موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (17-22)

ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غريب الكلمات:

طَرَائِقَ: أي: سمواتٍ، كُلُّ سماءٍ طَريقةٌ، وسُمِّيتْ طرائِقَ؛ لأنَّ بَعضَها فوقَ بَعضٍ، يُقالُ: طارقتُ الشَّيءَ: إذا جعلتَ بعضَه فوقَ بعضٍ .
طُورِ سَيْنَاءَ: اسمُ جبلٍ معروفٍ، وهو الجَبَلُ الذي كَلَّمَ اللهُ مُوسى عليه .
وَصِبْغٍ: أي: زيتٍ يُغمَسُ فيه للائتدامِ، وأصلُ الصِّبغِ: ما يلَوَّنُ به الثَّوبُ، فشُبِّه به ما يُصطَبغُ به؛ وذلك أنَّ الخبزَ يُلوَّنُ بالصِّبغِ إذا غُمِرَ فيه .
الْفُلْكِ: أي: السُّفنِ، واحدُه وجمعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ (الفلك): الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفنَ سُمِّيت فُلكًا؛ لأنها تُدارُ في الماءِ .

المعنى الإجمالي:

 يقول الله تعالى: ولقد خلَقْنا فوقَكم -أيُّها الناسُ- سَبعَ سَمواتٍ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، وما كنَّا عن الخَلقِ غافلينَ.
ويخبرُ أنه أنزَل مِنَ السَّماءِ ماءً بقَدْرِ حاجةِ الخلائِقِ، وجَعَل هذا الماءَ ساكنًا في الأرضِ محفوظًا فيها، وهو سبحانَه على إذهابِه لَقادِرٌ، فأنشَأ بهذا الماءِ للناسِ بَساتينَ النَّخيلِ والأعنابِ، لهم فيها فَواكِهُ كثيرةٌ، ولهم منها غِذاءٌ يأكُلونَه، وأنشَأ لهم به أيضًا الشجرةَ العظيمةَ المنافعِ شَجرةَ الزَّيتونِ التي تَخرُجُ مِن جَبَلِ طُورِ «سَيناءَ» يُعصَرُ مِن ثمرِها الذي تُخرِجُه الزَّيتُ، فيُدَّهَنُ ويُؤتَدَمُ به.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا آخَرَ مِن نِعَمِه، فيُخبرُ أنَّ لهم في الأنعامِ ما يعتَبِرونَ به؛ فهو يَسقيهم منها ممَّا في بُطونِها مِنَ اللَّبَنِ، ولهم فيها مَنافِعُ أُخرى كَثيرةٌ، ومِن لحومِها وشحومِها يأكُلونَ، وعلى الإبِلِ برًّا وعلى السُّفُنِ بحرًا يُحمَلونَ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لمَّا ذكَر الله تعالى ابتداءَ خَلقِ الإنسانِ، وانتهاءَ أمرِه؛ ذكَّره بنِعَمِه .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ.
أي: ولقدْ خلَقْنا فَوقَكم -أيُّها النَّاسُ- سَبعَ سَمواتٍ بَعضُها فَوقَ بَعٍض .
كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك: 3] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [نوح: 15] .
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ.
أي: أحاط عِلمُنا بكلِّ مخلوقٍ، فلا نخلقُ مخلوقًا ونغفُلُ عنه أو ننساه، بل نحفظُه وندبِّرُ أمرَه، ونقومُ بمصالحِه، ومِن ذلك حفظُ السمواتِ مِن السقوطِ على الأرضِ .
كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .
وقال سُبحانَه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
مُناسبةُ عَطفِ إنزالِ ماءِ المطَرِ على جملةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ [المؤمنون: 17] : أنَّ ماءَ المطَرِ ينزِلُ مِن صَوبِ السَّماءِ، أي: من جهةِ السَّماءِ، وفي إنزالِ ماءِ المطرِ دَلالةٌ على سَعةِ العِلمِ ودَقيقِ القُدرةِ، وفي ذلك أيضًا مِنَّةٌ على الخَلقِ .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ.
أي: وأنزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بحَسَبِ حاجةِ الخَلقِ وما يَكفيهم، على المِقدارِ الذي يُصلِحُ ولا يُفسِدُ، فجعَلْناه مَحفوظًا في الأرضِ .
كما قال تعالى: وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] .
وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ.
أي: وإنَّا على إذهابِ الماءِ الذي أسكَنَّاه في الأرضِ لَقادِرونَ، ولو وقَعَ ذلك لهَلَك النَّاسُ وهلَكَت أراضيهم وزُروعُهم وماشيَتُهم .
كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] .
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا نبَّه اللهُ سُبحانَه على عظيمِ نِعمتِه بخَلقِ الماءِ؛ ذكَرَ بعده النِّعَمَ الحاصِلةَ مِن الماءِ، فقال :
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ.
أي: فأوجَدْنا لكم بسَبَبِ الماءِ بَساتينَ مِن نَخيلٍ وأعنابٍ .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10- 11] .
لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.
أي: لكم -أيُّها النَّاسُ- في البَساتينِ فَواكِهُ كَثيرةٌ سِوى النَّخيلِ والأعنابِ، ولكم مِنَ البَساتينِ غذاءٌ تأكُلونَه .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10، 11].
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20).
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ.
أي: وأنشَأْنا لكم -أيُّها النَّاسُ- شَجرةَ الزَّيتونِ التي تَنبُتُ في جَبَلِ سَيناءَ الذي كَلَّمَ اللهُ عليه مُوسى عليه السَّلامُ .
كما قال تعالى: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ [النور: 35].
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ.
أي: تُخرِجُ شَجرةُ الزَّيتونِ ثَمَرًا يُعصَرُ منه زَيتٌ يُدَّهَنُ به، ويجعَلُه الآكِلونَ إدامًا يغْمِسونَ فيه خُبزَهم .
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
بعد أنَّ ذكَّرَنا سبحانَه بنِعمةِ إنزالِ الماءِ مِن السَّماءِ الذي يُنبِتُ به جنَّاتِ النَّخيلِ والأعنابِ، والفواكهَ المُختلفةَ والزيتونَ- أردَفَها بذِكرِ النِّعَمِ المختلِفةِ التي سخَّرها لنا مِن خَلقِ الحيوانِ .
وأيضًا لما دَلَّ سبحانَه وتعالى على قُدرتِه بما أحيا بالماءِ حياةً قاصِرةً عن الرُّوحِ، أتبعه ما أفاض عليه به حياةً كاملةً، فقال :
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً.
أي: وإنَّ لكم -أيُّها النَّاسُ- في الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ ما تَعتَبِرونَ به، فتَعرِفونَ أياديَ اللهِ عندَكم، وسابِغَ رَحمتِه، وانفرادَه بالخَلقِ، وسَعةَ عِلمِه، وعظيمَ قُدرتِه عَزَّ وجَلَّ؛ فتَشكُرونَه ولا تَكفُرونَه .
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا.
أي: نُسقيكم -أيُّها النَّاسُ- لبنًا مِمَّا في بُطونِها .
كما قال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل: 66] .
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ.
أي: ولكم في الأنعامِ مَنافِعُ كَثيرةٌ؛ كاتِّخاذِ أوبارِها لباسًا وأثاثًا، وغيرِ ذلك مِنَ المَنافِعِ .
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.
أي: ومِن لُحومِ الأنعامِ وشُحومِها تأكُلونَ بعدَ ذَبحِها .
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّه ذكَر ما تكاد تختَصُّ به بعضُ الأنعامِ، وهو الحَملُ عليها، وقرَنَها بالفُلكِ؛ لأنَّها سفائنُ البَرِّ، كما أنَّ الفُلكَ سفائِنُ البحرِ .
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22).
أي: وعلى الإبِلِ في البَرِّ، وعلى السُّفُنِ في البَحرِ تَركَبونَ -أيُّها النَّاسُ- فتَحمِلُكم وتَحمِلُ مَتاعَكم .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70] .
وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79- 80] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف: 12 - 14] .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فعلى العبادِ أن يَستَعظِموا النِّعمةَ في الماءِ، ويُقيِّدوها بالشُّكرِ الدائمِ، ويخافوا نِفارَها إذا لم تُشكَرْ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ كثيرًا ما يَقرِنُ تعالى بين خَلقِه وعِلمِه، كقولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] ، وقولِه تعالى: بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] ؛ لأنَّ خَلقَ المخلوقاتِ مِن أقوى الأدِلَّةِ العَقليَّةِ على عِلمِ خالِقِها وحِكمتِه .
2- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ رَدٌّ على مَن يزعمُ أنَّ اللهَ في الأرضِ بنفْسِه كهو في السَّماءِ! ولو كان كذلك ما كان في قَولِه: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ فائدةٌ؛ لأنَّ مَن كان مع خلْقِه بنفْسِه عُلِمَ أنَّه لا يَغفُلُ عنهم، ولكِنَّه دَلَّ المُرتابينَ على أنَّ الطَّرائقَ السَّبْعَ لا تَحجُبُ خلْقَه عنه، ولا تُنسيه أمرَهم .
3- قوله تعالى: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ فيه إثباتُ إحاطةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، فما وَصَف اللهُ به نفْسَه يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: ثُبوتيٍّ، وسَلبيٍّ أو انتفائيٍّ؛ فالثُّبوتيُّ كلُّه صِفاتُ كَمالٍ، فكُلُّ صِفةٍ أثبتَها اللهُ لِنَفسِه فهي صِفةُ كَمالٍ، والسَّلبيُّ أو الانتِفائيُّ كُلُّه صِفاتُ نَقصٍ، ولكِنَّه مُتضَمِّنٌ لِثُبوتِ كَمالٍ؛ ففي قَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ نَفيُ الغَفلةِ؛ لِكَمالِ عِلمِه ومُراقبتِه، وفي قَولِه: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] نفيُ الظُّلمِ؛ لِكَمالِ عَدلِه، وفي قَولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [فاطر: 44] نَفيُ أن يُعجِزَه شَيءٌ؛ لكَمالِ قُدرتِه وعِلمِه... وهَلُمَّ جَرًّا .
4- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ دَلالةٌ على أنَّه سُبحانه قادرٌ على ما لا يفعَلُه، خِلافًا لبعضِ أهلِ البِدَعِ الذين قالوا: لا يكونُ قادِرًا إلَّا على ما أراده دونَ ما لم يُرِدْه، فقوله: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أي: لَقادرونَ على أنْ نَذهبَ به حتَّى تموتوا عَطَشًا، وتَهْلِكَ مواشِيكم، وتَخْرَبَ أراضِيكم، ومعلومٌ أنَّه لم يَذْهَبْ به .
5- قول الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فيه دليلٌ على أنَّ مَقَرَّ ما نزَلَ مِن السَّماءِ هو في الأرضِ؛ فمِنْه الأنهارُ والعُيونُ والآبارُ .
6- قولُ الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ استَدلَّ به مَن قال: إنَّ المياهَ كلَّها مِن السَّماءِ، وأنَّه لا ماءَ مِن الأرضِ .
7- قَولُ الله تعالى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ سُمِّيَ الصِّنفُ الأوَّلُ باسمِ شَجَرتِه؛ لكثرةِ ما فيها مِن المنافِعِ المقصودةِ، بخلافِ الثَّاني؛ فإنَّه المقصودُ مِن شجرتِه .
8- قَولُ الله تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ فيه التَّنبيهُ على الأُدْمِ .
9- قال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ فذكرَ اللهُ سبحانه أنَّ فيها عِبرةً، مُجمِلًا، ثمَّ أردَفه بالتفصيلِ مِن أربعةِ أوجُهٍ:
أحدها: قولُه: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا، والمرادُ منه جميعُ وجوهِ الانتفاعِ بألبانِها، ووجهُ الاعتبارِ فيه أنَّها تجتمعُ في الضُّروعِ، وتتخلَّصُ مِن بينِ الفَرْثِ والدمِ بإذن الله تعالى، فتستحيلُ إلى طهارةٍ وإلى لونٍ وطَعمٍ موافقٍ للشَّهوةِ، وتصيرُ غِذاءً، فمَن استدَلَّ بذلك على قدرةِ الله وحكمتِه كان ذلك معدودًا في النِّعَم الدينيَّةِ، ومَن انتفَع به فهو في نعمةِ الدنيا، وأيضًا فهذه الألبانُ التي تخرجُ مِن بطونِها إلى ضروعِها تجدُها شرابًا طيِّبًا، وإذا ذبحْتَها لم تجِدْ لها أثرًا، وذلك يدلُّ على عظيمِ قُدرةِ الله تعالى.
وثانيها: قولُه: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ؛ وذلك بيعُها، والانتفاعُ بأثمانِها، وما يجري مَجرَى ذلك.
وثالثها: قوله: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ يعني: كما تنتفعون بها وهي حيَّةٌ، تنتفِعون بها بعد الذَّبحِ أيضًا بالأكلِ.
ورابعها: قوله: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ؛ لأنَّ وجهَ الانتفاعِ بالإبِلِ في المحمولاتِ على البَرِّ بمنزلةِ الانتفاعِ بالفُلكِ في البحرِ؛ ولذلك جمع بيْن الوجهينِ في إنعامِه؛ لكي يُشكَرَ على ذلك، ويُستدَلَّ به .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
- انتِقالٌ مِن الاستدلالِ بخَلْقِ الإنسانِ إلى الاستدلالِ بخَلقِ العوالِمِ العُلويَّةِ؛ لأنَّ أمْرَها أعجَبُ، فالجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] .
- وإنَّما ذُكِرَ هذا عَقِبَ قولِه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون: 16] ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الَّذي خلَقَ هذا العالَمَ العُلويَّ ما خلَقَه إلَّا لحكمةٍ، وأنَّ الحكيمَ لا يُهمِلُ ثَوابَ الصَّالحينَ على حَسناتِهم، ولا جَزاءَ المُسيئينَ على سَيِّئاتِهم، وأنَّ جَعْلَه تلك الطَّرائقَ فَوقَنا بحيث نَراها؛ لِيَدُلَّنا على أنَّ لها صِلةً بنا؛ لأنَّ عالَمَ الجَزاءِ كائنٌ فيها، ومَخلوقاتِه مُستقِرَّةٌ فيها؛ فالإشارةُ بهذا التَّرتيبِ مِثْلُ الإشارةِ بعَكْسِه في قولِه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان: 38-40] .
- وذِكرُ فَوْقَكُمْ؛ للتَّنبيهِ على وُجوبِ النَّظرِ في أحوالِها؛ للاستدلالِ بها على قُدرةِ الخالِقِ لها تعالى؛ فإنَّها بحالةِ إمكانِ النَّظرِ إليها، والتَّأمُّلِ فيها، ولأنَّ كَونَها فوقَ النَّاسِ ممَّا سَهَّلَ انتفاعَهم بها في التَّوقيتِ؛ ولذلك عقَّبَ بجُملةِ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ المُشعِرِ بأنَّ في ذلك لُطْفًا بالخَلْقِ، وتَيسيرًا عليهم في شُؤونِ حَياتِهم، وهذا امتنانٌ، وفيه تَنبيهٌ للنَّظرِ في أنَّ عالَمَ الجَزاءِ كائنٌ بتلك العَوالِمِ .
- ولإرادةِ التعظيمِ أضافَ إلى جمعِ كثرةٍ، فقال: طَرَائِقَ .
- قولُه: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ نفيُ الغفلةِ كنايةٌ عن العِنايةِ والمُلاحظةِ .
- وقولُه: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ إنْ أُرِيدَ بـ الْخَلْقِ السَّمواتُ، فهو مُظْهَرٌ أُقِيمَ مُقامَ الضَّميرِ؛ للإشعارِ بأنَّه تعالى خلَقَ السَّمواتِ عن حِكْمةٍ، وأنَّها مَحفوظةٌ بحِفْظِه وإمساكِه. وإنْ أُرِيدَ به النَّاسُ، فهو مَصدرٌ بمعنَى مَخلوقٍ؛ للإشعارِ بفَضيلةِ الإنسانِ، وأنَّ هذه المخلوقاتِ العِظامِ أُوجِدَتْ لِمَنافِعِه دِينًا ودُنْيَا؛ امتنانًا عليهم، وعلى التَّقديرينِ يَلزَمُ تَعظيمُ ما يُرادُ منه . وقيل: العُدولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ في قولِه: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ دونَ أنْ يُقالَ: (وما كنَّا عنكم غافِلينَ)؛ لِمَا يُفيدُه المُشْتَقُّ مِن مَعْنى التَّعليلِ، أي: ما كُنَّا عنكم غافِلينَ؛ لأنَّكم مَخلوقاتُنا، فنحنُ نُعامِلُكم بوَصفِ الرُّبوبيَّةِ، وفي ذلك تَنبيهٌ على وُجوبِ الشُّكرِ، والإقلاعِ عن الكُفْرِ .
2- قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ
- قولُه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ يَصِحُّ أنْ يُحمَلَ على صَريحِه، أي: بمِقْدارٍ مُعيَّنٍ مُناسِبٍ للإنعامِ به؛ لأنَّه إذا أُنزِلَ كذلك حَصَلَ به الرِّيُّ والتَّعاقُبُ، وكذلك ذَوبانُ الثُّلوجِ النَّازِلَةِ. ويصِحُّ أنْ يُقصَدُ مع ذلك الكِنايةُ عن الضَّبطِ والإتقانِ .
- قولُه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ مِنَ السَّمَاءِ على المفعولِ الصَّريحِ مَاءً؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .
- وفيه إظْهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، حيث لم يقُلْ: (أنزَلْنا منها)؛ لأنَّ الإنزالَ لا يُعتَبَرُ فيه عُنوانُ كَونِها طَرائقَ، بل مُجرَّدُ كَونِها جِهَةَ العُلوِّ .
- قولُه: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وما تفرَّعَ عليها . وفيه وَعيدٌ وتَهديدٌ .
- وقولُه: ذَهَابٍ مِن أوقَعِ النَّكراتِ، والمَعْنى: على وَجْهٍ مِن وُجوهِ الذَّهابِ به، وطَريقٍ مِن طُرقِه؛ فالتَّنكيرُ إشارةٌ إلى كَثرةِ طُرقِه. وفيه إيذانٌ باقتدارِ المُذْهِبِ، وأنَّه لا يَتعايَا عليه شَيءٌ إذا أراده .
- وقولُه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أبلَغُ في الإيعادِ مِن قولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] ؛ لوُجوهٍ كثيرةٍ، منها:
الأوَّلُ: التَّوكيدُ بـ (إنَّ).
الثَّاني: اللَّامُ في الخبَرِ لَقَادِرُونَ.
الثَّالثُ: أنَّ هذه في مُطلَقِ الماءِ المُنزَّلِ من السَّماءِ، وتلك في ماءٍ مُضافٍ إليهم.
الرَّابعُ: أنَّ الغائِرَ قد يكونُ باقيًا بخِلافِ الذَّاهِبِ.
الخامسُ: ما في تَنكيرِ ذَهَابٍ مِن المُبالَغةِ.
السَّادسُ: إسنادُه هاهنا إلى مُذهِبٍ بخِلافِه ثَمَّت، حيث قيل: غَوْرًا [الملك: 30] .
السَّابعُ: ما في ضَميرِ المُعظِّمِ نَفْسَه وَأَنْزَلْنَا من الرَّوعةِ.
الثَّامنُ: ما في لَقَادِرُونَ من الدَّلالةِ على القُدرةِ عليه، والفِعلُ الواقِعُ مِن القادِرِ أبلَغُ.
التَّاسِعُ: ما في جَمْعِه.
العاشرُ: ما في لَفْظِ بِهِ مِن الدَّلالةِ على أنَّ ما يُمْسِكُه فلا مُرسِلَ له.
الحاديَ عشَرَ: إخلاؤُهُ مِن التَّعقيبِ بإطماعٍ، وهنالك ذُكِرَ الإتيانُ المطْمِعُ.
الثَّانيَ عشَرَ: تَقديمُ ما فيه الإيعادُ -وهو الذَّهابُ- على ما هو كالمُتعلَّقِ له أو مُتعلَّقِه.
الثَّالثَ عشَرَ: ما بين الجُملتينِ -الاسميَّةِ والفِعْليَّةِ- مِن التَّفاوُتِ ثَباتًا وغيرَهُ.
الرَّابعَ عشَرَ: ما في لَفْظِ أَصْبَحَ مِن الدَّلالةِ على الانتقالِ والصَّيرورةِ.
الخامسَ عشَرَ: أنَّ الإذهابَ هاهنا مُصرَّحٌ به، وهنالك مَفهومٌ مِن سِياقِ الاستفهامِ.
السَّادسَ عشَرَ: أنَّ هنالك نَفْيَ ماءٍ خاصٍّ -أعني: المَعِينَ- بخِلافِه هاهنا.
السَّابعَ عشَرَ: اعتبارُ مَجموعِ هذه الأُمورِ الَّتي يَكْفِي كلٌّ منها مُؤكِّدًا.
الثَّامنَ عشَرَ: إخبارُه تعالى به بنَفْسِه مِن دُونِ أمْرٍ للغيرِ هاهنا، بخِلافِه هنالك؛ فإنَّه سُبحانَه أمَرَ نَبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَقولَ ذلك.
التَّاسعَ عشَرَ: عدَمُ تَخصيصِ مُخاطَبٍ هاهنا، وتَخصيصُ الكُفَّارِ بالخِطابِ هنالك.
العِشْرونَ: التَّشبيهُ المُستفادُ مِن جَعْلِ الجُملةِ حالًا؛ فإنَّه يُفِيدُ تَحقيقَ القُدرةِ، ولا تَشبيهَ ثَمَّت.
الحادي والعِشْرونَ: إسنادُ القُدرةِ إليه تعالى مرَّتينِ.
الثَّاني والعِشرونَ: أنَّه ليس الوقْتُ للذَّهابِ مُعيَّنًا هنا بخِلافِه في إِنْ أَصْبَحَ [الملك: 30] ؛ فإنَّه يُفْهَمُ منه أنَّ الصَّيرورةَ في الصُّبحِ على أحَدِ استعمالَيْ (أصبح) ناقِصًا.
الثالث والعِشرونَ: أنَّ جِهةَ الذَّهابِ به ليست مُعيَّنةً بأنَّها السُّفلُ، أي: ما دَلَّ عليه لَفْظُ غَوْرًا.
الرابع والعِشرونَ: أنَّ المُوعَدَ به هنا إنْ وقَعَ فهم هالِكونَ الْبَتَّةَ.
الخامس والعِشرونَ: أنَّه لم يَبْقَ هنا لهم مُتشبَّثٌ ولو ضَعيفًا في تأْميلِ امتناعِ المُوعَدِ به، وهناك حيث أُسنِدَ الإصباحُ غَورًا إلى الماءِ، ومعلومٌ أنَّ الماءَ لا يُصبِحُ غَورًا بنَفْسِه، أيضًا احْتُمِلَ أنْ يُتوهَّمَ الشَّرطيَّةُ مع صِدْقِها مُمْتنِعةَ المَقْدَمِ، فيَأْمَنوا وُقوعَه. إلى غيرِ ذلك .
- وأيضًا آيةُ سُورةِ (المُؤمِنون) قُصِدَ منها الإنذارُ والتَّهديدُ بسَلْبِ تلك النِّعمةِ العظيمةِ، وأمَّا آيةُ سُورةِ (المُلْكِ) فالقَصْدُ منها الاعتبارُ بقُدرةِ اللهِ تعالى على سَلْبِها، فاخْتِلافُ المَقامَينِ له أثرٌ في اختلافِ المُقتضياتِ؛ فكانت آيةُ سُورةِ (المُؤمِنون) آثَرَ بوَفرةِ الخصائصِ المُناسِبةِ لمَقامِ الإنذارِ والتَّهديدِ، على أنَّ سُورةَ (المُلْكِ) نَزَلت عقِبَ نُزولِ سُورةِ (المُؤمِنين)، وقد يَتداخَلُ نُزولُ بَعْضِها مع نُزولِ بَعضِ سُورةِ (المُؤمنينَ)، فلمَّا أُشْبِعَت آيةُ سُورةِ (المُؤمِنين) بالخُصوصيَّاتِ الَّتي اقْتَضاها المَقامُ، اكتُفِيَ عن مِثْلِها في نَظيرتِها مِن سُورةِ (المُلْكِ)، فسُلِكَ في الثَّانيةِ مَسْلَكُ الإيجازِ؛ لِقُرْبِ العَهدِ بنَظيرِها .
3- قوله تعالى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- قولُه: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، لعله قدَّم الظَّرفَ؛ تعظيمًا للامتنانِ بها .
- قولُه: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ذُكِرَ النَّخيلُ والأعنابُ؛ لكثرةِ منافعِهما؛ فإنَّهما يقومانِ مقامَ الطَّعامِ، ومقامَ الإدامِ، ومقامَ الفواكِهِ رطبًا ويابسًا . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه صَرَّح بهذين الصِّنفينِ لشَرَفِهما، ولأنَّهما أكثَرُ ما عندَ العربِ من الثِّمارِ .
- قولُه: لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ فيه وَصْفُ الفواكِهِ بـ كَثِيرَةٌ باعتبارِ اختلافِ الأصنافِ؛ كالبُسْرِ والرُّطبِ والتَّمرِ، وكالزَّيتِ والعِنَبِ الرَّطْبِ، وأيضًا باعتبارِ كَثرةِ إثمارِ هَذينِ الشَّجَرينِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُه: لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ بجَمْعِ (فواكه) وبالواوِ في وَمِنْهَا، وفي سُورةِ (الزُّخرفِ) قال: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 73] بإفرادِ (فاكهة) وحَذْفِ الواو مِن (منها)؛ ووَجْهُه: أنَّه راعَى في السُّورتينِ لَفْظَ الجنَّةِ؛ إذ ما هنا تقدَّمَتْ جَنَّاتٍ [المؤمنون: 19] بالجَمْعِ، فقال: فَوَاكِهُ بالجَمْعِ، وفي (الزُّخرفِ) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ [الزخرف: 72] بلَفْظِ الإفرادِ، وإنْ كانت هذه جَنَّةَ الخُلْدِ، لكنْ راعى اللَّفظَ فقال: فِيهَا فَاكِهَةٌ [الزخرف: 73] . وقال في هذه السُّورةِ: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ بزِيادةِ الواوِ؛ لأنَّ تَقديرَ الآيةِ: منها تَدَّخِرون ومنها تَبِيعونَ، وليس كذلك فاكهةُ الجنَّةِ؛ فإنَّها للأكْلِ فحَسْبُ؛ فلذلك قال في (الزَّخرفِ): مِنْهَا تَأْكُلُونَ، ووافَقَ هذه السُّورةَ ما بَعْدَها أيضًا، وهو قولُه: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 21] .
4- قولُه تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ أُخِّرَ ذِكْرُ شَجرةِ الزَّيتونِ عن ذِكْرِ أخوَيْها (النَّخلِ والعِنَبِ)؛ لأنَّه أُرِيدَ الامتِنانُ بما في ثَمَرتِهما مِن التَّفكُّهِ والقُوتِ؛ فتكونُ مِنَّةً بالحاجيِّ والتَّحسينيِّ . وتَخصيصُها بالذِّكْرِ مع طَيِّ كونِ النَّاسِ منها يأْكُلون: تَنويهٌ بشأْنِها، وإشارةٌ إلى كَثرةِ مَنافِعِها؛ لأنَّ مِن ثَمرتِها طَعامًا وإصلاحًا ومُداواةً، ومِن أعوادِها وَقودًا وغيرَه .
- قولُه: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ فيه تَخصيصُها بالخُروجِ مِن طُورِ سَيناءَ -مع خُروجِها من سائرِ البِقاعِ أيضًا؛ لِتَعظيمِها، ولأنَّه المنشَأُ الأصليُّ لها . وفيه تَنبيهٌ للتَّنويهِ بشَرَفِ مَنْبَتِها، وكَرَمِ الموطنِ الَّذي ظهَرَت فيه .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ في قولِه: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ؛ لاستِحضارِ الصُّورةِ العَجيبةِ المُهِمَّةِ الَّتي كُوِّنَت بها تلك الشَّجرةُ في أوَّلِ تَكوينِها، حتَّى كأنَّ السَّامعَ يُبصِرُها خارجةً بالنَّباتِ في طُورِ سَيناءَ .
- قولُه: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ فيه عَطْفٌ للخاصِّ (الصِّبغِ) على العامِّ (الدُّهْنِ)؛ للاهتمامِ .
5- قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- في قولِه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً خُصَّتِ العِبْرةُ بالحيوانِ؛ لِمَا أنَّ مَحَلَّ العِبْرةِ فيه أظهَرُ ممَّا في النَّباتِ .
- قولُه: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا تَفصيلٌ وبَيانٌ لجُملةِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً .
- قولُه: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ فيه تَقديمُ الظَّرفِ -فِيهَا، وَمِنْهَا- على عامِلِه -مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، تَأْكُلُونَ-؛ لِيُشْعِرَ بالأوَّلِ الاشتراكَ بسائرِ الحيواناتِ الَّتي تُناسِبُها في المنافِعِ، وبالثَّاني اختصاصَها بمَنْفعةٍ زائدةٍ، وكذا عُطِفَ قولُه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ؛ لِيُؤْذِنَ بأنَّ المُرادَ مِن قولِه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً الإبلُ لا غيرُ -على أحدِ القولينِ في التفسيرِ- فحِينئذٍ نَظْمُ الآياتِ قَريبٌ مِن نَظْمِ قولِه تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] الآيةَ؛ فإنَّ قولَه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ إلى قولِه: وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ [المؤمنون: 17 - 20] تَفصيلٌ لقولِه: وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 19 - 20] ، وقولَه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً إلى قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ تَفصيلٌ لقولِه: إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] ، وإنَّما دخَلَ الجِبالُ، وإنْ لم يُنَصَّ عليها في التَّنزيلِ؛ لأنَّ قولَه تعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عليها .
6- قوله تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
- في قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ جمَعَ بينَ الأنعامِ وبينَ الفُلكِ في إيقاعِ الحَمْلِ عليها؛ مُبالَغةً في تَحمُّلِها للحِمْلِ، وهو الدَّاعي إلى تأْخيرِ ذِكْرِ هذه المَنفعةِ -مع كَونِها مِن المنافعِ الحاصِلَةِ منها- عن ذِكْرِ مَنفعةِ الأكلِ المُتعلِّقةِ بعَينِها .
- وفي ذِكْرِ وَعَلَى الْفُلْكِ إدماجٌ وتَهيئةٌ للتَّخلُّصِ إلى قِصَّةِ نُوحٍ .