موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (93-94)

ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريبُ الكَلِمات:

حِلًّا: أي: حلالًا، وحِلًّا في الأصْل مصدرٌ لحَلَّ يَحِلُّ، ويُطلق على الأشخاصِ مبالغةً؛ ولذلك يَستوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموع، والمذكَّرُ والمؤنَّث. وأصلُ الحَلِّ: فتْحُ الشَّيءِ، ومنه الحلالُ: ضدُّ الحرام، كأنَّه مِن حللتُ الشَّيءَ، إذا أبحتَه وأوسعتَه لأَمرٍ فيه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 107)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/20)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/311). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر تعالى أنَّه في الزَّمنِ السَّابق لنُزول التَّوراة على موسى، كانتْ كلُّ أنواع الأطعمة حلالًا لبَني إسرائيل، إلَّا نوعًا واحدًا حرَّمه يعقوبُ على نَفْسه، ولم يُحرِّمه عليه اللهُ تبارَك وتعالَى، واقتَدَى به بنوه تقليدًا له، وهذا النَّوع هو لحومُ الإبل وألبانُها، وبعد نُزول التَّوراة حرَّم الله عليهم فيها ما شاء، وأَحلَّ لهم ما شاءَ وَفقَ حِكمتِه، فكان هذا نَسْخًا لِمَا سبَق مِن حِلِّه جميعَ الأطعمةِ ما عدا لحومَ الإبل وألبانها، ثم أمَر اللهُ نبيَّه أن يَطلُب مِن اليهود أنْ يأتوا بالتَّوراة ويقرؤوها، إنْ كانوا مُحِقِّين في دعواهم، وبعد أنْ أقام عليهم الله تعالى الحُجَّةَ، أَخبَرهم أنَّ مَن تَقوَّل على الله الكَذِبَ بعد ذلك، فأولئك هم الظَّالِمون.

تفسير الآيتين:

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوراة قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوراة فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخبر اللهُ تعالى أنَّه لا يَنال المرءُ البرَّ إلا بالإنفاق ممَّا يحبُّ في قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ-فالمشروعُ في الإسلام هو الإنفاقُ في طاعةِ الله مما يُحِبُّه العبدُ ويَشتهيه؛ كما قال سبحانه: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة: 177] ، وقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان: 8] - ذكَر سبحانه عقبَ ذلك أنَّ يعقوبَ عليه السَّلام، قد حرَّم أحبَّ الأشياءِ إليه وترَكها لله تعالى- وكان هذا سائغًا في شَريعتهم- بجامعِ أنَّ كلًّا منهما فيه تركُ ما يحبُّه الإنسانُ وما يُؤثِرُه على سبيلِ التقرُّب به للهِ سبحانَه وتعالى يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/262)، ((تفسير ابن كثير)) (2/76). .
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوراة.
أي: إنَّ كلَّ أنواعِ الأطعمة كان أَكْلُها حلالًا لذُريَّة يعقوب عليه السَّلام، قبل نزولِ التَّوراة على موسى عليه السَّلام، عدا نوعًا واحدًا حرَّمه أبوهم يعقوبُ على نَفْسه، من غير أن يُحرِّمه اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، وهو لحومُ الإبل وألبانها، واتَّبعه اليهودُ على ذلك، فلمَّا نزلت التَّوراة بعدُ، حرَّم الله تعالى عليهم فيها ما شاء، وأحلَّ لهم فيها ما شاء وَفقِ حِكمته، فكان هذا نَسْخًا لِمَا سبَق مِن حِلِّه جميعَ الأطعمة لهم، سوى لحوم الإبل وألبانها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/577، 581، 586)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/321)، ((تفسير ابن كثير)) (2/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138، 970). .
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: ((حضَرتْ عِصابةٌ من اليهود رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسم، حدِّثنا عن خِلالٍ نسألُك عنها، لا يَعلمُهنَّ إلا نبيٌّ، فكان فيما سألوه: أيُّ الطَّعامِ حرَّم إسرائيلُ على نَفْسه قبل أن تُنزَّل التَّوراة؟ قال: فأَنشُدكم بالله الذي أَنزَل التَّوراةَ على موسى، هل تعلمون أنَّ إسرائيل (يعقوب عليه السَّلام) مَرِض مرضًا شديدًا فطال سَقَمُه، فنذَر لله نَذْرًا، لئن شفاه اللهُ مِن سَقَمه، ليُحرِّمنَّ أَحبَّ الشَّراب إليه، وأَحبَّ الطَّعام إليه، فكان أحبَّ الطَّعام إليه لُحمانُ الإبل، وأحبَّ الشراب إليه ألبانُها؟ فقالوا: اللهمَّ نَعَم! )) أخرجه أحمد (2471)، والطيالسي (2854)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (1/174)، والطبري في ((تفسيره)) (2/377)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (3816). صحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((العجاب)) (2/716)، وأحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/156). .
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّه قال أيضًا: ((أَقْبَلت يهودُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسم، أَخبِرنا عن الرَّعد ما هو؟ قال: مَلَكٌ من الملائكة مُوكَّلٌ بالسَّحاب، معه مَخاريقُ مِن نار يَسوق بها السَّحابَ حيث شاء الله، فقالوا: فما هذا الصَّوتُ الذي نَسمع؟ قال: زجْرُه بالسَّحاب إذا زجَره، حتى يَنتهيَ إلى حيثُ أُمِر، قالوا: صدقتَ، فأَخبِرنا عمَّا حرَّم إسرائيلُ على نَفْسه؟ قال: اشتكى عِرْق النَّسا، فلم يَجِد شيئًا يُلائمه إلَّا لحومَ الإبل وألبانها؛ فلذلك حرَّمها، قالوا: صَدقتَ )) أخرجه الترمذي (3117)، وأحمد (2483) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9072) قال الترمذيُّ: حسنٌ غريب. وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/337): غريبٌ من حديث سعيد، تفرَّد به بُكَير. ووثَّق رجالَه الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (8/244)، وذكَر ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/16) أنَّ له طرقًا يُقوِّي بعضُها بعضًا. وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/161)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3117). .
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوراة فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ-: جِيئوا بالتَّوراة فاقرؤوها علينا بأنفسكم؛ حتى لا تتَّهِمونا بأنَّا حذَفْنا أو أَضفْنا شيئًا، فاقرؤوها، إنْ كنتم مُحِقِّين في دعواكم يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/321)، ((تفسير ابن كثير)) (2/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138، 970). قيل المراد: إنْ كنتم محقِّين في دعواكم أنَّ الله أنزل تحريمَ لحوم الإبل وألبانها في التوراة. وهذا اختيارُ ابن جرير في ((تفسيره)) (5/587). وقيل المراد: إنْ كنتم محقِّين في دعواكم أنَّ الله تعالى لم يُحرِّم عليكم في التوراة إلَّا ما كان مُحرَّمًا على إسرائيل فحسبُ. وهذا اختيارُ الشنقيطي في ((أضواء البيان)) (1/371). وقيل غير ذلك. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/464)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/321). .
وهذا خبرٌ من الله عزَّ وجلَّ عن كَذِبهم؛ لأنَّهم لا يأتون أبدًا بما يَشهَد على صحَّة دَعواهم، فأَعلَم الله بكَذِبهم نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجعَل إعلامَه ذلك حُجَّةً عليهم؛ لأنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمِّيٌّ ومِن غير مِلَّتِهم، فكيف عَلِم بذلك لولا أنَّ الله تعالى هو الذي أَعلَمه إيَّاه بوحيٍ مِن عنده؟! فهذا مِن أعظم الحُجَج عليهم بأنَّه رسول الله تعالى إليهم صِدقًا، وأنَّ النَّسخ واقعٌ حقًّا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/587)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138). .
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: فمَن تقوَّل على الله تعالى الكَذِبَ بادِّعاء أنَّ ما حرَّمه إسرائيلُ على نفْسِه كان مُحرَّمًا عليهم كذلك، فهؤلاءِ هم الكافِرونَ القائِلونَ على الله تعالى الباطلَ، والظالِمونَ أنفسَهم بالعُدُول عن الحقِّ بعدَما تَبيَّن يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/587، 588)، ((تفسير ابن كثير)) (2/76، 77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 138، 970). .

الفَوائِد التربويَّة:

الحضُّ على اتِّباع الحقِّ متى ظهَر؛ لأنَّه متى ظهَر الحقُّ فحاد الإنسانُ عنه صار أشدَّ ظلمًا؛ وأيُّ ظُلْمٍ أعظمُ مِن ظُلْم مَن يُدْعى إلى تحكيم كتاب الله تعالى فيَمتنِع من ذلك؛ عِنادًا وتَكبُّرًا؟! قال تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 138)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/541). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله سبحانه: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ؛ أَمْرٌ لهم بإحضارِ كتابهم الذي فيه شَريعتهم؛ ففيه إقامةُ الحُجَّة على الخَصْم بما يَعتقِد صحَّته، ويؤمن به، فهذا أعظمُ مَحاجَّة؛ لأنَّه تُتَبَيَّنُ به الحُجَّة على وجْهٍ لا مفرَّ له منه، إذ لم يبقَ لهم ما يستطيعون أن يَدَّعوه شُبْهةً لهم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/10)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/538). .
2- قال: فَاتْلُوهَا ولم يَقُل: (نَتْلُوها)؛ دفعًا للتُّهمة بأنَّهم حَذَفوا شيئًا أو أضافوا شيئًا، فلْيتلُوها هم بأنفسهم؛ حتى يَتبيَّن لهم الحقُّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/539). .
3- في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوراة الردُّ على اليهودِ في إنكارِهم وجودَ النَّسخِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/537). .

بلاغة الآيتين:

1- قوله: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: هذه الشَّرطيَّة تُفيد كمالَ التَّحدِّي وتَمامَه؛ فقد خرَج الكلامُ على سبيل الاستهزاء بهم، إذ جُعِل هذا الوصفَ ممَّا يُمكِن أنْ يتَّصِفوا به، وهم قد عُلِم كَذِبُهم، كقولك: إنْ كنتَ شُجاعًا فالْقَني، ومعلومٌ عندك أنَّه ليس بشُجاع يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/265)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/534). .
2- قوله: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قوله: الكَذِبَ، فيه تأكيدٌ للافتراء؛ لأنَّ اسمَ الافتراءِ بمعنى الكَذِب والاختِلاق؛ فكان في إردافِه بقوله: الكَذِبَ تأكيدٌ للافتراء يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/9). .
- والإشارة بقولِه: فَأُوْلَئِكَ وما فيه من مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعد مَنزلِتهم في الضَّلالِ والطُّغيان يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/59). .