موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (8-10)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَأَجَلٍ مُسَمًّى: أي: وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مُحَدَّدٍ، وأصلُ الأجَلِ: غايةُ الوَقتِ، والمُدَّةُ المضروبةُ للشَّيءِ، ومُسَمًّى: أي: مُثبَتٌ مُعَيَّنٌ .
وَأَثَارُوا الْأَرْضَ: أي: حَرَثوها، وقلَّبوها للزِّراعةِ، والإثارةُ: تحريكُ الشَّيءِ حتَّى يرتَفِعَ تُرابُه، وأصلُ (ثور): يدُلُّ على انبِعاثِ الشَّيءِ .
وَعَمَرُوهَا: العِمارةُ: نَقيضُ الخرابِ، وأصلُ (عمر): يدُلُّ على بقاءٍ وامتِدادِ زَمانٍ .
السُّوأَى: فُعلَى مِنَ السُّوءِ، تأنيثُ الأسوأِ، وهو: الأقبحُ، وقيل: هي مصدرٌ بمنزلةِ الإساءةِ، وقيل: هي اسمٌ لجهنَّمَ، سمِّيتْ سُوأَى؛ لِكَونِها تَسوءُ صاحِبَها، أو لقُبحِ منظرِها، أو هي عبارةٌ عن كلِّ ما يَقبحُ، والسُّوءُ: كلُّ ما يغُمُّ الإنسانَ مِن الأمورِ الدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ، وأصلُ (سوء): القبحُ .

المعنى الإجماليُّ:

يقول تعالى منَبِّهًا على التَّفكُّرِ في مخلوقاتِه، الدَّالَّةِ على وحدانيَّتِه: أوَلم يَتفَكَّروا في أنفُسِهم فيَعلَموا أنَّ اللهَ وَحْدَه خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنَهما بالحَقِّ، إلى وقتٍ محدَّدٍ عِندَه تعالى، ثمَّ تَفنى يومَ القيامةِ، وإنَّ كثيرًا من النَّاسِ كافِرونَ بوُقوعِ البَعثِ بعدَ الموتِ.
ثمَّ ينبِّهُ الله تعالى على صدقِ رُسلِه فيما جاؤوا به، فيقولُ: أوَلم يَسِرْ في الأرضِ هؤلاء المكَذِّبونَ بالبَعثِ، فيَنظُروا كيف كان عاقِبةُ الَّذين مِن قَبْلِهم، فيَعتَبِروا؟! فقد كان هؤلاء الَّذين مِن قَبلِهم أشَدَّ منهم قوَّةً وتصَرُّفًا في الأرضِ، وجَعَلوها أكثَرَ عُمرانًا ممَّا فعَلوا، وجاءَتْهم رُسلُهم بالبَيِّناتِ فكَذَّبوا، فأهلكهم اللهُ، ولمْ يكُنْ سُبحانَه لِيُهلِكَهم قبْلَ إرسالِ الرُّسلِ إليهم وإقامةِ الحجَّةِ عليهم، ولكِنْ كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بالكُفرِ والتَّكذيبِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانه المصيرَ السَّيِّئَ الَّذي حلَّ بهؤلاء الكافرين، فيقولُ: ثمَّ كان عاقِبةَ الَّذين أساؤوا أنْ حلَّ بهم عذابُ اللهِ؛ بسبَبِ تكذيبِهم بآياتِ اللهِ سُبحانَه، واستِهزائِهم بها.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أنكَر المشركون الإلهَ بإنكارِ وعْدِه، وأنكَروا البعثَ كما قال: وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7] - أردَف هذا أنَّ الأدلَّةَ مُتظاهِرةٌ فى الأنفُسِ والآفاقِ على وُجودِه وتفَرُّدِه بخَلْقِها، وأنَّه لا إلهَ غيرُه، ولا ربَّ سِواه .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
أي: أوَلم يتفكَّرْ أولئك الَّذين يَعلَمونَ ظاهِرًا مِن الحياةِ الدُّنيا وهم غافِلونَ عن الآخرةِ، في أنفُسِهم ، فيَعلَموا أنَّ اللهَ وحْدَه خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما بالحَقِّ؛ لِيَعبُدَه النَّاسُ ويُطيعوه فيما يأمُرُهم ويَنهاهم، ثمَّ هو يَبعَثُهم لِمُجازاتِهم ثَوابًا أو عِقابًا؟! فما خَلقَ الكَونَ باطِلًا وعَبَثًا بلا غَرَضٍ صحيحٍ، وحِكمةٍ بالغةٍ، وإنَّما خَلَقه مُقتَرِنًا بالحَقِّ، مَصحوبًا بالحِكمةِ .
كما قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 115، 116].
وقال سُبحانَه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 38، 39].
وَأَجَلٍ مُسَمًّى.
أي: ويَعلَموا أنَّ للسَّمواتِ والأرضِ وَقتًا محدَّدًا عندَ اللهِ، تَنتهي إليه، وتَفْنى فيه، وهو يومُ القيامةِ الَّذي يَبعَثُ اللهُ فيه العِبادَ للحِسابِ والجزاءِ ؟
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ.
أي: وإنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ كافِرونَ بوُقوعِ البَعثِ بعدَ الموتِ، جاحِدونَ لحُصولِ الجزاءِ يومَ القيامةِ .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أقام اللهُ تعالى على المشركينَ الدَّليلَ؛ أتْبَعه التَّهديدَ والتَّهويلَ .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: أوَلم يَسِرْ في الأرضِ هؤلاءِ المكَذِّبونَ بالبَعثِ، الغافِلونَ عن الآخِرةِ؛ فيَنظُروا كيف كان آخِرُ أمرِ الَّذين مِن قَبلِهم، فيَعتَبِروا ويتَّعِظوا حينَ يَرَوا آثارَ إهلاكِ اللهِ لهم؛ بسَبَبِ كُفرِهم وشِرْكهم، وتَكذيبِهم رُسُلَهم ؟!
كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً .
أي: قد أُعطِيَ أولئك مِنَ القُوَّةِ ما لم يُعطَوها هم .
وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا.
أي: وقَلَّبوا الأرضَ وجَعَلوها أكثَرَ عُمرانًا مِمَّا فَعَلوا هم .
كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر: 82] .
وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: وجاءتْهم رُسلُهم بالبَيِّناتِ الدَّالَّاتِ على الحقِّ، وعلى صِدقِهم وصِحَّةِ ما جاؤوهم به مِن عندِ الله تعالى، فكذَّبوهم، فلمْ يَقدِروا على الامتِناعِ مِن عذابِ اللهِ مع شِدَّةِ قُواهم، فما نفَعَتْهم قوَّتُهم، ولا أغنَتْ عنهم إثارتُهم الأرضَ وعِمارتُهم لها !
فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ .
أي: فلمْ يكُنِ اللهُ ليُعَذِّبَهم بلا ذنْبٍ أتَوه، ولم يكُنْ لِيُهلِكَهم مِن قَبلِ إرسالِ الرُّسلِ إليهم، وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم .
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
أي: ولكنْ كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم؛ بالكُفرِ باللهِ، والإشراكِ به، وتكذيبِ رُسُلِه، ومَعصيتِه .
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10).
أي: ثمَّ كان آخِرَ أمرِ أهلِ السُّوءِ أنْ حلَّ بهم عذابُ اللهِ ؛ بسبَبِ تَكذيبِهم بآياتِ اللهِ سُبحانَه، واستِهزائِهم المستَمِرِّ بها .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فيه الحثُّ على التَّفكُّرِ، وتوبيخُ مَن أعرَضَ عنه، فدلَّ ذلك على أهمِّيَّةِ التَّفكُّرِ؛ لأنَّ اللهَ لا يَحُثُّ على شَيءٍ ويُوَبِّخُ على تركِه إلَّا لِمَا فيه مِن الفائدةِ والمصلحةِ ، فالتَّفكُّرُ في الأنفُسِ وفي خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ ونحوِ ذلك يدُلُّ على كمالِ قُدرةِ الصَّانعِ، وكمالُ قُدرتِه دالٌّ على عَظَمتِه، ومُلاحظةُ عظَمتِه داعٍ إلى طاعتِه .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى فيه إشارةٌ إلى البَعثِ والنُّشورِ، وفسادِ بِنْيَةِ هذا العالَمِ .
2- قال تعالى: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ في التَّنصيصِ على ذِكرِ ما بينَ السَّمواتِ والأرضِ دليلٌ على أنَّ ما بيْنَهما أمرٌ عظيمٌ يُقارَنُ بنفْسِ السَّمواتِ والأرضِ، حيثُ استحقَّ أنْ يُجعلَ قَسيمًا لهما، فهذه ثلاثةُ أشياءَ: (السَّمواتُ، والأرضُ، وما بينهما)، ومِن المعلومِ عِظَمُ الأرضِ وعِظَمُ السَّماءِ؛ إذَنْ: فعِظَمُ ما بيْنَهما مُوازٍ لهما .
3- قَولُ الله تعالى: وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا لم يقُلْ: (أكثَرَ ممَّا أثاروها)؛ لِكَونِ قُرَيشٍ لم تكُنْ لهم إثارةٌ في الأرضِ؛ إذ كانوا بِوادٍ غيرِ ذي زَرعٍ، إنَّما كان لهم عِمارةٌ في الأرضِ من غرسٍ قليلٍ وبِناءٍ وتفجيرٍ، ولكنَّه يَتضاءلُ أمامَ عمارةِ الأُمَمِ السَّالِفةِ مِن عادٍ وثَمودَ .
4- في قَولِه تعالى: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا دَلالةٌ على أنَّ إثارةَ الأرض -أي: الاشتغالَ بالزِّراعةِ- مِن أسبابِ القوَّةِ بلا شكٍّ، وكذلك عُمرانُ الأرضِ بغيرِ الإثارةِ -بالبناءِ والتِّجارةِ وما أشبَهَ ذلك- مِن أسبابِ القُوَّةِ .
5- قال الله تعالى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى، وقال في حَقِّ الَّذين أحسَنوا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 27] ، فذَكَر (الزِّيادةَ) في حَقِّ المحسِنِ، ولم يَذكُرِ الزِّيادةَ في حَقِّ المُسيءِ؛ لأنَّ جزاءَ سَيِّئةٍ سَيِّئةٌ مِثلُها .
6- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ، وقال في حقِّ الذين أحسَنوا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 27] ، فلم يذكُرْ في المحسِنِ أنَّ له الحُسنى بأنَّه صَدَّقَ، وذكَرَ في المُسيءِ أنَّ له السُّوأى بأنَّه كذَّب؛ لأنَّ الحُسنى للمُحسِنينَ فَضلٌ، والمتفَضِّلُ لو لم يكُنْ تفَضُّلُه لِسَببٍ يكونُ أبلَغَ، وأمَّا السُّوأى للمُسيءِ فعَدلٌ، والعادِلُ إذا لم يكُنْ تَعذيبُه لِسَببٍ لا يكونُ عَدلًا؛ فذُكِرَ السَّببُ في التَّعذيبِ، وهو الإصرارُ على التَّكذيبِ، ولم يُذكَرِ السَّبَبُ في الثَّوابِ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
- الاستِفهامُ في قولِه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا استِفهامُ إنكارٍ واستِقباحٍ؛ لِقِصَرِ نَظَرِهم على ما ذُكِرَ مِن ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا مع الغَفلةِ عن الآخِرةِ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ . وقيل: الاستفهامُ تَعجُّبيٌّ مِن غَفلتِهم، وعدَمِ تفَكُّرِهم .
- وفِي أَنْفُسِهِمْ مَعمولٌ لـ يَتَفَكَّرُوا؛ إمَّا على تَقديرِ مُضافٍ، أي: في خلْقِ أنفُسِهم لِيَخرُجوا مِن الغَفْلةِ، فيَعْلموا أنَّهم يَعلَمون ظاهرًا مِن الحياةِ الدُّنيا فقط، ويَستدِلُّوا بذلك على الإلهِ الخالِقِ. وإمَّا على أنْ يكونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ظرْفًا للفِكرةِ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، فيكونَ فِي أَنْفُسِهِمْ توكيدًا لقولِه: يَتَفَكَّرُوا، كما تقولُ: أبصِرْ بعَينِك، واسمَعْ بأذُنِك؛ كأنَّه قال: أوَلَمْ يُحدِثوا التَّفكُّرَ في أنفُسِهم؟ أي: في قُلوبِهم الفارغةِ مِن الفِكرِ. والفِكرُ لا يكونُ إلَّا في القلوبِ، ولكنَّه زِيادةُ تَصويرٍ لحالِ المُتفكِّرينَ، كقولِك: اعتقِدْه في قلْبِك، وأضْمِرْه في نفْسِك. أو يكونَ صِلةً للتَّفكُّرِ، كقولِك: تَفكَّرَ في الأمْرِ وأجال فِكْرَه. ومَا خَلَقَ اللَّهُ مُتعلِّقٌ بالقولِ المحذوفِ، معناه: أوَلمْ يَتفكَّروا، فيقولوا هذا القولَ؟ وقيل: معناه: فيَعلَموا؛ لأنَّ في الكلامِ دليلًا عليه، وهو قولُه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا .
- وحرْفُ (في) مِن قَولِه: فِي أَنْفُسِهِمْ يجوزُ أنْ يكونَ للظَّرفيَّةِ الحقيقيَّةِ الاعتباريَّةِ؛ فيكونَ ظَرفًا لمَصدَرِ يَتَفَكَّرُوا، أي: تَفكُّرًا مُستقِرًّا في أنفُسِهم. ومَوقِعُ هذا الظَّرفِ ممَّا قبْلَه مَوقِعُ مَعنى الصِّفَةِ للتَّفكُّرِ. وإذ قدْ كان التَّفكُّرُ إنَّما يكونُ في النَّفْسِ، فذُكِرَ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ لتَقْويةِ تَصويرِ التَّفكُّرِ، وهو كالصِّفةِ الكاشفةِ؛ لتَقرُّرِ معنَى التَّفكُّرِ عندَ السَّامعِ، وتكون جُملةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... إلخ على هذا مُبيِّنةً لِجُملةِ يَتَفَكَّرُوا؛ إذ مَدلولُها هو ما يَتفكَّرون فيه. وقيل غيرُ ذلك .
- وفائدةُ ذِكرِ السَّمواتِ هنا في قولِه: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى: أنَّ في أحوالِ السَّمواتِ -مِن شمْسِها وكواكبِها وملائكتِها- ما هو مِن جُملةِ الحقِّ الذي خُلِقَت مُلابِسةً له، أمَّا ما وراءَ ذلك مِن أحوالِها الَّتي لا نَعرِفُ نِسبةَ تعلُّقِها بهذا العالَمِ؛ فنَكِلُ أمْرَه إلى اللهِ، ونَقِيسُ غائبَه على الشَّاهدِ، فنُوقِنُ بأنَّه ما خُلِقَ إلَّا بالحقِّ كذلك؛ فشَواهدُ حَقِّيَّةِ البعثِ والجزاءِ باديةٌ في دقائقِ خَلْقِ المخلوقاتِ؛ ولذلك أعقَبَه بقولِه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ، وهذا كقولِه تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] .
- قولُه: وَأَجَلٍ مُسَمًّى عطْفٌ تَفسيريٌّ على قولِه: بِالْحَقِّ؛ وذلك أنَّ هذا في حقِّ مُنكِري البعثِ؛ بدليلِ تَعقيبِه بقولِه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ تَقْريعًا وتَوبيخًا .
- قولُه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ تَذييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه ببَيانِ أنَّ أكثَرَهم غيرُ مُقتصِرينَ على ما ذُكِرَ مِن الغَفلةِ عن أحْوالِ الآخرةِ، والإعراضِ عن التَّفكُّرِ فيما يُرشِدُهم إلى مَعرفتِها مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما مِن المَصنوعاتِ، بلْ هم مُنكِرون جاحِدونَ بلِقاءِ حِسابِه تعالى وجَزائِه بالبعثِ . وتأْكيدُه بـ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ السَّامعِ مَنزلةَ مَن يشُكُّ في وُجودِ مَن يَجحَدُ لِقاءَ اللهِ بعدَ هذا الدَّليلِ الَّذي مَضى، بَلْهَ أنْ يكونَ الكافرونَ به كثيرًا .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قدَّمَ هنا دَلائلَ الأنفُسِ فِي أَنْفُسِهِمْ على دَلائلِ الآفاقِ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا -وهذا على جعلِ الأنفسِ محلَّ التفكُّرِ لا ظرفًا له-، وقدَّمَ في قولِه: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] دَلائلَ الآفاقِ على دَلائلِ الأنفُسِ؛ وحِكمةُ ذلك: أنَّ المُفِيدَ يَذكُرُ الفائدةَ على وجْهٍ يَختارُها، فإنْ فُهِمَت، وإلَّا انتقَلَ إلى الأبْيَنِ، والمُستفيدُ يَفهَمُ أوَّلًا الأبْيَنَ، ثمَّ يَرْتَقي إلى الأخْفى، وفي أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا بفِعلٍ مُسنَدٍ إلى السَّامعِ؛ فبدَأَ بما يَفهَمُ أوَّلًا، ثمَّ ارْتَقى إليه ثانيًا. وفي سَنُرِيهِمْ أُسنِدَ إلى المُفيدِ، فذكَرَ أوَّلًا الآفاقَ، فإنْ لم يَفهَموا، فالأنفُسُ؛ إذ لا ذُهولَ للإنسانِ عن دَلائلِها، بخلافِ دَلائلِ الآفاقِ؛ لأنَّه قد يَذهَلُ عنها، وهذا مُراعًى في الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران: 191] الآيةَ؛ بدَأَ بأحوالِ الأنفُسِ، ثمَّ بدَلائلِ الآفاقِ .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا: أنَّه قال هنا: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وقال قبْلُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [الروم: 6] ؛ وذلك أنَّ هنا ذكَرَ كَثِيرًا بعدَ ذِكْرِ الدَّلائلِ الواضحةِ، وهما: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، ومَا خَلَقَ اللَّهُ، والإيمانُ بعدَ الدَّلائلِ أكثَرُ مِن الإيمانِ قبْلَها، فبَعْدَ ذِكرِ الدَّليلِ لا بُدَّ أنْ يُؤمِنَ مِن ذلك الأكثَرِ جمْعٌ، فلا يَبْقى الأكثرُ . وقِيل: لم يُعبِّرْ هنا بـ (أَكْثَر النَّاسِ)؛ لأنَّ المُثبتينَ للبعثِ كثيرونَ؛ مِثلُ أهلِ الكتابِ والصَّابئةِ، والمَجوسِ والقِبطِ .
2- قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
- قولُه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ تَقْريرُ تَوبيخٍ لهمْ بعدَمِ اتِّعاظِهم بمُشاهَدةِ أحوالِ أمثالِهم الدَّالَّةِ على عاقِبَتِهم ومآلِهم. والهمزةُ في أَوَلَمْ لِتَقريرِ المنْفيِّ، والهمزةُ أصْلُها: إمَّا الإنكارُ بتَنزيلِ المُقِرِّ مَنزلةَ المُنكِرِ؛ لِيَكونَ إقرارُه أشدَّ لُزومًا له، وإمَّا أنْ تكونَ للاستفهامِ، فلمَّا دخَلَت على النَّفيِ أفادَتِ التَّقريرَ؛ لأنَّ إنكارَ النَّفيِ إثباتٌ للمَنْفيِّ، وهو إثباتٌ مُستعمَلٌ في التَّقريرِ على وجْهِ الكِنايةِ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: أقَعَدُوا في أماكنِهم ولم يَسِيرُوا ؟!
- وقد جمَعَ قولُه: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَعيدًا على تَكذيبِهم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتجْهيلًا لإحالتِهم المُمكِنَ؛ حيث أيْقَنوا بأنَّ الفُرْسَ لا يُغلَبون بعدَ انتِصارِهم؛ فهذه آثارُ أُمَمٍ عظيمةٍ كانت سائدةً على الأرضِ، فزال مُلْكُهم، وخلَتْ بِلادُهم مِن سبَبِ تغلُّبِ أُمَمٍ أُخرى عليهم .
- قولُه: وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا، أي: أكثَرَ مِن عِمارةِ أهْلِ مكَّةَ، وأهْلُ مكَّةَ أهْلُ وادٍ غيرِ ذي زرْعٍ، لا تبسُّطَ لهم في غيرِه، وفيه تهكُّمٌ بهم مِن حيثُ إنَّهم مغترونَ بالدُّنيا مفتخِرونَ بها، وهم أضعفُ حالًا فيها؛ إذْ مَدارُ أمْرِها على التَّبسُّطِ في البلادِ، والتَّسلُّطِ على العِبادِ، والتَّقلُّبِ في أكنافِ الأرضِ بأصنافِ التَّصرُّفاتِ، وهمْ ضَعفةٌ مُلْجَئون إلى وادٍ لا نفْعَ فيه، يخافُون أنْ يَتخطَّفَهم النَّاسُ، ففي ذِكرِ (أفعل) تهكُّمٌ بهم؛ إذ لا مناسبةَ بينَ كفَّارِ مكةَ وأولئك الأممِ المهلكَةِ .
- وفي قولِه: وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا أُطلِقَت الإثارةُ على قلْبِ تُرابِ الأرضِ بجَعْلِ ما كان باطنًا ظاهرًا، وهو الحرْثُ، ويجوزُ أنْ يكونَ (أَثَارُوا) هنا تمْثيلًا لحالِ شِدَّةِ تصرُّفِهم في الأرضِ، وتغلُّبِهم على مَن سِواهم، بحالِ مَن يُثِيرُ ساكنًا ويُهَيِّجُه، وهذا الاحتمالُ أنسَبُ بالمقصودِ الَّذي هو وصْفُ الأُمَمِ بالقوَّةِ والمَقدِرةِ مِن احتمالِ أنْ تكونَ الإثارةُ بمعنى حرْثِ الأرضِ؛ لأنَّه يَدخُلُ في العِمارةِ .
- وتفْريعُ قولِه: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ على قولِه: وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ إيجازُ حَذْفٍ بَديعٌ؛ لأنَّ مَجيءَ الرُّسلِ بالبيِّناتِ يَقْتضي تَصديقًا وتكذيبًا، فلمَّا فرَّعَ عليه أنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم، عُلِمَ أنَّهم كذَّبوا الرُّسلَ، وأنَّ اللهَ جازاهُم على تَكذيبِهم رُسُلَه؛ بأنْ عاقَبَهم عِقابًا لو كان لغيرِ جُرْمٍ لَشابَهَ الظُّلمَ، فجعَلَ مِن مَجموعِ نفْيِ ظُلْمِ اللهِ إيَّاهم، ومِن إثباتِ ظُلْمِهم أنفُسَهم؛ مَعرفةَ أنَّهم كذَّبوا الرُّسلَ وعانَدوهُم، وحلَّ بهم ما هو مَعلومٌ مِن مُشاهَدةِ دِيارِهم، وتناقُلِ أخبارِهم .
- وقولُه: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ استِدراكٌ ناشئٌ على ما يَقْتضيهِ نفْيُ ظُلْمِ اللهِ إيَّاهم مِن أنَّهم عُومِلوا مُعامَلةً سيِّئةً، لو لم يَستحِقُّوها لكانت مُعامَلةَ ظُلْمٍ. وعبَّرَ عن ظُلْمِهم أنفُسَهم بصِيغةِ المُضارِعِ يَظْلِمُونَ؛ للدَّلالةِ على استمرارِ ظُلْمِهم وتَكرُّرِه، وأنَّ اللهَ أمْهَلَهم، فلم يُقلِعوا حتَّى أخَذَهم بما دلَّت عليه تلك العاقبةُ، والقرينةُ قولُه: كَانُوا .
- وتَقديمُ أَنْفُسَهُمْ وهو مفْعولُ يَظْلِمُونَ على فِعلِه؛ للاهتِمامِ بأنفُسِهم في تَسْليطِ ظُلْمِهم عليها؛ لأنَّه ظُلْمٌ يُتعجَّبُ منه، مع ما فيه مِن الرِّعايةِ على الفاصلةِ . وقيل: قُدِّمَ المفعولُ أَنْفُسَهُمْ؛ لإفادةِ الحَصرِ، أي: لا يَظلِمونَ بهذا إلَّا أنفُسَهم، أمَّا اللهُ تبارك وتعالى فإنَّهم لا يَظلِمونَه؛ لأنَّه سُبحانَه وبِحَمدِه لا يَتضَرَّرُ بمَعصيتِهم، كما لا يَنتفِعُ بطاعتِهم .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى في الدَّليلينِ المُتقدِّمَينِ في سُورةِ العنكبوتِ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [العنكبوت: 19] ، وأَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ، بلفْظِ: أَوَلَمْ يَرَوْا، ولم يقُلْ: (أولمْ يَسِيروا)؛ إذ لا حاجةَ هناك إلى السَّيرِ بحُضورِ النَّفْسِ والسَّماءِ والأرضِ، وقال هاهنا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا ... فَيَنْظُرُوا، ذكَّرهم بحالِ أمثالِهم، ووَبالِ أشْكالِهم، ثمَّ ذكَرَ أنَّهم أَولى بالهَلاكِ؛ لأنَّ مَن تقدَّمَ مِن عادٍ وثمودَ كانوا أشدَّ منهم قوَّةً، ولم تَنفَعْهم قُواهُم، وكانوا أكثَرَ مالًا وعِمارةً، ولم يَمنَعْ عنهم الهلاكَ أمْوالُهم وحُصونُهم .
3- قَولُه تعالى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ
- قولُه: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى ...، أي: ثمَّ كان عاقبتُهم العاقبةَ السُّوأى أو الخَصلةَ السُّوأى؛ فوُضِعَ الظَّاهرُ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ للدَّلالةِ على ما اقْتَضى أنْ تكونَ تلك عاقبتَهم، وأنَّهم جاؤوا بمِثلِ أفعالِهم .
- قولُه: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى (ثمَّ) للتَّراخي الرُّتْبيِّ؛ لأنَّ هذه العاقبةَ أعظَمُ رُتبةً في السُّوءِ مِن عذابِ الدُّنيا؛ فيجوزُ أنْ يكونَ هذا الكلامُ تَذييلًا لحِكايةِ ما حلَّ بالأُمَمِ السَّالفةِ مِن قولِه: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الروم: 9] ، والمعنى: ثمَّ كان عاقبةُ كلِّ مَن أساؤُوا السُّوأى مِثْلَهم، فيكونَ تَعريضًا بالتَّهديدِ لِمُشركي العرَبِ، كقولِه تعالى: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] ، فالمرادُ بـ الَّذِينَ أَسَاءُوا كلُّ مُسِيءٍ مِن جِنسِ تلك الإساءةِ، وهي الشِّركُ. ويجوزُ أنْ يكونَ إنْذارًا لِمُشركي العرَبِ المُتحدَّثِ عنهم مِن قولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 6] ، فيكونوا المُرادَ بـ الَّذِينَ أَسَاءُوا، ويكونَ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ على خِلافِ مُقتضَى الظَّاهرِ؛ لِقصْدِ الإيماءِ بالصِّلةِ، أي: أنَّ سبَبَ عاقِبَتِهم السُّوأى هو إساءتُهم، وهذا إنذارٌ بعدَ الموعظةِ، ونصٌّ بعدَ القِياسِ؛ فإنَّ اللهَ وعَظَ المكذِّبين للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعواقبِ الأُمَمِ الَّتي كَذَّبت رُسلَها؛ لِيَكونوا على حذَرٍ مِن مِثلِ تلك العاقبةِ بحُكْمِ قِياسِ التَّمثيلِ، ثمَّ أعقَبَ تلك الموعظةَ بالنِّذارةِ بأنَّهم ستَكون لهم مِثلُ تلك العاقبةِ، وأوقَعَ فِعلَ (كان) الماضي في مَوقعِ المُضارِعِ؛ للتَّنبيهِ على تَحقيقِ وُقوعِه، مِثلُ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] ؛ إتمامًا للنِّذارةِ. ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ بـ الَّذِينَ أَسَاءُوا الأُمَمُ الَّذين أثارُوا الأرضَ وعَمَروها، فتَكونَ مِن وضْعِ الظَّاهرِ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ توسُّلًا إلى الحُكْمِ عليهم بأنَّهم أساؤوا واسْتحَقُّوا السُّوأى، وهي جهنَّمُ، على قولٍ في التَّفسيرِ .
- ويجوزُ أنْ تكونَ السُّوأَى صِلةَ الفِعلِ أَسَاءُوا، وأَنْ كَذَّبُوا تابِعَها -أي: بدلًا أو عطفَ بيانٍ-، والخبرُ مَحذوفٌ؛ للإبهامِ والتَّهويلِ. وأنْ تكونَ (أَنْ) مُفسِّرةً؛ لأنَّ الإساءةَ إذا كانت مُفسَّرةً بالتَّكذيبِ والاستهزاءِ كانت مُتضمِّنةً مَعنى القولِ .
- قولُه: وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ فيه تقْديمُ المجرورِ بِهَا؛ للاهتمامِ بشأْنِ الآياتِ، وللرِّعايةِ على الفاصلةِ .