غَريبُ الكَلِماتِ:
فَكُبَّتْ: أي: أُلقِيَتْ وطُرِحَتْ، والكبُّ: إسقاطُ الشَّيءِ على وجْهِه، وأصلُ (كَبَبَ): يدُلُّ على جَمعٍ وتَجمُّعٍ .
فَكُبَّتْ: أي: أُلقِيَتْ وطُرِحَتْ، والكبُّ: إسقاطُ الشَّيءِ على وجْهِه، وأصلُ (كَبَبَ): يدُلُّ على جَمعٍ وتَجمُّعٍ .
يقولُ الله تعالى مبَيِّنًا جزاءَ مَن أحسَن، وجزاءَ مَن أساء: مَن جاء يومَ القيامةِ بالحَسَنةِ فله ثوابٌ عظيمٌ عندَ اللهِ، وهم آمِنون مِنَ الفَزَعِ الواقِعِ يومَ القيامةِ، ومَن جاء يومَ القيامةِ بالسَّيِّئةِ فيُلْقَوْنَ على وُجوهِهم في النَّارِ، ويُقالُ لهم: لا تُجْزَوْنَ إلَّا بأعمالِكم الَّتي كنتُم تعمَلونها في الدُّنيا.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه أنْ يُبيِّنَ منهجَه في دعوتِه، فيقولُ: وقلْ -يا محمَّدُ- لقَومِك مِن قُرَيشٍ: إنَّما أمَرَني اللهُ أن أعبُدَه وَحْدَه، هو رَبُّ هذه البَلْدةِ -مكَّةَ- الَّذي جعَلَها حَرَمًا آمِنًا، وله كُلُّ الأشياءِ خَلْقًا ومِلكًا وتصَرُّفًا، وأمَرَني أن أكونَ مِن المُستسلِمينَ له بالتَّوحيدِ، وأن أقرأَ القُرآنَ وأتَّبِعَ ما فيه، فمَنْ آمَنَ بالقُرآنِ واتَّبَع الحَقَّ فإنَّما ثوابُ اهتدائِه راجِعٌ إليه، ومَن كفَرَ بالقُرآنِ وأعرَضَ، فقُلْ له: إنَّما أنا مِن المُنذِرينَ عذابَ اللهِ وسَخَطَه.
ثمَّ يقولُ الله تعالى: وقُلْ -يا محمَّدُ-: الحمدُ لله، سيُريكم في الدُّنيا آياتِ عَذابِه ودَلائلَ وحدانيَّتِه وقدرتِه، فتَعرِفونَها، وما ربُّك بغافِلٍ عمَّا تعمَلونَ.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تكلَّمَ سُبحانَه في علاماتِ القيامةِ؛ شرَحَ بعْدَ ذلك أحوالَ المكلَّفِينَ بعدَ قيامِ القيامةِ، فقال تعالى
:
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا.
أي: مَن جاء يومَ القيامةِ بالحَسَنةِ
فله ثَوابٌ عظيمٌ عندَ اللهِ
.
وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ.
أي: وهم آمِنونَ يومَ القيامةِ مِن الفَزَعِ الحاصِلِ للخَلقِ
.
كما قال تعالى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] .
وقال سُبحانه: إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ [سبأ: 37] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40] .
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ.
أي: ومَن جاء يومَ القيامةِ بالسَّيِّئةِ
فيُلْقَوْنَ في النَّارِ على وُجوهِهم
.
كما قال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97] .
هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: يُقالُ لهم
: لا تُجازَونَ إلَّا بحَسَبِ أعمالِكم الَّتي كنتُم تَعمَلونَها في الدُّنيا
.
كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس: 54] .
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أَتَمَّ سبحانه الدِّينَ بذِكرِ الأصولِ الثَّلاثةِ: المبدأِ والمعادِ، والنُّبوَّةِ، ومقَدِّماتِ القيامةِ وأحوالِها، وبعضِ صفتِها وما يكونُ مِن أهوالِها، وذلك كمالُ ما يَتعلَّقُ بأصولِ الدِّينِ على وجوهٍ مُرَغِّبةٍ أتَمَّ ترغيبٍ، مُرَهِّبةٍ أعظَمَ ترهيبٍ؛ أوجَبَ هذا التَّرغيبُ والتَّرهيبُ لكلِّ سامعٍ أن يقولَ: فما الذي نعملُ؟ ومَن نعبُدُ؟ فأجابَه المخاطَبُ بهذا الوحيِ، المأمورُ بإبلاغِ هذه الجوامِعِ، الدَّاعي لِمَن سمِعَه، الهادي لِمَنِ اتَّبَعَه؛ بأنَّه يَرضى له ما رَضيَ لنَفْسِه، وهو ما أمَرَه به ربُّه، فقال
:
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِقَومِك مِن قُرَيشٍ: إنَّما أمرَني اللهُ أن أعبُدَ رَبَّ هذه البلدةِ -مكَّةَ- الذي جعَلَها حَرَمًا آمِنًا؛ حرَّم فيها على خَلقِه أن يَسفِكوا دمًا حرامًا، أو يَظلِموا أحدًا، أو يَصيدوا فيها، أو يَقطَعوا شَجَرَها
.
كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 11، 12].
وقال عزَّ وجلَّ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يومَ افتتَحَ مَكَّةَ: لا هِجرةَ، ولكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنفِرتُم فانفِروا
؛ فإنَّ هذا بلدٌ حَرَّمَ اللهُ يومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، وهو حرامٌ بحُرمةِ الله إلى يومِ القيامةِ، وإنَّه لم يَحِلَّ القِتالُ فيه لأحدٍ قَبْلي، ولم يَحِلَّ لي إلَّا ساعةً مِن نهارٍ؛ فهو حرامٌ بحُرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ: لا يُعضَدُ شَوكُه
، ولا يُنفَّرُ صَيدُه، ولا يَلتَقِطُ لُقَطَتَه إلَّا مَن عَرَّفها، ولا يُخْتَلى خَلَاها
، قال العبَّاسُ: يا رسولَ اللهِ، إلَّا الإذخِرَ؛ فإنَّه لِقَيْنِهم
ولِبُيوتِهم، قال: إلَّا الإذخِرَ))
.
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت إضافةُ البلدةِ إليه إنَّما هي لمحضِ التَّشريفِ، قال احتراسًا عمَّا لعلَّه يُتَوَهَّمُ: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي: مِن غيرِها ممَّا أشرَكْتُموه به وغيره خلْقًا ومُلْكًا ومِلْكًا
!
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
أي: وللهِ- رَبِّ مَكَّةَ- الأشياءُ كُلُّها خَلقًا ومِلكًا وتصرفًا
.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أي: وأمَرَني اللهُ أن أكونَ مِن المُستسلِمينَ له بالتَّوحيدِ، المنقادينَ له بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نواهيه
.
كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14].
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ ما أُمِرَ به في نَفْسِه؛ أتبَعَه ما تَعُمُّ فائِدتُه غيرَه، فقال
:
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ.
أي: وأمَرَني اللهُ أن أقرأَ القرآنَ وأتَّبِعَ ما فيه
.
كما قال تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف: 27] .
وقال سُبحانَه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأحزاب: 2] .
وقال جلَّ جلالُه: وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] .
فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.
أي: فمَنْ آمَنَ بالقُرآنِ وعَمِلَ به واتَّبَع الحَقَّ الَّذي فيه، فإنَّما ثَوابُ ذلك ونَفْعُه يعودُ إليه
.
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [يونس: 108] .
وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ.
أي: ومَن كفَرَ بالقُرآنِ وأعرَضَ عن العمَلِ بما فيه، فقُلْ له: إنَّما أنا مِن الرُّسُلِ المخَوِّفِينَ عذابَ اللهِ وسَخَطَه وعواقِبَ ضَلالِكم؛ فليس علَيَّ إلَّا البلاغُ المُبينُ، وقد أبلَغْتُكم وخوَّفتُكم، وهدايتُكم ليسَت بيدي، ولا وَبالُ ضَلالِكم علَيَّ
.
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس: 108] .
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93).
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا.
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ-: المتَّصِفُ بالكَمالِ هو اللهُ تعالى الذي أنعَمَ علينا وهدانا، وبيَّن آياتِه وأقام الحُجَّةَ على عبادِه، سيُريكم في الدُّنيا آياتِ عذابِه ودلائِلَ وحدانيَّتِه وقُدرتِه، فيتبيَّنُ لكم صِدقُ ما أخبَرَكم اللهُ به، وصِدقُ ما دَعوتُكم إليه وتوعَّدتُكم به
.
كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] .
وقال سُبحانَه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى تَعْمَلُونَ قراءتانِ:
1- قِراءةُ تَعْمَلُونَ على الخِطابِ. قيل: المعنى: عمَّا تعمَلُه أنت وأتْباعُك -يا محمَّدُ- مِن الطَّاعةِ، وما يَعمَلُه أولئك المُشرِكون مِن المعصيةِ
.
2- قِراءةُ يَعْمَلُونَ أي: ما يَعمَلُه أولئك المُشرِكون المكَذِّبون
.
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: وما ربُّك بغافلٍ عمَّا تعملونَه، بل هو شَهيدٌ على كلِّ أعمالِكم، وسيُجازيكم عليها، ولا يَحزُنْك -يا محمَّدُ- تكذيبُهم لك؛ فإنِّي لهم بالمِرْصادِ، ولك الغَلَبةُ والنَّصرُ، ولهم الذُّلُّ والخِزْيُ
.
1- في قَولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ استُدِلَّ به على أنَّ الثوابَ أفضَلُ مِن العَمَلِ
، وذلك على أحدِ القولَينِ في التَّفسيرِ.
2- في قَولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ سؤالٌ، وهو: كيف يُؤتَى بالحَسَناتِ وهي أعمالٌ مَضَتْ، والأعمالُ مَعانٍ وليست أجسامًا؟!
الجواب: أنَّ اللهَ تبارك وتعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ، يَقْلِبُ هذه المعانيَ إلى أجسامٍ مِثلَما قَلَبَ الموتَ -وهو معنًى- إلى جسمٍ، وهو الكَبشُ
؛ فاللهُ تعالى على كلِّ شَيءٍ قديرٌ، قال النَّبِيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأصحابِه: ((مَن تَعُدُّون المُفلِسَ فيكم؟ قالوا: مَن لا دِرْهمَ عندَه ولا مَتاعَ، فقال: المُفلِسُ مَن يأتي يومَ القيامةِ بحَسَناتٍ أمثالِ الجِبالِ ...)) إلى آخِرِ الحديثِ
، فالمجيءُ بالأعمالِ يومَ القيامةِ ليس بمُمتَنِعٍ؛ لأنَّ الله تعالى على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ
.
3- في قَولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ أنَّ العِبرةَ بالمجيءِ بالحَسَنةِ لا بعَمَلِها؛ وذلك لأنَّ عامِلَ الحسنةِ في الدُّنيا قد لا يأتي بها يومَ القيامةِ؛ حيثُ يحصلُ ما يُبطِلُها؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة: 264] ، فقد يعمَلُ الإنسانُ الحَسَنةَ، لكنْ يأتي بشَيءٍ يُبْطِلُها فلا يأتي بها يومَ القيامةِ، والمدارُ على الإتيانِ بها يومَ القيامةِ
.
4- في قَولِه تعالى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ سؤالٌ: أليس قال تعالى في أوَّلِ الآيةِ: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فكيف نفى الفَزعَ هاهنا؟!
الجوابُ: أنَّ الفزعَ الأوَّلَ لا يَخلو منه أحدٌ عندَ الإحساسِ بشدَّةٍ تقعُ أو هَولٍ يَفجَأُ إلَّا ما استُثنِي -وإنْ كان المحسِنُ آمنًا مِن لَحاقِ الضَّررِ-، وأمَّا الثَّاني فهو الخَوفُ مِن العَذابِ
.
5- أنَّ مَن جاء بالسَّيِّئةِ فإنه لا يأمنُ مِن الفَزَعِ، وهو مأخوذٌ مِن مَفهومِ قولِه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ يعني: أمَّا مَن جاء بالسَّيِّئةِ فإنَّه لا يأمنُ؛ ولهذا تُكَبُّ وُجوهُهم في النارِ
.
6- قولُه تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه كمالُ عَدْلِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ فالمعنى: ما ظَلَمْناكم، بل أنتم الَّذين ظلَمْتُم أنفُسَكم، فعَمِلتُم ما استَحْقَقْتُم به هذا العذابَ
.
7- في قَولِ الله تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أنَّ عذابَ أهلِ النارِ -والعياذُ باللهِ- عذابٌ نفْسيٌّ وبَدَنيٌّ؛ بَدَنيٌّ حيثُ تُكَبُّ وجوهُهم في النَّارِ، ونفْسيٌّ حيثُ يُوَبَّخون ويُقرَعون: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
.
8- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وجوبُ العبادةِ على النَّبِيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِقَولِه: أَنْ أَعْبُدَ، كما تجِبُ العبادةُ على غيرِه، ويجبُ عليه هو -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنْ يَشهدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّه رسولُ اللهِ، فهذا مقتضى الإسلامِ، وفي الآية بُطلانُ القولِ بأنَّ الوليَّ يَصِلُ إلى دَرَجةٍ يَسقطُ بها عنه التَّكليفُ، وهذا موجودٌ عندَ الصُّوفيةِ وغيرِهم؛ يقولون: هذه العباداتُ التي نُكَلَّفُ بها وسائِلُ إلى غايةٍ، والغايةُ: اليقينُ، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] ، فإذا وَصَلَ الإنسانُ إلى اليقينِ سقطتْ عنه العبادةُ! فإذا كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أُمِرَ أن يعبُدَ اللهَ، فغَيرُه من بابِ أَولى
.
9- قال الله تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا في قَولِه: حَرَّمَهَا تعديدُ نِعمتِه على قُرَيشٍ في رَفعِ الله تعالى عن بلَدِهم الغاراتِ والفِتَنَ الشَّائعةَ في جميعِ بلادِ العَرَبِ
.
10- قولُه تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا فيه فضيلةُ مكَّةَ مِن وَجهَينِ: مِن إضافةِ الرُّبوبيَّةِ إليها رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، ومِن كونِه تعالى حَرَّمَها الَّذِي حَرَّمَهَا؛ ففيه فضيلةُ مكَّةَ على سائرِ البلادِ
.
11- في قَولِه تعالى: الَّذِي حَرَّمَهَا سؤالٌ: وهو أنَّ الذي حَرَّمَ مكةَ هو اللهُ، ألَا يُعارِضُ ذلك ما ثَبَت عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن قولِه: ((إنَّ إبراهيمَ حَرَّمَ مكَّةَ ))
؟!
الجوابُ: أنَّه أُضيفَ في هذه الآيةِ التَّحريمُ إلى اللهِ تعالى من حيثُ ذلك بقَضائِه وسابِقِ عِلمِه، وأضافه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى إبراهيمَ عليه السلامُ في قَولِه: ((إنَّ إبراهيمَ حرَّم مكَّةَ )) مِن حيث كان ظهورُ ذلك بدُعائِه ورَغبتِه وتبليغِه لأمَّتِه؛ فليس بيْنَ الآيةِ والحديثِ تعارُضٌ
.
12- في قَولِه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الرَّدُّ على المعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ الذين يقولون: إنَّ الإنسانَ مُستَقِلٌّ بعَمَلِه، فإنَّه على قَولِهم يَخرجُ بعضُ الأشياءِ عن مُلْكِ اللهِ! واللهُ تعالى يقولُ: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
.
13- في قَولِه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ثم قولِه بعدَ ذلك: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سؤالٌ، وهو: أليسَتِ العبادةُ هي الإسلامَ؟
الجوابُ: بلى، العبادةُ هي الإسلامُ، لكنَّه قال: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا، والعِبادةُ هي التَّذلُّلُ له بالطَّاعةِ، ثمَّ قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أيْ: أنْ أُحَقِّقَ هذه العِبادةَ بالاستِسلامِ التَّامِّ لأوامرِ الله تبارك وتعالى، فالإنسانُ قد يكونُ عابدًا في الأصلِ لَكِنِ الانقيادُ التَّامُّ بجميعِ مشروعاتِ الإسلامِ يُستفادُ مِن قولِه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أي: مِنَ المُنقادينَ لحُكمِ الله سبحانه وتعالى انقيادًا تامًّا، لا مُعارَضةَ عندَهم ولا استكبارَ
.
14- أنَّ الإسلامَ والإيمانَ شَيءٌ واحدٌ؛ لأنَّ قولَه: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لا شكَّ أنَّ ما أُمِرَ به هو أعلى الحالاتِ، وهو الإيمانُ. والإسلامُ عندَ الإطلاقِ يشملُ الإيمانَ، والإيمانُ عند الإطلاقِ يشملُ الإسلامَ، وأمَّا عندَ التَّقييدِ وأن يُقرَنَ بيْنَهما فإنَّ الإيمانَ يكونُ ما وقَرَ في القَلبِ، والإسلامَ ما قامت به الجوارِحُ؛ لأنَّ الإسلامَ مِنَ الاستِسلامِ، وهو عدَمُ المعارَضةِ، بل الموافَقةُ؛ فالمنافِقون الَّذين لا يُظهِرونَ مُعارَضةً نُسَمِّيهم مُسلِمينَ، لكِنْ لا نُسَمِّيهم مُؤمِنينَ؛ لعدَمِ وُجودِ الإيمانِ في قلوبِهم
.
15- في قوله: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دليلٌ على أنَّ هناك مُسلِمينَ، فهل اليهودُ والنَّصارى مسلمون؟
الجواب: حينَ كانت شرائعُهم قائمةً فهم مسلمون، أمَّا بعدَ أن نُسِختْ فإنَّهم إذا لم يَلتزِموا بالشَّريعةِ النَّاسخةِ لم يكونوا مُسلِمينَ، فالإسلامُ هو الدِّينُ عندَ الله في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وبعدَ بَعثةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا إسلامَ إلَّا باتِّباعِ شريعتِه، وإلَّا فأصلُ الإسلام -كما هو معروفٌ- مِنَ الاستِسلامِ، وهو الانقيادُ، وهذا يشملُ كلَّ انقيادٍ لله سبحانه وتعالى، سواءٌ في عصرِ هذه الأُمَّةِ أو قبْلَها، فنوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقولُ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 72] ، مِثلَما قيل للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقال عن يعقوبَ: إنَّه قال لِبَنِيهِ: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132] ، وقالت بِلْقيسُ: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
[النمل: 44] .
16- قَولُه تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فيه وُجوبُ تبليغِ القرآنِ على النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
.
17- حقيقةُ التِّلاوةِ في قولِه: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ وغيرِه مِنَ المَواضِعِ كقولِه تعالي: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت: 45] ، وقولِه: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة: 121] هي التِّلاوةُ المُطْلَقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللَّفظِ والمعنى؛ فتِلاوةُ القرآنِ تَتناوَلُ تِلاوةَ لفظِه ومعناه، وتِلاوةُ اللَّفظِ جُزءُ مُسمَّى التِّلاوةِ المُطْلَقةِ، وحقيقةُ اللَّفظِ إنَّما هي الاتِّباعُ، فتِلاوةُ اللَّفظِ وسيلةٌ وطريقٌ، والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقيَّةُ، وهي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبرِه، وائْتِمارًا بأمرِه، وانتهاءً عن نَهْيِه، وائتمامًا به، حيثُما قادك انقَدْتَ معه، فتِلاوةُ المعنى أشرَفُ مِن مجرَّدِ تلاوةِ اللَّفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآنِ الَّذين لهم الثَّناءُ في الدُّنيا والآخرةِ؛ فإنَّهم أهلُ مُتابَعةٍ وتِلاوةٍ حقًّا
.
18- قولُه تعالى: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ، أي: أُواظِبَ على تِلاوتِه على النَّاسِ بطَريقِ تَكريرِ الدَّعوةِ وتَثنيةِ الإرشادِ؛ فيكونُ ذلك تَنبيهًا على كِفايتهِ في الهِدايةِ والإرشادِ مِن غَيرِ حاجةٍ إلى إظْهارِ مُعجزةٍ أُخرى
؛ ففيه فَضيلةُ القرآنِ وشَرَفُه
.
19- كان ما أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنْ يقولَه للمُعاندين مُشتمِلًا على أنَّ اللهَ هداهُ للدِّينِ الحقِّ مِن التَّوحيدِ وشرائعِ الإسلامِ، وأنَّ اللهَ هدَى به النَّاسَ بما أنزَلَ اللهُ عليه مِن القرآنِ المَتلُوِّ، وأنَّه جعَله في عِدادِ الرُّسلِ المُنذِرينَ؛ فكان ذلك مِن أعظَمِ النِّعمِ عليه في الدُّنيا، وأبْشَرِها بأعظَمِ دَرجةٍ في الآخرةِ؛ مِن أجْلِ ذلك أُمِرَ بأنْ يَحمَدَ اللهَ بالكلمةِ الَّتي حمِدَ اللهُ بها نفْسَه، وهي كلمةُ (الحمدُ للهِ) الجامعةُ لِمَعانٍ مِن المحامِدِ؛ قال تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
.
1- قولُه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للتَّمهيدِ لخِتامِ السُّورةِ بإجمالِ مَصيرِ المُحسِنِ والمُسيءِ
. وقِيل: بَيانٌ لِمَا أُشِيرَ إليه بإحاطةِ عِلْمِه تعالى بأفْعالِهم مِن تَرتيبِ أَجْزِيتِها عليها
.
- قولُه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ... بَيانٌ ناشئٌ عن قولِه: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل: 87] ؛ لأنَّ الفزَعَ مُقتَضٍ الحشرَ والحضورَ للحسابِ
.
- وقَوله: فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ فأضاف الفَزَعَ إلى يومِ القيامةِ؛ لأنَّه فَزَعٌ لا نظيرَ له في الدُّنيا
.
2- قوله تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قولُه: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ خُصَّتِ الوُجوهُ بالذِّكرِ هنا؛ لأنَّها أشرَفُ الأعضاءِ، ويلْزَمُ مِن كَبِّها في النَّارِ كبُّ الجميعِ. أو عُبِّرَ بالوجْهِ عن جُملةِ الإنسانِ، كما يُعبَّرُ عنها بالرَّأسِ والرَّقَبةِ، كما قال: فَكُبْكِبُوا فِيهَا [الشعراء: 94] ، فكأنَّه قِيل: فكُبُّوا في النَّارِ. ويجوزُ أنْ يكونَ ذِكْرُ الوُجوهِ إيذانًا بأنَّهم يُكَبُّون على وُجوهِهم فيها مَنكوسينَ. ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك كِنايةً عن طرْحِهم في النَّارِ
.
- في قولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ احتباكٌ
؛ حيث ذَكَرَ الخيريَّةَ والأمْنَ أوَّلًا دليلًا على حذْفِ المِثْلِ؛ وعلى الخوفِ ثانيًا، وذَكَر الكَبَّ في النَّارِ ثانيًا دليلًا على الإكرامِ عنه أوَّلًا
.
- قولُه: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَذييلٌ للزَّواجرِ المُتقدِّمةِ؛ فالخِطابُ للمُشركين الذين يسْمَعون القرآنَ على طَريقةِ الالتفاتِ مِن الغَيبةِ بذِكْرِ الأسماءِ الظَّاهرةِ -وهي مِن قَبِيلِ الغائبِ- وذِكْرِ ضَمائرِها ابتداءً مِن قولِه: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل: 80] وما بعْدَه مِن الآياتِ إلى هنا. ومُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: هلْ يُجْزَون إلَّا ما كانوا يعْمَلون؛ فكانت هذه الجُملةُ كالتَّلخيصِ لِمَا تقدَّمَ، وهو أنَّ الجزاءَ على حسَبِ عقائدِهم وأعمالِهم، وما العقيدةُ إلَّا عمَلُ القلْبِ؛ فلذلك وُجِّهَ الخِطابُ إليهم بالمُواجَهةِ. ويجوزُ أنْ تكونَ مَقولًا لقولٍ مَحذوفٍ يُوجَّهُ إلى النَّاسِ يَومَئذٍ، أي: يُقالُ لكلِّ فريقٍ: هلْ تُجْزَون إلَّا ما كُنتم تعْمَلون
؟
- والاستفهامُ في قولِه: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ استفهامٌ في مَعنى النَّفيِ؛ بقَرينةِ الاستثناءِ. ولعلَّ أصلَ ذلك أنَّه استفهامٌ عن النَّفيِ لقَصدِ التَّقريرِ بالنَّفيِ، والتَّقديرُ: هلْ لا تُجْزَون إلَّا ما كُنتم تعْمَلون، فلمَّا اقتَرَن به الاستثناءُ غالبًا والحرفُ الزَّائدُ في النَّفيِ في بعضِ المواضعِ، حَذَفوا النَّافيَ، وأشْرَبوا حرفَ الاستفهامِ معنى النَّفيِ؛ اعتمادًا على القرينةِ، فصار مُفادُ الكلامِ نفْيًا، وانسلَخَتْ (هل) عن الاستفهامِ، فصارت مُفيدةً النَّفيَ
.
3- قولُه تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هذه الخاتمةُ كالمُتارَكةِ للمُشركينَ، وهي خاتمةٌ تُدهِشُ العقولَ، وتُحيِّرُ الأفهامَ؛ فإنَّه تعالى لَمَّا ختَمَ الآياتِ الواردةَ في أمْرِ البعثِ والحشرِ على أتمِّ ما يَنْبغي بقولِه: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على الحصرِ، ووضَعَ مَوضِعَ حَرفِ النَّفيِ الاستفهامَ تأكيدًا؛ أمَرَ حَبيبَه صلواتُ اللهِ عليه بخُوَيْصَّةِ نفْسِه مِن الاشتغالِ بعِبادةِ ربِّه، فاختار له مِن الأمكنةِ أفضَلَ البِقاعِ، وخصَّها مِن الأوصافِ ما كلُّ وَصفٍ دونَها، وجعَلَ دخولَ كلِّ شَيءٍ تحتَ مَلكوتِه كالتَّابعِ لدُخولِها تحتَه. ومِن المِلَّةِ خيرَ المِلَلِ وأقْومَها؛ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] . ومِن الكُتبِ أسْمى الكُتبِ وأسْناها؛ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ، ثمَّ أمَرَ بعدَ ذلك كلِّه بالتَّحميدِ حمْدًا على ما أَولاهُ مِن نِعَمِ التَّبليغِ، واستفراغِ الطَّوقِ والجُهدِ فيه، ومِن اختصاصِ اللهِ بالعِبادةِ في أشرَفِ البقاعِ، ومِن الدُّخولِ في المِلَّةِ الحنيفيَّةِ، ومِن تِلاوةِ هذا الكتابِ الكريمِ، ثمَّ طبَعَ الكتابَ بالتَّهديدِ بقولِه: سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا [النمل: 93] ، يعني: حينَ أعْرَضوا عن واعظِ اللهِ، وأمَرْنا الرَّسولَ بالمُتارَكةِ، سنَفرُغُ لهم وحْدَنا، ونُلجِئُهم إلى المعرفةِ والإقرارِ بآياتِنا حينَ لا تَنفَعُهم المعرفةُ، كقولِه تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 31، 32]، واللهُ يقولُ الحقَّ، وهو يَهْدي السَّبيلَ
.
- وقد اسْتُؤنِفَ الكلامُ استئنافًا يكونُ فَذْلَكةَ الحسابِ، وخِتامًا للسُّورةِ وفصْل الخِطابِ؛ أفسَدَ به على المُشركينَ ازدهاءَهم بما يَحسَبون أنَّهم أفْحَموا الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بما ألْقَوه عليه، ويَزِيدُ الرَّسولَ تَثبيتًا وتطْمينًا بأنَّه أرْضى ربَّه بأداءِ أمانةِ التَّبليغِ؛ وذلك بأنْ أمَرَ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يقولَ لهم: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا، فهذا تلْقينٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ. والجُملةُ مَقولُ قولٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه ما عُطِفَ عليه في هذه الآيةِ مرَّتينِ، وهو فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل: 92، 93]؛ فإنَّ الأوَّلَ مُفرَّعٌ عليه، فهو مُتَّصلٌ به، والثَّانيَ معطوفٌ على أوَّلِ الكلامِ
.
- قولُه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ فيه افتتاحُ الكلامِ بأداةِ الحصْرِ؛ لإفادةِ حَصرٍ إضافيٍّ باعتبارِ ما تَضمَّنَتْه مُحاوَراتُهم السَّابقةُ مِن طَلبِ تعجيلِ الوعيدِ، وما تَطاوَلوا به مِن إنكارِ الحشرِ
.
- وأدْمَجَ في خلالِ هذا الكلامِ: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ؛ تَنويهًا بشأْنِ مكَّةَ، وتَعريضًا بهم بكُفرِهم بالَّذي أسْكَنَهم بها وحرَّمَها، فانتَفَعوا بتَحريمِها، وأشْعَرَهم بأنَّهم لا يَملِكُون تلك البلدةَ؛ فكاشَفَهم اللهُ بما تُكِنُّه صُدورُهم مِن خواطرِ إخراجِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ مِن مكَّةَ؛ وذلك مِن جُملةِ ما اقتضاهُ قولُه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [النمل: 74]؛ فلهذه النُّكتِ أُجْرِيَ على اللهِ صِلَةُ حرَمِ تلك البلدةِ، دونَ أنْ يكونَ المَوصولُ للبلدةِ؛ فلذا لم يَقُلْ: الَّتي حرَّمَها اللهُ؛ لِمَا تَتضمَّنُه الصِّلةُ مِن التَّذكيرِ بالنِّعمةِ عليهم، ومِن التَّعريضِ بضَلالِهم؛ إذ عَبَدوا أصنامًا لا تَملِكُ مِن البلدةِ شيئًا، ولا أكسَبَتْها فضْلًا ومَزِيَّةً، وهذا كقولِه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ
[قريش: 3] .
- قولُه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا البلدةُ هي مكَّةُ المُعَظَّمةُ، وتَخصيصُها بالإضافةِ؛ لتَفخيمِ شأْنِها، وإجلالِ مكانِها، والتَّعرُّضُ لتَحريمهِ تعالى إيَّاها: تَشريفٌ لها بعدَ تَشريفٍ، وتعظيمٌ إثْرَ تَعظيمٍ، مع ما فيه مِن الإشعارِ بعلَّةِ الأمرِ ومُوجِبِ الامتثالِ به، ومِن الرَّمزِ إلى غايةِ شَناعةِ ما فعَلُوا فيها؛ ألَا تَرى أنَّهم مع كَونِها مُحرَّمةً مِن أنْ تُنتهَكَ حُرمَتُها باختِلاءِ خَلاها، وعَضدِ شَجَرِها، وتَنفيرِ صَيدِها، وإرادةِ الإلحادِ فيها بوَجهٍ مِن الوجوهِ؛ قد استمَرُّوا فيها على تَعاطِي أفجَرِ أفرادِ الفُجورِ، وأشنعِ آحادِ الإلحادِ؛ حيثُ ترَكُوا عِبادةَ ربِّها، ونصَبُوا فيها الأوثانَ وعكفُوا على عِبادتِها
؟!
- وإنَّما اختَصَّها مِن بيْنِ سائرِ البلادِ بإضافةِ اسْمِه إليها؛ لأنَّها أحَبُّ بِلادِه إليه، وأكرَمُها عليه، وأعظَمُها عندَه، وأشار إليها إشارةَ تَعظيمٍ لها وتقْريبٍ، دالًّا على أنَّها مَوطِنُ نبِيِّه ومَهْبطُ وَحْيِه، ووصَفَ ذاتَه بالتَّحريمِ الذي هو خاصُّ وَصْفِها، فأجزَلَ بذلك قَسْمَها في الشَّرفِ والعُلوِّ، وجعَلَ دُخولَ كلِّ شيءٍ تحتَ رُبوبيَّتِه ومَلكوتِه كالتَّابعِ لدُخولِها تحتَهما؛ فأضافَ الرَّبَّ إلى البلدةِ إضافةَ تمْليكٍ، وهو بمعنى مالكٍ، ثمَّ عقَّبَ ذلك بقولِه: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ على وَجهِ التَّتميمِ؛ لِيُؤذِنَ بالفرْقِ بيْنَ المِلْكينِ، وأنَّ أحدَهما كالتَّابعِ، والآخَرَ كالمتبوعِ. وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ مَلِكًا قد ملَكَ مِثلَ هذه البلدةِ عظيمُ الشَّأنِ قد ملَكَها، وملَكَ إليها كلَّ شَيءٍ
. وقيل: تحتَ قولِه: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ فائدةٌ أُخرى سِوى ذلك؛ ففيهِ احتراسٌ بَديعٌ، فقد أضاف سُبحانه اسْمَه إلى مكَّةَ تَشريفًا لها وذِكرًا لتَحريمِها، ولَمَّا أضاف اسمَه إلى البلدةِ المَخصوصةِ بهذا التَّشريفِ أتبَعَ ذلك إضافةَ كلِّ شَيءٍ سِواها إلى مِلْكِه؛ قطْعًا لتَوهُّمِ اختصاصِ ملكِه بالبلدةِ المُشارِ إليها، وتَنبيهًا على أنَّ الإضافةَ الأُولى إنَّما قُصِدَ بها التَّشريفُ، لا لأنَّها مِلكُ اللهِ تعالى خاصَّةً
.
- والعُدولُ عن ذِكرِ مكَّةَ باسْمِها العَلمِ إلى طَريقةِ الإشارةِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ؛ لِمَا تَقْتضيهِ الإشارةُ مِن التَّعظيمِ
.
- قولُه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فيه تَكريرُ (أُمِرْتُ)؛ للإشارةِ إلى الاختلافِ بيْن الأمْرَينِ؛ فإنَّ الأوَّلَ أمْرٌ يَعمَلُه في خاصَّةِ نفْسِه، وهو أمْرُ إلْهامٍ؛ إذ عصَمه اللهُ مِن عِبادةِ الأصنامِ مِن قبْلِ الرِّسالةِ. والأمْرُ الثَّاني أمْرٌ يَقْتضي الرِّسالةَ، وقد شمَلَ دعوةَ الخلْقِ إلى التَّوحيدِ. ولهذه النُّكتةِ لم يُكرِّرْ (أُمِرْت) في قولِه: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ [النمل: 92] ؛ لأنَّ كلًّا مِن الإسلامِ والتِّلاوةِ مِن شُؤونِ الرِّسالةِ
.
- وفي قولِه: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَنويهٌ بهذه الأُمَّةِ؛ إذ جعَلَ اللهُ رسولَه مِن آحادِها، وذلك نُكتةُ العُدولِ عن أنْ يقولَ: (أن أكونَ مُسلِمًا)
.
4- قوله تعالى: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ
- قولُه: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فيه حذْفُ مُتعلَّقِ التِّلاوةِ؛ لظُهورِه، أي: أنْ أتلُوَ القرآنَ على النَّاسِ.
- قولُه: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فرَّعَ على التِّلاوةِ ما يَقْتضي انقسامَ النَّاسِ إلى مُهتَدٍ وضالٍّ، أي: مُنتفِعٍ بتِلاوةِ القرآنِ عليه وغيرِ مُنتفِعٍ، مُبيِّنًا أنَّ مَن اهْتَدى فإنَّما كان اهتداؤُه لفائدةِ نفْسِه. وهذا زِيادةٌ في تَحريضِ السَّامعينَ على الاهتداءِ بهَدْيِ القرآنِ؛ لأنَّ فيه نَفْعَهم كما آذنَتْ به اللَّامُ
.
- قولُه: فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فيه إظهارُ فِعلِ القولِ؛ لتَأكيدِ أنَّ حظَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن دَعوةِ المُعرضين الضَّالِّين أنْ يُبلِّغَهم الإنذارَ؛ فلا يَطْمَعوا أنْ يَحمِلَه إعراضُهم على أنْ يُلِحَّ عليهم في قَبولِ دَعوتِه
.
5- قولُه تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنْ يَحمَدَ اللهَ بالكلمةِ التي حمِدَ اللهُ بها نفْسَه، ثمَّ استأنَفَ بالاحتراسِ ممَّا يَتوهَّمُه المُعانِدون حين يسْمَعون آياتِ التَّبرُّؤِ مِن مَعرفةِ الغيبِ، وقصْرِ مَقامِ الرِّسالةِ على الدَّعوةِ إلى الحقِّ مِن أنْ يكونَ في ذلك نقْضٌ للوعيدِ بالعذابِ؛ فختَمَ الكلامَ بتَحقيقِ أنَّ الوعيدَ قريبٌ لا مَحالةَ، وأنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعْدَه، فتَظهَرُ لهم دَلائلُ صِدقِ اللهِ في وعْدِه؛ ولذلك عبَّرَ عن الوعيدِ بالآياتِ إشارةً إلى أنَّهم سيَحُلُّ بهم ما فيه تَصديقٌ لِمَا أخْبَرَهم به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ حينَ يُوقِنون أنَّ ما كان يقولُ لهم هو الحقُّ؛ فمعنى فَتَعْرِفُونَهَا: تَعرِفون دَلالتَها على ما بلَّغَكم الرَّسولُ مِن النِّذارةِ؛ لأنَّ المعرفةَ لَمَّا عُلِّقَت بها بعُنوانِ أنَّها آياتُ اللهِ، كان مُتعلَّقُ المعرفةِ هو ما في عُنوانِ الآياتِ مِن معنى الدَّلالةِ والعلامةِ
.
- قولُه: سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا تَهديدٌ لأعدائِه بما سَيُرِيهم اللهُ مِن آياتِه التي تُلجِئُهم إلى المعرفةِ والإقرارِ بأنَّها آياتُ اللهِ، وذلك حينَ لا تَنفعُهم المعرفةُ. وقيل: هو كقولِه: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] الآيةَ، وكلُّ عمَلٍ يَعمَلونه فاللهُ عالِمٌ به، غيرُ غافلٍ عنه؛ لأنَّ الغفلةَ والسَّهوَ لا يَجوزانِ على اللهِ
.
- قولُه: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كلامٌ مَسوقٌ مِن جِهتِه تعالى بطَريقِ التَّذييلِ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، مُتضمِّنٌ للوعدِ والوعيدِ، كما يُنبِئُ عنه إضافةُ الرَّبِّ إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وتَخصيصُ الخِطابِ أوَّلًا به صلَّى الله عليه وسلَّمَ وتَعميمُه ثانيًا للكَفَرةِ تغْليبًا. وعلى قِراءةِ يَعْمَلُونَ على الغَيبةِ فهُو وَعيدٌ مَحضٌ، والمعنى: وما ربُّك بغافلٍ عن أعمالِهم، فسَيُعذِّبُهم الْبتَّةَ
.
- وقولُه: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مِن تَمامِ ما أُمِرَ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ يقولَه للمُشرِكين، وفيه زِيادةُ إنذارٍ بأنَّ أعمالَهم تَستوجِبُ ما سيَرونَه مِن الآياتِ. والمُرادُ: ما يَعمَلونه في جانبِ تلقِّي دَعوةِ رَسولِه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وقُرآنِه؛ لأنَّ نفْيَ الغفلةِ عن اللهِ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بأنَّه منهم بالمرصادِ، لا يُغادِرُ لهم مِن عمَلِهم شيئًا. وعلى قِراءةِ يَعْمَلُونَ بياءِ الغَيبةِ، فهو عطْفٌ على (قُلْ)، والمقصودُ تَسليةُ الرَّسولِ عليه السَّلامُ بعْدَما أُمِرَ به مِن القولِ بأنَّ اللهَ أحْصى أعمالَهم، وأنَّه مُجازِيهم عنها؛ فلا يَيأْسُ مِن نَصرِ اللهِ
.
- وقد جاءت هذه الآيةُ خاتمةً جامعةً بالِغةً أقصَى حَدٍّ مِن بلاغةِ حُسنِ الخِتامِ
.