موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (1-7)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

المعنى الإجماليُّ:

افتُتِحَت هذه السُّورةُ بالحروفِ المقطَّعةِ؛ لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ إذ تُبرِزُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بالإتيانِ بشَيءٍ مِن مِثْلِه، مع أنَّه مرَكَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّة الَّتي يَتحدَّثون بها.
ثمَّ يخبِرُ الله تعالى عن المعركةِ الَّتي دارَتْ بيْنَ الفُرسِ والرُّومِ وانتهَتْ بهزيمةِ الرُّومِ، ويُبشِّرُ المؤمنينَ بانتصارِ الرُّومِ بعدَ ذلك، فيقولُ: غَلَب أهلُ فارسَ المُشرِكونَ الرُّومَ مِن أهلِ الكِتابِ في أدنى الأرضِ، والرُّومُ مِن بعدِ هزيمتِهم مِنَ الفُرسِ سيَنتَصِرونَ عليهم خِلالَ بِضْعِ سِنينَ، لله وحْدَه الحُكمُ والتَّقديرُ والأمرُ النَّافِذُ مِن قَبلِ انتصارِ الرُّومِ على الفُرسِ، ومِن بَعدِ انتصارِهم عليهم، ويومَ يَنتَصِرُ الرُّومُ على الفُرسِ يفرَحُ المؤمِنونَ بنَصرِ الله؛ ينصُرُ اللهُ مَن يَشاءُ مِن عبادِه، وهو الغالِبُ القاهِرُ لأعدائِه، الرَّحيمُ بعِبادِه المؤمنينَ.
وعَدَ اللهُ المؤمِنينَ بانتصارِ الرُّومِ على الفُرسِ وعْدًا لا بُدَّ مِن وُقوعِه، لا يُخلِفُ اللهُ وعْدَه، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ. يَعلَمونَ ما يَتعلَّقُ بشُؤونِ دُنياهم فحَسْبُ، وهم عن أمرِ آخرتِهم غافِلونَ، لا يُفَكِّرونَ في شأنِها، ولا يَعمَلونَ لأجْلِها.

تَفسيرُ الآياتِ:

الم (1).
هذه الحروفُ المقطَّعةُ الَّتي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، مع أنَّه مرَكَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثونَ بها .
غُلِبَتِ الرُّومُ (2).
أي: غَلَب أهلُ فارسَ المُشرِكونَ، الرُّومَ أهلَ الكِتابِ، وقَهَروهم .
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3).
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ.
أي: انتصَر الفُرسُ على الرُّومِ في أدنى الأرضِ .
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ.
أي: والرُّومُ مِن بعدِ أن غلَبَهم أهلُ فارسَ سيَغلِبونهم .
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4).
فِي بِضْعِ سِنِينَ.
أي: سيقَعُ انتِصارُ الرُّومِ على الفُرسِ فيما بيْنَ ثلاثِ سِنينَ إلى تِسعٍ .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِ الله تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ، قال: ((غُلِبَت وغَلَبت؛ كان المُشرِكون يُحِبُّون أن يظهَرَ أهلُ فارسَ على الرُّومِ؛ لأنَّهم وإيَّاهم أهلُ أوثانٍ، وكان المُسلِمونَ يُحِبُّونَ أن يظهَرَ الرُّومُ على فارسَ؛ لأنَّهم أهلُ كتابٍ، فذَكَروه لأبي بكرٍ، فذكره أبو بكرٍ لِرَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: أمَا إنَّهم سيَغْلِبونَ، فذكره أبو بكرٍ لهم، فقالوا: اجعَلْ بيْنَنا وبيْنَك أجَلًا؛ فإنْ ظهَرْنا كان لنا كذا وكذا، وإنْ ظهَرْتُم كان لكم كذا وكذا، فجعَل أجَلًا خمسَ سِنينَ، فلمْ يَظهَروا، فذكَر ذلك للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: ألَا جعَلْتَه إلى دُون -قال: أُراه العَشر- قال الرَّاوي: والبِضعُ ما دونَ العَشرِ- قال: ثمَّ ظهَرَت الرُّومُ بعدُ. قال: فذلك قَولُه تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ إلى قَولِه: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم: 4، 5])) .
وعن نِيَارِ بنِ مُكْرَمٍ الأسلَميِّ رَضِيَ الله عنه، قال: (لَمَّا نزلت: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 1 - 3]، فكانت فارسُ يومَ نزلت هذه الآيةُ قاهرينَ للرُّومِ، وكان المُسلِمونَ يُحِبُّون ظُهورَ الرُّومِ عليهم؛ لأنَّهم وإيَّاهم أهلُ كتابٍ، وفي ذلك قَولُ الله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 4 - 5] ، فكانت قُرَيشٌ تُحِبُّ ظُهورَ فارِسَ؛ لأنَّهم وإيَّاهم ليسوا بأهلِ كتابٍ، ولا إيمانٍ ببعثٍ، فلمَّا أنزَل الله تعالى هذه الآيةَ خرَج أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ يَصيحُ في نواحي مكَّةَ: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1 - 4] ، قال ناسٌ مِن قُرَيشٍ لأبي بكرٍ: فذلك بيْنَنا وبيْنَكم، زَعَم صاحِبُك أنَّ الرُّومَ ستَغلِبُ فارِسَ في بِضعِ سِنينَ، أفلا نُراهِنُك على ذلك؟ قال: بلى -وذلك قبْلَ تحريمِ الرِّهانِ- فارتَهَن أبو بكرٍ والمُشرِكونَ وتَواضَعوا الرِّهانَ، وقالوا لأبي بكرٍ: كم تجعَلُ؟ البِضعُ ثلاثُ سِنينَ إلى تسعِ سِنينَ، فسَمِّ بيْنَنا وبيْنَك وسَطًا تنتهي إليه، قال: فسَمَّوا بيْنَهم سِتَّ سِنينَ، قال: فمَضَتِ السِّتُّ سِنينَ قبْلَ أن يَظهَروا، فأخَذ المُشرِكون رَهنَ أبي بكرٍ، فلمَّا دخلَتِ السَّنةُ السَّابِعةُ ظَهَرت الرُّومُ على فارِسَ، فعاب المُسلِمونَ على أبي بكرٍ تَسميةَ سِتِّ سِنينَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: فِي بِضْعِ سِنِينَ، قال: وأسلَمَ عندَ ذلك ناسٌ كثيرٌ) .
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
أي: لله وَحْدَه الحُكمُ والتَّدبيرُ والتَّقديرُ والتَّصَرُّفُ في خَلقِه بما يَشاءُ مِن قَبلِ أن تَغلِبَ الرُّومُ فارِسَ، ومِن بعدِ غَلَبَتِهم لهم؛ فغَلَبةُ أحَدِهما الآخَرَ واقِعةٌ بأمرِ اللهِ وقَضائِه وقَدَرِه، فحينَ غَلَبتْ فارِسُ الرُّومَ كان الأمرُ لله، وحينَ تَغلِبُ الرُّومُ فارِسَ يكونُ الأمرُ لله، فاللهُ وحْدَه هو الَّذي يَحكُمُ في خَلقِه بما يَشاءُ، ويَنصُرُ مَن يَشاءُ .
كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] .
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ... .
أي: ويَومَ يَنتَصِرُ الرُّومُ على الفُرسِ يَفرَحُ المؤمِنونَ بنَصرِ اللهِ للرُّومِ أهلِ الكِتابِ على الفُرسِ المُشرِكينَ .
... يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5).
يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ.
أي: يَنصُرُ اللهُ مَن يَشاءُ مِن عبادِه على مَن يشاءُ منهم، وَفْقَ ما تَقتَضيه حِكمَتُه سُبحانَه، كما نَصَرَ فارِسَ على الرُّومِ، ثمَّ الرُّومَ على فارِسَ، ثمَّ نَصَر المؤمِنينَ على فارِسَ والرُّومِ الكافِرين .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
أي: واللهُ هو الغالِبُ القاهِرُ القَويُّ المُنتَقِمُ مِن أعدائِه بلا مانِعٍ يمنَعُه مِن ذلك، وهو الرَّحيمُ بعبادِه المُؤمِنينَ .
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6).
وَعْدَ اللَّهِ.
أي: وَعَدَ اللهُ المؤمِنينَ بانتِصارِ الرُّومِ على الفُرسِ وَعدًا لا مَحالةَ مِن وُقوعِه .
لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ.
أي: لا يُخلِفُ اللهُ ما وَعَد به عِبادَه، سواءٌ فيما يَتعلَّقُ بنَصرِ الرُّومِ أو بِغَيرِه مِن الأُمورِ، فما أخبَرَ بوقوعِه لا بدَّ مِن تحقُّقِه؛ لِكَمالِ قُدرتِه، وكَمالِ صِدقِه سُبحانَه .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9] .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ ما لله مِن صِفاتِ الكَمالِ، ومِن ذلك أنَّ وَعْدَه حَقٌّ لا يُخلَفُ؛ فهم يَجهَلونَ حِكمَتَه وقُدرَتَه، وصِدقَ خَبَرِه، ويُكَذِّبونَ بآياتِه .
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7).
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: أكثَرُ النَّاسِ يَعلَمونَ ما يَتعلَّقُ بشُؤونِ دُنياهم فحَسْبُ؛ كعُمرانِهم، وتدبيرِ مَعايشِهم .
كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم: 29، 30].
وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ.
أي: وهم عن أمرِ آخِرتِهم غافِلونَ؛ فلا يُفَكِّرونَ في شَأنِها، ولا يَعمَلونَ لأجْلِها .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ فيه أدَبٌ عَظيمٌ للمُسلِمينَ؛ لِكَيْلا يُعلِّلوا الحوادِثَ بغيرِ أسبابِها، ويَنتَحِلوا لها عِلَلًا تُوافِقُ الأهواءَ، كما كانت تَفعَلُه الدَّجاجِلةُ مِن الكُهَّانِ وأضرابِهم .
2- في قَولِه تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ذَمٌّ للَّذين يَتكالَبونَ على العُلومِ الدُّنيويَّةِ مع غَفلتِهم عن الآخِرةِ !
3- في قَولِه تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ مَدحٌ لِمَن يُقبِلونَ على الآخِرةِ ويَحرِصونَ عليها وإنْ فاتهم شَيءٌ مِن أمورِ الدُّنيا؛ لأنَّه إذا ذَمَّ مَن كان على العَكسِ فذَمُّ الضِّدِّ مَدحٌ لضِدِّه؛ فالَّذين يُقْبِلُون على الآخرةِ -وإنْ كان ليس عندَهم إلَّا علومٌ قليلةٌ مِن الدُّنيا- أكملُ بكثيرٍ مِن الَّذين يُقبِلُون على الدُّنيا ويَغفُلونَ عن الآخِرةِ، وهذا ما تدُلُّ عليه هذه الآياتُ .
4- الغَلَبةُ لا تَدُلُّ على الحَقِّ، بل اللهُ قد يَزيدُ ثوابَ المؤمِنِ، فيَبتليه ويُسَلِّطُ عليه الأعاديَ، وقد يختارُ تَعجيلَ العذابِ الأدنى دُونَ العذابِ الأكبَرِ قبْلَ يومِ المَعادِ؛ قال الله تعالى: يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .
5- قال الله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ قد توجَّهَت قلوبُهم وأهواؤُهم وإراداتُهم إلى الدُّنيا وشَهَواتِها وحُطامِها، فعَمِلَت لها وسَعَتْ، وأقبَلَتْ بها وأدبَرَتْ، وغَفَلتْ عن الآخرةِ؛ فلا الجنَّةُ تَشتاقُ إليها، ولا النَّارُ تخافُها وتخشاها، ولا المَقامُ بيْنَ يدَيِ اللهِ ولِقائِه يُرَوِّعُها ويُزعِجُها، وهذا عَلامةُ الشَّقاءِ، وعُنوانُ الغَفلةِ عن الآخِرةِ !
6- قَولُه تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ يجِبُ على كُلِّ مُسلمٍ في هذا الزَّمانِ أن يتدَبَّرَ آيةَ «الرومِ» هذه تدَبُّرًا كثيرًا، ويُبَيِّنَ ما دلَّت عليه لكُلِّ مَن استطاع بيانَه له مِنَ النَّاسِ. وإيضاحُ ذلك أنَّ مِن أعظَمِ فِتَنِ آخِرِ الزمانِ الَّتي ابتلى اللهُ بها ضِعافَ العُقولِ مِن المُسلِمينَ شِدَّةَ إتقانِ الإفرنجِ لأعمالِ الحياةِ الدُّنيا، ومهارتَهم فيها على كَثرتِها واختلافِ أنواعِها، مع عَجزِ المُسلِمينَ عن ذلك! فظنُّوا أنَّ مَن قَدَر على تلك الأعمالِ أنَّه على الحَقِّ، وأنَّ مَن عجَزَ عنها متخَلِّفٌ، وليس على الحَقِّ! وهذا جَهلٌ فاحِشٌ، وغَلَطٌ فادِحٌ! وفي هذه الآيةِ الكريمةِ إيضاحٌ لهذه الفِتنةِ، وتخفيفٌ لشأنِها، أنزَلَه اللهُ في كتابِه قبْلَ وُقوعِها بأزمانٍ كثيرةٍ، فسُبْحانَ الحكيمِ الخبيرِ! ما أعلَمَه! وما أعظَمَه! وما أحسَنَ تعليمَه! فقد أوضَح جَلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ، ويَدخُلُ فيهم أصحابُ هذه العلومِ الدُّنيويَّةِ دُخولًا أوَّليًّا؛ فقد نفَى عنهم جلَّ وعلا اسمَ العِلمِ بمعناه الصَّحيحِ الكامِلِ؛ لأنَّهم لا يَعلَمونَ شَيئًا عَمَّن خَلَقَهم، فأبرزَهم مِنَ العَدَمِ إلى الوجودِ ورزَقَهم، وسوف يُميتُهم ثمَّ يُحييهم، ثمَّ يجازيهم على أعمالِهم، ولم يَعلَموا شيئًا عن مَصيرِهم الأخيرِ الَّذي يُقيمونَ فيه إقامةً أبديَّةً في عذابٍ فظيعٍ دائمٍ! ومَن غَفَل عن جميعِ هذا فليس معدودًا مِن جِنسِ مَن يَعلَمُ كما دلَّت عليه الآياتُ القُرآنيَّةُ المذكورةُ، ثمَّ لَمَّا نفَى عنهم جلَّ وعلا اسمَ العِلمِ بمعناه الصَّحيحِ الكامِلِ، أثبَت لهم نوعًا مِن العِلمِ في غايةِ الحقارةِ بالنِّسبةِ إلى غيرِه، وعاب ذلك النَّوعَ المذكورَ مِن العِلمِ بعَيبينِ عَظيمَينِ:
أحدُهما: قِلَّتُه وضِيقُ مجالِه؛ لأنَّه لا يُجاوِزُ ظاهِرًا مِن الحياةِ الدُّنيا، والعِلمُ المقصورُ على ظاهرٍ مِن الحياةِ الدُّنيا: في غايةِ الحقارةِ وضِيقِ المجالِ بالنِّسبةِ إلى العِلمِ بخالقِ السَّمَواتِ والأرضِ جَلَّ وعلا، والعِلمِ بأوامِرِه ونواهيه، وبما يُقَرِّبُ عَبْدَه منه، وما يُبعِدُه عنه، وما يُخلِّدُ في النَّعيمِ الأبَديِّ والعذابِ الأبديِّ مِن أعمالِ الخَيرِ والشَّرِّ.
والثَّاني منهما: هو دناءةُ هَدَفِ ذلك العِلمِ، وعدَمُ نُبلِ غايتِه؛ لأنَّه لا يَتجاوَزُ الحياةَ الدُّنيا، وهي سريعةُ الانقِطاعِ والزَّوالِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: الم فيه سؤالٌ: ما الحِكمةُ في افتِتاحِ هذه السُّورةِ بحُروفِ التَّهجِّي؟ الجوابُ: أنَّ هذه السُّورةَ ذُكِرَ في أوَّلِها ما هو مُعجِزةٌ، وهو الإخبارُ عن الغَيبِ؛ فقُدِّمَت الحروفُ الَّتي لا يُعلَمُ معناها؛ لِيتنَبَّهَ السَّامِعُ، فيُقبِلَ بقَلبِه على الاستِماعِ، ثمَّ تَرِدَ عليه المُعجِزةُ، وتَقرَعَ الأسماعَ .
2- تأمَّلْ سِرَّ: الم كيفَ اشتمَلت على هذه الحروفِ الثَّلاثةِ، فالألفُ إذا بُدِئ بها أوَّلًا كانت همزةً، وهي أوَّلُ المخارجِ مِن أقصَى الصدرِ، واللامُ مِن وسطِ المخارجِ، وهي أشدُّ الحروفِ اعتمادًا على اللسانِ، والميمُ آخرُ الحروفِ، ومخرجُها مِن الفمِ، وهذه الثلاثةُ هي أصولُ مخارجِ الحروفِ؛ أعني الحلقَ واللسانَ والشفتينِ، وترتَّبَتْ في التنزيلِ مِن البدايةِ إلى الوسطِ إلى النِّهايةِ. فهذه الحروفُ تعتمِدُ المخارجَ الثلاثةَ التي يتفرَّعُ منها ستةَ عشرَ مخرجًا، فيصيرُ منها تسعةٌ وعشرونَ حرفًا عليها مدارُ كلامِ الأممِ الأوَّلينَ والآخرينَ، معَ تضمُّنِها سرًّا عجيبًا، وهو أنَّ الألفَ البدايةُ، واللامَ التوسُّطُ، والميمَ النهايةُ، فاشتملت الأحرفُ الثلاثةُ على البدايةِ والنهايةِ والواسطةِ بينهما، وكلُّ سورةٍ استُفْتِحتْ بهذه الأحرفِ الثلاثةِ فهي مشتملةٌ على بدءِ الخلقِ ونهايتِه وتوسطِه، فمشتملةٌ على تخليقِ العالمِ وغايتِه وعلى التوسطِ بينَ البدايةِ والنهايةِ مِن التشريعِ والأوامرِ، فتأمَّلْ ذلك في (البقرةِ) و(آلِ عمرانَ) و(تنزيل السجدةِ) وسورةِ (الرومِ) .
3- لو حَصَل نزاعٌ، وكان المتنازِعانَ مُبطِلَينِ -كأهلِ الكِتابِ والمُشرِكينَ إذا تجادَلوا أو تقاتَلوا- كان المشروعُ نصْرَ أهلِ الكتابِ على المُشرِكينَ بالقَدْرِ الَّذي يُوافِقُهم عليه المؤمِنونَ، إذا لم يكُنْ في ذلك مَفسَدةٌ تُقاوِمُ هذه المصلَحةَ؛ فإنَّ ذلك مِن الحَقِّ الَّذي يَفرحُ به المؤمِنونَ، كما قال تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ .
4- قَولُ الله تعالى: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فيه سؤالٌ: أيَّةُ فائدةٍ في ذِكرِ قَولِه تعالى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ، مع أنَّ قَولَه: سَيَغْلِبُونَ بعدَ قَولِه: غُلِبَتِ الرُّومُ لا يكونُ إلَّا مِن بَعدِ الغَلَبةِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: الفائِدةُ فيه إظهارُ القُدرةِ، وبيانُ أنَّ ذلك بأمرِ اللهِ؛ لأنَّ مَن غَلَب بعدَ غَلَبِه -أي: هزيمتِه- لا يكونُ إلَّا ضعيفًا، فلو كان غلَبَتُهم لِشَوكتِهم لكان الواجِبُ أن يَغلِبوا قبْلَ غَلَبِهم، فإذا غَلَبوا بعدَما غُلِبوا، دَلَّ على أنَّ ذلك بأمرِ اللهِ، فذُكِرَ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ؛ لِيتفَكَّروا في ضَعفِهم، ويَتذكَّروا أنَّ ذلك إنَّما كان بأمرِ اللهِ تعالى .
الوجهُ الثاني: التَّنبيهُ على عِظَمِ تلك الهزيمةِ عليهم، وأنَّها بحيثُ لا يُظَنُّ نَصرٌ لهم بعْدَها .
5- قال الله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ في هذا الإخبارِ دَليلٌ على نُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ الرُّومَ غَلَبَتْها فارِسُ، فأخبَر اللهُ عزَّ وجَلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الرُّومَ ستَغلِبُ فارِسَ في بِضعِ سِنينَ، وأنَّ المؤمِنينَ يَفرَحونَ بذلك؛ لأنَّ الرُّومَ أهلُ كتابٍ، فكان هذا مِن عِلمِ الغَيبِ الَّذي أخبَرَ الله عزَّ وجَلَّ به ممَّا لم يكُنْ عَلِموه .
6- في قَولِه تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ رَدٌّ على القدَريَّةِ الَّذين يقولونَ باستِقلالِ العَبدِ بفِعلِه؛ فهم يقولون: «إنَّ العبدَ مُستقِلٌّ بفِعلِه، وليس لله تعالى فيه تقديرٌ ولا أمْرٌ، ولا إنشاءٌ ولا مَشيئةٌ» !
7- في قَولِه تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ جوازُ فَرَحِ المؤمِنينَ بانتِصارِ بَعضِ الكُفَّارِ على بَعضٍ، إذا كان في ذلك مَصلحةٌ للإسلامِ .
8- في قَولِه تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقدَريَّةِ في بابِ الوعيدِ؛ لأنَّه جَلَّ جلالُه قد أكَّدَ في إنجازِ وعدِه، وأخبَرَ عن الوفاءِ به في غيرِ مَوضِعٍ مِن كتابِه، ولم يفعَلْ ذلك في بابِ الوعيدِ؛ لأنَّ تَرْكَ إنجازِه كَرمٌ لا خُلْفٌ .
9- قَولُ الله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ سَمَّاه وَعدًا؛ نظرًا لحالِ المؤمِنينَ الَّذي هو أهَمُّ هنا، وهو أيضًا وَعيدٌ للمُشرِكينَ بخِذلانِ أشياعِهم ومَن يفتَخِرونَ بمُماثَلةِ دينِهم .
10- قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عن الحسَنِ رَضيَ الله عنه في الآيةِ قال: (لَيبلُغُ مِن حِذْقِ أحَدِهم بأمرِ دُنياه أنَّه يُقَلِّبُ الدِّرهَمَ على ظُفرِه، فيُخبِرُك بوَزنِه، وما يُحسِنُ يُصَلِّي!) .
11- في قَولِه تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ دَلالةٌ على أنَّ العِلْمَ الحقيقيَّ هو العِلْمُ بالله تعالى وأسمائِه وصفاتِه، لا العِلمُ بالدُّنيا؛ لقولِه: لَا يَعْلَمُونَ، ثمَّ قال في الآيةِ الَّتي بعدَها: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا، فنفَى العِلْمَ عنهم؛ لأنَّ عِلْمَ الدُّنيا في الحقيقةِ ليس بعِلْمٍ، فالعِلْمُ الحقيقيُّ الَّذي يُمدَحُ عليه المرءُ هو العِلْمُ بالله وأسمائِه وصِفاتِه وأحكامِه .
12- قَولُ الله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُفيدُ أنَّ للدُّنيا ظاهِرًا وباطِنًا؛ فظاهِرُها ما يَعرِفُه الجُهَّالُ مِن التمَتُّعِ بزخارِفِها والتَّنَعُّمِ بمَلاذِّها، وباطِنُها وحقيقتُها أنَّها مَجازٌ للآخرةِ، يُتزوَّدُ إليها منها بالطَّاعةِ والأعمالِ الصَّالحةِ .
13- قَولُ الله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ مَحطُّ الذَّمِّ هو جملةُ وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ، فأمَّا مَعرِفةُ الحياةِ الدُّنيا فليست بمذَمَّةٍ؛ لأنَّ المؤمِنينَ كانوا أيضًا يَعلَمونَ ظاهِرَ الحياةِ الدُّنيا، وإنَّما المذمومُ أنَّ المُشرِكينَ يَعلَمونَ ما هو ظاهِرٌ مِن أمورِ الدُّنيا، ولا يَعلَمونَ أنَّ وراءَ عالَمِ المادَّةِ عالَمًا آخَرَ هو عالَمُ الغَيبِ .
14- في الآيات دَلالةٌ على قُصور عِلْمِ المرءِ؛ لقولِه تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ليس كلَّ الظاهرِ، وليس الباطنَ، فالمرءُ عِلْمُه قاصرٌ حتَّى في أمورِ الدُّنيا أيضًا؛ فلا يُمكِنُ للمرءِ الإحاطةُ بعِلمِ الدُّنيا .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ
- قولُه: غُلِبَتِ الرُّومُ خَبرٌ مُستعمَلٌ في لازمِ فائدتِه على طَريقِ الكِنايةِ، أي: نحن نَعلَمُ بأنَّ الرُّومَ غُلِبَت؛ فلا يَهْنِكُم -أي: يسرَّكم- ذلك، ولا تُطاوِلوا به على رُسولِنا وأوليائِنا؛ فإنَّا نَعلَمُ أنَّهم سيَغلِبون مَن غَلَبوهم بعدَ بِضعِ سِنينَ بحيث لا يُعَدُّ الغلَبُ في مِثْلِه غَلَبًا؛ فالمقصودُ مِن الكلامِ هو جُملةُ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 3، 4]، وكان ما قبْلَه تَمهيدًا له .
- وفي قولِه: غُلِبَتِ الرُّومُ أُسنِدَ الفِعلُ إلى المجْهولِ؛ لأنَّ الغرَضَ هو الحديثُ على المغلوبِ لا على الغالِبِ، ولأنَّه قد عُرِفَ أنَّ الَّذين غَلَبوا الرُّومَ هم الفُرْسُ . وقيل: الحِكمةُ -واللهُ أعلَمُ- في حذْفِ الفاعلِ لسَببينِ: السَّببِ الأوَّلِ: لِيَكونَ ذلك أعظَمَ إهانةً للفُرْسِ، وأنَّهم لَيسوا أهلًا للذِّكْرِ. السَّببِ الثَّاني: لِيَكونَ هذا أخْفى بالنِّسبةِ لذُلِّ الرُّومِ وخِذلانِها، أي: تَهوينًا للأمْرِ على الرُّومِ؛ لأنَّه إذا قيلَ للإنسانِ: أنت غُلِبْتَ، أهْوَنُ مِن أنْ يُقالَ له: غَلَبَك فُلانٌ؛ فإنَّه إذا قيل له: غَلَبَك فُلانٌ، فمعناهُ: أنَّه ذليلٌ لهذا الرَّجلِ المذكورِ .
2- قَولُه تعالى: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
- حُذِفَ مَفعولُ سَيَغْلِبُونَ؛ للعِلْمِ بأنَّ تَقديرَه: سيَغلِبون الَّذين غَلَبوهم، أي: الفُرسَ .
3- قَولُه تعالى: فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
- قولُه: فِي بِضْعِ سِنِينَ لفْظُ (بِضْع) كِنايةٌ عن عدَدٍ قليلٍ لا يَتجاوَزُ العَشَرةَ، وحِكْمةُ إبهامِ عدَدِ السِّنينَ أنَّه مُقْتضى حالِ كلامِ العظيمِ الحكيمِ: أنْ يَقتصِرَ على المقصودِ إجمالًا، وألَّا يَتنازَلَ إلى التَّفصيلِ؛ لأنَّ ذلك التَّفصيلَ يَتنزَّلُ مَنزِلةَ الحشْوِ عندَ أهْلِ العقولِ الرَّاجحةِ، ولِيَكونَ للمسلمينَ رجاءٌ في مدَّةٍ أقرَبَ ممَّا ظهَرَ؛ ففي ذلك تَفريجٌ عليهم .
وقيل: فائدةُ هذا الإبهامِ: التَّفخيمُ وإدخالُ الرَّهبةِ في قُلوبِ المشركينَ في كلِّ وقْتٍ، والإشعارُ بأنَّ زهْوَهم بأنفُسِهم واعتدادَهم بقوَّتِهم ليس إلَّا إلى حِينٍ، يَطولُ أو يَقصُرُ، ولكنَّه آيِلٌ إلى الانتهاءِ، ومُفْضٍ إلى العاقبةِ الحتميَّةِ، وهي الارتدادُ والانتكاسُ .
- قولُه: لِلَّهِ الْأَمْرُ تَقديمُ المجرورِ لِلَّهِ؛ لإبطالِ تَطاوُلِ المشركينَ الَّذين بهَجَهم غلَبُ الفُرْسِ على الرُّومِ؛ لأنَّهم عَبَدةُ أصنامٍ مِثْلُهم؛ لاستِلزامِه الاعتقادَ بأنَّ ذلك الغلَبَ مِن نصْرِ الأصنامِ عُبَّادَها؛ فبيَّنَ لهم بُطلانَ ذلك، وأنَّ التَّصرُّفَ للهِ وحْدَه في الحالَينِ، كما دلَّ عليه التَّذييلُ بقولِه: يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم: 5].
4- قَولُه تعالى: بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
- قولُه: بِنَصْرِ اللَّهِ أُضِيفَ النَّصرُ إلى اسمِ الجَلالةِ؛ للتَّنويهِ بذلك النَّصرِ، وأنَّه عِنايةٌ لأجْلِ المسلمينَ .
- وقولُه: يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ استِئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ قولِه تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ . وأيضًا جُملةُ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ تَذييلٌ؛ لأنَّ النَّصرَ المذكورَ فيها عامٌّ بعُمومِ مَفعولِه، وهو مَنْ يَشَاءُ؛ فكلُّ مَنصورٍ داخلٌ في هذا العُمومِ، أي: مَن يشاءُ نصْرَه لحِكَمٍ يَعلَمُها؛ فالمشيئةُ هي الإرادةُ، أي: يَنصُرُ مَن يُرِيد نصْرَه، وإرادتُه تعالى لا يُسأَلُ عنها، ولذلك عقَّبَ بقولِه: وَهُوَ الْعَزِيزُ؛ فإنَّ العَزيزَ المُطلَقَ هو الَّذي يَغلِبُ كلَّ مُغالِبٍ له، وعقَّبَه بـ الرَّحِيمُ؛ للإشارةِ إلى أنَّ عِزَّتَه تعالى لا تَخْلو مِن رَحمةٍ بعِبادِه، ولولا رَحمتُه لَمَا أدالَ للمَغلوبِ دَولةً على غالِبِه، مع أنَّه تعالى هو الَّذي أراد غَلَبةَ الغالِبِ الأوَّلِ؛ فكان الأمْرُ الأوَّلُ بعِزَّتِه، والأمْرُ الثَّاني برَحمتِه للمَغلوبِ المنْكوبِ، وترتيبُ الصِّفتَينِ العِلِّيَّتَينِ مَنظورٌ فيه لمُقابَلةِ كلِّ صِفَةٍ منهما بالَّذي يُناسِبُ ذِكْرَه مِن الغَلبينِ، فالمُرادُ رَحمتُه في الدُّنيا .
وقيل: إنْ نَصَرَ اللهُ المحِبَّ فلِعِزَّتِه واستغنائِه عن العَدُوِّ، ورَحمتِه على المحِبِّ؛ وإن لم يَنصُرِ المحِبَّ فلِعزَّتِه واستغنائِه عن المحِبِّ، ورحمتُه في الآخِرةِ واصِلةٌ إليه .
- قولُه: وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فيه تَقديمُ وصْفِ العِزَّةِ على وصْفِ الرَّحمةِ؛ لتَقدُّمِه في الاعتبارِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قدَّمَ المصدرَ بِنَصْرِ اللَّهِ على الفِعلِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ، وفي سُورةِ (الأنفالِ) قدَّمَ الفِعلَ على المصدرِ في قولِه: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الأنفال: 62] ؛ وذلك لأنَّ المقصودَ هاهنا بَيانُ أنَّ النُّصرةَ بيَدِ اللهِ؛ إنْ أرادَ نَصَرَ، وإنْ لم يُرِدْ لا يَنصُرُ، وليس المقصودُ النُّصرةَ ووُقوعَها، والمقصودُ هناك إظهارُ النِّعمةِ عليه بأنَّه نصَرَه؛ فالمقصودُ هناك الفِعلُ ووُقوعُه؛ فقدَّم هناك الفِعلَ، ثمَّ بيَّنَ أنَّ ذلك الفِعلَ مصدرُه عندَ اللهِ، والمقصودُ هاهنا كونُ المصدرِ عندَ اللهِ؛ إنْ أراد فعَلَ، فقدَّم المصدرَ .
5- قَولُه تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ في إضافةِ الوعْدِ إلى اللهِ: تلْويحٌ بأنَّه وَعدٌ مُحقَّقُ الإيفاءِ؛ لأنَّ وعْدَ الصَّادقِ القادِرِ الغنِيِّ لا مُوجِبَ لإخلافِه .
- وجُملةُ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ بَيانٌ للمقصودِ مِن جُملةِ وَعْدَ اللَّهِ؛ فإنَّها دلَّت على أنَّه وعْدٌ مُحقَّقٌ بطريقِ التَّلويحِ؛ فبيَّنَ ذلك بالصَّريحِ بجُملةِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. ولكَونِها في مَوقِعِ البَيانِ فُصِلَت ولم تُعطَفْ على الَّتي قَبْلَها، وفائدةُ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ: تقريرُ الحُكْمِ؛ لِتأْكيدِه، ولِمَا في جُملةِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ مِن إدخالِ الرَّوعِ على المشركينَ بهذا التَّأكيدِ. وسمَّاهُ وعْدًا؛ نظَرًا لحالِ المؤمنينَ الذي هو أهمُّ هنا. وهو أيضًا وَعيدٌ للمشركينَ بخِذلانِ أشياعِهم ومَن يَفتخِرون بمُماثَلةِ دِينِهم .
- قولُه: لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ في مَوقعِ الإضمارِ؛ لتَعليلِ الحُكْمِ وتَفخيمِه. والجُملةُ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَعنى المَصدرِ .
- ومَوقعُ الاستدراكِ في قولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هو ما اقتَضاهُ الإجمالُ وتَفصيلُه؛ مِن كونِ ذلك أمْرًا لا ارتيابَ فيه، وأنَّه وعدُ اللهِ الصَّادقِ الوعدِ، القادرِ على نصْرِ المغلوبِ، فيَجعَلُه غالبًا؛ فاستَدرَكَ بأنَّ مُراهَنةَ المشركينَ على عدَمِ وُقوعِه نشأَتْ عن قُصورِ عُقولِهم، فأحالوا أنْ تكونَ للرُّومِ بعدَ ضَعْفِهم دَولةٌ على الفُرْسِ الَّذين قهَرُوهم في زمَنٍ قصيرٍ هو بِضْعُ سِنينَ، ولم يَعلَموا أنَّ ما قدَّرهُ اللهُ أعظَمُ، فالمُرادُ بـ أَكْثَرَ النَّاسِ ابتداءً المشركونَ؛ لأنَّهم سَمِعوا الوعدَ وراهَنوا على عدَمِ وُقوعِه، ويَشملُ المرادُ أيضًا كلَّ مَن كان يَعُدُّ انتصارَ الرُّومِ على الفُرْسِ في مِثلِ هذه المدَّةِ مُستحيلًا؛ فلذلك عبَّرَ عن هذه الجَمهرةِ بـ أَكْثَرَ النَّاسِ بصِيغَةِ التَّفضيلِ. والتَّعريفُ في النَّاسِ للاستغراقِ .
- ومَفعولُ يَعْلَمُونَ مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 3، 4]، والتَّقديرُ: لا يَعلَمون هذا الغلَبَ القريبَ العجيبَ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ تَنزيلَ الفِعلِ مَنزلةَ اللَّازمِ؛ بأنْ نُزِّلوا مَنزلةَ مَن لا عِلْمَ عندَهم أصْلًا؛ لأنَّهم لَمَّا لم يَصِلوا إلى إدراكِ الأمورِ الدَّقيقةِ وفَهْمِ الدَّلائلِ القياسيَّةِ، كان ما عِندَهم مِن بعضِ العِلْمِ شَبيهًا بالعدَمِ؛ إذ لم يَبلُغوا به الكَمالَ الَّذي بلَغَه الرَّاسِخونَ أهْلُ النَّظرِ؛ فيَكونَ في ذلك مُبالغةٌ في تَجهيلِهم، وهو ممَّا يَقْتضيهِ المَقامُ .
6- قَولُه تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
- قولُه: يَعْلَمُونَ بَدَلٌ مِن قولِه: لَا يَعْلَمُونَ، وفي هذا الإبدالِ مِن النُّكتةِ: أنَّه أبدَلَه منه، وجعَلَه بحيث يقومُ مَقامَه ويَسُدُّ مَسدَّه؛ لِيُعلِمَك أنَّه لا فرْقَ بيْنَ عدَمِ العِلْمِ الَّذي هو الجهْلُ، وبيْن وُجودِ العِلْمِ الَّذي لا يَتجاوَزُ الدُّنيا؛ فأصْلُ الكلامِ: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ يَعلَمون ظاهرَ ما يتعيَّشون به في الدُّنيا مِن التِّجاراتِ والمكاسبِ، ولا يَعلَمون باطِنَها مِن تِجاراتِ الآخرةِ والفوزِ بالفَلاحِ؛ فوُضِعَ لَا يَعْلَمُونَ -وهو مُطلَقٌ، فيُفِيدُ سلْبَ العِلْمِ رأسًا- مَوضِعَ يَعْلَمُونَ، ونُكِّرَ ظَاهِرًا، ووُضِعَ مَوضِعَ لَا يَعْلَمُونَ بإظهارِ قولِه: وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ؛ لِيُفِيدَ تلك الفوائدَ .
- وقيل: إنَّ جُملةَ يَعْلَمُونَ جُملةٌ استئنافيَّةٌ لبَيانِ مُوجِبِ جَهلِهم بوَعْدِ اللهِ؛ فالمعنى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أنَّ وعْدَ اللهِ حَقٌّ، وأنَّ للهِ الأمْرَ مِن قبْلُ ومِن بعْدُ، وأنَّه يَنصُرُ المؤمنينَ على الكافرينَ، ويَقذِفُ بالحقِّ على الباطلِ فيَدْمَغُه؛ لِيَكونَ الدِّينُ كلُّه للهِ؛ لأنَّهم يَعلَمون ظاهرًا مِن الحياةِ الدُّنيا، وهم عن أسْرارِ اللهِ -مِن أنَّه تعالى ما خلَقَ الخلْقَ لِلَّهْوِ واللَّعِبِ، بلْ خلَقَهم ليَعرِفوه ويَعبُدوه، ويَتزَوَّدوا لدارِ القرارِ- غافلونَ. ومِن ثَمَّ أتبَعَ ذلك بقولِه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: 8]، وختَمَه بقولِه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ .
- وفي تَنكيرِ ظَاهِرًا: أنَّهم لا يَعلَمون إلَّا ظاهرًا واحدًا مِن جُملةِ الظَّواهرِ . وقيل: بلْ تَنكيرُ ظَاهِرًا للتَّحقيرِ والتَّخسيسِ، دونَ الواحدةِ -كما تُوهِّمَ- أي: يعلمونَ ظاهرًا حقيرًا خَسيسًا مِن الدُّنيا، وقيل: هو بمعنى الزَّائلِ الذَّاهبِ، أي: يعلمونَ أمرًا زائلًا لا بقاءَ له، ولا عاقبةَ مِن الحياة الدُّنيا، وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ التي هي الغايةُ القصوى والمطلبُ الأسنى هُمْ غَافِلُونَ لا تخطرُ ببالِهم، فكيفَ يتفكَّرونَ فيها، وفيما يؤدِّي إلى معرفتِها مِن الدُّنيا وأحوالِها ؟! وقيل: فيه تَقليلُ مَعلومِهم، وتقليلُه يُقرِّبُه مِن النَّفيِ حتَّى يُطابِقَ المُبدَلَ منه، وهو قولُه: لَا يَعْلَمُونَ . وقيل: أي: يعلمونَ ظواهرَ ما في الدُّنيا، أي: ولا يَعلَمون دقائقَها، والكلامُ يُشعِرُ بذَمِّ حالِهم، ومَحطُّ الذَّمِّ هو جُملةُ وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ .
- قولُه: وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ اقتصَرَ في تَجهيلِهم بعالَمِ الغَيبِ على تَجْهيلِهم بوُجودِ الحياةِ الآخِرةِ اقتِصارًا بَديعًا، حصَلَ به التَّخلُّصُ مِن غرَضِ الوعْدِ بنصْرِ الرُّومِ إلى غرَضٍ أهَمَّ، وهو إثباتُ البعثِ، مع أنَّه يَستلزِمُ إثباتَ عالَمِ الغَيبِ، ويكونُ مثالًا لِجَهْلِهم بعالَمِ الغيبِ، وذمًّا لجَهْلِهم به بأنَّه أوقَعَهم في وَرطةِ إهمالِ رَجاءِ الآخرةِ، وإهمالِ الاستعدادِ لِمَا يَقتَضيهِ ذلك الرَّجاءُ؛ فذلك مَوقعُ قولِه: وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. وعبَّرَ عن جَهْلِهم الآخِرةَ بالغفْلةِ كِنايةً عن نُهوضِ دَلائلِ وُجودِ الحياةِ الآخِرةِ، لو نَظَروا في الدَّلائلِ المُقْتضيةِ وُجودَ حياةٍ آخِرَةٍ؛ فكان جَهْلُهم بذلك شَبيهًا بالغفلةِ؛ لأنَّه بحيث يَنكشِفُ لو اهتَمُّوا بالنَّظرِ .
- وإيرادُ جُملةِ وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ اسميَّةً؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِهم مِن الغَفلةِ عن الآخِرةِ، واستِمرارِ غَفْلتِهم ودوامِها .
- قولُه: وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ فيه ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّعطُّفِ -وهو إعادةُ اللَّفظةِ بعَينِها في الجُملةِ-؛ فقد ردَّدَ (هم)؛ للمُبالَغةِ في تأْكيدِ غفْلَتِهم عن الآخرةِ .
- و(هم) الثَّانيةُ يجوزُ أنْ يكونَ مُبتدأً، و(غافِلون) خبَرَه، والجُملةُ خبرَ (هم) الأُولى، وأنْ يكونَ تَكريرًا للأُولى، و(غافِلون) خبرَ الأُولى، وهو على الوَجهينِ مُنادٍ على تمَكُّنِ غَفْلتِهم عن الآخِرةِ المُحقِّقةِ لمُقْتضَى الجُملةِ المُتقدِّمةِ؛ تَقريرًا لِجَهالتِهم، وتَشبيهًا لهم بالبهائمِ المقصورِ إدراكاتُها مِن الدُّنيا على ظواهرِها الخَسيسةِ، دونَ أحوالِها الَّتي هي مَبادئُ العلْمِ بأمُورِ الآخِرةِ، وإشعارًا بأنَّ العِلْمَ المذكورَ وعدَمَ العلمِ رأْسًا سِيَّانِ .