موسوعة التفسير

سُورةُ قُرَيْش
الآيات (1-4)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ

غريب الكلمات:

لِإِيلَافِ: أي: لأُلْفَتِهم واعتيادِهم، والإيلافُ: مَصدَرُ آلفْتُ الشَّيءَ: إذا لَزِمْتَه وتعوَّدْتَ عليه، وأصلُ (ألف): يدُلُّ على انضمامِ الشَّيءِ إلى الشَّيءِ [4] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/648)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/131)، ((تفسير ابن كثير)) (8/491). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ اللَّامُ في «إيلافِ» مُتعَلِّقةٌ بقَولِه: فَلْيَعْبُدُوا، ودخَلَت الفاءُ لِما في الكلامِ مِن معنى الشَّرطِ، أي: فإنْ لم يَعبُدوه لسائِرِ نِعَمِه فلْيَعبُدوه لإيلافِهم. أو هي مُتعَلِّقةٌ بفِعلٍ مُقَدَّرٍ، تقديرُه: اعجَبوا لإيلافِ قُرَيشٍ. أو مُتعَلِّقةٌ بقَولِه تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] .
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ: مجرورٌ على البَدلِ مِن «إيلافِ» الأُولى، أو توكيدٌ لَفظيٌّ له، وهو مَصدَرٌ مضافٌ لفاعِلِه. رِحْلَةَ: مَفعولٌ به للمَصدَرِ [5] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/365)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/ 111)، ((تفسير الألوسي)) (15/472)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (30/409). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بذِكْرِ مِنَّةٍ أخرى على قُرَيشٍ إثْرَ ذِكْرِ نِعمَتِه عليهم بإهلاكِ عَدُوِّهم، وهي مِنَّةُ اجتِماعِهم واعتيادِهم كُلَّ عامٍ القيامَ برِحلةٍ في الشِّتاءِ إلى اليَمَنِ، ورِحلةٍ في الصَّيفِ إلى الشَّامِ للتِّجارةِ.
ثمَّ أرشَدَهم إلى شُكرِ هذه النِّعمةِ العظيمةِ، فقال: فلْيَعبُدوا رَبَّ البَيتِ الحرامِ، الَّذي أطعَمَهم مِنَ الجُوعِ، وآمَنَهم مِنَ الخَوفِ.

تفسير الآيات:

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2).
أي: لاجتِماعِ قَبيلةِ قُرَيشٍ [6] قال الزَّجَّاجُ: (هذه اللَّامُ قال النَّحْويُّون فيها ثلاثة أوجُهٍ: قيل: هي مَوصولةٌ بما قَبْلَها، المعنى: فجعَلَهم كعَصفٍ مأكولٍ لإيلافِ قُرَيشٍ، أي: أهلَكَ اللهُ أصحابَ الفيلِ؛ لِتَبْقى قُرَيشٌ وما قد ألِفُوا مِن رحلةِ الشِّتاءِ والصَّيفِ. وقال قومٌ: هذه لامُ التَّعَجُّبِ، فكان المعنى: اعجَبوا لإيلافِ قُرَيشٍ. وقال النَّحْويُّونَ الَّذين تُرتضى عربيَّتُهم: هذه اللَّامُ معناها متَّصِلٌ بما بَعْدُ: فَلْيَعْبُدُوا، والمعنى: فلْيَعبُدْ هؤلاء ربَّ هذا البيتِ لِإيلافِهم رِحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/365). وممَّن ذهب إلى المعنى الأول: السمرقنديُّ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/623)، ((الوسيط)) للواحدي (4/555). قال السعدي: (قال كثيرٌ مِن المفَسِّرينَ: إنَّ الجارَّ والمجرورَ مُتعَلِّقٌ بالسُّورةِ الَّتي قَبْلَها، أي: فعَلْنا ما فعَلْنا بأصحابِ الفيلِ؛ لأجْلِ قُرَيشٍ وأمْنِهم، واستِقامةِ مَصالِحِهم، وانتِظامِ رِحلتِهم في الشِّتاءِ لليَمَنِ، والصَّيفِ للشَّامِ؛ لأجْلِ التِّجارةِ والمكاسِبِ؛ فأهلك اللهُ مَن أرادهم بسُوءٍ، وعَظَّم أمْرَ الحَرَمِ وأهلِه في قُلوبِ العَرَبِ، حتَّى احتَرَموهم، ولم يَعتَرِضوا لهم في أيِّ سَفرٍ أرادوا). ((تفسير السعدي)) (ص: 935). ويُنظر: ((تأويل مُشْكِل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 235). وقال ابنُ كثير: (هذه السُّورةُ مفصولةٌ عن الَّتي قَبْلَها في المصحَفِ الإمامِ، كَتَبوا بيْنَهما سَطرَ بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، وإن كانت متعَلِّقةً بما قبْلَها، كما صَرَّح بذلك محمَّدُ بنُ إسحاقَ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ؛ لأنَّ المعنى عِندَهما: حَبَسْنا عن مكَّةَ الفيلَ، وأهلَكْنا أهْلَه لِإيلاِف قُرَيشٍ، أي: لائتِلافِهم واجتماعِهم في بَلَدِهم آمِنينَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/491). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّاني: ابنُ جرير، فقال: (معنى الكلامِ: اعجَبُوا لإيلافِ قُرَيشٍ رِحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ، وتَرْكِهم عبادةَ ربِّ هذا البَيتِ، الَّذي أطعَمَهم مِن جوعٍ وآمَنَهم مِن خَوفٍ؛ فلْيَعبُدوا ربَّ هذا البَيتِ، الَّذي أطعَمَهم مِن جوعٍ وآمنَهم مِن خَوفٍ، والعَرَبُ إذا جاءت بهذه اللَّامِ فأدخَلوها في الكلامِ للتَّعَجُّبِ اكتَفَوا بها دليلًا على التَّعجُّبِ مِن إظهارِ الفِعلِ الَّذي يَجلِبُها). ((تفسير ابن جرير)) (24/649). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّالثِ: الزمخشريُّ، وأبو السعود، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/800)، ((تفسير أبي السعود)) (9/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/554). قال الزمخشري: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ متعَلِّقٌ بقَولِه: فَلْيَعْبُدُوا، أمَرَهم أن يَعبُدوه لأجْلِ إيلافِهم الرِّحلَتينِ... على معنى: أنَّ نِعَمَ اللهِ عليهم لا تُحصى، فإنْ لم يَعبُدوه لسائِرِ نِعَمِه فلْيَعبُدوه لهذه الواحِدةِ الَّتي هي نِعمةٌ ظاهِرةٌ). ((تفسير الزمخشري)) (4/800، 801). وقال الشوكاني: (قُريَشٌ هم: بنو النَّضرِ بنِ كِنانةَ بنِ خُزَيمةَ بنِ مُدرِكةَ بنِ إلياسَ بنِ مُضَرَ، فكُلُّ مَن كان مِن ولَدِ النَّضرِ فهو قُرَشيٌّ، ومَن لم يَلِدْه النَّضرُ فليس بقُرَشيٍّ). ((تفسير الشوكاني)) (5/609). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/296)، ((تفسير القرطبي)) (20/202). واعتيادِهم كُلَّ عامٍ القيامَ برِحلةٍ في الشِّتاءِ إلى اليَمَنِ، ورِحلةٍ في الصَّيفِ إلى الشَّامِ للتِّجارةِ الَّتي كان بها قِوامُ عَيشِهم [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/649، 651)، ((تفسير الزمخشري)) (4/801)، ((تفسير ابن عطية)) (5/525)، ((تفسير ابن كثير)) (8/492)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 935). قال القرطبي: (كانت إحدى الرِّحلتَينِ إلى اليَمَنِ في الشِّتاءِ؛ لأنَّها بلادٌ حاميةٌ، والرِّحلةُ الأخرى في الصَّيفِ إلى الشَّامِ؛ لأنَّها بلادٌ باردةٌ). ((تفسير القرطبي)) (20/206). وقال ابن عاشور: (صارتْ مكَّةُ وسطًا تُجلبُ إليها السِّلعُ مِن جميعِ البلادِ العربيَّةِ، فتوزَّعُ إلى طالبيها في بقيةِ البلادِ، فاستغنى أهلُ مكَّةَ بالتِّجارةِ؛ إذ لم يَكونوا أهلَ زَرعٍ ولا ضَرعٍ؛ إذ كانوا بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ، وكانوا يَجلبونَ أقواتَهم...، زيادةً على ما جُعِل لهم معَ مُعظَمِ العربِ مِن الأشهُرِ الحُرُمِ، وما أُقيمَ لهم مِن مَواسِمِ الحجِّ وأسواقِه). ((تفسير ابن عاشور)) (30/560). .
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تقَرَّر أنَّ الإنعامَ لا بُدَّ أن يُقابَلَ بالشُّكرِ والعُبوديَّةِ؛ لا جَرَمَ أُتبِعَ ذِكرُ النِّعمةِ بطَلَبِ العُبوديَّةِ [8] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/298). .
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3).
أي: فلْيَعبُدوا اللهَ رَبَّ البَيتِ الحرامِ الَّذي جَعَل لهم بسَبَبِه خيرًا كثيرًا، فيَشكُروه بإخلاصِ العبادةِ له دونَ ما سِواه [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/652)، ((الوسيط)) للواحدي (4/557)، ((تفسير ابن كثير)) (8/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 935)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/560). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل: 91] .
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4).
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ.
أي: الَّذي أطعَمَ قُرَيشًا مِنَ الجُوعِ، فكفاهم ذلك [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/653)، ((الوسيط)) للواحدي (4/557)، ((تفسير القرطبي)) (20/209)، ((تفسير ابن كثير)) (8/492)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/560). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة: 126] .
وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
أي: وآمَنَهم مِنَ الخَوفِ، فلا يَعتَدي عليهم أحدٌ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/654-656)، ((الوسيط)) للواحدي (4/557)، ((تفسير ابن عطية)) (5/526)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/561). قال الواحدي: (كانوا يُسافِرونَ آمِنينَ، لا يتعَرَّضُ لهم أحدٌ، وكان غيرُهم لا يأمَنُ في سَفَرِه ولا في حَضَرِه). ((الوسيط)) (4/557). .
كما قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا [آل عمران: 96-97] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57] .
وقال عزَّ وجَلَّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ في هذا إشارةٌ إلى تمامِ قُدرتِه سُبحانَه وتعالى، وأنَّه إذا أراد شيئًا يسَّر سبَبَه؛ لأنَّ التَّدبيرَ كُلَّه له، يَخفِضُ مَن يَشاءُ وإن عَزَّ، ويَرفَعُ مَن يَشاءُ وإن ذَلَّ؛ ليُثمِرَ اعتِقادُ ذلك حُبَّه، والانقِطاعَ لعبادتِه، والاعتمادَ عليه في كُلِّ نَفعٍ ودَفعٍ [12] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/260، 261). .
2- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ رَغَدُ الرِّزقِ والأمْنُ مِنَ المخاوِفِ مِن أكبَرِ النِّعَمِ الدُّنيويَّةِ الموجِبةِ لشُكرِ اللهِ تعالى [13] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 935). .
فالآيةُ فيها أنَّ على المسلمينَ أفرادًا وجماعاتٍ أن يُقابِلوا نِعَمَ اللهِ بالشُّكرِ، وأن يَشكُروها بالطَّاعةِ والعبادةِ للهِ، وأن يَحذَروا كُفْرانَ النِّعَمِ [14] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/112). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ إنَّ اللهَ سُبحانَه تارةً يُضيفُ نَفْسَه إلى البيتِ، ويخَصِّصُه بالرُّبوبيَّةِ كما في قولِه هنا: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، وتارةً يُضيفُ البَيتَ إلى نفْسِه، كما في قولِه: طَهِّرَا بَيْتِيَ [15] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/298). [البقرة: 125] ، وذلك على سَبيلِ التَّشريفِ والتَّعظيمِ، وقال سُبحانَه في مَوضِعٍ آخَرَ: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل: 91] ، ثمَّ قال بَعْدَها: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ؛ احترازًا مِن أنْ يَتَوَهَّمَ واهِمٌ بأنَّه ربُّ البلدةِ وحْدَها، فقال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، لبيانِ عُمومِ مُلْكِه؛ لئلَّا يَدَّعِيَ المشرِكونَ أنَّه ربٌّ للبلدةِ فقط، أمَّا هنا فالمقامُ مقامُ تعظيمٍ للبَيتِ؛ فناسَبَ ذِكْرُه وَحْدَه [16] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 322). .
2- قال اللهُ تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قَولُه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ مَنِ استجابَ لهذا الأمرِ جَمَع اللهُ له بيْن أمْنِ الدُّنيا وأمْنِ الآخِرةِ، ومَن عصاه سَلَبَهما منه، كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [17] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/492). [النحل: 112-113] .
3- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ فيه سؤالٌ: ما الفائِدةُ في قَولِه: مِنْ جُوعٍ؟
الجوابُ: فيه فوائِدُ:
الفائدةُ الأُولى: التَّنبيهُ على أنَّ أمرَ الجُوعِ شَديدٌ، ومنه قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: 28] .
الفائدةُ الثَّانيةُ: تذكيرُهم الحالةَ الأُولى الرَّديئةَ المؤلِمةَ، وهي الجوعُ؛ حتى يَعرِفوا قَدْرَ النِّعمةِ الحاضِرةِ.
الفائدةُ الثَّالثةُ: التَّنبيهُ على أنَّ خيرَ الطَّعامِ ما سَدَّ الجَوعةَ؛ لأنَّه لم يَقُلْ: (وأشبَعَهم)؛ لأنَّ الطَّعامَ يُزيلُ الجُوعَ، أمَّا الإشباعُ فإنَّه يُورِثُ البِطْنةَ [18] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/299). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، فيه دليلٌ على أنَّ دَعوةَ الأنبياءِ مُستجابةٌ؛ لأنَّ الخليلَ -عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ- دعا لأهلِ الحَرَمِ بقَولِه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم: 37] ، وقال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا [إبراهيم: 35] ، وقال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ [البقرة: 129] ؛ فأطعَمَهم اللهُ مِن جُوعٍ، وآمَنَهم مِن خَوفٍ، وبَعَث فيهم رسولًا منهم يَتلو عليهم آياِته [19] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/112، 113). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ افتِتاحٌ مُبدِعٌ؛ إذ كان بمَجرورٍ بلامِ التَّعليلِ، وليس بإثْرِه بالقُربِ ما يَصلُحُ للتَّعليقِ به؛ ففيه تَشويقٌ إلى مُتعلَّقِ هذا المجرورِ، وزادَه الطُّولُ تَشويقًا؛ إذ فُصِلَ بيْنَه وبيْنَ مُتعلَّقِه بخمْسِ كَلماتٍ، فيَتعلَّقُ لِإِيلَافِ بقولِه: فَلْيَعْبُدُوا، وذلك على قولٍ. وتَقديمُ هذا المَجرورِ للاهتمامِ به؛ إذ هو مِن أسبابِ أمْرِهم بعِبادةِ اللهِ الَّتي أعْرَضوا عنها بعِبادةِ الأصنامِ، وأصْلُ نظْمِ الكلامِ: لِتَعبُدْ قُريشٌ رَبَّ هذا البَيتِ الَّذي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ، وآمَنَهم مِن خَوفٍ؛ لإيلافِهم رِحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ، فلمَّا اقْتَضى قصْدُ الاهتمامِ بالمَعمولِ تَقديمَه على عامِلِه، تَولَّدَ مِن تَقديمِه معْنى جَعْلِه شَرطًا لعامِلِه، فاقترَنَ عامِلُه بالفاءِ الَّتي هي مِن شَأنِ جَوابِ الشَّرطِ، فالفاءُ الدَّاخلةُ في قَولِه: (لِيَعْبُدُوا) مُؤْذِنةٌ بأنَّ ما قبْلَها في قوَّةِ الشَّرطِ، أي: مُؤذِنةٌ بأنَّ تَقديمَ المَعمولِ مَقصودٌ به اهتمامٌ خاصٌّ وعِنايةٌ قَويَّةٌ هي عِنايةُ المُشترِطِ بشَرْطِه، وتَعليقُ بَقيَّةِ كَلامِه عليه لِما يَنتظِرُه مِن جَوابِه، وهذا أُسلوبٌ مِن الإيجازِ بَديعٌ.
ويَجوزُ أنْ تُجعَلَ اللَّامُ مُتعلَّقةً بفِعلِ (اعْجَبوا) مَحذوفًا يُنبِئُ عنه اللَّامُ؛ لكَثرةِ وُقوعِ مَجرورٍ بها بعْدَ مادَّةِ التَّعجُّبِ، أي: اعْجَبوا لإيلافِ قُريشٍ رِحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ، وتَرْكِهم عِبادةَ ربِّ هذا البيتِ! وعلى ذلك تكونُ الفاءُ في قَولِه: فَلْيَعْبُدُوا تَفريعًا على التَّعجيبِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ لِإِيلَافِ مُتعلِّقًا بما في سُورةِ (الفيلِ) مِن قولِه: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] ، وهذا بمَنزلةِ التَّضمينِ في الشِّعرِ، وهو أنْ يَتعلَّقَ معْنى البيتِ بالَّذي قبْلَه تَعلُّقًا لا يصِحُّ إلَّا به، فالمَعْنى: أنَّه أهلَكَ مَنْ قَصَدَهم مِنَ الحبَشةِ؛ ليَتسامَعَ النَّاسُ فيَتهيَّبُوا لهمْ زِيادةَ تَهيُّبٍ، ويُحترَمُوا فضْلَ احترامٍ؛ حتَّى يَنتظِمَ لهُم الأمنُ في رِحلتَيْهِم، فَلا يَجترِئَ عليهم أحدٌ. وقيلَ: يَتعلَّقُ بمُضمَرٍ تَقديرُه: فَعَلْنا مَا فَعَلْنا مِنْ إهلاكِ أصحابِ الفيلِ لإيلافِ، فذُكِرَ ذلك للامتنانِ عليهم؛ إذ لو سُلِّطَ عليهم أصحابُ الفيلِ لَتَشتَّتوا في البلادِ والأقاليمِ، ولم تَجتمِعْ لهم كَلمةٌ [20] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/800، 801)، ((تفسير البيضاوي)) (5/340)، ((تفسير أبي حيان)) (10/548)، ((تفسير أبي السعود)) (9/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/554، 555). .
- والإيلافُ: صِيغةُ الإفعالِ فيه للمُبالَغةِ؛ لأنَّ أصْلَها أنْ تدُلَّ على حُصولِ الفعلِ مِن الجانبَينِ، فصارت تُستعمَلُ في إفادةِ قوَّةِ الفِعلِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/555). .
- وإضافةُ (إيلاف) إلى (قُريشٍ) على معْنى إضافةِ المصدَرِ إلى فاعِلِه، وحُذِفَ مَفعولُه؛ لأنَّه هنا أُطلِقَ بالمعْنى الاسميِّ لتلك العادةِ، فهي إضافةٌ مَعنويَّةٌ بتَقديرِ اللَّامِ [22] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/556). .
- وأُطلِقَ الإيلافُ في قَولِه: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، ثمَّ أُبدِلَ عنه المُقيَّدُ بالرِّحلتينِ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ؛ تَفخيمًا لأمْرِ الإيلافِ، وتَذكيرًا بعَظيمِ النِّعمةِ فيه [23] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/802)، ((تفسير البيضاوي)) (5/340)، ((تفسير أبي حيان)) (10/549)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 628)، ((تفسير أبي السعود)) (9/202)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/591). .
وأيضًا أفاد هذا التَّكرارُ بيانَ المفعولِ، وهو رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وقيل: إيلافُهم الثَّاني تأكيدٌ للأوَّلِ [24] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 255)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/545)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 628). .
وقيل: إِيلَافِهِمْ عطْفُ بَيانٍ مِن (إِيلَافِ قُرَيْشٍ)، وهو مِن أُسلوبِ الإجمالِ فالتَّفصيلِ للعِنايةِ بالخبَرِ؛ ليَتمكَّنَ في ذِهنِ السَّامعِ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/556، 557). .
- وإضافةُ رِحْلَةَ إلى الشِّتَاءِ مِن إضافةِ الفِعلِ إلى زَمانِه الَّذي يقَعُ فيه؛ فقدْ يكونُ الفِعلُ مُستغرِقًا لزَمانِه، مِثلُ قولِك: سَهَرُ اللَّيلِ وقدْ يكونُ وَقتًا لابتدائِه، مِثلُ صَلاةِ الظُّهرِ [26] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/557). . وظاهرُ الإضافةِ أنَّ رِحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ مَعروفةٌ مَعهودةٌ، وهما رِحلتانِ، فعطْفُ وَالصَّيْفِ على تَقديرِ مُضافٍ، أي: ورِحلةَ الصَّيفِ؛ لظُهورِ أنَّه لا تكونُ رِحلةٌ واحدةٌ تبتدَأُ في زَمانَينِ، فتَعيَّن أنَّهما رِحلتانِ في زَمنَينِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/557). .
- وإفرادُ رِحْلَةَ، معَ أنَّ المُرادَ رِحْلَتا الشِّتاءِ والصَّيفِ؛ لِأمْنِ الإلْباسِ [28] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/802)، ((تفسير أبي حيان)) (10/549)، ((تفسير أبي السعود)) (9/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/557). .
2- قولُه تعالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ وَجْهُ تَعليلِ الأمْرِ بتَوحيدِهم اللهَ بخُصوصِ نِعمةِ هذا الإيلافِ مع أنَّ للهِ عليهم نِعَمًا كَثيرةً؛ لأنَّ هذا الإيلافَ كان سَببًا جامعًا لأهمِّ النِّعَمِ الَّتي بها قِوامُ بَقائِهم [29] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/560). .
- وتَعريفُ (ربّ) بالإضافةِ إلى هَذَا الْبَيْتِ دونَ أنْ يُقالَ: فلْيَعبُدوا اللهَ؛ لِما يُومِئُ إليه لَفظُه مِن استحقاقِه الإفرادَ بالعِبادةِ دونَ شَريكٍ، وأُوثِرَ إضافةُ (ربّ) إلى هَذَا الْبَيْتِ دونَ أنْ يُقالَ: (ربَّهم)؛ للإيماءِ إلى أنَّ البيتَ هو أصلُ نِعمةِ الإيلافِ بأنْ أمَرَ إبراهيمَ ببِناءِ البيتِ الحرامِ، فكان سَببًا لرِفعةِ شَأنِهم بيْن العرَبِ، وذلك إدماجٌ [30] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للتَّنويهِ بشَأنِ البيتِ الحرامِ وفضْلِه [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/560). .
- والبَيتُ مَعهودٌ عندَ المُخاطَبينَ، والإشارةُ إليه (هذا)؛ لأنَّه بذلك العهْدِ كان كالحاضرِ في مَقامِ الكلامِ، على أنَّ (البَيت) بهذا التَّعريفِ باللَّامِ صار عَلَمًا بالغَلَبةِ على الكَعبةِ، و(ربِّ البيتِ) هو اللهُ، والعرَبُ يَعتَرِفون بذلك [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/560، 561). .
- وتَمكَّنَ هنا هذا اللَّفظُ (البَيت)؛ لتَقدُّمِ حِمايتِه في السُّورةِ الَّتي قبْلَها [33] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/549). .
- وأُجرِيَ وَصْفُ الرَّبِّ بطَريقةِ المَوصولِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ؛ لِما يُؤذِنُ به مِن التَّعليلِ للأمرِ بعِبادةِ ربِّ البيتِ الحرامِ بعِلَّةٍ أُخرى زِيادةً على نِعمةِ تَيسيرِ التِّجارةِ لهم، وذلك ممَّا جَعَلَهم أهلَ ثَراءٍ، وهما نِعمةُ إطعامِهِم وأمْنِهم [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/561). .
- والتَّنكيرُ في جُوعٍ وخَوْفٍ للتَّعظيمِ، يعني: أطْعَمَهم بالرِّحلتَينِ مِن جُوعٍ شَديدٍ كانوا فيه قبْلَهما، وآمَنَهم مِن خَوفٍ عَظيمٍ، وهو خَوفُ أصحابِ الفِيلِ، أو خَوفُ التَّخطُّفِ في بَلدِهم ومَسايِرِهم [35] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/803)، ((تفسير البيضاوي)) (5/340)، ((تفسير أبي حيان)) (10/550)، ((تفسير أبي السعود)) (9/203). . أو التَّنكيرُ في جُوعٍ وخَوْفٍ للنَّوعيَّةِ لا للتَّعظيمِ؛ إذ لم يَحُلَّ بهم جُوعٌ وخَوفٌ مِن قبْلُ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/561). .