موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (12-16)

ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ

غريب الكلمات:

سُلَالَةٍ: أي: ما يُسَلُّ مِن كُلِّ تُربةٍ، والسُّلالةُ: فُعالةٌ مِن السَّلِّ، وهو استخراجُ الشَّيءِ مِن الشَّيءِ، ومنه قولُهم: سلَلْتُ الشَّعرَ من العَجينِ فانسَلَّ .
نُطْفَةً: النُّطفةُ: هي المنيُّ ، وقيل: الماءُ الصَّافي، وقيل: الماءُ القليلُ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .
قَرَارٍ مَكِينٍ: أي: مُستَقَرٍّ حصينٍ، وهو الرَّحِمُ، وأصلُ (قرر): يدلُّ على تمكُّنٍ، والمكينُ: المُتمكِّنُ .
عَلَقَةً: العَلَقةُ: الدَّمُ الجامِدُ، وأصلُ (علق): يدُلُّ على تعلُّقِ شَيءٍ بشَيءٍ .
مُضْغَةً: المُضْغةُ: القِطعةُ الصَّغيرةُ مِن اللَّحمِ قَدْرَ ما يُمضَغُ، وأصلُها: مِن المَضْغِ .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ اللهُ تعالى أنه خلَق آدَمَ مِن طينٍ مأخوذٍ مِن جَميعِ الأرضِ، ثمَّ جعل سبحانه وتعالى ابنَ آدم نطفةً تَستَقِرُّ محفوظةً في رحمِ المرأةِ، ثمَّ صَيَّر اللهُ تعالى النُّطفةَ قِطعةَ دَمٍ، فجعَلها قِطعةَ لَحمٍ صغيرةٍ، فجعَلها عِظامًا مختلفةً، وشَكَّلها ذاتَ رأسٍ ويدينِ ورِجلَينِ، ثم ألبس تلك العِظامَ لَحمًا، ثمَّ أنشَأه خَلقًا آخَرَ بأن نفخَ فيه الرُّوحَ، فتبارَكَ اللهُ الذي أحسَنَ وأتقنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه!
ثمَّ يُذكِّرُ الله البشرَ أنَّهم بعدَ ذلك سيموتونَ، ثمَّ بعدَ موتِهم سيُبْعثونَ يومَ القيامةِ مِن قُبورِهم؛ للحِسابِ والجَزاءِ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ سبحانه بالعباداتِ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، والاشتغالُ بعبادةِ الله لا يَصِحُّ إلَّا بعد معرفةِ الإلهِ الخالقِ؛ لا جرَمَ عقَّبَها بذِكرِ ما يدُلُّ على وجودِه، واتِّصافِه بصفاتِ الجلالِ والوحدانيَّةِ .
وأيضًا لَمَّا ذكر اللهُ تعالى أنَّ المتَّصفينَ بتلك الأوصافِ الجليلةِ هم يَرِثونَ الفِردَوسَ، فتضَمَّنَ ذلك المعادَ الأُخرويَّ- ذكَرَ النشأةَ الأولى؛ ليستَدِلَّ بها على صِحَّةِ النشأةِ الآخرةِ .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12).
أي: ولقد خلَق اللهُ تعالَى آدَمَ عليه السلامُ مِن طينٍ أُخِذ مِن جميعِ الأرضِ .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج: 5] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7، 8].
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ تعالى خلَقَ آدَمَ مِن قَبضَةٍ قبَضَها مِن جَميعِ الأرضِ، فجاء بنو آدَمَ على قَدْرِ الأرضِ ، فجاء منهم الأحمَرُ والأبيَضُ، والأسْوَدُ وبيْنَ ذلك، والسَّهلُ والحَزْنُ ، والخَبيثُ والطَّيِّبُ)) .
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13).
أي: ثمَّ جعَلْنا ابنَ آدمَ نُطفةً ، مُستَقِرَّةً محفوظةً في رَحِمِ المرأةِ .
كما قال سُبحانَه: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ  [المرسلات: 20- 22] .
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14).
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً.
أي: ثمَّ صيَّرْنا النُّطْفةَ قِطعةَ دَمٍ تعْلَقُ في الرَّحمِ .
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.
أي: فجعَلْنا قِطعةَ الدَّمِ قِطعةَ لَحمٍ صَغيرةً، لا شَكلَ فيها ولا تَخطيطَ .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج: 5] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَدَّثَنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الصَّادِقُ المَصدوقُ، قال: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أمِّه أربعينَ يَومًا، ثمَّ يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك )) .
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا.
أي: فجعَلْنا قِطعةَ اللَّحمِ عِظامًا مُختَلِفةً، شَكَّلْناها ذاتَ رأسٍ ويدينِ ورِجلَينِ .
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا.
أي: فألبَسْنا تلك العِظامَ لَحمًا .
ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ.
أي: ثمَّ نفَخْنا فيه الرُّوحَ، فتحَوَّلَ إنسانًا حَيًّا، وبشَرًا سَوِيًّا .
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
أي: فتعاظَمَ وكثُرَ خَيرُ اللهِ أتقنِ الصَّانِعينَ، الذي أتْقَنَ كلَّ شَيءٍ خلَقَه !
كما قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7].
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنَّه كان إذا سجَدَ قال: ((اللهمَّ لك سجَدْتُ، وبك آمَنْتُ، ولك أسلَمْتُ، سَجَد وَجْهي للَّذي خلقَه وصَوَّره، وشقَّ سَمْعَه وبصَرَه، تبارك اللهُ أحسَنُ الخالقِينَ )) .
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15).
أي: ثمَّ إنَّكم -أيُّها النَّاسُ- بعد أنْ خلَقْناكم وأحيَيناكم ستَموتونَ، فتَعودونَ تُرابًا كما كُنتُم .
كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] .
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16).
أي: ثمَّ إنَّكم -أيُّها النَّاسُ- ستُبعَثونَ يومَ القيامةِ مِنَ التُّرابِ؛ للحِسابِ والجَزاءِ .
كما قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36 - 40] .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ فيه تنبيهٌ للإنسانِ أن يكون الموتُ نُصبَ عينَيه، ولا يَغفُلَ عن ترَقُّبِه؛ فإنَّ مآلَه إليه، لأنَّ الإنسانَ في الحياةِ الدُّنيا يسعَى فيها غايةَ السَّعيِ، ويَكِدُّ ويجمَعُ حتى كأنَّه مُخلَّدٌ فيها، فنبَّه بذِكرِ الموتِ مؤكِّدًا مبالِغًا فيه؛ لِيُقصِرَ، ولِيَعلَمَ أنَّ آخِرَه إلى الفناءِ، فيعمَلَ لدارِ البقاءِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فيه ردٌّ على مَن زعَمَ أنَّ الإنسانَ هو الرُّوحُ فقط، وقد بيَّن تعالى أنَّ الإنسانَ مركَّبٌ مِن هذه الأشياءِ. وفيه ردٌّ أيضًا على الفلاسِفةِ في زَعمِهم أنَّ الإنسانَ شَيءٌ لا ينقَسِمُ .
2- قال الله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً مِن إعجازِ القُرآنِ العِلميِّ تسميةُ هذا الكائِنِ باسمِ العَلَقةِ؛ فإنَّه وَضعٌ بديعٌ لهذا الاسمِ؛ إذ قد ثبت في عِلمِ التَّشريحِ أنَّ هذا الجزءَ الذي استحالت إليه النُّطفةُ هو كائنٌ له قوَّةُ امتصاصِ القُوَّةِ مِن دَمِ الأمِّ؛ بسبَبِ التِصاقِه بعروقٍ في الرَّحِمِ تدفَعُ إليه قُوَّةَ الدَّمِ .
3- إن قيل: كيف الجمعُ بينَ قَولِه: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وقَولِه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] ؟
فالجوابُ: أنَّ الخَلقَ يكونُ بمعنى الإيجادِ، ولا مُوجِدَ سِوى اللهِ، ويكونُ بمعنى التَّقديرِ، كقولِ زُهَيرٍ :
وبعضُ القَومِ يَخلُقُ ثمَّ لا يَفري .
 فهذا المرادُ هاهنا: أنَّ بني آدَمَ قد يصوِّرونَ ويُقَدِّرونَ ويَصنَعونَ الشَّيءَ؛ فاللهُ خَيرُ المصوِّرينَ والمقَدِّرينَ. وقال الأخفَشُ: الخالقونَ هاهنا هم الصَّانِعونَ، فاللهُ خيرُ الخالِقينَ .
4- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ فيه سؤالٌ: قد يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ نفيُ عذابِ القبرِ؛ لأنَّه لم يَذكُرْ بينَ الأمْرينِ الإحياءَ في القبرِ والإماتةَ؟
الجوابُ مِن وجوهٍ:
الوجه الأول: أنَّه ليس في ذِكرِ الحياتينِ نفيُ الثالثةِ.
الوجه الثاني: أنَّ الغرضَ ذِكرُ هذه الأجناسِ الثلاثةِ -الإنشاءُ والإماتةُ والإعادةُ-، والذي تُرِكَ ذِكرُه فهو مِن جنسِ الإعادةِ .
الوجه الثالث: أنَّه عيَّن البعثَ الأكبرَ التامَّ الذي هو محطُّ الثوابِ والعقابِ؛ لأنَّ مَن أقرَّ به أقرَّ بما هو دونَه مِن الحياةِ في القبرِ وغيرِها .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ شُروعٌ في بَيانِ مَبدأِ خَلْقِ الإنسانِ، وتَقلُّبِه في أطوارِ الخِلْقةِ، وأدوارِ الفِطْرةِ بَيانًا إجْماليًّا . والواوُ في وَلَقَدْ عاطفةٌ غرَضًا على غرَضٍ، ويُسمَّى عطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، فالجُملةُ استئنافٌ؛ لأنَّها عَطْفٌ على جُملةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] الَّتي هي ابتدائيَّةٌ، وهذا شُروعٌ في الاستدلالِ على انفرادِ اللهِ تعالى بالخلْقِ وبَعظيمِ القُدرةِ الَّتي لا يُشارِكُه فيها غيرُه، وعلى أنَّ الإنسانَ مَربوبٌ للهِ تعالى وَحْدَه، والاعتبارِ بما في خَلْقِ الإنسانِ وغَيرِه مِن دلائلِ القُدرةِ ومِن عَظيمِ النِّعمةِ؛ فالمَقصودُ منه إبطالُ الشِّركِ، ويَتضمَّنُ ذلك امتنانًا على النَّاسِ بأنَّه أخرَجَهم مِن مَهانةِ العدَمِ إلى شَرفِ الوُجودِ؛ وذلك كلُّه لِيَظهَرَ الفَرقُ بين فَريقِ المُؤمِنينَ الَّذين جَرَوا في إيمانِهم على ما يَلِيقُ بالاعترافِ بذلك، وبينَ فَريقِ المُشرِكين الَّذين سَلَكوا طَريقًا غيرَ بَيِّنَةٍ، فحادُوا عن مُقْتَضى الشُّكْرِ بالشِّركِ .
- وفي قولِه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا تأْكيدُ الخَبرِ بلامِ القَسمِ وحَرْفِ التَّحقيقِ (قد)، وهو مُراعًى فيه التَّعريضُ بالمُشرِكين المُنزَّلينَ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ هذا الخَبرَ؛ لِعَدمِ جَرْيِهم على مُوجَبِ العلْمِ .
2- قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
- قولُه: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ ...، أي: وَضْعَناها فيه؛ حِفْظًا لها؛ ولذلك غُيِّرَ في الآيةِ التَّعبيرُ عن فِعْلِ الخَلْقِ إلى فِعْلِ الجَعْلِ المُتعدِّي بـ (في) بمعنى الوَضْعِ .
- وثُمَّ للتَّرتيبِ الرُّتْبِيِّ؛ لأنَّ ذلك الجعلَ أعظمُ مِنْ خلقِ السُّلالَةِ .
- والضَّميرُ في قولِه: جَعَلْنَاهُ عائدٌ على ابنِ آدَمَ وإنْ كان لم يُذْكَرْ؛ لِشُهرةِ الأمْرِ، أو على حَذْفِ مُضافٍ، أي: ثُمَّ جعَلْنا نَسْلَه؛ ففيه إيجازٌ بالحَذفِ .
- قولُه: فِي قَرَارٍ مَكِينٍ المكينُ، أي: الثابِتُ في المكانِ بحيث لا يُقْلَعُ مِن مكانِه؛ فمُقْتَضى الظَّاهرِ أنْ يُوصَفَ بالمَكينِ الشَّيءُ الحالُّ في المكانِ الثَّابتِ فيه، وقد وقَعَ هنا وَصْفًا لنَفْسِ المكانِ الَّذي استقرَّتْ فيه النُّطفةُ؛ للمُبالَغةِ، وحَقيقتُه: مَكينٌ حالُه . وأيضًا عُبِّرَ عن الرَّحمِ بالقَرارِ الَّذي هو مَصدرٌ؛ مُبالَغةً .
3- قولُه تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فيه اخْتِلافُ حُروفِ العَطْفِ (ثمَّ - الفاء)؛ لِتَفاوُتِ الاستحالاتِ . وعُطِفَ جَعْلُ العَلَقةِ مُضغةً بالفاءِ؛ لأنَّ الانتقالَ مِن العَلقةِ إلى المُضْغةِ يُشْبِهُ تَعقيبَ شَيءٍ عن شَيءٍ؛ إذِ اللَّحمُ والدَّمُ الجامِدُ مُتقارِبانِ، فتَطوُّرُهما قَريبٌ، وإنْ كان مُكْثُ كلِّ طَورٍ مُدَّةً طويلةً . وجُمِعَ (عظام)؛ لاختلافِها في الهيئةِ والصَّلابةِ .
- وعُطِفَ بـ ثُمَّ في قولِه: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ؛ لكَمالِ التَّفاوُتِ بين الخَلْقينِ .
- قولُه: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه؛ لأنَّ (تبارَكَ) لمَّا حُذِفَ مُتعلِّقُه كان عامًّا، فيَشمَلُ عَظمةَ الخيرِ في الخَلْقِ وفي غَيرِه. وكذلك حَذْفُ مُتعلِّقِ (الخالقينَ) يَعُمُّ خَلْقَ الإنسانِ، وخلْقَ غيرِه كالجبالِ والسَّمواتِ. والفاءُ في فَتَبَارَكَ ... تَفريعٌ على حِكايةِ هذا الخَلْقِ العجيبِ بإنشاءِ الثَّناءِ على اللهِ بأنَّه أحسَنُ الخالِقِينَ .
- وأيضًا في قولِه: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ الْتِفاتٌ إلى الاسمِ الجليلِ؛ لتَربيةِ المَهابَةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ، والإشعارِ بأنَّ ما ذُكِرَ مِن الأفاعيلِ العجيبةِ مِن أحكامِ الأُلوهيَّةِ، وللإيذانِ بأنَّ حَقَّ كلِّ مَن سمِعَ ما فُصِّلَ مِن آثارِ قُدرتِه عَزَّ وعَلا أو لَاحَظَهُ: أنْ يُسارِعَ إلى التَّكلُّمِ به؛ إجلالًا وإعظامًا لشُؤونِه تعالى .
- وأيضًا في قوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ما يُعرَفُ بـ «ائتِلافِ الفاصِلةِ» .
قولُه تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ إدماجٌ في أثناءِ تَعدادِ الدَّلائلِ على تَفرُّدِ اللهِ بالخَلْقِ على اختلافِ أصنافِ المخلوقاتِ؛ لِقَصدِ إبطالِ الشِّركِ. و(ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لأنَّ أهميَّةَ التَّذكيرِ بالموتِ في هذا المَقامِ أقْوى مِن أهميَّةِ ذِكْرِ الخَلقِ؛ لأنَّ الإخبارَ عن مَوتِهم تَوطِئةٌ للجُملةِ بَعْدَه -وهي قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ- وهو المقصودُ. وهذه الجُملةُ لها حُكْمُ الجُملةِ الابتدائيَّةِ، وهي مُعترِضةٌ بين الَّتي قبْلَها وبين جُملةِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ [المؤمنون: 17] . ولِكَونِ (ثمَّ) لم تُفِدْ مُهلةً في الزَّمانِ هنا، صُرِّحَ بالمُهلةِ في قولِه: بَعْدِ ذَلِكَ .
- وقيل: لَمَّا كانت إماتةُ ما صار هكذا -بعد القوَّةِ العظيمةِ والإدراكِ التامِّ- من الغرائبِ، وكان وجودُها فيه وتَكرارُها عليه في كلِّ وقتٍ قد صيَّرها أمرًا مألوفًا، وشيئًا ظاهرًا مكشوفًا، وكان عُتُوُّ الإنسانِ على خالِقِه وتمرُّدُه ومخالفتُه لأمرِه -نسيانًا لهذا المألوفِ- كالإنكارِ له؛ أشار إلى ذلك بقولِه تعالى مُسبِّبًا مبالغًا في التأكيدِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ، ولَمَّا كان الممكِنُ ليس له مِن ذاتِه إلا العَدَمُ، نزع الجارَّ فقال: بَعْدَ ذَلِكَ أي: الأمرِ العظيمِ مِن الوصفِ بالحياةِ والمدِّ في العمُرِ في آجالٍ مُتفاوتةٍ لَمَيِّتُونَ .
- قولُه: لَمَيِّتُونَ أي: لَصائِرونَ إلى الموتِ لا مَحالةَ؛ كما يُؤْذِنُ به اسميَّةُ الجُملةِ، و(إنَّ)، واللَّامُ، وصيغةُ النَّعتِ (مَيِّت) الدَّالَّةُ على الثُّبوتِ دونَ الحُدوثِ الذي تُفيدُه صيغةُ الفاعِلِ (مائِت) ؛ ففي قولِه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ بُولِغَ في تأْكيدِ ذلك بـ (إنَّ) وباللَّامِ؛ تَنبيهًا للإنسانِ أنْ يكونَ الموتُ نُصْبَ عَينَيه، ولم تُؤكَّدْ جُملةُ البَعثِ إلَّا بـ (إنَّ)؛ لأنَّه أُبرِزَ في صورةِ المقطوعِ به الَّذي لا يُمكِنُ فيه نِزاعٌ، ولا يَقْبَلُ إنكارًا، وأنَّه حَتْمٌ لا بُدَّ مِن كِيانِه، فلم يُحتَجْ إلى تَوكيدٍ ثانٍ .
- وقيل: أُكِّدَ هذا الخبرُ بـ (إنَّ) واللَّامِ مع كَونِهم لا يَرتابونَ فيه؛ لأنَّهم لمَّا أعْرَضُوا عن التَّدبيرِ فيما بعْدَ هذه الحياةِ، كانوا بمَنزِلةِ مَن يُنكِرونَ أنَّهم يَموتونَ، وتَوكيدُ خَبرِ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ؛ لأنَّهم يُنكِرونَ البَعثَ، ويكونُ ما ذُكِرَ قبْلَه مِن الخَلْقِ الأوَّلِ دَليلًا على إمكانِ الخَلْقِ الثَّاني؛ فلم يُحتَجْ إلى تَقويةِ التَّأكيدِ بأكثَرَ مِن حَرفِ التَّأكيدِ وإنْ كان إنكارُهم البعثَ قَوِيًّا . وقيل: لم يُخْلِه عن التأكيدِ؛ لكونِه على خلافِ العادةِ .
- وقيل: أُكِّدَ قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ باللَّامِ دونَ قولِه بَعْدَه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، مع أنَّ المذكورينَ يُنكِرون البعثَ دونَ الموتِ؛ لأنَّه لمَّا كان العَطفُ بـ (ثُمَّ) المُحتاجُ إليه هنا يَقْتَضي الاشتراكَ في الحُكْمِ، أغْنَى به عن التَّأكيدِ باللَّامِ .
وقيل: لأنَّ المقصودَ بذِكرِ الموتِ والبعثِ هو الإخبارُ بالجزاءِ والمَعادِ، وأوَّلُ ذلك هو الموتُ؛ فنبَّه على الإيمانِ بالمعادِ والاستعدادِ لِما بعد الموتِ، وهو إنَّما قال تُبْعَثُونَ فقط، ولم يقُلْ (تُجازَون)، لكن قد عُلِمَ أنَّ البعثَ للجزاءِ، وأيضًا ففيه تنبيهٌ على قهرِ الإنسانِ وإذلالِه .
- وقيل: دخَلَتِ اللَّامُ في قولِه: لَمَيِّتُونَ، ولم تَدخُلْ في تُبْعَثُونَ؛ لأنَّ اللَّامَ مُخلِّصةٌ المُضارِعَ للحالِ غالبًا، فلا تُجامِعُ يومَ القيامةِ؛ لأنَّ إعمالَ تُبْعَثُونَ في الظَّرفِ المُستقبَلِ تُخلِّصُه للاستقبالِ، فتُنافي الحالَ .
- قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ... فيه نَقْلُ الكلامِ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ على طَريقةِ الالتفاتِ، ونُكْتَتُه هنا: أنَّ المقصودَ التَّذكيرُ بالموتِ وما بَعْدَه على وَجْهِ التَّعريضِ بالتَّخويفِ، وإنَّما يُناسِبُه الخِطابُ .
- وقولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ... فيه التَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ، وما فيه مِن مَعْنى البُعدِ المُشعرِ بعُلُوِّ رُتبةِ المُشارِ إليه، وبُعْدِ مَنزِلَتِه في الفَضلِ والكَمالِ، وكونِه بذلك مُمْتازًا، مُنزَّلًا مَنزِلةَ الأُمورِ الحِسِّيَّةِ .
4- قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
- الآياتُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قولِه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ فيها مِن فُنونِ البلاغةِ: ما يُعرَفُ بالمُخالَفةِ في حُروفِ العطفِ؛ ففي حُروفِ العطفِ المُتتابِعةِ في هذه الآياتِ أسرارٌ لَطيفةُ المأْخَذِ، دَقيقةُ المعنى؛ فقد ذكَرَ تعالى تَفاصيلَ حالِ المخلوقِ في تَنقُّلِه؛ فبدَأَ بالخلْقِ الأوَّلِ وهو خلْقُ آدَمَ من طِينٍ، ولمَّا عطَفَ عليه الخلْقَ الثَّاني -الَّذي هو خلْقُ النَّسلِ- عطَفَه بـ (ثُم)؛ لِمَا بينهما مِن التَّراخي، وحيث صار إلى التَّقديرِ الَّذي يَتبَعُ بعْضُه بعضًا مِن غيرِ تراخٍ عطَفَه بالفاءِ، ولمَّا انتهَى إلى جَعْلِه ذَكَرًا أو أُنْثى -وهو آخِرُ الخَلْقِ- عطَفَه بـ (ثمَّ)، ومعلومٌ أنَّ الزَّمنَ الَّذي تَصيرُ فيه النُّطفةُ عَلَقةً طويلٌ، ولكنَّ الحالتينِ مُتَّصلتانِ؛ فأحيانًا يُنظَرُ إلى طُولِ الزَّمانِ، فيُعطَفُ بـ (ثمَّ)، وأحيانًا يُنظَرُ إلى اتِّصالِ الحالينِ ثانيهما بأوَّلِهما مِن غيرِ فاصِلٍ بيْنهما بغَيرِهما، فيُعطَفُ بالفاءِ. وأيضًا صَيرورةُ التُّرابِ نُطفةً أمْرٌ مُستبعَدٌ في ظاهِرِ الحالِ، ومِثلُ ذلك صَيرورةُ النُّطفةِ عَلَقةً؛ لاختِلافِ إحداهما عن الأُخرى اختلافًا ظاهرًا، ولكنْ صَيرورةُ العَلَقةِ مُضْغةً لا غرابةَ فيه؛ لِتَقارُبِهما؛ فلهذا الوَجْهِ عُطِفَ في قولِه تعالى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ [الحج: 5] بـ (ثمَّ)، وأمَّا في آيةِ (المُؤمِنون): فلُوحِظَتْ أطوارُ الخلْقِ وتباعُدُ الأوقاتِ بيْن كلِّ طَورينِ؛ فاختلافُ العواطفِ بالفاءِ و(ثمَّ) لِتَفاوُتِ الاستحالاتِ، يعني: أنَّ بعضَها مُستبعَدٌ حُصولُه ممَّا قبْلَه وهو المعطوفُ بـ (ثمَّ)؛ فجُعِلَ الاستبعادُ عقْلًا أو رُتبةً بمَنزِلةِ التَّراخي والبُعْدِ الحِسِّيِّ؛ لأنَّ حُصولَ النُّطفةِ مِن أجزاءٍ تُرابيَّةٍ غريبٌ جدًّا، وكذا جَعْلُ النُّطفةِ البيضاءِ ماءً أحمَرَ، بخِلافِ جَعْلِ الدَّمِ لَحْمًا مُشابِهًا له في اللَّونِ والصُّورةِ، وكذا تَصلِيبُها حتَّى تَصيرَ عَظْمًا؛ لأنَّه قد يَحصُلُ ذلك بالمُكْثِ فيما يُشاهَدُ، وكذا مَدُّ لَحْمِ المُضغةِ عليه لِيَسْتُرَه، وذلك يَقْتَضي عَطْفَ الجميعِ بـ (ثمَّ) إنْ نُظِرَ لآخِرِ المُدَّةِ وأوَّلِها، ويَقْتَضي العطْفَ بالفاءِ إنْ نُظِرَ لآخِرِها فقطْ .