موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (5- 9)

ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريبُ الكَلِماتِ:

الْأَرْحَامِ: جمْعُ رحِم، وهو بيتُ مَنبَت الولدِ، ووِعاؤه في البَطن، وأصلُه من الرِّقَّة والعَطْف والرَّأفة؛ سُمِّي به رحمُ المرأة؛ لأنَّ منه يكونُ ما يُرحَم ويُرقُّ له من ولدٍ .
مُحْكَمَاتٌ: واضحاتٌ لا تَحتَمِلُ غيرَ وجهٍ واحدٍ منَ التَّأوِيل، بحيثُ يظهر المرادُ منها دون الاحتياجِ إلى غيرِها، وقيل غيرُ ذلك. والإحكامِ الإتقان، وأصلُه: المنْع، كأنَّه أحكَمها فمَنَع الخَلْق مِن التَّصَرُّف فِيهَا؛ لظهورِها ووضوحِ معناهَا .
أُمُّ الْكِتَابِ: أصلُ الكِتاب، ويُقال لأصلِ كلِّ شيء ومرجعِه: أمٌّ .
مُتَشَابِهَاتٌ: ما احْتَمَلَ منَ التَّأوِيلِ أَوْجُهًا، بحيث يُحتاج إلى غيرِها في فَهم المرادِ منها، وتُطلق على ما أَشكَل تَفسيرُه؛ لمشابهتِه بغيره، وقيل غيرُ ذلك .
زَيْغٌ: جَوْرٌ وميلٌ عن الحقِّ .
الفِتْنةِ: الشِّرْك والكُفر والشَّرُّ، والفِتنةُ في الأصل: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحان، مأخوذةٌ من الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جَودتُه من رداءتِه .
الرَّاسِخُونَ في العِلمِ: الثَّابتون فيه، الذين أَتْقنوا عِلْمَهم ووَعَوْه فحَفِظوه حفظًا لا يدخلُهم في معرفتهم وعِلمهم بما عَلِموه شكٌّ ولا لَبْسٌ، جمْع: راسخ، ورسوخُ الشَّيء في الشَّيء، هو ثبوتُه وولوجُه فيه .
يَذَّكَّرُ: يَتذكَّرُ- قُلِبت التَّاء ذالًا، وأُدغِمَت في الذَّال الأخرى، فصارَتْ (يَذَّكَّرُ)- والذِّكْرُ: تارةً يُقال على استحضارِ الشَّيءِ، وتارةً على حُضورِه بالقلبِ أو بالقولِ، وتارةً على العَلاءِ والشَّرفِ .

مشكل الإعراب:

قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ:
وَالرَّاسِخُونَ: الواو استئنافيَّة، والرَّاسِخُونَ مرفوعٌ، مبتدأ، وخبرُه جملة: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ؛ وهذا على قِراءة الوقفِ على اسمِ اللهِ تعالى. أو تكونُ الواوُ عاطفةً، والرَّاسِخُونَ مرفوعًا، عطفًا على اللهِ جلَّ ذِكرُه، والتقدير: وما يَعلَمُ تفسيرَ المتشابهِ وبيانَه، ورَدَّه إلى المُحكَم، إلَّا اللهُ والرَّاسخونَ في العِلم؛ وهذا على قِراءة الوصلِ. وعلى هذا الوجهِ فجُملة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالٌ، أي: يَعلمون تأويلَه حالَ كونِهم قائلين ذلك، أو تكون خبرَ مبتدأٍ محذوف، أي: هُم يقولون... .

المَعنَى الإجماليُّ:

 تُرشد الآياتُ إلى كَمال عِلمِ الله تعالى؛ فهو سبحانه لا يغيبُ عن عِلمه شيءٌ في الأرض ولا في السَّموات؛ فهو الَّذي يجعلُكم صُوَرًا في أرحام أمَّهاتِكم على أيِّ كيفيَّةٍ شاء؛ لذا فهو المستحقُّ للإلهيَّةِ وحده لا شريكَ له، وهو العزيزُ في مُلكِه، لا يغلِبُه شيءٌ، ولا يمتنع منه شيءٌ، والحكيم في خَلْقِه وصُنعِه وتدبيره، هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ- القُرْآنَ، منه آياتٌ بيِّنات واضحاتُ الدَّلالة، لا التباسَ فيها، وهي أصلُ هذا الكتاب ومعظَمُه، ومن القُرْآن آياتٌ أُخَرُ يلتبس معناها، أو تشتبهُ دلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضِهم، فأمَّا الَّذين في قلوبهم ميلٌ عن الحقِّ وضلالٌ، فيتعلَّقون بالمتشابِهِ من الآيات، ويتركون المُحكَم؛ وذلك طلَبًا للَّبْسِ على المؤمنين وإضلالِهم، وطلبًا لتفسيره على ما يريدون؛ تحريفًا له وَفْقَ أهوائِهم، وما يعلَمُ تفسيرَ المتشابِهِ إلَّا الله تعالى، والثَّابتون في العِلمِ المتمكِّنون منه يعلَمون أيضًا، وإن لم يعلَموا حقائقَ الأمورِ وما تؤولُ إليه؛ لأنَّ اللهَ وحده هو الَّذي يعلَمُها، ويُعلِن الرَّاسخون في العلم إيمانَهم بالمتشابِهِ؛ فكلٌّ من المُحكَمِ والمتشابهِ من عند الله تعالى، وما يتذكَّرُ ويتَّعظُ إلَّا أصحابُ العقول السَّليمة، ويَدْعون اللهَ ألَّا يُميلَ قلوبهم عن الهُدى بعد الهداية، وأن يهَبَ لهم رحمةً عظيمة تَزيدُهم إيمانًا وثباتًا؛ فإنَّه واسعُ العطايا والهباتِ، كثيرُ الإحسان، ويقولون: يا ربَّنا، إنَّك تجمعُ النَّاسَ في يوم لا شكَّ فيه، وهو يوم القيامة، للفصلِ بينهم، ومجازاة كلِّ واحدٍ بعمَله، فاغفِرْ لنا يومئذٍ، واعفُ عنَّا، إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعدَه.

تفسير الآيات:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
 أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يغيبُ عن عِلمِه شيءٌ في الأرض ولا في السَّموات؛ فهو سبحانه عالِمٌ بجميعِ الأشياء على التَّفصيلِ .
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّر سبحانه إحاطةَ عِلمِه بالمعلومات كلِّها، جلِيِّها وخفِيِّها، ظاهرِها وباطنِها، ذَكَر مِن جملةِ ذلك الأَجِنَّةَ في البطون، الَّتي لا يُدركُها بصرُ المخلوقين، ولا يَنالُها عِلمُهم، وهو تعالى يدبِّرُها بألطفِ تدبير، ويقدِّرُها بكلِّ تقدير ، فقال:
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ
 أي: هو الَّذي يَجعلُكم صُوَرًا في أرحام أمَّهاتِكم على أيِّ كيفيَّةٍ شاء، فيجعَلُ هذا ذَكَرًا وهذا أنثى، وهذا أسودَ وهذا أحمرَ، وهذا حَسَنًا وهذا قَبيحًا، وهذا طويلًا وهذا قصيرًا، إلى غير ذلك من الاختِلافاتِ .
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. [الحج: 5] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14] .
وشرَح النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كيفيَّةَ التصويرِ في الحديثِ الذي رواه ابنُ مسعودٍ وغيرُه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أنَّه قال: ((إنَّ أحدَكُم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أمِّهِ أربعينَ يومًا، ثمَّ يَكونُ في ذلك عَلقةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يَكونُ مُضغةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يُرسَلُ الملَكُ فيَنفخُ فيهِ الرُّوحَ ويُؤمرُ بأربعٍ، كلِماتٍ: بكَتبِ رزقِه وأجلِه وعملِه وشقيٌّ أو سعيدٌ )) .
ودلَّت هذه الآيةُ على أنَّ عيسى ابنَ مريمَ عبدٌ مخلوق، كما خَلَق اللهُ سائرَ البشر؛ لأنَّ اللهَ تعالى صوَّره في الرَّحِم وخَلَقه كما يشاء؛ فكيف يكونُ إلَهًا كما زعمَتْه النَّصارى، وقد تَقلَّب في الأحشاءِ، وتنقَّل من حالٍ إلى حال؛ كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر: 6] ؛ لذا قال اللهُ تعالى بعد ذلِك مقررًا انفرادَه بالأُلوهيَّة:
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
 أي: هو المستحقُّ للإلهيَّة وحْدَه لا شريكَ له، العزيزُ في مُلكِه، لا يَغلِبُه شيء، ولا يمتنعُ منه شيءٌ، وما شاء كان بلا ممانعٍ، والحكيمُ في خَلْقِه وصُنعِه وتدبيره .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
 أي: هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ- القُرْآنَ .
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
 أي: مِن القُرْآن آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتُ الدَّلالة، لا التباسَ فيها على أحدٍ من النَّاسِ، ولا شُبهةَ، ولا إشكالَ .
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
 أي: وهذه الآياتُ المُحكَماتُ هي أصل هذا الكتابِ، ومُعظَمُه الَّذي يُرجَعُ إليه عند الاشتباهِ .
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
 أي: ومِن القُرْآنِ آياتٌ أُخَرُ يَلتبسُ معناها، أو تشتبهُ دَلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضهم .
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
أي: فأمَّا الَّذين في قلوبِهم مَيْلٌ عن الحقِّ، وانحرافٌ عنه وضلال ، فيَتعلَّقون بالمتشابِهِ من آياتِ القُرْآن، ويأخذون به ويتركون المُحكَمَ .
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
 أي: طلَبًا للشُّبهاتِ واللَّبْسِ على المؤمنين، وإضلالِهم؛ إيهامًا بأنَّهم يحتجُّونَ بالقُرْآن .
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
أي: وطلَبًا لتفسيرِه على ما يُريدون؛ تحريفًا له وَفْقَ أهوائِهم الفاسدةِ لاحتمالِ لفظِه لِما يصرِفونه إليه .
عَن عَائِشَةَ رضِي الله عنها، قالت: تَلا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه الآيةَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، قالَتْ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((فإذا رأيتِ الَّذين يتَّبِعون ما تَشابَه منه، فأُولئكِ الَّذين سَمَّى اللهُ، فاحذَرُوهم )) .
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
أي: وما يعلَمُ عواقِبَ الأمورِ وما تؤولُ إليها، ولا حقائقَها، إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ وحده؛ وذلك كحقائقِ صفاتِ الله وكيفيَّتِها، وحقائق أوصاف ما يكونُ في اليومِ الآخِرِ، ونحو ذلك.
أمَّا الرَّاسخون في العِلم، المتمكِّنون منه، المُتقِنون له، فيقولون: آمَنَّا وصدَّقْنا بالمتشابهِ من آيِ الكِتابِ، وأنَّه حقٌّ وإن لم نعلَمْ تأويلَه ، هذا على قراءة الوقفِ على اسمِ الله .
أمَّا على قِراءة الوصلِ فيكون المعنى: وما يَعلَمُ تفسيرَ المتشابهِ، وبيانَه، ورَدَّه إلى المُحكَم، ودَفْعَ شُبَهِه، إلَّا اللهُ والرَّاسخون في العِلم، المتمكِّنون منه، المُتقِنون له أيضًا، يعلَمون ذلك، ويقولون: آمَنَّا وصدَّقْنا بالمتشابهِ من آيِ الكتابِ .
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
 أي: كلٌّ مِن المحكَمِ من الكتاب والمتشابهِ منه، الجميعُ مِن عند ربِّنا، أوحاه إلى نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يُصدِّقُ كلٌّ منهما الآخَرَ، ويشهَدُ له .
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
 أي: وما يَتذكَّرُ ويتَّعِظُ ويفهَمُ ويَقبَلُ النُّصحَ إلَّا أصحابُ العقول السَّليمة .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
 أي: ويقول الرَّاسخونَ في العِلم أيضًا: يا ربَّنا، لا تُمِلْ قلوبَنا عن الهُدى والحقِّ بعد إذ هديتَنا إليه، فوفَّقْتَنا للإيمانِ بمُحكَمِ كتابِك ومتشابِهه، فلا تَجْعَلْنا كالَّذين في قلوبهم زَيغٌ، ممَّن يتَّبِعُ ما تشابهَ من القُرْآن .
عن عبدِ الله بن عمرٍو قال: قال رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلبٍ واحِدٍ، يُصرِّفُه حيثُ يشاءُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ )) .
وعن أمِّ سلَمةَ رضِي اللهُ عنها قالت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثبِّت قلبي علَى دينِكَ، قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما أَكْثرَ دُعاءَكَ: يا مقلِّبَ القلوبِ، ثبِّت قَلبي علَى دينِكَ! قال: يا أمَّ سلَمةَ، إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أُصبُعَيْنِ من أصابعِ اللهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ، فَتلا معاذٌ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا .
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
أي: وأعطِنا يا ربَّنا- تفضُّلًا مِن عندك- رحمةً عظيمةً تَزيدُنا بها إيمانًا وثَباتًا ويقينًا وسَدادًا .
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
أي: إنَّك أنت واسعُ العطايا والهِبَاتِ، كثيرُ الإحسان ، فإنَّنا إنَّما طلَبْنا منك هبةَ الرَّحمةِ؛ لأنَّك أنتَ الوهَّابُ .
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ
أي: ويقول الرَّاسخون في العِلمِ أيضًا: يا ربَّنا، إنَّك تبعَثُ النَّاسَ، وتجمَعُهم في يومٍ لا شكَّ فيه، وهو يوم القيامة، وذلك للفصلِ بينهم، ومجازاةِ كلِّ واحد بعمَلِه، فاغفِرْ لنا يومئذٍ، واعفُ عنَّا .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
أي: إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعده؛ أنَّ مَن آمَن به واتَّبَع رسولَه، وعمِل صالحًا، أنَّه يغفِرُ له .

الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ... حضٌّ على تربيةِ الإنسان لنفسِه على امتثالِ ما أمَره الله به، واجتنابِ ما نهاه عنه، وأنْ يتيقَّنَ أنَّ عمَلَه لا يَخفَى على الله، بل هو معلومٌ له .
2- يؤخَذُ من قوله عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... الآيةَ: أنَّ اللهَ أنزَل المتشابِهَ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا، لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه .
3- في قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ دليلٌ على أنَّ مِن علامةِ الزَّيغِ اتِّباعَ المتشابِهِ من القُرْآنِ، سواءٌ تبِعه الإنسانُ بالنِّسبة لتصوُّرِه فيما بينه وبين نفسِه، بإيراد الآياتِ المتشابهاتِ عليها، أو كان يتَّبِعُ ذلك بالنِّسبة لعَرْضِ القُرْآن على غيره .
4- في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ على قراءةِ الوقفِ بيانُ أنَّ في القُرْآن ما لا يعلَمُ تأويلَه إلَّا اللهُ (أي: وما يعلَمُ عواقبَ الأمورِ وما تؤولُ إليها، ولا حقائقَها، إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ وحده)، وفيه امتحانٌ للعباد بتأدُّبِهم مع الله عزَّ وجلَّ، هل يحاولون الوصولَ إلى شيءٍ لا تدركُه عقولُهم، أو يقفون على حدودِ ما تُدركه عقولُهم .
5- في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فضيلةُ الرُّسوخ في العِلم، وضرورةُ الثَّبات فيه، والتعمُّقِ في أخذِه، والبعدِ عن السَّطحيَّةِ فيه .
6- الرُّسوخُ في العِلم قدرٌ زائدٌ على مجرَّد العِلم؛ فالرَّاسخُ في العِلم يقتضي أنْ يكون عالِمًا محقِّقًا، وعارفًا مدقِّقًا، قد رسخ قدمُه في أسرارِ الشَّريعةِ؛ عِلمًا وحالًا وعمَلًا .
7- ينبغي للإنسان أنْ يحرِصَ على أنْ يكون راسخًا في العِلم، لا مُجرَّدَ جامعٍ له؛ فالرُّسوخُ في العِلم يُولِّد عند الشَّخص ملَكةً يستطيعُ من خلالها تقريبَ العِلم بعضِه من بعض، وقياسَ بعضِه على بعض .
8- لا يَنتفعُ بهذا القُرْآن ولا يتذكَّرُ بآياته إلَّا مَن كان له عقلٌ، كما قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] , وكلَّما ازداد المرءُ عقلًا، ازداد تذكُّرًا بكلامِ الله, وكلَّما نقَص تذكُّرُه دلَّ ذلك على نقصٍ في عقلِه بناءً على قاعدة: الحكم المعلَّق على وصفٍ يَزيد بزيادته، ويَنقُص بنقصانه .
9- في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بيانُ أنَّ للقلبِ حالينِ: حالَ استقامةٍ، وحالَ زيغٍ، والإنسان مضطرٌّ إلى أنْ يسأَلَ اللهَ سبحانه وتعالى ألَّا يُزيغَ قلبَه، حتى يكونَ مستقيمًا؛ فهو لا يملِكُ قلبَه؛ لذا لا بدَّ أنْ يلجأَ إلى اللهِ بسؤالِه ألَّا يُزيغَ قلبه، ولا يغتَرَّ بنفسِه، ويتَّكِلَ على إيمانِه, فكم من مؤمنٍ زلَّ وارتكَس، والعياذُ بالله .
10- القلبُ عليه مدارُ العمَلِ؛ لذلك سلَّط اللهُ فِعْلَ الزَّيغ عليه فقال: لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا .
11- التَّخليَة تكونُ قبل التَّحليَة، ومن ذلك قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا, ثمَّ قال: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، فقدَّم اللهُ تبارَك وتعالَى السُّؤال في تطهير القلبِ عمَّا لا يَنبغي، على طلبِ تَنويرِه بما ينبغي؛ لأنَّ إزالةَ المانع قبل إيجادِ المقتضِي عينُ الحكمة .
12- الإنسان مضطرٌّ إلى ربِّه في الدَّفعِ والرَّفع، أو في الجلبِ والدَّفع؛ لأنَّهم سأَلوا ألَّا يُزيغَ قلوبَهم بعد إذ هداهم، وسأَلوا أنْ يهَبَ لهم منه رحمةً؛ فدعاؤُهم ألَّا يُزيغَ قلوبَهم دعاءٌ بالرَّفعِ، ودعاؤهم بـ: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً دعاءٌ بالدَّفع .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- في قوله: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ عدَّة فوائد، منها:
- خصَّ اللهُ تبارَك وتعالَى الأرضَ والسَّماء بالذِّكر؛ لكونِهما مَشهودَينِ لنا, أمَّا ما عدا ذلك فإنَّنا لا نعلَمُه إلَّا عن طريقِ الغيب .
- ابتدأ في الذِّكر بالأرض؛ ليتَسنَّى التدرُّجُ في العطف إلى الأبعدِ في الحُكم؛ لأنَّ الكثيرَ من أشياءِ الأرض يعلَمُها كثيرٌ من النَّاس، أمَّا أشياءُ السَّماء فلا يعلم أحدٌ بعضَها، فضلًا عن عِلم جميعِها .
- وأيضًا في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عِمْرانَ: 5] صفةٌ سلبيَّةٌ، يرادُ بها بيانُ كمالِ العِلم؛ لأنَّ الصِّفاتِ المنفيَّةَ لا يرادُ بها مجرَّدُ النَّفي, وإنَّما يراد بها بيانُ كمال الضِّدِّ .
- والآية استئنافٌ يَتنزَّلُ منزلةَ البيان لوصف الحيِّ؛ لأنَّ عموم العِلم يبيِّنُ كمالَ الحياة .
- وفيها ردٌّ على غلاةِ القدريَّةِ الَّذين يَزعُمون أنَّ اللهَ لا يعلَمُ بعمَلِ العبدِ إلَّا بعد وقوعِه .
- إحاطةُ علمِ اللهِ بالكلِّيَّات والجزئيَّات؛ وذلك يؤخَذُ من قوله: شَيْءٌ؛ فهي نكِرةٌ في سياق النَّفي فأفادت العمومَ .
2- قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ: استئنافٌ يُبيِّنُ شيئًا من معنى القيُّوميَّةِ؛ فهو كبَدَلِ البعضِ من الكلِّ، وخَصَّ بالذِّكرِ مِن بين شؤونِ القيُّومية تصويرَ البَشر؛ لأنَّه مِن أعجبِ مظاهرِ القدرةِ، ولأنَّ فيه تعريضًا بالرَّدِّ على النَّصارى في اعتقادِهم إلهيَّةَ عيسى عليه السَّلام .
3- قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ فيه ردٌّ أيضًا على أهلِ الطَّبيعة؛ إذ يجعلونها فاعلةً مستبدَّةً
4- لَمَّا ذكَر أنَّ القُرْآن مُحكَمٌ ومتشابِهٌ، نظَر إليه جملةً- كما اقتضاه التَّعبيرُ بالكتابِ- فعبَّر عن ذلك بالإنزالِ دون التَّنزيل فقال: أَنْزَلَ عَلَيْكَ [آل عمران: 7] .
5- قسَّم اللهُ الأدلَّةَ السَّمعية إلى قِسمين: مُحكَمٍ ومتشابهٍ، وجعَل المحكَم أصلًا للمتشابهِ، وأُمًّا له، وأمُّ الشَّيء مرجعُه وأصلُه، فما خالَف ظاهرَ المُحكَم، فهو متشابهٌ، يُرَدُّ إلى المحكَم؛ ولذا قدَّم وصف هذه المحكَمات بقوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ؛ ليتبادرَ إلى الذهن أوَّلَ ما يتبادر أنَّه يردُّ المتشابهات إلى المحكَماتِ؛ لأنها كالأمِّ لها؛ فالمحكَماتُ تُفهَم بذواتها، بينما المتشابهات لا تُفهَم إلَّا بالاستعانة بالمُحكَمات .
6- الاشتباه قد يكونُ اشتباهًا في المعنى، بحيث يكون المعنى غيرَ واضح، أو اشتباهًا في التعارضِ، بحيث يظنُّ الظانُّ أنَّ القُرْآن يعارضُ بعضُه بعضًا، وهذا لا يمكن أنْ يكون واقعًا في القرآن؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82] ، والقُرْآن يُصدِّقُ بعضُه بعضًا .
7- التَّشابُه في التفسيرِ والمعنى أمرٌ نِسبيٌّ؛ فقد يتشابهُ عند هذا ما لا يتشابه عند غيرِه، ولكن ثَمَّ آياتٌ مُحكَماتٌ لا تشابُهَ فيها على أحدٍ، وتلك المتشابهات إذا عُرِف معناها صارَتْ غيرَ متشابهة .
8- في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ذكَر اللهُ أشدَّ الميْل، وهو مَيْلُ القلب، وفي إشعارِه ما يلحَقُ بزيغِ القلوبِ من سيِّئِ الأحوال في الأنفُس، وزلَلِ الأفعال في الأعمال، فأنبَأَ عن الأشدِّ، وأبهم ما هو الأضعفُ .
9- يُؤخَذُ من قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... الآيةَ: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أنزَل المتشابِهَ؛ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، للتمييزِ بين الثابت على الحقِّ والمتزلزل فيه، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا، لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه، ولكي يكونَ حافزًا لعقل المؤمنِ إلى النَّظر كيلا يضعُفَ فيموتَ، ولتعويد حَمَلةِ هذه الشَّريعةِ، وعلماءِ هذه الأمَّةِ بالتَّنقيبِ، والبحثِ، واستخراج المقاصدِ من عويصاتِ الأدلَّة، وليظهر فيها فضلُهم، ويزداد حِرصُهم على أن يجتهدوا في تَدبُّرها، وتحصيل العلوم المتوقِّف عليها استنباطُ المراد بها، فينالوا بها، وبإتعابِ القرائحِ في استخراجِ معانيها، والتوفيقِ بينها وبين المُحكَمات الدَّرجاتِ العُلى عند الله تعالى .
10- قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، ولم يجمَعْ فيقول: (هنَّ أمَّهاتُ الكتاب)، وقد قال: هُنَّ؛ لأنَّه أراد: جميعُ الآياتِ المحكَماتِ أمُّ الكتاب، لا أنَّ كلَّ آيةٍ منهنَّ أمُّ الكتاب، ونظيرُ ذلك، قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] ، ولم يقُلْ: آيتينِ؛ لأنَّ معناه: وجعلنا جميعَهما آيةً؛ لأنَّ المعنى واحدٌ فيما جُعِلا فيه عبرةً للخَلْقِ .
11- مُقتضى الرُّبوبيَّة أنَّ اللهَ تعالى يُنزِّل على عبادِه كتابًا لا يكونُ فيه اختلافٌ يوقِعُهم في الشَّكِّ والاشتباهِ؛ لقوله سبحانه: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: المحكَم والمتشابِهُ، وما كان من عندِ الرَّبِّ المعتني بعبادِه بربوبيَّتِه، فلن يكونَ فيه تعارُضٌ ولا تناقُضٌ، بل هو متَّفِق، يصدِّقُ بعضُه بعضًا، ويشهَدُ بعضُه لبعض، فإذا أشكَل مجمَلُ المتشابِهِ، فهو مردودٌ يقينًا إلى المحكَمِ .
12- الدُّعاء غالبًا ما يُصَدَّر بالرَّبِّ؛ لأنَّ الدُّعاءَ يتطلَّبُ الإجابةَ، والإجابةُ من الأفعال، والأفعال علاقتُها بالرُّبوبيَّة أكثر من علاقتها بالألوهيَّة؛ فالربوبيةُ تَقتضي القيامَ بأمورِ العباد وإصلاحِها؛ فكان العبدُ مُتعلِّقًا بمَنْ شأنُه التربيةُ والرفقُ والإحسان .
13- قولهم: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا لا يُرادُ به الافتخارُ، بل يرادُ به التَّوسُّل بالنِّعَم السَّابقة إلى النِّعَم اللَّاحقة .
14- طلبُهم الرَّحمةَ مِن عندِ الله بقولهم: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عِمْرانَ: 8] حتى لا يكونَ لأحدٍ عليهم منَّةٌ سواه, ولأنَّها متى ما كانت مِن عندِه كانت عظيمةً؛ فالعطاءُ على قدرِ المعطي .
15- في قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ إثباتُ اسمِ الله الوهَّاب، وما يتضمَّنُه من صفةِ الهِبَة، وهي صِفةٌ فعليَّةٌ لله تعالى .
16- في قوله: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا [آل عمران: 8] دليلٌ على أنَّ الهُدى والضَّلال مِن اللهِ تعالى، وأنَّه متفضِّلٌ بما يُنعِم على عبادِه، لا يجبُ عليه شيءٌ ما .
17- نبَّه تعالى بقوله: هَبْ لَنَا على أنَّ العبدَ يَنبغي ألَّا يلتفتَ إلى شيءٍ من عمَلِه، ولا أنْ يَطلُبَ العِوَضَ به، بل يَرجو رَجاءَ المفَاليسِ الطَّالبين للتفضُّلِ والهِبَة لا العِوَض .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ:
- عبَّر هنا بـلَا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ ولم يقُل: هو عالمٌ بكلِّ شيء؛ لأنَّ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ أبلغُ مِن قوله: (يعلم) في الأصل، وإنْ كان استعمالُ اللَّفظين فيه يُفيدان معنًى واحدًا .
- وتَنكير شَيْء؛ ليُفيد العموم والشُّمول، وجِيء بـ(شيء) هنا؛ لأنَّه من الأسماء العامَّة .
- وتقديمُ الْأَرْض على السَّمَاءِ؛ ترقِّيًا من الأَدْنى إلى الأعلى، ولأنَّ المقصودَ بالذِّكر ما اقُترِف في الأَرضِ؛ فكانت أَوْلى بالتَّقديم .
-وهذه الجملةُ كالدَّليل على كونه حيًّا .
2- قوله تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: فيه تَكرار قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الذي سبق في مَطلعِ السورة لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ؛ للتَّنبيهِ على استقرارِ ذلك في النُّفوس، وللردِّ على مَن زعم أنَّ معه إلهًا غيره .
- وناسَب هنا مَجيءُ العَزِيزُ الحَكِيمُ بعدَ الوصفينِ السَّابقين من العِلم والقُدرة؛ إذ مَن هذان الوَصفانِ له هو المتَّصفُ بالإلهيَّة لا غيرُه، ثم أتى بوصْفِ العِزَّة الدالَّة على عدم النَّظير، والحِكمة الموجِبة لتصويرِ الأشياءِ على الإتقان التامِّ .
- وقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: تذييلٌ لتقريرِ الأحكام المتقدِّمة .
- وفي افتتاحِ السُّورةِ بهذه الآياتِ بَراعةُ استهلالٍ؛ لنزولها في مجادلةِ نَصارى نجران؛ ولذلك تَكرَّر في هذا الطالعِ قَصْرُ الإلهيَّة على اللهِ تعالى في قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ، وقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .
3- في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ تأكيدٌ لقوله: نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ ، وتمهيد لقوله: منه آياتٌ مُحْكَمَاتٌ .
- وفيه: تقديمُ الظَّرف عَلَيْكَ على المفعول الكِتَابَ؛ للاعتناءِ بشأنِ بِشارتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، بتشريفِ الإنزالِ عليه، وللتشويقِ إلى ما أُنزل؛ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ- لا سيَّما بعدَ الإشعارِ برِفعةِ شأنِه أو بمنفعته- تبقَى مترقبةً لهُ، فيتمكَّنُ لديها عند وُرودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ، وليتَّصل به تقسيمه إلى قسيمه، ولِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ .
- قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ: فيه من بدائع البلاغة: ذِكر فِعل أَنْزَلَ في صِيغة القصر- وهي قوله: هُوَ الَّذِي- لأنَّ تعريفَ جزأَيِ الجملة بالضَّمير والموصولِ يُفيدُ القَصْر- مع أنَّ (الإنزال) مختصٌّ بالله تعالى ولو بدون صِيغة القَصر؛ إذ الإنزالُ يُرادِفُ الوحيَ، ولا يكونُ إلَّا من الله، بخِلافِ ما لو قال: هو الذي آتاك الكِتابَ ، فأفاد التَّأكيد.
4- في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: شبَّه القلبَ المائلَ عن القصْد بالشَّيء الزائغ عن مكانه ، وجعَل قلوبهم مقرًّا للزيغ؛ مبالغةً في عُدولِهم عن سَننِ الرَّشاد، وإصرارِهم على الشرِّ والفَساد .
5- قوله تعالى: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ: فيه تَكرارُ لَفْظِ التأويل؛ لاختلافِ التأويلينِ، أو للتَّفخيمِ لشأنِ التأويل .
- وجاءَ قوله: ابْتِغَاءَ على صِيغة (افتعال)؛ لبيان التكلُّف في شدَّة الطلب .
6- قوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا: مُقرِّرٌ لِمَا قبلَه ومُؤكِّد له، وفيه: مزيدُ تأكيدٍ بذِكر عِنْدَ، ولم يقل: (من ربِّنا)؛ لأنَّ الإيمانَ بالمتشابِهِ يُحتاجُ فيه إلى مزيدِ التأكيد ، أو زِيدت كلمة عِنْدَ؛ للدَّلالة على أنَّ مِنْ هنا للابتداءِ الحقيقيِّ دون المجازيِّ، أي: هو مُنزَّلٌ مِن وحْيِ اللهِ تعالى وكلامِه .
- قوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: هذا مِن المقول، ومفعول: يقولون قوله : آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وجُعلتْ كلُّ جملةٍ كأنَّها مستقلَّةٌ بالقول؛ ولذلك لم يَشتركْ بينهما بحَرْف العَطف، أو جُعلَا ممتزجينِ في القولِ امتزاجَ الجُملة الواحدة .
7- قوله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ: تذييلٌ سِيقَ مساقَ المدحِ للرَّاسخين، والثناءِ عليهم بجَودةِ الذِّهن، وصَحيحِ الفَهم، وحُسْن النَّظر .
8- قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ: فيه تَكرارُ الدُّعاء بـرَبَّنَا إِنَّكَ؛ للتنبيهِ على مُلازمتِه، وللتحذيرِ من الغفْلة عنه؛ لِمَا فيه من إظهارِ الافتِقار .
9- قوله تعالى: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً: التنكِيرُ في قوله: رَحْمَةً؛ للتَّعظيمِ، أي: رحمةً عَظيمةً واسعةً .
- وشبَّه المعقولَ من الرَّحمة بالمحسوس مِن الأجرام من العِوض والمعوَّض في الهِبة .
- وفيه تأخيرُ المفعول الصَّريح رَحْمَةً عن الجارَّينِ مِنْ لَدُنْكَ؛ للاعتناءِ بالمُقدَّم، والتشويقِ إلى المُؤخَّر؛ فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تَبقَى النفسُ مترقبةً لوروده، لا سيَّما عند الإشعارِ بكونه من المنافعِ .
10- قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ: الجملةُ هنا استئنافيَّةٌ لتَعليلِ السُّؤال والتَّوسُّل رَبَّنَا لَا تُزِغْ، أو لتعليلِ إعطاء المسؤول في قوله: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .
- وقوله: الوَهَّابُ صِيغةُ مبالغة، وأُطْلِقت ولم تُقيَّد، حيث لم يَقُل مثلًا: (وهَّاب الهداية)؛ ليتناولَ كلَّ موهوبِ .
- وفيه قَصْرٌ بتَوسيطِ ضَميرِ الفَصلِ أَنْتَ؛ للمبالغة؛ لأجْلِ كمال الصِّفة فيه تعالى؛ لأنَّ هِباتِ الناس بالنسبة لِمَا أفاض الله من الخيراتِ شيءٌ لا يُعبأ به، وفيه تأكيد بـ(إنَّ)، وبالجملة الاسميَّة، وبطريق القَصر ؛ فإنَّ ضميرَ الفصلِ يأتي لثَلاثِ فوائدَ: الأول: الفصلُ بين الصِّفة والخبر، والثانية: التوكيد، والثالثة: الحَصْر والقَصر .
11- قوله تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليومٍ: فيه إيجازٌ بحَذْفِ المضافِ إليه، وإقامةُ المضافِ مقامَه، والتقدير: يوم الحِسابِ أو يوم الجزاء؛ لكونِ المراد ظاهرًا، وللتهويلِ له، والتفظيعِ لِمَا يقَعُ فيه .
- وفيه التفاتٌ ؛ حيث قال: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ، ثم قال: إِنَّ اللهَ؛ لإبراز كمالِ التَّعظيمِ، والإجلالِ الناشِئ من ذِكرِ اليومِ المَهيب الهائل، ولتنبيهِ المخاطَب بتغييرِ أسلوبِ الكلام؛ وأيضًا لأنَّ الكلام بصيغةِ الغائب أبلغُ في تعظيمِ الله تبارَك وتعالَى .
12- في قوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ: تأكيدٌ لإظهارِ ما هم عليه من كَمالِ الطُّمأنينةِ، وقوَّة اليقينِ بأحوال الآخرة .
13- قوله تعالى: إنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ: تعليلٌ لمضمون الجُملة المؤكدةِ، أو لانتفاءِ الرَّيب .
- وفيه مناسبةٌ بليغة؛ ففي هذه الآية قال: إنَّ اللهَ، وفي آخِر السُّورة قال: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ، والفرق: أنَّ هذه الآيةَ في مقامِ الهيبة، والإلهيَّة تَقتضي الحشرَ والنَّشرَ؛ لينتصف المظلومون من الظالِمين، فكان ذِكرُه باسمِه أَوْلى في هذا المقام، أمَّا قوله: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ في آخِر السُّورة، فذاك المقامُ مقامُ طلَب العبدِ من ربِّه أن يُنعِمَ عليه بفضله، وأنْ يتجاوزَ عن سيِّئاته، فلم يكُن المقام مقامَ الهيبة؛ فناسَبَه ذِكرُ الضَّمير: إِنَّكَ .
- والمِيعَاد: على صِيغة (مِفعال) من الوعد، وجِيء به هكذا؛ لإفادةِ معنى تكرُّره ودوامِه . وأيضًا التعبيرُ بنفيِ الخُلْفِ بلفظة: المِيعَاد- وهي صيغةٌ تُستعمَلُ كاسمِ زمانٍ واسمِ مكانٍ بحسَبِ سياقِها- أبلغُ؛ لأنَّ نَفْي الخُلف في زَمنِ الوعدِ ومكانِه، أبلغُ من نفيِ خلف الوعدِ ذاتِه .