضَدُ شَوْكُه، ولا يُنَفَّرُ صَيدُه، ولا يلْتَقَطُ لُقطته إلا مَن عرَّفها، ولا يُخْتَلى خَلَاها لا يُختلى خَلَاها: أي: لا يُقطع نباتُها الرَّطب. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/75). , قال العباسُ: يا رسولَ اللهِ، إلا الإذْخِرَ؛ فإنَّه لقَيْنِهِم لِقَينهم: جمْع قَيْن، وهو الحدَّاد والصائِغ. ومعناه: يحتاج إليه القَينُ في وقود النَّار. ((شرح النووي على مسلم)) (9/127)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/135). وبُيُوتِهم، قال: قال: إلا الإذْخِرَ )) رواه البخاري له (1834)، ومسلم (3189). .
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
أي: إنَّ شعيرةَ حَجِّ بيتِ الله تعالى الحرام فرْضٌ واجبٌ لله عزَّ وجلَّ على مَن قَدَر مِن أهلِ التَّكليفِ على القصدِ إليه، وذلك بتَوفُّر القُدرةِ الماليَّة والبدنيَّة وغيرِهما ممَّا يُحقِّق الاستطاعةَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/609، 616، 617)، ((تفسير السعدي)) (ص: 971)، ((تفسير ابن عثيمين-سورة آل عمران)) (1/551-554). .
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
أي: إنَّ مَن جحَد فرض الحجِّ فأنكر وجوبه وكفر به، فإنَّ الله غنيٌّ عنه، وعن حَجِّه، وعن سائرِ خَلْقه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/618، 624)، ((شرح عمدة الفقه- كتاب الطهارة والحج)) لابن تيمية (2/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 971)، ((تفسير ابن عثمين- سورة آل عمران)) (1/554-555). وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلف ابنُ عبَّاس، والضَّحَّاك، وعطاء، وعمران القطان، والحسن، ومجاهدٌ، وعِكرمةُ، ومُقاتل. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 618)، و((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/ 309). وفي الآيةِ أوجهٌ أُخرى ذكَرها ابنُ الجوزيِّ في ((زاد المسير)) الموضع السابق، والشنقيطيُّ في ((أضواء البيان)) (1/203).   .

الفَوائِد التربويَّة:

1- يجبُ على الإنسانِ أنْ يَتَّبعَ الحقِّ أينما كان، سواء كان مِن الرَّسول الذي أُرسِل إليه مُباشرةً، أو مِن الرُّسل السَّابقين؛ كما في قوله تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/546). .
2- في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا، تعظيمُ بيتِ الله الحرامِ؛ فهو أوَّلُ البُيُوت التي وضَعها الله في الأرض لعِبادتِه، وإقامةِ ذِكْره، وفيه من أنواعِ البركات، والهِدايات، وتنوُّع المصالحِ والمنافعِ للعالَمين شيءٌ كثير، وفضْلٌ غزير، وفيه علاماتٌ بيِّنة تُذكِّر بمقاماتِ إبراهيمَ الخليل، وتَنقُّلاتِه في الحَجِّ، وليس هذا لمكانٍ آخَرَ في الأرض؛ فلذا يَنبغي تعظيمُه ومراعاةُ حُرمتِه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران))(1/556). .
3- قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فيه وجوبُ المبادرةِ بالحجِّ على مَن استطاعَ إلى الحجِّ سبيلًا؛ فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ ممَّن يستطيعُ مئونةَ الحجِّ إذا كان مُكلَّفًا أن يبادرَ بذلك وألَّا يُؤخِّرَه؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا أوجبَ ذلك على الفور يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/347-348). .
3- في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ الحَضُّ على فريضةِ الحَجِّ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/306)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/559). .
4- الافتقارُ إلى الله، فإذا كان الله غنيًّا عن العالَمين، لَزِم أنْ يكون العالَمون مُفتَقِرين إليه، وليس بهم غِنًى عن الله، وهو كذلك؛ فإنَّ الخَلْق مُفتَقِرون إلى الله تعالى غايةَ الافتقار؛ قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/561). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فيه أنَّ تَقدُّمَ المكان في العبادةِ له أثرٌ في تفضيلِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/555). .
2- قوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ؛ فيه أنَّ الآياتِ كما تكون شرعيَّةً، تكون كذلك حِسيَّةً كونيَّة، كما في هذه الآيات التي ذُكِرت للبيت العتيق يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/557). .
3- قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، تَضمَّن ثلاثةَ أمورٍ مُرتَّبة بحسَب الوقائع: أحدها: الموجِبُ لهذا الفرض وهو اللهُ سبحانه فبدأ بذِكْره، والثاني: مُؤدِّي الواجِبِ وهو المفترَض عليه وهم النَّاس، والثالث: النِّسْبة والحقُّ المتعلِّق به إيجابًا وبهم وجوبًا وأداء، وهو الحجُّ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 138). .
4- أنَّ اللهَ تعالى إذا ذكَر ما يُوجِبه ويُحرِّمه يَذكُره بلفظ الأمْر والنَّهي، وهو الأكثر، وبلفظ الإيجابِ والكتابةِ والتَّحريم، أمَّا في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ عبَّر عن وجوبِ الحجِّ بعِبارتين إحداهما: لام المِلْك في قوله وَلِلَّهِ، وثانيتهما: كلمة عَلَى، ليَدُلَّ على تأكيد فَرْض الحجِّ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/306)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138). .
5- قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا نكَّر السبيلَ في سِياق الشَّرط إيذانًا بأنَّه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت، من قُوتٍ أو مالٍ، فعلَّق الوجوبَ بحصول ما يُسمَّى سبيلًا يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 138). .
6- قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بيانُ رحمةِ الله تعالى، حيثُ لم يَفرِض على عبادِه ما كان شاقًّا عليهم ولا يَستطِيعونه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (/559). .
7- وقوله: غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ: خبرٌ فيه رمزٌ إلى نزْعِه وَلايةَ الحرمِ من أيدي كفَّار مكَّة؛ لأنَّه لَمَّا فرَض الحجَّ وهم يَصُدُّون عنه، وأَعلَمنا أنَّه غنيٌّ عن النَّاس، فهو لا يُعجِزه مَن يَصُدُّ النَّاسَ عن مُرادِه تعالى يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/25). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: قُلْ صَدَقَ اللهُ:
- خبَرٌ فيه تعريضٌ بكَذِبهم، أي: ثبَت أنَّ اللهَ صادقٌ فيما أَنزل، وأنتم الكاذِبون يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/386)، ((تفسير البيضاوي)) (2/28)، ((تفسير أبي السعود)) (2/59). ؛ لأنَّ صِدْق أحدِ الخبرين المتنافِيين يَستلزِم كَذِبَ الآخَر، فهو مُستعمَلٌ في معناه الأصليِّ والكِنائيِّ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/11). .
- ولم يَذكُر الخبرَ الذي حَكَم عليه بالصِّدق، فيكون ذلك عامًّا شاملًا، أي: صدَق اللهُ في كلِّ شيء يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/545). .
2- قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا: الفاء في فاتَّبِعُوا للتَّفريع، وهي تفريعٌ على صِدق اللهِ؛ لأنَّ اتِّباع الصادِق فيما أمَر به مَنْجاةٌ من الخَطَر يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/11). .
3- قوله: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: خبرٌ مُتضمِّن للتَّعريض بإشراك اليهودِ، والتَّصريحُ بأنَّ إبراهيمَ عليه السَّلام ليس بَينَه وبَينَهم علاقةٌ دِينيَّةٌ قطْعًا، وهكذا أهلُ الشِّرْكِ في مَكَّةَ، والغرضُ: بيانُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على دِين إبراهيمَ عليه السَّلام في الأصولِ؛ لأنَّه لا يَدعو إلَّا إلى التَّوحيدِ والبراءةِ عن كلِّ معبودٍ سواه سبحانه وتعالى، والجُمْلةُ تذييلٌ لِما قبلَها يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/29)، ((تفسير أبي السعود)) (2/59). .
4- قوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ: كلامٌ واقع مَوقِعَ التَّعليل للأمر في قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا؛ لأنَّ هذا البيتَ المُنوَّهَ بشأنِه كان مَقامًا لإبراهيمَ، ففضائلُ هذا البيت تُحقِّق فَضيلةَ شرْع بانِيهِ في مُتعارَف النَّاس، وقد آذَنَ بكونِ الكلامِ تعليلًا مَوقِعُ (إِنَّ) في أوَّله؛ فإنَّ التأكيد بـ(إِنَّ) هنا لمجرَّدِ الاهتمام، وليس لردِّ إنكارِ مُنكَر، أو شكِّ شاكٍّ، ومِن خصائصِ (إِنَّ) إذا وردتْ في الكلام لمجرَّد الاهتمامِ: أن تُغني غَناءَ فاء التَّفريعِ، وتُفيد التَّعليلَ والرَّبطَ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/11). .
- قوله: لَلَّذِي بِبَكَّةَ: عدَل عن تعريفِ البيتِ باسمِه العَلَم بالغَلَبة (الكعبة)، إلى تعريفِه بالمَوصوليَّة بأنَّه (الذي ببكَّة)؛ دفعًا لتوهُّم غيرِه؛ لأنَّ هذه الصِّلةَ صارتْ أشهرَ في تعيُّنه عند السَّامعين؛ إذ ليس في مكَّةَ يومئذٍ بيتٌ للعبادِة غيرُه، بخلافِ اسمِ الكعبة: فقد أُطلِق اسمُ الكعبةِ على القُلِّيس الذي بناه مَلِكُ الحبشة في صنعاء لدِين النَّصرانيَّة، ولقَّبوه (الكعبة اليَمانِيَة) يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/13). .
- وقوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ... استئنافُ ثَناءٍ على هذا البيتِ بما حُفَّ به من المناقِب والمزايا، وغيَّر الأسلوبَ للاهتمام يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/16). .
5- قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا: ذكَر النَّاس، ثُمَّ أَبدَل عنه مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وفيه ضَرْبان من التَّأكيد؛ لأنَّ الإبدال تثنيةٌ للمُراد وتَكْرير، وذلك يَدلُّ على شِدَّة العِناية؛ ولأنَّه أَجمَلَ أولًا وفصَّل ثانيًا، وذلك يدلُّ على شِدَّة الاهتمام يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/390)، ((تفسير الرازي)) (8/306)، ((تفسير البيضاوي)) (2/30). .
- قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ في تقديمِ المجرور الأوَّل وَلِلَّهِ: أنَّ الاسمَ المجرورَ من حيثُ كان اسمًا لله سبحانه، وجَب الاهتمامُ بتقديمِه؛ تعظيمًا لحُرْمةِ هذا الواجبِ الذي أوجبَه، وتخويفًا مِن تضييعه؛ إذ ليس ما أوجبه اللهُ سبحانه بمَنزلةِ ما يُوجِبه غيرُه يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 138). .
6- قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ: جُملةٌ معطوفةٌ مقابلة لقوله: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وقيل: هي جملةٌ مستقلَّة، كالتَّذييلِ، بُيِّن بها عدمُ اكتراثِ الله بمَن كفَر به، وفي ذِكْرِ استغنائِه عنه مِن الإعلامِ بمَقْته وسَخَطه عليه وإعراضِه بوجْهِه عنه ما هو أعظمُ التَّهديد وأَبْلَغه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/24). .
- وجاءَ التَّعبير بقوله: عَنِ الْعَالَمِينَ ولم يَقُل: (عنه)؛ مُبالغةً في التَّعميم، وللدَّلالةِ على الاستِغناء عنه بالبُرهان، والإشعار بعِظَم السَّخَط؛ لأنَّ المستغني عن كلِّ العالَمِين أَوْلَى أنْ يكونَ مستغنيًا عن ذلِك الإنسانِ الواحدِ وعن طاعتِه؛ فكانَ ذلك أدلَّ على السَّخَط يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/391)، ((تفسير الرازي)) (8/306)، ((تفسير البيضاوي)) (2/30). .