موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (41-45)

ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْقَيِّمِ: أي: المستقيمِ الَّذي لا عِوجَ فيه، وأصلُ (قوم) هنا: يدلُّ على انْتِصابٍ أو عَزْمٍ [531] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43)، ((البسيط)) للواحدي (10/410)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 292)، ((تفسير الشربيني)) (2/109). .
يَصَّدَّعُونَ: أي: يتَفَرَّقونَ فيَصيرونَ فريقًا في الجنَّةِ وفريقًا في السَّعيرِ، وأصلُ (صدع): يدُلُّ على انفراجٍ في شَيءٍ [532] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/515)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 519)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/337)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 334)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988). .
يَمْهَدُونَ: أي: يُهَيِّئونَ ويُوطِّئونَ، وأصلُ (مهد): يدُلُّ على توطئةٍ وتَسهيلٍ للشَّيءِ [533] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 342)، ((تفسير ابن جرير)) (18/516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 518)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 334). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا الآثارَ السَّيئةَ التي تترتَّبُ على الكفرِ والمعاصي: ظهرَ الجَدْبُ وقِلَّةُ النَّباتِ ومَحْقُ البركاتِ وكَثرةُ الشُّرورِ في بَرِّ الأرضِ وبَحرِها؛ بسبَبِ وُقوعِ النَّاسِ في الشِّركِ والمعاصي؛ جزاءً لهم على بَعضِ ذُنوبِهم؛ لعلَّهم يتوبونَ إليه سُبحانَه ويَرجِعونَ إليه.
ثمَّ يأمرُ الله نبيَّه أن يلفتَ الأنظارَ إلى سوءِ عاقبةِ المشركينَ، فيقول: قلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ مِن قَومِك: سيِروا في الأرضِ، فانظُروا كيف كانت نهايةُ المكَذِّبينَ مِن قَبلِكم، كان أكثَرُهم مُشرِكينَ؛ فأهلَكَهم اللهُ.
ثمَّ يأمرُ الله تعالى نبيَّه بالثباتِ على الحقِّ، مؤكدًا عليه، فيقولُ: فانصِبْ قَصْدَك وأقبِلْ على دينِ الإسلامِ المُستقيمِ الذي لا اعوِجاجَ فيه، من قَبلِ أن يأتيَ يَومُ القيامةِ الذي لا يَقدِرُ أحَدٌ على رَدِّه؛ ذلك اليومُ الذي يتفَرَّقُ النَّاسُ فيه إلى فريقينِ: فريقٍ في الجنَّةِ، وفريقٍ في النَّارِ.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى الفريقينِ فيقولُ: من كفَرَ باللهِ فإثمُ كُفرِه واقِعٌ عليه، ومن عَمِلَ عَملًا صالِحًا فإنَّما يُهَيِّئونَ ويُوطِّئونَ لأنفُسِهم منازِلَهم في الجنَّةِ؛ لِيَجزيَ اللهُ الذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ ثوابًا حَسَنًا مِن فَضلِه، إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكافرينَ به.

تَفسيرُ الآياتِ:

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه مِن حَقارةِ شُرَكائِهم ما كان حقُّهم به أن يَرجِعوا، فلم يَفعَلوا؛ أتبَعَه ما أصابَهم به على غيرِ ما كان في أسلافِهم؛ عُقوبةً لهم على قَبيحِ ما ارتكَبوا؛ استِعطافًا للتَّوبةِ [534] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/104). .
وأيضًا فوَجهُ تعلُّقِ هذه الآيةِ بما قَبْلَها هو أنَّ الشِّركَ سَبَبُ الفسادِ، كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، وإذا كان الشِّركُ سَبَبَه، جَعَلَ اللهُ إظهارَهم الشِّركَ مُورِثًا لِظُهورِ الفَسادِ [535] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/105). .
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ.
أي: ظَهَر نَقصُ الخَيراتِ، وفِقدانُ المنافِعِ ومَحقُ البَرَكاتِ، وكَثرةُ الشُّرورِ وحُدوثُ المضارِّ والآفاتِ: في بَرِّ الأرضِ وبَحرِها؛ بسَبَبِ وُقوعِ النَّاسِ في الشِّركِ والكُفرِ والظُّلمِ، وارتكابِهم الذُّنوبَ والمعاصِيَ [536] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/482)، ((تفسير القرطبي)) (14/40)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/332)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 64، 65)، ((تفسير ابن كثير)) (6/320)، ((تفسير ابن جزي)) (2/134، 135)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/104)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/110 - 112). قيل: المرادُ بظُهورِ الفسادِ: قحطُ المطرِ، ونقصُ الثِّمارِ. فِي الْبَرِّ حيثُ لا يجري نهرٌ، وهو البَوادي، وَالْبَحْرِ وهو كلُّ قريةٍ على ماءٍ. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، والسمرقنديُّ، والواحدي، والبغوي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/417)، ((تفسير السمرقندي)) (3/15)، ((الوسيط)) للواحدي (3/435)، ((تفسير البغوي)) (3/580). قال ابن جُزَي: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قيل: البَرُّ: البلادُ البعيدةٌ مِنَ البحرِ، والبحرُ: هو البلادُ الَّتي على ساحِلِ البحرِ... والصَّحيحُ أنَّ البَرَّ والبحرَ المعروفانِ؛ فظُهورُ الفسادِ في البَرِّ بالقَحطِ والفِتَنِ وشِبهِ ذلك، وظُهورُ الفسادِ في البحرِ بالغرَقِ وقِلَّةِ الصَّيدِ وكَسادِ التِّجاراتِ وشبهِ ذلك، وكلُّ ذلك بسببِ ما يَفعَلُه النَّاسُ مِن الكفرِ والعِصيانِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/134). وقال السعدي: (أي: فسادُ مَعايشِهم ونقْصُها، وحُلولُ الآفاتِ بها، وفي أنفُسِهم مِن الأمراضِ والوباءِ وغيرِ ذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 643). وقيل: المرادُ: ظهَرَتْ مَعاصي الله في كلِّ مكانٍ؛ مِن بَرٍّ وبحرٍ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/512)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5694). قال ابن القيِّم: (والظَّاهرُ -والله أعلَمُ- أنَّ الفَسادَ المرادُ به: الذُّنوبُ ومُوجباتُها، ويدُلُّ عليه قولُه تعالى: ?  ?  ?   ?، فهذا حالُنا، وإنَّما أذاقَنا الشَّيءَ اليسيرَ مِن أعمالِنا، ولو أذاقنا كلَّ أعمالِنا لَما ترَكَ على ظَهرِها مِن دابَّةٍ). ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) (ص: 65). وقال الشوكاني: (والظَّاهرُ مِن الآيةِ ظُهورُ ما يصِحُّ إطلاقُ اسمِ الفسادِ عليه؛ سواءٌ كان راجعًا إلى أفعالِ بني آدَمَ مِن معاصيهم، واقترافِهم السَّيِّئاتِ، وتَقاطُعِهم وتَظالُمِهم وتَقاتُلِهم، أو راجعًا إلى ما هو مِن جهةِ الله سُبحانَه بسببِ ذُنوبِهم؛ كالقَحطِ، وكثرةِ الخَوفِ، والمُوتانِ [أي: الموت الكثير الوقوع]، ونُقصانِ الزَّرائعِ، ونُقصانِ الثِّمارِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/263). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الروم)) (ص: 253). .
كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30].
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
أي: ابتلاهم اللهُ بنَقصِ الخيراتِ وغَيرِها مِن أنواعِ الفَسادِ؛ جزاءً لهم على بَعضِ ذُنوبِهم [537] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/582)، ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/217، 218). قال البقاعي: (ويعفو عن كثيرٍ إمَّا أصلًا ورأسًا، وإمَّا المعاجلةُ به، ويؤخِّرُه إلى وقتٍ ما في الدُّنيا، أو إلى الآخرةِ). ((نظم الدرر)) (15/105). ، لعلَّهم يتوبونَ إليه، ويَترُكونَ الكُفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ [538] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/513)، ((تفسير ابن كثير)) (6/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 256، 257). .
كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168] .
وقال سُبحانَه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21] .
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُشرِكينَ بظُهورِ الفَسادِ في أحوالِهم؛ بسَبَبِ فَسادِ أقوالِهم؛ بيَّن لهم هلاكَ أمثالِهم وأشكالِهم الَّذين كانت أفعالُهم كأفعالِهم [539] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/105). .
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ مِن قَومِك: سافِروا في الأرضِ، فانظُروا كيف كانت نهايةُ الأُمَمِ مِن قَبلِكم [540] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/514)، ((تفسير القرطبي)) (14/41)، ((تفسير ابن كثير)) (6/320)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/106، 107)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/114). قال السعدي: (الأمرُ بالسَّيرِ في الأرضِ يَدخُلُ فيه السَّيرُ بالأبدانِ، والسَّيرُ في القلوبِ لِلنَّظرِ والتَّأمُّلِ بعواقِبِ المُتقدِّمينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 643). .
كما قال تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام: 11] .
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ.
أي: كان أكثَرُ الأُمَمِ الماضيةِ مُشرِكينَ، فعاقِبَتُهم كانت شَرَّ العواقِبِ؛ إذ أهلَكَهم اللهُ؛ فاحذَروا أن تَفعَلوا كأفعالِهم، فيُصيبَكم مِثلُ ما أصابَهم [541] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/514)، ((تفسير القرطبي)) (14/41)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 263، 264). .
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى الكافِرَ عمَّا هو عليه، أمَرَ المؤمِنَ بما هو عليه، وخاطَبَ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِيَعلَمَ المؤمِنُ فَضيلةَ ما هو مُكَلَّفٌ به؛ فإنَّه أمَرَ به أشرَفَ الأنبياءِ، وللمُؤمِنينَ في التَّكليفِ مَقامُ الأنبياءِ [542] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/106). .
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ.
أي: فانصِبْ قَصْدَك، وأقبِلْ بقَلبِك على دينِ الإسلامِ الذي جعَلَه اللهُ مُعتَدِلًا مُستقيمًا لا اعوِجاجَ فيه، وبادِرْ إلى العَمَلِ بأوامِرِه واجتِنابِ نواهيه مِن قَبلِ أن يأتيَ يومُ القيامةِ الذي لا يُمكِنُ ردُّ مَجيئِه [543] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/514)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/188)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 270، 271). .
كما قال تعالى حاكيًا دُعاءَ نَبيِّه إبراهيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] .
وقال سُبحانَه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] .
يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ.
أي: يومَ القيامةِ يتفَرَّقُ النَّاسُ فريقَينِ: فريقٌ في الجنَّةِ، وفريقٌ في النَّارِ [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/514)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/174). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم: 14 - 16] .
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44).
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ.
أي: مَن كفَرَ باللهِ فإنَّما وَبالُ كُفرِه واقِعٌ عليه، ولا يَضُرُّ بكُفرِه إلَّا نَفْسَه [545] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/516)، ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 273، 274). .
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.
أي: ومَن عَمِلَ عَمَلًا صالحًا بإخلاصٍ لله تعالى ومُتابعةٍ لِشَرعِه، فإنَّما يُهَيِّئونَ لأنفُسِهم النَّجاةَ مِنَ النَّارِ، والفَوزَ بالجنَّةِ [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/516)، ((تفسير القرطبي)) (14/42)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عثيمين - سور الروم)) (ص: 274). قال البقاعي: (يَمْهَدُونَ أي: يُسَوُّونَ ويُوطِّئونَ مَنازِلَ في القُبورِ والجنَّةِ، بل وفي الدُّنيا؛ فإنَّ اللهَ يُعِزُّهم بعِزِّ طاعتِه). ((نظم الدرر)) (15/110). .
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى ذَكَر زيادةَ تَفصيلٍ لِما يُمَهِّدُه المؤمِنُ لفِعلِه الخيرَ وعَمَلِه الصَّالحِ، وهو الجزاءُ الَّذي يُجازيه به اللهُ، والمَلِكُ إذا كان كبيرًا كريمًا، ووعَدَ عَبدًا مِن عبادِه بأنِّي أُجازيك؛ يَصِلُ إليه منه أكثَرُ ممَّا يتوقَّعُه [547] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/106). .
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ.
أي: لِيَجزيَ [548] قيل: قَولُه سُبحانَه: لِيَجْزِيَ مُتعلِّقٌ بِقَولِه تعالى: يَصَّدَّعُونَ. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والسمرقندي، ومكي، وابن عطية، وأبو السعود، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((تفسير السمرقندي)) (3/16)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5697)، ((تفسير ابن عطية)) (4/341)، ((تفسير أبي السعود)) (7/63)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/111). وقيل: لِيَجْزِيَ متعلق بـ يَمْهَدُونَ. وممَّن اختاره: الزمخشري، والقرطبي، والنسفي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((تفسير القرطبي)) (14/43)، ((تفسير النسفي)) (2/704)، ((تفسير الألوسي)) (11/50). وقيل: هو متعلِّقٌ بـ «يأتي» في قَولِه تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ. وقيل: هو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: ذلك. والمشارُ إليه ما سبق. واستحسن ابنُ عثيمين هذين القولين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 279). اللهُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ ثوابًا حَسَنًا كريمًا مِن فَضْلِه [549] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 278-281). .
كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ .
أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكافِرينَ به؛ بسَبَبِ كُفرِهم، وهو مُعاقِبُهم سُبحانَه بعَدلِه [550] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/111، 112)، ((تفسير أبي السعود)) (7/63)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 284، 285). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُه تعالى: بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ فيه أنَّ النَّاسَ لا يُعاقَبون إلَّا بكسبِهم؛ فيتفَرَّعُ على ذلك أنَّ مَن أراد أنْ تُرفَعَ عنه العُقوبةُ فليَتُبْ إلى الله؛ فإنَّ التوبةَ مِن أسباب رَفْعِ العُقوبةِ وجَلْبِ المَثوبةِ [551] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 258). .
2- قَولُ الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي: أقبِلْ بقَلبِك، وتوجَّهْ بوَجهِك، واسْعَ ببَدَنِك؛ لإقامةِ الدِّينِ القَيِّمِ المُستقيمِ؛ فنفِّذْ أوامِرَه ونواهِيَه بجِدٍّ واجتِهادٍ، وقُمْ بوظائِفِه الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، وبادِرْ زَمانَك وحياتَك وشبابَك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ وهو يومُ القيامةِ الذي إذا جاء لا يُمكِنُ ردُّه، ولا يُرجَأُ العامِلونَ أن يَستأنِفوا العَمَلَ، بل فُرِغَ مِنَ الأعمالِ لم يَبْقَ إلَّا جزاءُ العُمَّالِ [552] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 643). !
3- قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ينبغي لِمَن أَمَرَ بشَيءٍ أنْ يَذكُرَ ما يُغري به ويُرَغِّبُ فيه؛ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: الْقَيِّمِ؛ فالإنسانُ إذا عَرَفَ أنَّ الدِّينَ قَيِّمٌ، لا شَكَّ أنَّه يتَّجِهُ إليه، فأنت إذا أردْتَ أنْ تأمُرَ بشَيءٍ فاذكُرِ الأسبابَ التي تُوجِبُ للنَّاسِ الإقبالَ عليه بأوصافِه المحبوبةِ، وثَمَراتِه الحَميدةِ [553] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 271). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- مِن آثارِ الذُّنوبِ والمعاصي أنَّها تُحدِثُ في الأرضِ أنواعًا مِن الفَسادِ؛ في المياهِ والهواءِ، والزَّرعِ والثِّمارِ والمساكِنِ؛ قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [554] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 64). ـ فالفسادُ سببُه أعمالُ بني آدمَ [555] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 257). .
2- قَولُ الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الرَّجاءُ المُستفادُ مِن (لعلَّ) يُشيرُ إلى أنَّ ما ظهَرَ مِن فسادٍ: كافٍ لإقلاعِهم عمَّا اكتَسَبوه، وأنَّ حالَهم حالُ مَن يُرجَى رُجوعُه؛ فإنْ هم لم يرجِعوا فقد تبيَّنَ تمرُّدُهم وعَدَمُ إجداءِ الموعِظةِ فيهم، وهذا كقَولِه تعالى: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/113). [التوبة: 126] .
3- في قَولِه تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ إثباتُ العِلَلِ والأسبابِ، وأنَّ أفعالَ اللهِ عزَّ وجلَّ معلَّلَةٌ لا بُدَّ لها مِن علَّةٍ؛ تُؤخذُ هذه مِن قَولِه سُبحانَه: بِمَا كَسَبَتْ، ولا شكَّ أنَّ أفعالَ اللهِ تعالى وأحكامَه مُعلَّلةٌ؛ لأنَّ مِن أسمائِه الحكيمَ [557] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 258). .
4- في قَولِه تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ، وبقَدْرِ العَمَلِ [558] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 258). .
5- في قَولِه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أنَّ العُقوباتِ قد تكونُ سَببًا في الرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى [559] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 259). .
6- في قَولِه تعالى: كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أنَّ أسبابَ هلاكِ الأُممِ السَّابِقينَ إشراكُ أكثرِهم [560] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 266). .
7- قَولُ الله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ قال: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولم يُبَيِّنْ، وقال في المؤمِنِ: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تحقيقًا لِكَمالِ الرَّحمةِ؛ فإنَّه عندَ الخيرِ بيَّنَ وفصَّلَ؛ بِشارةً، وعندَ غيرِه أشار إليه إشارةً [561] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/106). .
8- قَولُ الله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ قال: فَعَلَيْهِ فوحَّد الضَّميرَ، وقال: فَلِأَنْفُسِهِمْ فجمَعَه؛ إشارةً إلى أنَّ الرحمةَ أعَمُّ مِن الغَضَبِ، فتَشمَلُه وأهلَه وذُرِّيَّتَه، أمَّا الغَضَبُ فمَسبوقٌ بالرَّحمةِ، لازِمٌ لِمن أساء [562] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/106). . وفيه ترغيبٌ في العملِ مِن غيرِ نظرٍ إلى مُساعِدٍ، وبأنَّه يَنفعُ نفْسَه وغيرَه؛ لأنَّ المؤمنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا، وأقَلُّ ما ينفَعُ والِدَيْهِ وشيخَه في ذلك العملِ [563] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/173). .
9- قَولُه تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ فيه أنَّ الجزاءَ ليس واجبًا على اللهِ تعالى، لكِنَّه أوجَبَه على نفسِه؛ لِقَولِه تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 54] ، فهو الذي أوجَبَه سُبحانَه [564] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 283). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ إثباتُ صفةِ المحبَّةِ لله؛ لأنَّه إذا انتَفَتْ محبَّتُه عن الكافِرينَ لَزِمَتْ محبَّتُه للمُؤمِنينَ، فإنْ لم يكُنْ، لم يكُنْ فرْقٌ بين المؤمِنينَ وبينَ الكافِرينَ [565] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 284). !
11- أنَّ الحُكمَ إذا عُلِّقَ بمُشتقٍّ فهو دليلٌ على أنَّ ذلك المُشتقَّ هو عِلَّةُ الحُكْمِ، وهذه فائدةٌ أصوليَّةٌ ؛ مثلًا قَولُه تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ العِلَّةُ هنا كُفْرُهم، أي: أنَّ الحُكمَ بعَدَمِ حُبِّهم عُلِّقَ على وَصفٍ هو كُفرُهم؛ إذَن فالكُفرُ عِلَّةُ انتفاءِ المحبَّةِ [566] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 284). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 
هذه الآيةُ مِن جوامعِ كَلِمِ القرآنِ، والمَقصِدُ منها هو الموعظةُ بالحوادثِ ماضِيها وحاضِرِها؛ للإقلاعِ عن الإشراكِ، وعن تَكْذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/109). .
- ويَجوزُ أنْ تكونَ هذه الآيةُ مُتَّصلةً بقولِه قبْلَها: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الروم: 9] الآياتِ، فلمَّا طُولِبوا بالإقرارِ على ما رَأَوه مِن آثارِ الأُمَمِ الخاليةِ، أو أنكَرَ عليهم عدَمَ النَّظرِ في تلك الآثارِ؛ أتْبَعَ ذلك بما أدَّى إليه طريقُ المَوعظةِ مِن قولِه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 27] ، ومِن ذِكْرِ الإنذارِ بعَذابِ الآخِرةِ، والتَّذكيرِ بدَلائلِ الوَحدانيَّةِ ونِعَمِ اللهِ تعالى، وتَفْريعِ استحقاقِه تعالى الشُّكرَ لِذاتِه ولأجْلِ إنعامِه استِحقاقًا مُستقِرًّا إدراكُه في الفِطرةِ البشريَّةِ، وما تخلَّلَ ذلك مِن الإرشادِ والموعظةِ؛ عاد الكلامُ إلى التَّذكيرِ بأنَّ ما حلَّ بالأُمَمِ الماضيةِ مِن المصائبِ ما كان إلَّا بما كسَبَت أيدِيهم، أي: بأعمالِهم؛ فيُوشِكُ أنْ يحُلَّ مِثْلُ ما حلَّ بهم بالمُخاطَبين الذين كسَبَتْ أيدِيهم مِثْلَ ما كسَبَت أيدِي أولئك؛ فمَوقِعُ هذه الجُملةِ على هذا الوجْهِ مَوقِعُ النَّتيجةِ مِن مَجموعِ الاستِدلالِ، أو مَوقعُ الاستئنافِ البَيانيِّ، بتَقديرِ سُؤالٍ عن سببِ ما حلَّ بأولئك الأُمَمِ.
ويجوزُ أنْ تقَعَ هذه الآيةُ مَوقِعَ التَّكملةِ لقولِه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الروم: 33] الآيةَ، فهي خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّنديمِ على ما حلَّ بالمُكذِّبين المُخاطَبين مِن ضُرٍّ؛ لِيَعْلَموا أنَّ ذلك عِقابٌ مِن اللهِ تعالى، فيُقْلِعوا عنه؛ خَشيةَ أنْ يُحِيطَ بهم ما هو أشدُّ منه، كما يُؤذِنُ به قولُه عقِبَ ذلك: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ؛ فالإتيانُ بلَفْظِ النَّاسِ في قولِه: بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزِيادةِ إيضاحِ المقصودِ، ومُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (بما كسَبَت أيديهم)، فالآيةُ تُشِيرُ إلى مَصائبَ نزَلَتْ ببِلادِ المشركينَ، وعطَّلَت مَنافِعَها، ولعلَّها ممَّا نشَأَ عن الحرْبِ بينَ الرُّومِ وفارسَ، وكان العربُ مُنقسِمينَ بينَ أنصارِ هؤلاء وأنصارِ أولئك، فكان مِن جرَّاءِ ذلك أنِ انقطَعَت سُبلُ الأسفارِ في البرِّ والبحرِ، فتعطَّلَت التِّجارةُ، وقلَّتِ الأقواتُ بمكَّةَ والحجازِ، كما يَقْتضيهِ سَوقُ هذه الموعظةِ في هذه السُّورةِ المُفتتَحةِ بـ غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 2] ؛ فمَوقعُ هذه الجُملةِ على هذا الوجْهِ مَوقعُ الاستِئنافِ البَيانيِّ لِسبَبِ مَسِّ الضُّرِّ إيَّاهم، حتَّى لَجَؤوا إلى الضَّراعةِ إلى اللهِ، وما بيْنها وبيْن جُملةِ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ [الروم: 33] إلى آخِرِه، اعتراضٌ واستطرادٌ تخلَّلَ في الاعتراضِ.
ويجوزُ أنْ يكونَ مَوقِعُها مَوقعَ الاعتراضِ بيْن ذِكْرِ ابتهالِ النَّاسِ إلى اللهِ إذا أحاط بهمْ ضُرٌّ، ثمَّ إعراضِهم عن عِبادتِه إذا أذاقَهم منه رحمةً، وبيْن ذِكْرِ ما حلَّ بالأُمَمِ الماضيةِ اعتراضًا يُنبِئُ أنَّ الفسادَ الذي يَظهَرُ في العالمِ ما هو إلَّا مِن جرَّاءِ اكتسابِ النَّاسِ، وأنْ لو اسْتَقاموا لكان حالُهم على صَلاحٍ.
وعلى هذه الوُجوهِ الثَّلاثةِ يكونُ الباءُ في قولِه:   بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ للعِوَضِ، أي: جزاءً لهم بأعمالِهم، كالباءِ في قولِه تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ، ويكونُ اللَّامُ في قولِه: لِيُذِيقَهُمْ على معنى التَّعليلِ.
ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بالفسادِ الشِّركَ، فتكونَ هذه الآيةُ مُتَّصلةً بقولِه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ إلى قولِه: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم: 40] ، فتكونَ الجُملةُ إتْمامًا للاستدلالِ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى؛ تَنْبيهًا على أنَّ اللهَ خلَقَ العالَمَ سالِمًا مِن الإشراكِ، وأنَّ الإشراكَ ظهَرَ بما كسَبَت أيدِي النَّاسِ مِن صَنيعِهم؛ فذِكْرُ البَرِّ والبحرِ لتَعميمِ الجِهاتِ، بمعنى: ظهَرَ الفسادُ في جميعِ الأقطارِ الواقعةِ في البَرِّ، والواقعةِ في الجزائرِ والشُّطوطِ، ويكون الباءُ في قولِه:   بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ للسَّببيَّةِ، ويكون اللَّامُ في قولِه: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لامَ العاقبةِ [568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/109 - 111). .
- قولُه: بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ إسنادُ الكَسْبِ إلى الأيدِي جَرَى مَجْرى المَثلِ في فِعلِ الشَّرِّ والسُّوءِ مِن الأعمالِ كلِّها، دونَ خُصوصِ ما يُعمَلُ منها بالأيدِي؛ لأنَّ ما يَكسِبُه النَّاسُ يكونُ بالجوارحِ الظَّاهرةِ كلِّها، وبالحواسِّ الباطنةِ مِن العَقائدِ الضَّالَّةِ والأدواءِ النَّفْسيَّةِ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/112). ، ولأنه لَمَّا كان أكثَرُ الأفعالِ باليَدِ، أسنَدَ إليها ما يُرادُ به الجُملةُ، مُصَرِّحًا بعُمومِ كُلِّ ما له أهليَّةُ التحَرُّكِ [570] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/105). .
- والبعضيَّةُ في قولِه: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تَبْعيضٌ للجزاءِ؛ فالمُرادُ بَعضُ الجزاءِ على جميعِ العمَلِ، لا الجزاءُ على بعضِ العمَلِ، أي: إنَّ ما يُذِيقُهم مِن العذابِ هو بَعضُ ما يَستحِقُّونه. وفي هذا تَهديدٌ إنْ لم يُقلِعوا عن مَساوي أعمالِهم، كقولِه تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] . والعُدولُ عن أنْ يُقالَ: (بعضَ أعمالِهم) إلى بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا؛ للإيماءِ إلى ما في الموصولِ مِن قوَّةِ التَّعريفِ، أي: أعمالُهم المَعروفةُ عندَهم، المُتقرِّرُ صُدورُها منْهم [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/113). .
2- قَولُه تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ
لَمَّا وعَظَهم بما أصابَهم مِن فسادِ الأحوالِ، ونبَّهَهم إلى أنَّها بعضُ الجزاءِ على ما كسَبَت أيدِيهم؛ عرَّضَ لهم بالإنذارِ بفَسادٍ أعظمَ قد يحُلُّ بهم مِثْلُه؛ وهو ما أصاب الذين مِن قبْلِهم بسبَبِ ما كانوا عليه مِن نَظيرِ حالِ هؤلاء في الإشراكِ، فأمَرَهم بالسَّيرِ في الأرضِ والنَّظرِ في مَصيرِ الأُمَمِ التي أشْرَكَت وكذَّبَت، مِثْلُ عادٍ، وثمودَ، وقومِ لُوطٍ، وغيرِهم؛ لأنَّ كثيرًا مِن المشركينَ قد اجْتازُوا في أسْفارِهم بدِيارِ تلك الأُمَمِ، كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138]؛ فهذا تَكريرٌ وتأْكيدٌ لقولِه السَّابقِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الروم: 9] ، وإنَّما أُعِيدَ اهتمامًا بهذه العِبرةِ، مع مُناسبةِ قولِه: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/114). [الروم: 41] .
- وقولُه: كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئنافٌ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ما أصابَهم لِفُشوِّ الشِّركِ فيما بيْنَهم، أو كان الشِّركُ في أكثَرِهم، وما دُونه مِن المَعاصي في قَليلٍ منهم، أو أنَّ الشِّركَ وحْدَه لم يكُنْ سبَبَ تدْميرِهم، وأنَّ ما دُونه مِن المعاصي يكونُ سببًا لذلك [573] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((تفسير البيضاوي)) (4/208)، ((تفسير أبي حيان)) (8/396)، ((تفسير أبي السعود)) (7/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/114). .
- وحِين ذكَرَ امتنانَه قالَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [الروم: 40] ، فذكَرَ الوجودَ، ثمَّ البَقاءَ بسَببِ الرِّزقِ. وحِينَ ذكَرَ خِذلانَهم بالطُّغيانِ، سلَب البقاءَ بإظهارِ الفسادِ، ثمَّ سلَب الوجودَ بالإهلاكِ [574] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/396). .
3- قَولُه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ
- قولُه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ تَفرَّعَ على الإنذارِ والتَّحذيرِ مِن عواقبِ الشِّركِ تَثبيتُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على شَريعتِه، ووعْدٌ بأنْ يأْتِيَه النَّصرُ، مع التَّعريضِ بالإرشادِ إلى الخَلاصِ مِن الشِّركِ باتِّباعِ الدِّينِ القيِّمِ. وهذا تأْكيدٌ للأمْرِ بإقامةِ الوجْهِ للدِّينِ في قولِه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم: 30] ؛ فإنَّ ذلك لَمَّا فُرِّعَ على قولِه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الروم: 9] ، وما اتَّصَلَ مِن تَسلسُلِ الحُجَجِ والمواعظِ؛ فُرِّعَ أيضًا نَظيرُه هذا على قولِه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ [575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/114، 115). [الروم: 42] .
- والخِطابُ في قولِه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا الأمْرِ: إعراضٌ عن صَريحِ خِطابِ المشركينَ، والمَقصودُ التَّعريضُ بأنَّهم حَرَموا أنفُسَهم مِن اتِّباعِ هذا الدِّينِ العَظيمِ الذي فيه النَّجاةُ؛ يُؤخَذُ هذا التَّعريضُ مِن أمْرِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالدَّوامِ على الإسلامِ، ومِن قولِه عَقِبَ ذلك: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [576] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/115). .
- قولُه: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ يَتعلَّق بـ يَأْتِيَ؛ والمعنَى: مِن قبْلِ أنْ يأتِيَ مِن اللهِ يومٌ لا يرُدُّه أحدٌ. وقيل: يتعلَّقُ بـ مَرَدَّ، على معنَى: لا يرُدُّه هو بعْدَ أنْ يَجِيءَ به، ولا رَدَّ له مِن جِهَتِه. والوجْهُ الأوَّلُ أبلَغُ؛ لإطلاقِ الرَّدِّ وتَفخيمِ اليومِ، وأنَّ إتْيانَه مِن جِهَةِ عظيمٍ قادرٍ ذي سُلطانٍ قاهرٍ [577] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/257). .
4- قولُه تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ
هذه الجُملةُ تَتنزَّلُ مَنزِلةَ البَيانِ لإجمالِ الجُملةِ التي قبْلَها، وهي فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الروم: 43] ؛ إذ التَّثبيتُ على الدِّينِ بعدَ ذِكْرِ ما أصاب المُشركينَ مِن الفسادِ بسَببِ شِركِهم يَتضمَّنُ تَحْقيرَ شأْنِهم عندَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ، فبيَّن ذلك بأنَّهم لا يَضُرُّون بكُفْرِهم إلَّا أنفُسَهم، والذي يَكشِفُ هذا المعنى تقْديمُ المُسنَدِ في قولِه: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ؛ فإنَّه يُفِيدُ تَخصيصَه بالمُسنَدِ إليه، أي: فكُفْرُه عليه لا عليكَ ولا على المؤمنينَ، ولهذا ابتُدِئَ بذِكْرِ حالِ مَن كفَرَ، ثمَّ ذكَرَ بعْدَه مَن عمِلَ صالحًا [578] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/116). .
- وهذا التَّركيبُ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ مِن جوامعِ الكَلِمِ؛ لدَلالتِه على ما لا يُحْصى مِن المَضارِّ في الكفْرِ على الكافرِ، وأنَّه لا يَضُرُّ غيرَه، مع تَمامِ الإيجازِ، وهو وعيدٌ؛ لأنَّه في معنى: مَن كفَرَ فجزاؤهُ عِقابُ اللهِ، فاكْتُفِيَ عن التَّصريحِ بذلك؛ اكتفاءً بدَلالةِ (على) مِن قولِه: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ، وبمُقابَلةِ حالِهم بحالِ مَن عمِلَ صالحًا بقولِه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ [579] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/116). [الروم: 45] .
- وتَقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ فَعَلَيْهِ فَلِأَنْفُسِهِمْ؛ للدَّلالةِ على الاختِصاصِ، أي: أنَّ ضرَرَ الكفْرِ لا يَعودُ إلَّا على الكافرِ لا يتعدَّاهُ. ومَنفعةُ الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ تَرجِعُ إلى المؤمنِ لا تَتجاوَزُه. وقِيل: التَّقديمُ للاهتمامِ، وليس للاختصاصِ [580] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((تفسير البيضاوي)) (4/208)، ((تفسير أبي السعود)) (8/396، 397)، ((تفسير أبي السعود)) (7/63). .
- وأيضًا اقْتَضى حرْفُ الاستعلاءِ (على) في قولِه: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أنَّ في الكفْرِ تَبِعةً وشِدَّةً وضرًّا على الكافرِ؛ لأنَّ (على) تَقْتضي ذلك في مِثْلِ هذا المقامِ، كما اقْتَضى اللَّامُ في قولِه: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أنَّ لِمَجْرورِها نفْعًا وغَنْمًا [581] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/396)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/116). .
- وأفرَدَ ضَميرَ كلمةِ كُفْرُهُ؛ رعْيًا لِلَفْظِ (مَن) [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/116). .
- قولُه: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ بَيانٌ لِمَا في جُملةِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الروم: 43] ؛ مِن الأمْرِ بمُلازَمةِ التَّحلِّي بالإسلامِ، وما في ذلك مِن الخيرِ العاجلِ والآجلِ، مع ما تَقْتضيهِ عادةُ القرآنِ مِن تَعقيبِ النِّذارةِ بالبِشارةِ، والتَّرهيبِ بالتَّرغيبِ؛ فهو كالتَّكملةِ للبَيانِ. وإنَّما قُوبِلَ مَنْ كَفَرَ بـ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا)، ولم يُقابَلْ: بـ (مَن آمَنَ)؛ للتَّنويهِ بشأْنِ المؤمنينَ بأنَّهم أهلُ الأعمالِ الصَّالحةِ دونَ الكافرينَ، فاسْتُغْنِيَ بذِكْرِ العملِ الصَّالحِ عن ذِكْرِ الإيمانِ؛ لأنَّه يَتضمَّنُه، ولِتَحريضِ المؤمنينَ على الأعمالِ الصَّالحةِ [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/116، 117). .
- وأظهرَ قَولَه تعالى صَالِحًا، ولم يُضمِرْ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ عَودُ الضَّميرِ على مَن كَفَر، وبشارةً بأنَّ أهلَ الجنَّةِ كَثيرٌ، وإن كانوا قليلًا؛ لأنَّ الله تعالى هو مَولاهم، فهو مُزكِّيهم [584] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/173). .
- وقولُه: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ فيه تَقديمُ فَلِأَنْفُسِهِمْ على يَمْهَدُونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ، مع الاهتمامِ بذِكْرِ أنفُسِ المؤمنينَ؛ لأنَّ قَرينةَ عدَمِ الاختصاصِ واضحةٌ. ورُوعِيَ في جمْعِ ضَميرِ يَمْهَدُونَ معنَى (مَن) دونَ لَفْظِها، مع ما تَقْتضِيه الفاصلةُ مِن ترْجيحِ تلك المُراعاةِ [585] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/117). .
5- قَولُه تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
- قولُه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ مُتعلِّقٌ بـ يَمْهَدُونَ، وهو تَعليلٌ له [586] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((تفسير أبي حيان)) (8/397). .
- وعُدِلَ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ في قولِه: الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ؛ للاهتمامِ بالتَّصريحِ بأنَّهم أصحابُ صِلَةِ الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ، وأنَّ جزاءَ اللهِ إيَّاهم مُناسِبٌ لذلك؛ لِتَقريرِ ذلك في الأذهانِ، مع التَّنويهِ بوَصْفِهم ذلك بتَكريرِه وتَقريرِه، كما أنبَأَ عن ذلك قولُه عَقِبَه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ المُقْتضي أنَّه يُحِبُّ الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ [587] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((تفسير البيضاوي)) (4/209)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/258)، ((تفسير أبي حيان)) (8/397)، ((تفسير أبي السعود)) (7/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/117). .
- قولُه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ تقْريرٌ بعدَ تَقريرٍ، على الطَّردِ والعكْسِ؛ فإنَّه تعالى قال أوَّلًا: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ، ثمَّ علَّلَه بقولِه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ، وكان مِن حقِّ الظَّاهرِ: (لِيَجْزِيَهم)؛ فوُضِعَ المُظهَرُ مَوضِعَ المُضمَرِ إشعارًا بالعِلِّيَّةِ، وأنَّ الإيمانَ والعمَلَ آذَنَا بأنَّ اللهَ ولِيُّ صاحبِهما، حيث يَجْزِيه مِن فضْلِه؛ فيكونُ مَفهومُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ الموافقُ: أنَّه يُحِبُّ المؤمنَ الصَّالحَ، ومَفهومُه المُخالِفُ: أنَّه لا يُحِبُّ الكافرَ، فقولُه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ بمَنطوقِه مُقرِّرٌ لِمَفهومِ السَّابقِ، وبالعكْسِ [588] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/483)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/260)، ((تفسير أبي حيان)) (8/397)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/117). .
- وقولُه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وعيدٌ، ولم يُفصِّلْه، وهذا الإجمالُ فيه كالتَّفصيلِ؛ فإنَّ عدَمَ المَحبَّةِ مِن اللهِ تعالى غايةُ العذابِ. أو لأنَّ عدَمَ مَحبَّتِه تعالى كِنايةٌ عن بُغضهِ المُوجِبِ لِغَضَبهِ المُستتبعِ للعُقوبةِ لا مَحالةَ [589] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/106)، ((تفسير البيضاوي)) (4/209)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/259)، ((تفسير أبي السعود)) (7/63). .
- والظَّاهرُ أنَّ قولَه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الآيةَ، كالموردِ للسُّؤالِ، والخِطابُ لكلِّ أحدٍ مِن المُكلَّفينَ. وقولُه: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ الآيةَ، واردٌ على الاستِئنافِ، مُنطَوٍ على الجوابِ؛ فكأنَّه لَمَّا قِيل: أقِيموا على الدِّينِ القيِّمِ قَبْلَ مَجِيءِ يَومٍ يَتفرَّقون فيه، فقِيل: ما للمُقِيمينَ على الدِّينِ؟ وما على المُنحرِفين عنه؟ وكيف يَتفرَّقون؟ فأُجِيبَ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ الآيةَ. وأمَّا قولُه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا ... الآيةَ؛ فيَنْبغي أنْ يكونَ تَعليلًا للكلِّ؛ لِيَفْصِلَ ما تَرتَّبَ على ما لهمْ وعليهم، ولكنْ يَتعلَّقُ بـ يَمْهَدُونَ وحْدَه؛ لشِدَّةِ العِنايةِ بشأْنِ الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ وعدَمِ العبْءِ بعمَلِ الكافرِ؛ ولذلك وُضِعَ مَوضعُه إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [590] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/259). .
- وفي هذه الآيةِ لَطيفةٌ ومُناسَبةٌ حَسَنةٌ، وهي أنَّ اللهَ تعالى عندما أسْنَدَ الكُفْرَ والإيمانَ إلى العبْدِ قدَّمَ الكافرَ، وعنْدَما أسنَدَ الجَزاءَ إلى نفْسِه قدَّمَ المؤمِنَ؛ لأنَّ قولَه: مَنْ كَفَرَ وعيدٌ للمُكلَّفِ؛ لِيَمتنِعَ عمَّا يَضُرُّه، فيُنقِذَه مِن الشَّرِّ. وقولُه: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا تَحريضٌ له وتَرغيبٌ في الخيرِ؛ لِيُوصِلَه إلى الثَّوابِ، والإيعادُ مُقدَّمٌ، وأمَّا عندَ الجزاءِ ابتدَأَ بالإحسانِ؛ إظهارًا للكرَمِ والرَّحمةِ [591] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/106)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/260). .