موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (21-23)

ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ

غريب الكلمات:

فَسَلَكَهُ: أي: فأجْراه وأدخَلَه، وأصلُ (سلك): يدُلُّ على نُفوذِ شَيءٍ في شَيءٍ [482] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((تفسير ابن جرير)) (20/187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/97)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 330)، ((تفسير القرطبي)) (15/245)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 362). .
يَنَابِيعَ: أي: عُيونًا تَنبُعُ، ومفردُها: يَنبوعٌ، مِن قَولِهم: نَبَع الماءُ: إذا ظهَرَ وفارَ، وأصلُ (نبع): يدُلُّ على خُروجِ الماءِ مِن العَينِ [483] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((تفسير ابن جرير)) (15/78) و(20/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 330)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 362). .
يَهِيجُ: أي: يَيبَسُ ويَجِفُّ، يُقالُ: هاج النَّبتُ هِياجًا، أي: يَبِسَ، وأرضٌ هائِجةٌ: يَبِسَ بَقلُها واصفَرَّ، وأصل (هيج): يدُلُّ على ثَوَرانِ شَيءٍ [484] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 522)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/23)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 330)، ((تفسير القرطبي)) (15/246)، ((تفسير ابن كثير)) (7/93). .
حُطَامًا: أي: فُتاتًا مُكَسَّرًا، مِن تحطَّمَ العُودُ: إذا تفَتَّت مِن اليُبْسِ، وأصلُ (حطم): يدُلُّ على كَسرِ الشَّيءِ [485] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 200)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/78)، ((تفسير القرطبي)) (15/246)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 363). .
مَثَانِيَ: أي: تُثَنَّى وتُكَرَّرُ فيه الأنباءُ والأخبارُ، والقَضاءُ والأحكامُ والحُجَجُ، وأصلُ (ثني): يدُلُّ على تَكريرِ الشَّيءِ [486] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((تفسير ابن جرير)) (20/191)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 263)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/391)، ((المفردات)) للراغب (ص: 179). .
تَقْشَعِرُّ: أي: تَنقَبِضُ وتَضطَرِبُ مِنَ الخَوفِ [487] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 154)، ((تفسير القرطبي)) (15/249)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 363)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ
يَنَابِيعَ: مَنصوبٌ على نَزعِ الخافِضِ، أي: سَلَكه في ينابيعَ، أو مَفعولٌ به ثانٍ بتَضمينِ سَلَكه معنى: جعَلَه، أو مَنصوبٌ على الحالِ مِن الضَّميرِ في (سَلَكَه)، أي: فأَجْراه عُيونًا في الأرضِ [488] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/440)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/60)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (3/1079)، ((إعراب القرآن)) للدعاس (3/136). .
2- قَولُه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
كِتَابًا: بَدَلٌ مَنصوبٌ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، مُتَشَابِهًا: نَعتٌ لـ كِتَابًا، مَثَانِيَ: نَعتٌ ثانٍ، أو حالٌ مِن كِتَابًا لِوَصفِه، أو تَمييزٌ مَنقولٌ مِن الفاعِليَّةِ، أي: مُتشابِهًا مَثانِيه. تَقْشَعِرُّ: نَعْتٌ ثَالِثٌ لـ كِتَابًا أو حالٌ مِنه؛ لاختِصاصِه بالصِّفةِ، أو مُستأنَفٌ [489] يُنظر: ((التبيان)) للعكبري (2/1110)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/422)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (23/171). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا سرعةَ زوالِ الحياةِ الدُّنيا: ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ أنزَلَ مِن السَّماءِ مَطَرًا، فأدخَلَه في الأرضِ، وجعَلَه فيها عُيونًا جاريةً، ثمَّ يُنبِتُ به زُروعًا مُختَلِفةَ الألوانِ، ثمَّ يُصابُ هذا الزَّرعُ بالجَفافِ، فتَراه مُصفَرًّا مِن بَعدِ اخضِرارِه ونَضارتِه، ثمَّ يَجعَلُه اللهُ فُتاتًا مُتكَسِّرًا؟! إنَّ في ذلك لَذِكرَى لأهلِ العُقولِ الصَّحيحةِ.
ثمَّ يَنفي اللهُ تعالى المُساواةَ بيْنَ المؤمنِ والكافرِ، وبيْنَ المُهتدي والضَّالِّ، فيقولُ: أفَمَنْ شَرَح اللهُ صَدْرَه للإسلامِ فهو على بَصيرةٍ وهِدايةٍ مِن رَبِّه، كمَنْ قَسا قَلبُه وغَلُظ؟! فوَيْلٌ للقاسيةِ قُلوبُهم إذا سَمِعوا ذِكرَ اللهِ الَّذي مِن شَأنِه أن تَلينَ له القُلوبُ، أولئك في ضَلالٍ ظاهِرٍ عن الحَقِّ.
ثمَّ يَمدَحُ تعالى كتابَه، فيقولُ: اللهُ نزَّل القُرآنَ الَّذي هو أحسَنُ الحديثِ، كِتابًا يُشبِهُ بَعضُه بَعضًا في فَصاحتِه وبَلاغتِه، وفي نَظمِه وإعجازِه، وفي صِحَّةِ مَعانيه وأحكامِه، تُثَنَّى وتُكرَّرُ فيه القِصَصُ والمواعِظُ، والأمثالُ والأحكامُ، والوَعدُ والوَعيدُ.
ثمَّ يُبيِّنُ حالَ المؤمنينَ الصَّادِقينَ عندَ سماعِ القرآنِ، وأثرَه فيهم، فيقولُ: تَضْطَرِبُ وتَتقبَّضُ منه جُلودُ الَّذين يَخشَونَ رَبَّهم، ثمَّ تَلينُ جُلودُهم وتَسكُنُ قُلوبُهم إلى كِتابِ اللهِ، ذلك هُدى اللهِ يَهدي به مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ومَن يُضْلِلْه اللهُ فلا هادِيَ له.

تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا وَصَف الآخِرةَ بصِفاتٍ تُوجِبُ الرَّغبةَ العَظيمةَ لأُولي الألبابِ فيها؛ وَصَف الدُّنيا بصِفةٍ تُوجِبُ اشتِدادَ النفرةِ عنها [490] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/439). .
وأيضًا لَمَّا أخبَرَ سُبحانَه بقُدرتِه على البَعثِ؛ دَلَّ عليها بما يَتكَرَّرُ مُشاهَدتُه مِن مِثلِها [491] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/483). .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ.
أي: ألمْ تَرَ [492] ذكر ابنُ عاشور أنَّ الخطابُ لكُلِّ مَن يَصْلُحُ للخِطابِ، فليسَ المرادُ به مُخاطَبًا مُعَيَّنًا. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/377). وقال ابنُ عطيَّة: (الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُلُّ بَشَرٍ داخِلٌ معه في معناه). ((تفسير ابن عطية)) (4/526). أنَّ اللهَ أنزَلَ المطَرَ مِن السَّماءِ، فأدخَلَه في الأرضِ وأجراه فيها [493] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/187)، ((تفسير القرطبي)) (15/245، 246)، ((تفسير ابن كثير)) (7/92)، ((تفسير الشوكاني)) (4/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/377)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 196-170). قال الشوكاني: (اليَنبُوعُ: عَينُ الماءِ، والأمكِنةُ الَّتي يَنبُعُ منها الماءُ، والمعنى: أدخَلَ الماءَ النَّازِلَ مِن السَّماءِ في الأرضِ، وجعَلَه فيها عُيونًا جاريةً، أو جعَلَه في يَنابيعَ، أي: في أمكِنةٍ يَنبُعُ منها الماءُ، فهو على الوَجهِ الثَّاني مَنصوبٌ بنَزعِ الخافِضِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/525). .
قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] .
ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ.
أي: ثمَّ يُنبِتُ اللهُ بهذا الماءِ زُروعًا مُختَلِفةَ الألوانِ [494] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/350)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (3/576)، ((تفسير ابن عطية)) (4/526)، ((تفسير القرطبي)) (15/246)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 170، 171). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 99] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر: 27] .
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا.
أي: ثُمَّ يَيبسُ الزَّرعُ ويجِفُّ فتَراه مُصفَرَّ اللَّونِ بعدَ تلك البَهجةِ والنَّضْرةِ [495] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/188)، ((تفسير القرطبي)) (15/246)، ((تفسير ابن كثير)) (7/923)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/484). .
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا.
أي: ثمَّ يَجعَلُ اللهُ الزَّرعَ الذَّابِلَ فُتاتًا مُتكَسِّرًا [496] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/188)، ((تفسير ابن عطية)) (4/527)، ((تفسير القرطبي)) (15/246)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/484)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/378). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا تَمَّ هذا المِنوالُ البَديعُ الدَّالُّ بلا شَكٍّ لكُلِّ مَن رآه على أنَّ فاعِلَه قادِرٌ على الإعادةِ لِما يُريدُ بعدَ الإبادةِ، كما قدَرَ على الإيجادِ مِن العَدَمِ، والإفادةِ لكُلِّ ما لم يكُنْ؛ قال على سَبيلِ التَّأكيدِ للتَّنبيهِ على أنَّ إنكارَهم غايةٌ في الحُمقِ والجُمودِ [497] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/484). :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ.
أي: إنَّ في ذلك [498] الإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى ما تقدَّم ذِكرُه مِن إنزالِ المطرِ إلى آخِرِ الأطوارِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/189)، ((تفسير الشوكاني)) (4/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/378). لَذِكْرى يَتذكَّرُ بها أهلُ العُقولِ الصَّحيحةِ [499] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/189)، ((تفسير ابن عطية)) (4/527)، ((تفسير ابن كثير)) (7/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/378). قيل: إنَّ ما ذُكِرَ تَذكيرٌ وتَنبيهٌ على أنَّه لا بُدَّ مِن صانعٍ حَكيمٍ، وأنَّ ذلك كائِنٌ عن تقديرٍ وتَدبيرٍ، لا عن تَعطيلٍ وإهمالٍ. قاله الزمخشري. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/122). وقيل: إنَّه مَثَلٌ للدُّنيا؛ فالدُّنيا هكذا، تكونُ خَضِرةً نَضِرةً حَسناءَ، ثمَّ تعودُ عَجوزًا شَوهاءَ، والشَّابُّ يعودُ شَيخًا هَرِمًا كبيرًا ضَعيفًا، وبعدَ ذلك كُلِّه الموتُ. قال ابنُ كثير: (وكثيرًا ما يَضرِبُ اللهُ تعالى مَثَلَ الحياةِ الدُّنيا بما يُنزِلُ اللهُ مِن السَّماءِ مِن ماءٍ، ويُنبِتُ به زُروعًا وثمارًا، ثمَّ يكونُ بعدَ ذلك حُطامًا، كما قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 45] ). ((تفسير ابن كثير)) (7/93). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/525). وقيل: إنَّها ذِكرى للبَعثِ مِن القُبورِ وإحياءِ الموتى. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/189)، ((تفسير ابن عطية)) (4/527). وقيل: يَذْكُرونَ به عنايةَ رَبِّهم ورَحمتَه بعِبادِه؛ حيث يَسَّرَ لهم هذا الماءَ، وخَزَنَه بخزائِنِ الأرضِ تبَعًا لِمَصالحِهم، ويَذكُرونَ به كَمالَ قُدرتِه، وأنَّه يُحيي الموتى، كما أحيا الأرضَ بعدَ مَوتِها، ويَذكُرونَ به أنَّ الفاعِلَ لذلك هو المُستَحِقُّ للعِبادةِ. قاله السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 722). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (23/378، 379)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 171). .
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا بَيَّن تعالى الدَّلائِلَ على وُجوبِ الإقبالِ على طاعةِ اللهِ تعالى، ووُجوبِ الإعراضِ عن الدُّنيا ولَذَّاتِها؛ ذكَرَ أنَّ الانتِفاعَ بهذه البَياناتِ لا يَكمُلُ إلَّا إذا شَرَح الصُّدورَ، ونَوَّر القُلوبَ [500] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/441). .
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.
أي: أفمَنْ وسَّع اللهُ قَلبَه لِمَعرفتِه، وفَسَحَه للإقرارِ بوَحدانيَّتِه، والخُضوعِ لطاعتِه، والعَمَلِ بدِينِه، فهو على بَصيرةٍ ويَقينٍ مِن رَبِّه، وشُعورٍ بالرَّاحةِ والطُّمأنينةِ والسُّرورِ: كمَنْ ليس كذلك ممَّن هو ضَيِّقُ الصَّدرِ عن استِماعِ الحَقِّ واتِّباعِه، قاسي القَلبِ، مُعرِضٌ عن ذِكرِ الرَّبِّ تعالى [501] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/189)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 932)، ((تفسير ابن عطية)) (4/527)، ((تفسير القرطبي)) (15/247)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/421)، ((تفسير ابن كثير)) (7/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722). قال الماوردي: (قولُه عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فيه وجهانِ؛ أحدُهما: وسَّع صَدرَه للإسلامِ حتَّى يثبت فيه، قاله ابنُ عبَّاسٍ والسُّدِّيُّ. الثَّاني: وسَّع صَدرَه بالإسلامِ بالفرحِ به والطمأنينةِ إليه. فعلى هذا لا يجوزُ أن يكونَ الشرحُ قبلَ الإسلامِ، وعلى الوجهِ الأوَّلِ يجوزُ أن يكونَ الشرحُ قبلَ الإسلامِ). ((تفسير الماوردي)) (5/121). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/247). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/379، 380). قال الزَّجَّاجُ: (المعنَى: أفمَنْ شرَح اللهُ صدرَه فاهتدَى كمَنْ طبع على قلبِه فلم يَهْتَدِ لِقَسْوتِه؟ والجوابُ متروكٌ؛ لأنَّ الكلامَ دَالٌّ عليه. ويؤكِّدُ ذلك قولُه جلَّ وعزَّ: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/351). ؟!
كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122] .
وقال سُبحانَه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام: 125] .
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
أي: فوَيلٌ للَّذين تَقسو قُلوبُهم إذا سَمِعوا ذِكرَ اللهِ؛ فلا تَلينُ لكِتابِه، ولا تَتذكَّرُ آياتِه، ولا تَطمَئِنُّ عندَ ذِكرِه، ولا تَخشَعُ ولا تَعِي، بل هي مُعرِضةٌ عن رَبِّها [502] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/351)، ((تفسير ابن كثير)) (7/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 177، 178). قال الزَّجَّاجُ: (يُقال: قَسا قَلبُه عن ذِكرِ اللهِ، ومِن ذِكْرِ اللهِ؛ فمَن قال: مِن ذِكْرِ اللهِ، فالمعنى: كُلَّما تُلِيَ عليه ذِكرُ اللهِ قَسا قَلْبُه، كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] . ومَن قال: عن ذِكْرِ اللهِ، فالمعنى: أنَّه غَلُظ قَلبُه وجَفا عن قَبولِ ذِكْرِ اللهِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/351). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ: الزمخشريُّ، والقرطبي، والبيضاوي، والخازن، وأبو حيان، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/122)، ((تفسير القرطبي)) (15/248)، ((تفسير البيضاوي)) (5/40)، ((تفسير الخازن)) (4/55)، ((تفسير أبي حيان)) (9/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/382). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 187). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني: ابنُ جرير، ومكِّي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/190)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (10/6325)، ((تفسير الشوكاني)) (4/526). قال السمعاني: (قَولُه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي: الَّذين لا يَذْكُرونَ اللهَ، وكلُّ مَن ترَك ذِكرَ الله فقد قسَا قلبُه). ((تفسير السمعاني)) (4/465). !
كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 125] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .
أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: أولئك القاسِيةُ قُلوبُهم مِن ذِكرِ اللهِ: في ضَلالٍ ظاهرٍ عن الحَقِّ [503] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/188)، ((تفسير السمرقندي)) (3/183)، ((الوسيط)) للواحدي (3/578)، ((تفسير أبي حيان)) (9/194)، ((تفسير الشوكاني)) (4/526). .
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أخبَرَ سُبحانَه عن هؤلاءِ المَمدوحينَ أنَّهم يَستَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعونَ أحْسَنَه؛ كأنَّه قيل: هل مِن طَريقٍ إلى مَعرفةِ أحسَنِه حتَّى نَتَّصِفَ بصِفاتِ أُولي الألبابِ، وحتَّى نَعرِفَ أنَّ مَن آثَرَه عَلِمْنا أنَّه مِن أُولي الألبابِ؟ قيل: نَعَمْ، أحْسَنُه ما نَصَّ اللهُ تعالى عليه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [504] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 722). .
سبب النزول:
عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أُنزِلَ القُرآنُ على رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتلا عليهم زَمانًا، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، لو قصَصْتَ علينا! فأنزل اللهُ: الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف: 1] إلى قَولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] ، فتلاها عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زمانًا، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، لو حدَّثْتَنا، فأنزَلَ الله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ... [الزمر: 23] الآيةَ، كُلُّ ذلك يُؤْمَرونَ بالقُرآنِ)) [505] أخرجه البزار (1153)، وابن حبان (6209)، والحاكم (3319). حَسَّنه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/222)، وابنُ حجر في ((المطالب العالية)) (4/126)، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1462)، وحَسَّن إسنادَه ابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (17/40)، وقوَّاه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (6209). .
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا.
أي: اللهُ نزَّل القرآنَ الَّذي هو أحسَنُ الحَديثِ، كِتابًا يُشبِهُ بَعضُه بَعضًا في صِدقِ الأخبارِ، وعَدلِ الأحكامِ، وبَلاغةِ الألفاظِ، وشَرَفِ المعاني؛ فلا تَفاوُتَ فيه في لَفظٍ ولا مَعنًى، ويُصَدِّقُ بَعضُه بَعضًا، فلا اختِلافَ فيه ولا تَضادَّ [506] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/190)، ((تفسير ابن عطية)) (4/527)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/407)، ((تفسير أبي حيان)) (9/195)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/488)، ((تفسير السعدي)) (7/93). .
كما قال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87] .
وقال عزَّ وجلَّ: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] .
وقال جَلَّ ثناؤُه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] .
وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خَطَب يقولُ: أمَّا بَعْدُ، فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتابُ اللهِ، وخَيرَ الهُدْى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرَّ الأُمورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ )) [507] رواه مسلم (867). .
مَثَانِيَ.
أي: يُثنَّى ما فيه؛ كالوَعدِ والوَعيدِ، والقصصِ، والأحكامِ [508] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/191)، ((تفسير الزمخشري)) (4/123)، ((تفسير ابن عطية)) (4/527)، ((تفسير القرطبي)) (15/249)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/407، 408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/386، 387). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: يُكرَّرُ ما فيه؛ كالأخبارِ والقَصَصِ، والأحكامِ والحُجَجِ، والمواعِظِ، والوَعدِ والوَعيدِ. وممَّن قال بهذا المعنَى في الجملةِ: ابنُ جرير، والزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، وابن تيميَّة، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/191)، ((تفسير ابن كثير)) (7/93). قال ابن تيميَّةَ: (مَثَانِيَ يُثَنِّي اللهُ فيه الأقسامَ ويَستوفيها. والحقائِقُ: إمَّا مُتماثِلةٌ، وهي «المُتشابِهُ»، وإمَّا مُماثِلةٌ، وهي: الأصنافُ والأقسامُ والأنواعُ، وهي «المَثاني». و«التَّثنيةُ» يُرادُ بها: جِنسُ التَّعديدِ مِن غيرِ اقتِصارٍ على اثنَينِ فقط). ((مجموع الفتاوى)) (14/407). وقيل: معنى مَثَانِيَ: اقتِرانُ المعنى بما يُقابِلُه؛ فإذا ذُكِرَت النَّارُ ذُكِرَت بعدَها الجنَّةُ، وإذا ذُكِرَ المؤمنون ذُكِرَ بَعدَهم الكافِرون... وهكذا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 188، 189). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (26/446). وممَّن رُوِيَ عنه هذا القَولُ مِن السَّلَفِ: سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/94). .
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.
أي: تَضطَرِبُ وتَتقَبَّضُ جُلودُ الَّذين يَخشَونَ رَبَّهم إذا تَلَوُا القُرآنَ أو سَمِعوه [509] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/192)، ((تفسير القرطبي)) (15/249)، ((تفسير ابن كثير)) (7/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/386، 387). .
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
أي: ثمَّ تَلينُ جُلودُهم، وتَسكُنُ وتَطمَئِنُّ قُلوبُهم إلى كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ [510] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/192)، ((تفسير القرطبي)) (15/249، 250)، ((تفسير ابن كثير)) (7/94)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/490، 491)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723). قيل: المرادُ بـ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ: إلى العمَلِ بما في كتابِ اللهِ، والتَّصديقِ به. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/192)، ((تفسير الثعلبي)) (8/230)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6327). وقيل: المرادُ: أنَّها تَلينُ عندَ سَماعِ آياتِ الرَّحمةِ والرَّجاءِ والتَّرغيبِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزَّجَّاجُ، والبَغَويُّ، والقرطبي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/352)، ((تفسير البغوي)) (4/85)، ((تفسير القرطبي)) (15/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/389، 391). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/55). قال الواحدي: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إذا ذُكِرَتْ آياتُ الرَّحمةِ، وهذا معنى قولِ جميعِ المفسِّرينَ). ((الوسيط)) (3/578). .
كما قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... [الأنفال: 2] .
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: ذلك هُدى اللهِ، يَهدي به مَن يَشاءُ مِن عِبادِه [511] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/192)، ((تفسير ابن عطية)) (4/528)، ((تفسير القرطبي)) (15/250)، ((تفسير ابن كثير)) (7/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/391، 392). قال ابنُ عطيَّةَ: (قَولُه تعالى: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يحتمِلُ أن يُشيرَ إلى القرآنِ، أي: ذلك الَّذي هذه صِفَتُه: هُدَى الله. ويحتمِلُ أن يُشيرَ إلى الخَشيةِ واقْشِعْرارِ الجُلودِ، أي: ذلك أمارةُ هُدى اللهِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/528). وقال ابنُ عثيمين: (يحتملُ أن يكونَ المشارُ إليه باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ: ما حصَلَ لهم مِن الخَشيةِ، وعلى هذا فيَكونُ المرادُ بالهدايةِ هِدايةَ التَّوفيقِ؛ لأنَّ الخَشيةَ عَمَلٌ. ويحتملُ أن يكونَ المشارُ إليه بـ ذَلِكَ: الكِتابَ الَّذي هو أحسَنُ الحديثِ؛ فتكون الهدايةُ هنا هدايةَ دَلالةٍ؛ لأنَّ الكِتابَ يَهدي، بمعنى: يَدُلُّ، والتَّوفيقُ بيَدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 193). وممَّن قال بأنَّ الإشارةَ هنا تعودُ إلى القرآنِ: البَغَويُّ، والقرطبي، والنسفي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/87)، ((تفسير القرطبي)) (15/250)، ((تفسير النسفي)) (3/177). وممَّن قال بأنَّ الإشارةَ تعودُ إلى ما ذكَره الله تعالى مِن تأثيرِ القرآنِ الَّذي يُوجِبُ الخشيةَ واقْشِعْرارَ الجُلودِ ولِينَها: ابنُ جرير، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/391). قال ابن كثير: (قولُه: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أي: هذه صِفةُ مَن هداه اللهُ، ومَن كان على خِلافِ ذلك فهو ممَّن أضَلَّه اللهُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/95). وممَّن جمَع بيْن المَعنَيَينِ: البِقاعي، فقال: (ذَلِكَ أي: الأمرُ العظيمُ الغريبُ مِن الحديثِ المنزَّلِ، والقبضِ والبَسطِ). ((نظم الدرر)) (16/491). .
كما قال الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
أي: ومَن يُضْلِلْه اللهُ عن الحَقِّ فلا أحَدَ يَهديه إليه [512] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/193)، ((تفسير القرطبي)) (15/250)، ((تفسير ابن كثير)) (7/95)، ((تفسير الشوكاني)) (4/527). .
كما قال الله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186].

الفوائد التربوية:

1- أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يَستَعمِلَ عقْلَه في مخلوقاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِيَتذكَّرَ به فيما في هذه المخلوقاتِ مِن عَظَمةِ الخالِقِ؛ لأنَّه عزَّ وجلَّ قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [513] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 174). .
2- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أنَّ الهدايةَ بيَدِ اللهِ تعالى، ويَتَفرَّعُ على هذه الفائدةِ: أنَّه متى عَلِم الإنسانُ أنَّ الهدايةَ بيَدِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه لا يَلْتَفِتُ في طلبِ الهدايةِ إلَّا إلى اللهِ تعالى، وإذا عَلِم أنَّ الهدايةَ بيَدِ اللهِ تعالى فلا يُعْجَبُ بنَفْسِه إذا اهتدَى! بل يقولُ لِنَفْسِه: لولا أنَّ اللهَ تعالى هَداه لَكان ضالًّا، فلا يقولُ: إنَّما أُوتيتُه على عِلْمٍ عندي! أو يقولُ: هذا لي! بل يَعتَرِفُ بفَضْلِ اللهِ تعالى عليه؛ وأنَّه لولا هدايةُ اللهِ تعالى ما انتَفَعَ إلى يومِ الدِّينِ [514] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 179). .
3- قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ إذا رأيْتَ مِن قلبِك عدَمَ لِينٍ لِذِكْرِ اللهِ فعالِجْ نفْسَك لِتَسْلَمَ مِن هذا الوعيدِ، فأحيانًا يَقْسُو القلبُ ولا يَلِينُ، ويَقرأُ الآياتِ العظيمةَ الرَّادِعةَ ولا يَتأثَّرُ! وأحيانًا يَقرأُ نَفْسَ الآياتِ ثمَّ يَتأثَّرُ، فإذا عَرَفْتَ مِن نَفْسِك قَسوةَ القلبِ فالْجَأْ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، واسألْه أنْ يُلينَ قلبَك لِذِكْرِه، وتَأَهَّبْ للوعيدِ إذا لم يَتدارَكْك اللهُ تعالى بلُطْفِه ومغفرتِه [515] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 184). .
4- قال عزَّ وجَلَّ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ قَولُه تعالى: مَثَانِيَ هذا مِن جَلالةِ القُرآنِ وحُسنِه؛ فإنَّه تعالى لَمَّا عَلِم احتياجَ الخَلقِ إلى مَعانيه المُزَكِّيةِ للقُلوبِ، المكَمِّلةِ للأخلاقِ، وأنَّ تلك المعانيَ للقُلوبِ بمنزلةِ الماءِ لِسَقيِ الأشجارِ، فكما أنَّ الأشجارَ كُلَّما بَعُدَ عَهْدُها بسَقيِ الماءِ نَقَصَت، بل رُبَّما تَلِفَت، وكُلَّما تكَرَّر سَقْيُها حَسُنَت وأثمَرَت أنواعَ الثِّمارِ النَّافِعةِ؛ فكذلك القَلبُ يَحتاجُ دائِمًا إلى تكَرُّرِ معاني كلامِ اللهِ تعالى عليه، وأنَّه لو تكرَّر عليه المعنى مَرَّةً واحِدةً في جميعِ القُرآنِ لم يقَعْ منه مَوقِعًا، ولم تحصُلِ النَّتيجةُ منه، وهكذا ينبغي للقارئِ للقُرآنِ المُتدَبِّرِ لِمَعانيه ألَّا يَدَعَ التَّدَبُّرَ في جميعِ المواضِعِ منه؛ فإنَّه يَحصُلُ له بسَبَبِ ذلك خيرٌ كثيرٌ، ونَفعٌ غَزيرٌ [516] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 723). .
5- قال عزَّ وجَلَّ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ في قَولِه تعالى: مَثَانِيَ أنَّ القُرآنَ قد بَلَغَ الغايةَ في البَلاغةِ؛ لِكَونِه يأتي مَثانيَ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائِدةِ: أنَّه يَنبغي لِمَن تَكَلَّمَ في مَوعِظةِ النَّاسِ ألَّا يأتيَ بالتَّرغيبِ المُطْلَقِ ولا بالتَّرهيبِ المُطلَقِ؛ وذلك أنَّه إذا أتى بالتَّرغيبِ المُطلَقِ حَمَلَهم على الرَّجاءِ فتَهاوَنوا، وإذا أتى بالتَّرهيبِ المُطلَقِ حَمَلَهم على اليَأسِ فقَنَطوا مِن رَحمةِ اللهِ تعالى؛ فالَّذي ينبغي للإنسانِ الَّذي يَتكلَّمُ مع النَّاسِ في المواعظِ أنْ يَتكلَّمَ أحيانًا بهذا، وأحيانًا بهذا؛ حتَّى لا يَحمِلَ النَّاسَ على القُنوطِ أو على الرَّجاءِ الَّذي يُوجِبُ الأمْنَ مِن مَكْرِ اللهِ تعالى [517] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 197). .
6- أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يَلْجَأَ إلى اللهِ تعالى وحْدَه في طلبِ الهدايةِ؛ لقولِه تعالى: يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وكان النَّبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ -وهو الهادي المَهْديُّ- يَستَفْتِحُ ويقولُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرائيلَ، ومِيكائيلَ، وإسرافيلَ، فاطِرَ السَّمواتِ والأرضِ، عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ؛ أنت تَحْكُمُ بيْنَ عِبادِك فيما كانوا فيه يَختَلِفون، اهْدِني لِمَا اختُلِفَ فيه مِن الحقِّ بإذْنِك؛ إنَّك تَهْدي مَن تَشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ )) [518] أخرجه مسلم (770) من حديث عائشةَ رضي الله عنها. ، فهذا وهو النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكيف بنا نحن؟! فعليك أنْ تَلْجَأَ إلى ربِّك في طلبِ الهِدايةِ؛ وألَّا تَعتمِدَ على نفْسِك، بل اعتمِدْ على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ اللهَ تعالى مَرْجِعُك [519] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 203). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ أنَّ كلَّ ماءٍ نَبَع مِن الأرضِ فهو طَهورٌ، ووجْهُ ذلك: أنَّ الماءَ النَّابِعَ مِن الأرضِ هو الماءُ النَّازِلُ مِن السَّماءِ، وكُلُّ ماءٍ نَزَلَ مِن السَّماءِ فهو طَهورٌ، كما قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [520] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (206/20). [الفرقان: 48] .
2- في قَولِه تعالى: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ بيانُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورَحمتِه بالعِبادِ؛ حيثُ سَلَكَ هذا الماءَ يَنابيعَ في الأرضِ، ولم يَبْقَ راكِدًا على ظَهرِها؛ لِمَا في ذلك مِن الحِكمةِ والرَّحمةِ، فنراه مخزونًا في الأرضِ متى احتاجَه النَّاسُ استَخرَجوه [521] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 173). .
3- قَولُه تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ فيه إثباتُ الأسبابِ، وأنَّ السَّببَ لا يَستَقِلُّ بالتَّأثيرِ في المُسَبَّبِ؛ فقد أضاف الإخراجَ إلى اللهِ تعالى، وهذا هو الَّذي عليه سَلَفُ الأُمَّةِ وأئمَّتُها؛ فالأسبابُ لها تأثيرٌ في المُسَبَّباتِ، ولكِنَّ تأثيرَها بفِعلِ اللهِ تعالى [522] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 173). .
4- في قَولِه تعالى: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا أنَّ كَمالَ الدُّنيا مُؤْذِنٌ بنَقصِها؛ لأنَّ اللهَ تعالى ضَرَبَ ذلك مَثَلًا للدُّنيا [523] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 173). .
5- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أنَّ مَن شرَحَ اللهُ تعالى صَدْرَه للإسلامِ فقَبِل الحقَّ، فإنَّه على نورٍ مِن اللهِ تعالى، ويَتفرَّعُ عليها زيادةُ عِلمِه؛ لأنَّ العِلمَ نورٌ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] ، ويَتفرَّعُ عليها قُوَّةُ الفِراسةِ، بمعنى: أنَّ اللهَ تعالى يُعطي الإنسانَ فِراسةً بحيث يَعلَمُ أحوالَ النَّاسِ مِن لَمَحَاتِ وُجوهِهم، بل أكثَرَ مِن ذلك؛ يَستَدِلُّ بالحاضرِ على الغائبِ، ويُعطيه اللهُ تعالى استِنتاجاتٍ لا تَكونُ لِغَيرِه [524] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 183). .
6- أنَّ أعْظَمَ أسبابِ شَرحِ الصَّدرِ التَّوحيدُ، وعلى حَسَبِ كَمالِه وقُوَّتِه وزيادتِه يكونُ انشِراحُ صَدرِ صاحبِه؛ قال اللهُ تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [525] يُنظر: ((زاد المَعاد)) لابن القيم (2/22). .
7- في قَولِه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا إثباتُ عُلُوِّ اللهِ تعالى، ووجْهُه: أنَّه إذا كان القرآنُ كلامَه، ووُصِفَ القرآنُ بأنَّه مُنَزَّلٌ؛ دلَّ على أنَّ المتكَلِّمَ به عالٍ، وعُلُوُّ اللهِ عزَّ وجلَّ يَنقَسِمُ إلى قِسْمَينِ: عُلُوِّ ذاتٍ، وعُلُوِّ صِفةٍ [526] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 194). .
8- في قَولِه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ بصيغةِ الإفرادِ: دَلالةٌ على أنَّ المرادَ بالضَّمائِرِ الَّتي فيها صيغةُ الجَمعِ في الإنزالِ، كقَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: 9] ؛ أنَّ المرادَ بهما التَّعظيمُ قَطعًا، ولاستِحالةِ التَّعَدُّدِ، أو إرادةِ معنى الجَمعِ [527] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/30). .
9- في قَولِه تعالى: أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أنَّ القُرآنَ أحسَنُ الحَديثِ بحَسَبِ لَفظِه؛ وذلك مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أن يكونَ ذلك الحُسنُ لأجْلِ الفَصاحةِ والجَزالةِ.
الثَّاني: أن يكونَ بحَسَبِ النَّظْمِ في الأُسلوبِ؛ وذلك لأنَّ القُرآنَ ليس مِن جِنسِ الشِّعرِ، ولا مِن جِنسِ الخُطَبِ، ولا مِن جِنسِ الرَّسائِلِ، بل هو نوعٌ يُخالِفُ الكُلَّ، مع أنَّ كُلَّ ذي طَبعٍ سَليمٍ يَستَطيبُه ويَستَلِذُّه.
وهو أحسَنُ الحَديثِ لأجْلِ المعنى، وفيه وُجوهٌ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه كِتابٌ مُنَزَّهٌ عن التَّناقُضِ، كما قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] ، ومِثلُ هذا الكِتابِ إذا خلا عن التَّناقُضِ كان ذلك مِن المُعجِزاتِ.
الوَجهُ الثَّاني: اشتِمالُه على الغُيوبِ الكثيرةِ في الماضي والمُستقبَلِ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ العُلومَ الموجودةَ فيه كثيرةٌ جِدًّا [528] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/442). .
10- قولُه تعالى: كِتَابًا فيه أنَّ القرآنَ مكتوبٌ؛ فهو يُكْتَبُ في ثلاثةِ مواضعَ: اللَّوحِ المحفوظِ، الصُّحُفِ الَّتي بأيدي الملائكةِ، الصُّحُفِ الَّتي بأيدينا [529] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 195). .
11- قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ القرآنَ كلَّه مُتشابِهٌ، وفي سُورةِ (آلِ عِمرانَ): هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] تدُلُّ على أنَّ مِن القرآنِ مُحْكَمًا ومنه مُتشابِهًا، وقولُه تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] يدُلُّ على أنَّ كلَّه مُحْكَمٌ.
ووَجْهُ الجمْعِ بيْن هذه الآياتِ: أنَّ معنى كَونِه كلِّه مُحْكَمًا -وهو ما يُعرَفُ بالإحكامِ العامِّ-: أنَّه في غايةِ الإحكامِ -أي: الإتقانِ- في ألفاظِه ومَعانِيه وإعجازِه؛ أخبارُه صِدْقٌ، وأحكامُه عَدْلٌ، لا تَعْترِيه وَصْمةٌ ولا عَيبٌ؛ لا في الألفاظِ ولا في المعاني. ومعنى كَونِه مُتشابِهًا -ويُعرَفُ بالتَّشابُهِ العامِّ-: أنَّ آياتِه يُشبِهُ بعضُها بعضًا في الحُسنِ، والصِّدقِ، والإعجازِ، والسَّلامةِ مِن جَميعِ العيوبِ. ومعنى كَونِ بَعضِه مُحْكَمًا وبعضِه مُتشابهًا -وهو الإحكامُ الخاصُّ والتَّشابُهُ الخاصُّ-: أنَّ المُحكَمَ منه هو واضحُ المعنى لكلِّ النَّاسِ، كقولِه: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32] ، وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ [الإسراء: 39] ، والمُتشابِهَ هو ما خفِيَ عِلمُه على غيرِ الرَّاسخينَ في العِلمِ -بِناءً على أنَّ الواوَ في قولِه تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] عاطفةٌ-، أو هو ما استأْثَرَ اللهُ بعِلمِه، بِناءً على أنَّ الواوَ في قولِه تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استئنافيَّةٌ لا عاطفةٌ [530] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 38). قال ابن عثيمين: (الوقف عندَ قولِه: إِلَّا اللَّهُ، وهو قولُ جمهورِ السَّلفِ والخلَفِ، وبِناءً عليه يكونُ المرادُ بالتَّأويلِ في قولِه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] : الحقيقةَ الَّتي يَؤولُ الكلامُ إليها، لا التَّفسيرَ الَّذي هو بيانُ المعنى). ((تقريب التدمرية)) (ص: 71). وقال أيضًا: (إنَّ وصْفَ القرآنِ جميعِه بالإحكامِ، ووصْفَه جميعِه بالتَّشابُهِ لا يَتعارَضانِ، والجمعُ بيْنَهما: أنَّ الكلامَ المُحْكَمَ المُتقَنَ يُشْبِهُ بعضُه بعضًا في الكمالِ والصِّدقِ؛ فلا يَتناقَضُ في أحكامِه، ولا يَتكاذَبُ في أخبارِه. وأمَّا وصْفُ القرآنِ بأنَّ بعضَه مُحْكَمٌ وبعضَه مُتشابِهٌ فلا تَعارُضَ بيْنَهما أصلًا؛ لأنَّ كلَّ وصْفٍ واردٌ على محلٍّ لم يَرِدْ عليه الآخَرُ؛ فبعضُ القرآنِ مُحْكَمٌ ظاهرُ المعنى، وبعضُه مُتشابِهٌ خَفيُّ المعنى). ((تقريب التدمرية)) (ص: 78). .
12- في قَولِه تعالى: مَثَانِيَ تَنبيهٌ على ناحيةٍ مِن نواحي إعجازِ القُرآنِ، وهي: عدَمُ الملَلِ مِن سَماعِه، وأنَّه كُلَّما تكَرَّر غَرَضٌ مِن أغراضِه زاده تكَرُّرُه قَبولًا وحلاوةً في نُفوسِ السَّامِعينَ [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/386). .
13- في قَولِه تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ أُعجُوبةُ جَمعِ القُرآنِ بيْنَ التَّأثيرَينِ المُتضادَّينِ: مَرَّةً بتأثيرِ الرَّهبةِ، ومرَّةً بتأثيرِ الرَّغبةِ؛ وذلك لِيَكونَ المُسلِمونَ في مُعامَلةِ رَبِّهم جارِينَ على ما يَقتَضيه جَلالُه، وما يَقتَضيه حِلمُه ورَحمتُه، وهذه الجِهةُ اقتَضاها الجَمعُ بيْنَ الجِهَتينِ المُصَرَّحِ بهما -وهما: جِهةُ القُشَعْريرةِ، وجِهةُ اللِّينِ- مع كَونِ المَوصوفِ بالأمْرَينِ فَريقًا واحِدًا، وهم الَّذين يَخشَونَ رَبَّهم، والمقصودُ وَصْفُهم بالتَّأثُّرَينِ عندَ تَعاقُبِ آياتِ الرَّحمةِ بعدَ آياتِ الرَّهبةِ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/390). .
14- في قَولِه تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ قال قَتادةُ: (هذا نَعْتُ أولياءِ اللهِ؛ نعَتَهم اللهُ بأن تَقشَعِرَّ جُلودُهم، وتَبكيَ أعيُنُهم، وتَطمَئِنَّ قُلوبُهم إلى ذِكرِ اللهِ، ولم يَنعَتْهم بذَهابِ عُقولِهم، والغَشَيانِ عليهم، وإنَّما هذا في أهلِ البِدَعِ، وهذا مِنَ الشَّيطانِ) [533] أخرجه عبد الرزاق في ((تفسيره)) (3/130) (2626). ويُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 223-228)، ((الاعتصام)) للشاطبي (2/121-125). .
15- قال الله تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ لِينُ القُلوبِ هو زَوالُ قَساوتِها؛ لحُدوثِ الخُشوعِ فيها والرِّقَّةِ، وقد قَبَّح اللهُ مَن لا يَخشَعُ قَلبُه لِسَماعِ كِتابِه وتدَبُّرِه؛ قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [534] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/297). [الحديد: 16] .
16- أنَّ ذِكْرَ اللهِ عزَّ وجَلَّ سَبَبٌ لِلِينِ القُلوبِ وطُمأنينتِها؛ لِقَولِه تعالى: تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ويَشهَدُ لهذا قَولُه تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [535] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 198). [الرعد: 28] .
17- مِن وجوهِ إعجازِ القرآنِ الكريمِ: الرَّوعةُ التي تلحقُ قلوبَ سامعيه وأسماعَهم عندَ سماعِه، والهيبةُ التي تعتريهم عندَ تلاوتِه لقوةِ حالِه وإنافةِ خطرِه، وهى على المكذِّبينَ به أعظمُ، حتى كانوا يستثقِلونَ سماعَه، ويزيدُهم نفورًا كما قال تعالى، ويودُّون انقطاعَه لكراهتِهم له.
وأمَّا المؤمنُ فلا تزالُ روعتُه به وهيبتُه إياه معَ تلاوتِه تُوليه انجذابًا، وتكسبُه هشاشةً لميلِ قلبِه إليه، وتصديقِه به؛ قال الله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وقال: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ ... الآية [الحشر: 21] . ويدلُّ على أنَّ هذا شيءٌ خُصَّ به أنَّه يعتري مَن لا يفهمُ معانيَه، ولا يعلمُ تفاسيرَه.
وهذه الروعةُ قد اعترَتْ جماعةً قبلَ الإسلامِ وبعدَه، فمِنهم مَن أسلمَ لها لأوَّلِ وهلةٍ وآمَن به، ومنهم مَن كفَر، فعن جُبيرِ بنِ مطعِمٍ قال: ((سمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقرأُ في المغربِ بـ (الطور) فلمَّا بلَغ هذه الآيةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] إلى قوله: الْمُسَيْطِرُونَ [الطور: 37] كاد قلبي أنْ يطيرَ)) [536] أخرجه البخاري (4854). وأخرجه مسلم مختصرًا (463). ، وفي رواية [537] أخرجها البخاري (4023). : (وذلك أولَ ما وقَر الإيمانُ في قلبي) [538] يُنظر: ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى- وحاشية الشمني)) (1/273). .
18- قولُه تعالى: يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ فيه إثباتُ أنَّ الهدايةَ بمشيئةِ اللهِ تعالى، وهذه الآيةُ فَرْدٌ مِن أفرادِ أدلَّةٍ كثيرةٍ تدُلُّ على أنَّ فِعلَ العبدِ واقعٌ بمشيئةِ اللهِ تعالى، ومِن ذلك قولُه تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [539] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 199). [التكوير: 28، 29].
19- قَولُه تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ فيه أنَّ اسمَ الهادي يُطلَقُ على غَيرِ اللهِ تعالى، وكما قال تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد: 7]؛ فالهادي تُطلَقُ على اللهِ تعالى وعلى غيرِه، لكنِ الَّذي يَمتنِعُ إطلاقُه على غَيرِه هو هدايةُ التَّوفيقِ؛ فإنَّ هِدايةَ التَّوفيقِ لا تَكونُ إلَّا للهِ تعالى وَحْدَه، أمَّا هِدايةُ الدَّلالةِ فإنَّها تَكونُ للهِ تعالى ولِغَيرِه [540] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 205). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ استِئنافٌ وارِدٌ إمَّا لِتَمثيلِ الحَياةِ الدُّنيا في سُرعةِ الزَّوالِ، وقُربِ الاضمِحلالِ بما ذُكِر مِن أحوالِ الزَّرعِ؛ تَرغيبًا عن زَخارِفِها وزِينَتِها، وتَحذيرًا مِنَ الاغتِرارِ بزَهرتِها، كما في نَظائِرِ قَولِه: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآيةَ [يونس: 24] . أو لِلاستِشهادِ على تَحقُّقِ المَوعودِ مِنَ الأنهارِ الجاريةِ مِن تَحتِ الغُرَفِ بما يُشاهَدُ مِن إنزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ، وما يَترَتَّبُ عليهِ مِن آثارِ قُدرَتِه تَعالى، وأحكامِ حِكمَتِه ورَحمَتِه [541] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/249). .
- أو هو استِئنافٌ ابتِدائيٌّ انتُقِلَ به إلى غَرَضِ التَّنويهِ بالقُرآنِ، وما احتَوى عليه مِن هُدى الإسلامِ، وهو الغَرَضُ الَّذي ابتُدِئتْ به السُّورةُ، وانثَنى الكَلامُ منه إلى الاستِطرادِ بقَولِه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] إلى هنا؛ فهذا تَمهيدٌ لِقَولِه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [الزمر: 22] ، إلى قَولِه: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الزمر: 23] ، فمُثِّلتْ حالةُ إنزالِ القُرآنِ، واهتِداءِ المُؤمِنينَ به، والوَعدِ بنَماءِ ذلك الاهتِداءِ: بحالةِ إنزالِ المَطَرِ ونَباتِ الزَّرعِ به واكتِمالِه، وهذا التَّمثيلُ قابِلٌ لِتَجزِئةِ أجزائِه على أجزاءِ الحالةِ المُشَبَّهِ بها: فإنزالُ الماءِ مِنَ السَّماءِ تَشبيهٌ لِإنزالِ القُرآنِ لِإحياءِ القُلوبِ، وإسلاكُ الماءِ يَنابيعَ في الأرضِ تَشبيهٌ لِتَبليغِ القُرآنِ لِلنَّاسِ، وإخراجُ الزَّرعِ المُختَلِفِ الألوانِ تَشبيهٌ لِحالِ اختِلافِ النَّاسِ مِن طَيِّبٍ وغَيرِه، ونافِعٍ وضارٍّ، وهَياجُ الزَّرعِ تَشبيهٌ لِتَكاثُرِ المُؤمِنينَ بيْن المُشرِكينَ، وأمَّا قَولُه: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا فهو إدماجٌ [542] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لِلتَّذكيرِ بحالةِ المَماتِ، واستِواءِ النَّاسِ فيها مِن نافِعٍ وضارٍّ، وفي تَعقيبِ هذا بقَولِه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [الزمر: 22] ، إلى قَولِه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] إشارةٌ إلى العِبرةِ مِن هذا التَّمثيلِ.
ويَجوزُ أنْ يَكونَ المَعنى أصالةً وإدماجًا على عَكسِ ما ذُكِرَ؛ فيَكونَ عَوْدًا إلى الاستِدلالِ على تَفَرُّدِ اللهِ تَعالى بالإلَهيَّةِ، بدَليلٍ مِن مَخلوقاتِه الَّتي يُشاهِدُها النَّاسُ مُشاهَدةً مُتكَرِّرةً، فيكونَ قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً إلى قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ مُتَّصِلًا بقولِه تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر: 6] المتَّصِلِ بقولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ [الزمر: 5] ، ويكونَ ما بيَّنَّاه مِن تَمثيلِ حالِ نُزولِ القُرآنِ وانتِفاعِ المُؤمِنينَ إدماجًا في هذا الاستِدلالِ، وقد أُدمِجَ في أثناءِ الكَلامِ إيماء إلى إمكانِ إحياءِ النَّاسِ حياةً ثانيةً [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/376، 377). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً استِفهامٌ تَقريريٌّ، والخِطابُ لِكُلِّ مَن يَصلُحُ لِلخِطابِ؛ فليس المُرادُ به مُخاطَبًا مُعَيَّنًا، وهو خِطابٌ وتَوقيفٌ لِلسَّامِعِ على ما يُعتَبَرُ به مِن أفعالِ اللهِ الدَّالَّةِ على فَناءِ الدُّنيا واضمِحلالِها [544] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/377). .
- وعُطِفَ قَولُه: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا بحَرفِ (ثُمَّ)؛ لِإفادةِ التَّراخي الرُّتْبيِّ، أو الزَّمانِ؛ لِأنَّ إخراجَ الزَّرعِ مِنَ الأرضِ بعدَ إقحالِها أوقَعُ في نُفوسِ النَّاسِ؛ لِأنَّه أقرَبُ لِأبصارِهم، وأنفَعُ لِعَيشِهم، وإذْ هو المَقصودُ مِنَ المَطَرِ [545] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/377). . وصيغةُ المُضارِعِ؛ لِاستِحضارِ الصُّورةِ [546] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/249، 250). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا، بلَفظِ يَجْعَلُهُ، وفي سورةِ (الحَديدِ) قال: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [الحديد: 20] بلَفظِ يَكُونُ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ آيةَ (الزُّمَرِ) ورَدَتْ مَوردَ التَّنبيهِ على الاعتبارِ، وبالنَّصِّيَّةِ على ذلك افتُتِحَت الآيةُ، فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ...؛ فنسَبَ سُبحانه كلَّ حالةٍ مِن تقَلُّباتِ الزَّرعِ إلى نفْسِه، وتَنقُّلاتِه -مِن لَدُنْ خُروجِه ونَباتِه وما بعْدَ ذلك إلى تحطُّمِه- إلى نفْسِه -إذ لا طمَعَ لمخلوقٍ في إعادةِ شَيءٍ مِن ذلك-، ثمَّ قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، فافتُتِحَت الآيةُ واختُتِمَت بالتَّنبيهِ على الاعتبارِ، فلمَّا كان مَبْناها على ذلك ناسَبَ نِسبةُ الفِعلِ إليه تعالى؛ فقال: ثُمَّ يَجْعَلُهُ.
وأمَّا آيةُ (الحديدِ) فورَدَتْ مِثالًا للدُّنيا وغُرورِها، وإعراضِ الكافرِ عن سُرعةِ تَقلُّبِها وزَوالِها وفَنائِها؛ فلمَّا قُصِدَ هنا المثالُ ناسَبَ هذا المقصودَ قولُه: ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا؛ إذ لمْ يَتقدَّمْ في أوَّلِ الآيةِ النِّسبةُ للفاعلِ، اكتِفاءً بما هو غيرُ خافٍ على كلِّ ذي عقْلٍ سليمٍ؛ فجَرى آخِرُها على ما يَجْري عليه أوَّلُها -كما جَرى في آيةِ (الزُّمَرِ) مِن آخِرِها مِن التَّنبيهِ على ما جَرى عليه أوَّلُها-، وتَناسَبَ ذلك كلُّه، ولم يكُنْ -بِناءً على ما صُدِّرَت به كلُّ آيةٍ منهما- أنْ يكونَ في آيةِ (الزُّمَرِ): ثُمَّ يَكُونُ، ولا في آيةِ (الحديدِ): ثُمَّ يَجْعَلُهُ، بلْ ورَدَ كلٌّ على ما يُناسِبُ، واللهُ أعلَمُ [547] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1255، 1256)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/426)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 495). ويُنظر أيضًا: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 219)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/407). .
- قَولُه: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا عُلِّقتْ هذه الحَالةُ بجَعْلِ اللهِ تعالى، كالإخراجِ؛ لكَونِها مِنَ الآثارِ القَويَّةِ [548] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/250). .
- وجُملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ مُبَيِّنةٌ لِلاستِفهامِ التَّقريريِّ، وفَذْلَكةٌ [549] الفَذْلكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِلأطوارِ المُستَفهَمِ عنها؛ فالإشارةُ بذلك إلى المَذكورِ مِنَ الإنزالِ إلى آخِرِ الأطوارِ، وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ لِلإيذانِ ببُعدِ مَنزِلَتِه في الغَرابةِ والدَّلالةِ على ما قُصِدَ بَيانُه [550] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/250)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/378). .
- والمُرادُ: ذِكْرى بالدَّلالةِ على ما يَغفُلُ عنه العاقِلُ، ويَجوزُ أنْ تَكونَ الذِّكرى لِمَا يَذهَلُ عنه العاقِلُ مِمَّا تَشتَمِلُ عليه هذه الأحوالُ مِن مَبدَئِها إلى مُنتَهاها، فمِن ذلك أنَّها تَصلُحُ مِثالًا لِتَقريبِ البَعثِ، فتَتَضمَّنُ الآيةُ إدماجَ [551] تقدَّمَ تعريفُه (ص: 109). تَقريبِ البَعثِ وإمكانِه، مع الاستِدلالِ على انفِرادِ اللهِ تَعالى بالتَّصرُّفِ، ومِن ذلك أنَّها تَصلُحُ مَثَلًا لِلحياةِ الدُّنيا، والمَقصودُ تَشبيهُ الحالةِ بالحالةِ، فلا يُعتبَرُ التَّجَوُّزُ في مُفرَداتِ هذا المُرَكَّبِ؛ بأنْ يُطلَبَ لِكُلِّ طَورٍ مِن أطوارِ الدُّنيا طَورٌ يُشَبَّه به مِن أطوارِ النَّباتِ، ومنها أنَّها مَثَلٌ لِأطوارِ الإنسانِ مِن طَورِ النُّطَفِ إلى الشَّبابِ إلى الشَّيخوخةِ، ثمَّ الهَلاكِ، والمَقصودُ تَشبيهُ الحالةِ بالحالةِ، مع إمكانِ تَوزيعِ تَشبيهِ كُلِّ طَورٍ مِن أطوارِ الحالةِ المُشَبَّهةِ بطَورٍ مِن أطوارِ الحالةِ المُشَبَّهِ بها [552] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/378، 379). .
- قولُه: لِأُولِي الْأَلْبَابِ أُولو الألبابِ همُ الَّذين يَنتَفِعونَ بألبابِهم، فيَهتدونَ بما نُصِبَ لهم مِنَ الأدِلَّةِ، وهمُ الَّذين استَدَلُّوا فآمَنوا، وفي هذا تَعريضٌ بأنَّ الَّذين لم يَستَفيدوا مِنَ الأدِلَّةِ بمَنزِلةِ مَن عَدِموا العُقولَ [553] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/379). .
2- قولُه تعالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ استِئنافٌ جارٍ مَجرى التَّعليلِ لِمَا قَبْلَه مِن تَخصيصِ الذِّكرى بأُولي الألبابِ [554] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/250). .
- قولُه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فيه حذْفُ خَبَرِ (مَنْ)؛ لِدَلالةِ ما بَعْدَه عليه، والتَّقديرُ: أكُلُّ النَّاسِ سَواءٌ [555] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/250). ؟! أو دَلَّ عليه قَولُه: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر: 20] ، مِمَّا اقتَضاه حَرفُ الاستِدراكِ (لكِن) مِن مُخالَفةِ حالِه لِحالِ مَن حَقَّ عليه كَلِمةُ العَذابِ، والتَّقديرُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ مِثلُ الَّذي حَقَّ عليه كَلِمةُ العَذابِ؛ فهو في ظُلمةِ الكُفرِ؟! أو تَقديرُه: مِثلُ مَن قَسا قَلبُه؟! بدَلالةِ قَولِه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وهذا مِن دَلالةِ اللَّاحِقِ [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/379). .
- ومِن رَشاقةِ ألفاظِ القُرآنِ إيثارُ كَلِمةِ شَرَحَ لِلدَّلالةِ على قَبولِ الإسلامِ؛ لِأنَّ تعاليمَ الإسلامِ وأخلاقَه وآدابَه تُكسِبُ المُسلِمَ فَرَحًا بحالِه، ومَسَرَّةً برِضا رَبِّه، واستِخفافًا لِلمَصائِبِ والكَوارِثِ؛ لِجَزمِه بأنَّه على حَقٍّ في أمْرِه، وأنَّه مُثابٌ على ضُرِّه، وأنَّه راجٍ رَحمةَ رَبِّه في الدُّنيا والآخِرةِ، ولِعَدَمِ مُخالَطةِ الشَّكِّ والحَيرةِ ضَميرَه [557] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/380). .
- واللَّامُ في لِلْإِسْلَامِ لامُ العِلَّةِ، أيْ: شَرَحَه لِأجْلِ الإسلامِ، أيْ: لِأجْلِ قَبولِه [558] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/380). . وذلك على وجهٍ في التفسيرِ.
- وعُبِّرَ بالنُّورِ هنا في قولِه: فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ عن الهُدى ووُضوحِ الحَقِّ؛ لِأنَّ النُّورَ به تَنجَلي الأشياءُ، ويَخرُجُ المُبصِرُ مِن غَياهِبِ الضَّلالةِ، وتَردُّدِ اللَّبسِ بيْن الحَقائِقِ والأشباحِ، وأفادَ حَرفُ الاستعلاءِ (على) التَّمَكُّنَ مِنَ النُّورِ [559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/381). .
- وفُرِّعَ قولُه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ على وصْفِ حالِ مَن شَرَح اللهُ صَدرَه لِلإسلامِ فهو على نُورٍ مِن رَبِّه، وهو يدُلُّ على حالِ ضِدِّه؛ وهمُ الَّذين لم يَشرَحِ اللهُ صُدورَهم لِلإسلامِ؛ فكانت لِقُلوبِهم قَساوةٌ فُطِروا عليها، فلا تَسلُكُ دَعوةُ الخَيرِ إلى قُلوبِهم. وأُجمِلَ سُوءُ حالِهم بما تدُلُّ عليه كَلِمةُ فَوَيْلٌ مِن بُلوغِهم أقصَى غاياتِ الشَّقاوةِ والتَّعاسةِ [560] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/381، 382). .
- والمُرادُ بذِكرِ اللهِ: القُرآنُ، وإضافَتُه إلى اللهِ زيادةُ تَشريفٍ له [561] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/382). ، ولأنَّه كلامُه عزَّ وجلَّ.
- وقوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فيه احتِباكٌ [562] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذكَرَ أوَّلًا: الشَّرحَ والنُّورَ دَليلًا على حَذفِ ضِدِّه ثانيًا، وثانيًا: الوَيْلَ للقاسي، والضَّلالَ؛ دليلًا على حَذفِ ضِدِّه أوَّلًا [563] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/486). .
- قولُه: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ مُستَأنَفٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِأنَّ ما قَبْلَه مِنَ الحُكمِ بأنَّ قَساوةَ قُلوبِهم مِن أجْلِ أنْ يُذكَرَ اللهُ عِندَهم، يُثيرُ في نَفْسِ السَّامِعِ أنْ يَتَساءَلَ: كيف كان ذِكرُ اللهِ سَبَبَ قَساوةِ قُلوبِهم؟ فأُفيدَ بأنَّ سَبَبَ ذلك هو أنَّهم مُتَمَكِّنونَ مِنَ الضَّلالةِ، مُنغَمِسونَ في حَمْأَتِها، فكان ضَلالُهم أشَدَّ مِن أنْ يَتقَشَّعَ حينَ يَسمَعونَ ذِكْرَ اللهِ.
وافتِتاحُ هذه الجُملةِ باسمِ الإشارةِ عَقِبَ ما وُصِفوا به مِن قَساوةِ القُلوبِ؛ لِإفادةِ أنَّ ما سيُذْكَرُ مِن حالِهم بعْدَ الإشارةِ إليهم، صاروا به أحْرِياءَ لِأجْلِ ما ذُكِرَ قبْلَ اسمِ الإشارةِ، فكان مَضمونُ قَولِه: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ -وهو الضَّلالُ الشَّديدُ- عِلَّةً لِقَسوةِ قُلوبِهم حَسبَما اقتَضاه وُقوعُ جُملَتِه استِئنافًا بَيانيًّا، وكان مَضمونُها مَفعولًا لِقَسوةِ قُلوبِهم حَسبَما اقتَضاه تَصديرُ جُملَتِها باسمِ الإشارةِ عَقِبَ وَصْفِ المُشارِ إليهم بأوصافٍ [564] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/382، 383). .
- وقَولُه: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فيه الإشارةُ إليهم بإشارةِ البَعيدِ أُولَئِكَ؛ للتَّنويهِ بسُفولِهم، وانحِطاطِ مَرتبَتِهم [565] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 181). .
- وما أحسَنَ التَّعبيرَ بـ (في) الَّتي للظَّرفيَّةِ، في هذا الموضعِ! حيث تُشِيرُ إلى أنَّ الضَّلالَ قد أحاطَ بهم مِن كلِّ جانبٍ، كما تُحِيطُ الحُجْرةُ بساكِنِها، وإذا كان الضَّلالُ قد أحاطَ بهم مِن كلِّ جانبٍ، فإنَّه لا يُرْجى لهم خيرٌ -والعياذُ باللهِ تعالى-؛ لأنَّهم في ضَلالٍ مُبينٍ [566] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 179). .
3- قولُه تعالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
- قولُه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ... استِئنافٌ بَيانيٌّ نَشَأ بمُناسَبةِ المُضادَّةِ بيْن مَضمونِ جُملةِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] وبيْنَ مَضمونِ هذه الجُملةِ؛ وهو أنَّ القُرآنَ يُلينُ قُلوبَ الَّذين يَخشَوْنَ رَبَّهم؛ لِأنَّ مَضمونَ الجُملةِ السَّابِقةِ يُثيرُ سُؤالَ سائِلٍ عن وَجهِ قَسوةِ قُلوبِ الضَّالِّينَ مِن ذِكرِ اللهِ؛ فكانتْ جُملةُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، إلى قَولِه: مِنْ هَادٍ مُبَيِّنةً أنَّ قَساوةَ قُلوبِ الضَّالِّينَ مِن سَماعِ القُرآنِ إنَّما هي لِرَيْنٍ في قُلوبِهم وعُقولِهم، لا لِنَقصٍ في هِدايَتِه [567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/383). .
- وهذه الجُملةُ تَكميلٌ؛ لِلتَّنويهِ بالقُرآنِ المُفتَتَحِ به غَرَضُ السُّورةِ، وسيُقَفَّى بثَناءٍ آخَرَ عِندَ قَولِه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] ، ثمَّ بقَولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ [الزمر: 41] ، ثم بقَولِه: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/383). [الزمر: 55] .
- وإيقاعُ اسمِ اللهِ مُبتدَأً، وبِناءُ نَزَّلَ عليه: فيه تَفْخيمٌ لأحسَنِ الحديثِ، ورَفْعٌ منه، واستِشْهادٌ على حُسنِه، وتَأكيدٌ لاستِنادِه إلى اللهِ تعالى، وأنَّه مِن عِندِه، وأنَّ مِثلَه لا يجوزُ أنْ يَصدُرَ إلَّا عنه، وتَنْبيهٌ على أنَّه وَحْيٌ مُعجِزٌ مُبايِنٌ لِسائِرِ الأحاديثِ، حيثُ نَزَّلَه العَليمُ بنِهايةِ مَحاسِنِ الأخْبارِ والذِّكرِ [569] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/123)، ((تفسير البيضاوي)) (5/40)، ((تفسير أبي حيان)) (9/195)، ((تفسير أبي السعود)) (7/251)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/383). ، وحِكْمةُ البَدءِ باسْمِ اللهِ هو البُداءةُ بالأشرَفِ ثمَّ تذكرُ ما تُسنَدُ إليه، وهو كثيرٌ في القُرآنِ، كَقَولِه: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا [570] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/195). [الحج: 75] .
- والإخبارُ عنِ اسمِ الجَلالةِ بالخَبَرِ الفِعليِّ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يدُلُّ على تَقويةِ الحُكمِ وتَحقيقِه، ويُفيدُ مع التَّقويةِ دَلالةً على الاختِصاصِ، أيِ: اختِصاصَ تَنزيلِ الكِتابِ باللهِ تعالى؛ ففيه إثباتُ أنَّه مُنَزَّلٌ مِن الله تعالى، وأنَّ مِثلَ هذا الكَلامِ في حُسنِ نَظمِهِ وغَرابَتِه، وكَونِه جامِعًا للمَعارِفِ الحقَّةِ، وحائِزًا لِمَحاسِنِ الأخلاقِ، ومَكارِمِ الشِّيَمِ، لا يَنبَغي أنْ يَصدُرَ إلَّا عمَّنِ استُجمِعَ فيه الأسماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلْيا، وذلك أيضًا كِنايةٌ عن كَونِه وَحيًا مِن عِندِ اللهِ، لا مِن وضْعِ البَشَرِ؛ فدَلَّتِ الجُملةُ على تَقَوٍّ واختِصاصٍ بالصَّراحةِ، وعلى اختِصاصٍ بالكِنايةِ، وإذْ أُخِذَ مَفهومُ القَصرِ ومَفهومُ الكِنايةِ -وهو المُغايِرُ لِمَنطوقِهما- كذلك يُؤخَذُ مُغايِرُ التَّنزيلِ فِعلًا يَليقُ بوَضعِ البَشَرِ، فالتَّقديرُ: لا غَيرُ اللهِ وَضَعَه، رَدًّا لِقَولِ المُشرِكينَ: هو أساطيرُ الأوَّلينَ [571] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/368)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/383، 384). .
- ومُفادُ تَقْديمِ لَفظِ الجلالةِ على الخَبَرِ الفِعْليِّ فيه تَحْقيقٌ لِمَا تَضمَّنَتْه الإضافةُ مِن التَّعْظيمِ لِشَأنِ المُضافِ في قَولِه تعالى: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] ؛ فالمُرادُ بـ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ عَينُ المُرادِ بـ ذِكْرِ اللَّهِ، وهو القُرآنُ، عَدَل عن ذِكرِ ضَميرِه؛ لِقَصدِ إجراءِ الأوصافِ عليه، وهي قَولُه: كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ إلخ [572] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/368)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/384). .
- وفي قولِه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا وُصِفَ القُرآنُ بأنَّه أحسَنُ الحَديثِ، أيْ: أحسَنُ الخَبَرِ، والتَّعريفُ لِلجِنسِ، وسُمِّيَ حَديثًا؛ لِأنَّ شَأنَ الإخبارِ أنْ يَكونَ عن أمْرٍ حَدَثَ ووُجِدَ، وسُمِّيَ القُرآنُ حَديثًا باسمِ بَعضِ ما اشتَمَلَ عليه مِن أخبارِ الأُمَمِ والوَعدِ والوَعيدِ، وأمَّا ما فيه مِن الإنشاءِ مِن أمْرٍ ونهْيٍ ونحوِهما، فإنَّه لَمَّا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبلِّغَه للنَّاسِ؛ آلَ إلى أنَّه إخبارٌ عن أمْرِ اللهِ ونهْيِه [573] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/384). .
- ووُصِفَ القُرآنُ أيضًا بأنَّه كِتابٌ، أيْ: مَجموعُ كَلامٍ مُرادٍ قِراءَتُه وتِلاوَتُه والاستِفادةُ منه، مأمورٍ بكِتابَتِه؛ لِيَبقى حُجَّةً على مَرِّ الزَّمانِ؛ فإنَّ جَعْلَ الكَلامِ كِتابًا يَقتَضي أهمِّيَّةَ ذلك الكَلامِ، والعِنايةَ بتَنسيقِه، والاهتِمامَ بحِفظِه على حالَتِه، ولَمَّا سمَّى اللهُ القُرآنَ كِتابًا، كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأمُرُ كُتَّابَ الوَحْيِ مِن أصْحابِه أنْ يَكتُبوا كُلَّ آيةٍ تَنزِلُ مِن الوَحْيِ في المَوضِعِ المُعَيَّنِ لها بيْنَ أخَواتِها؛ استِنادًا إلى أمْرٍ مِن اللهِ؛ لأنَّ اللهَ أشارَ إلى الأمْرِ بكِتابتِه في مَواضِعَ كَثيرةٍ، مِن أوَّلِها قَولُه تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21، 22]، وقَولُه: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [574] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/385). [الواقعة: 77، 78].
- وفي قولِه: كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ وُصِفَ الكتابُ بأنَّه مُتشابِهٌ، أي: مُتشابِهةٌ أجزاؤُه، مُتماثِلةٌ في فَصاحةِ ألْفاظِها، وشرَفَ مَعانِيها، ولا تَناقُضَ فيها ولا تَعارُضَ؛ فهي مُتكافئةٌ في الشَّرَفِ والحُسنِ، فمَعانيه مُتشابِهةٌ في صِحَّتِها وأحكامِها، وابتِنائِها على الحقِّ والصِّدْقِ، وإصابتِها المِحَزَّ [575] المَحَزُّ: مَوضِعُ الحَزِّ، أي: القَطعِ. وأصابَ المحَزَّ: عبارةٌ عن فِعلِ الأمرِ على ما يَنبَغي ويَليقُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 71)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 873). مِن الحُجَّةِ، وتَبْكيتِ الخُصومِ، وكَونِها صلاحًا للنَّاسِ وهُدًى، وألفاظُه مُتماثِلةٌ في الشَّرَفِ والفصاحةِ، والإصابةِ للأغراضِ مِن المعاني، بحيث تَبلُغُ ألفاظُه ومَعانيه أقْصى ما تَحتمِلُه أشرَفُ لُغةٍ للبشرِ -وهي اللُّغةُ العربيَّةُ-؛ مُفرَداتٍ ونظْمًا، فتَجاوَبَ نَظْمُه وتَأليفُه في الإعْجازِ، وبذلك كان مُعجِزًا لكلِّ بَليغٍ عن أنْ يَأتيَ بمِثْلِه، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ جَميعَ آياتِ القُرآنِ بالغةٌ الطَّرَفَ الأعلَى مِن البَلاغةِ، وأنَّها مُتَساويةٌ في ذلك بحَسَبِ ما يَقتَضيه حالُ كُلِّ آيةٍ مِنها، وأمَّا تَفاوُتُها في كثرةِ الخُصوصيَّاتِ وقِلَّتِها، فذلك تابعٌ لاختلافِ المقاماتِ ومُقتضياتِ الأحوالِ؛ فإنَّ بلاغةَ الكلامِ مُطابَقتُه لِمُقتضَى الحالِ، والطَّرَفُ الأعلَى مِن البلاغةِ هو مُطابَقةُ الكلامِ لِجَميعِ ما يَقتضِيه الحالُ؛ فآياتُ القرآنِ مُتماثِلةٌ مُتشابِهةٌ في الحُسْنِ لَدى أهْلِ الذَّوقِ مِن البُلَغاءِ بالسَّليقةِ أو بالعِلْمِ، وهو في هذا مُخالِفٌ لِغَيرِه مِن الكلامِ البليغِ؛ فإنَّ ذلك لا يَخْلو عن تَفاوُتٍ رُبَّما بلَغَ بعْضُه مَبلَغَ ألَّا يُشبِهَ بقيَّتَه، وهذا المعنى ممَّا يَدخُلُ في قولِه تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82]؛ فالكاتبُ البليغُ والشَّاعرُ المُجيدُ لا يَخْلو كلامُ أحدٍ منهما مِن ضَعفٍ في بَعضِه، وأيضًا لا تَتشابَهُ أقوالُ أحدٍ منهما، بلْ تجِدُ لكلٍّ منهما قِطَعًا مُتفاوِتةً في الحُسْنِ والبلاغةِ وصِحَّةِ المعاني. وبما قُرِّر تَعلَمُ أنَّ المُتشابِهَ هنا مُرادٌ به معنًى غيرُ المرادِ في قولِه تعالى: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] ؛ لاختِلافِ ما فيه التَّشابُهُ [576] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/123)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((تفسير أبي حيان)) (9/195)، ((تفسير أبي السعود)) (7/251)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/385، 386). .
- ووُصِفَ القُرآنُ بكَونِه مَثَانِيَ وهو جَمعُ (مُثَنَّى) جَمْعًا على غَيرِ قِياسٍ، أو اسْمُ جَمْعٍ بمَعْنى مُردَّدٍ ومُكرَّرٍ؛ لِمَا ثُنِّيَ من قَصَصِه، وأنْبائِه، وأحْكامِه، وأوامِرِه، ونَواهيه، ووَعْدِه، ووَعيدِه، ومَواعِظِه، وقيلَ: لأنَّه يُثنَّى في التِّلاوةِ. ويجوزُ كَوْنُه جَمْعَ (مَثْنَى)، وهو اسمٌ لجعلِ المَعْدودِ أزواجًا اثنَينِ، اثنَينِ، مِن التَّثنيةِ، بمَعْنى التَّكريرِ والإعادةِ، كما في قَولِه تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] ، أي: كَرَّةً بعدَ كرَّةٍ، وكِلا الاحتِمالَينِ يُطلَقُ على مَعْنى التَّكْريرِ، فكُنِّيَ عن مَعنى التَّكريرِ بمادَّةِ التَّثنيةِ؛ لِأنَّ التَّثنيةَ أُولى مَراتِبِ التَّكريرِ، فالقرآنُ مَثَانِيَ؛ لأنَّه مُكرَّرُ الأغراضِ، وهذا يَتضَمَّنُ امتِنانًا على الأُمَّةِ بأنَّ أغراضَ كِتابِها مُكرَّرةٌ فيه؛ لِتَكونَ مَقاصِدُه أرسَخَ في نُفوسِها، ولِيَسمَعَها مَن فاتَه سَماعُ أمثالِها مِن قَبْلُ [577] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/123)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/368)، ((تفسير أبي حيان)) (9/195)، ((تفسير أبي السعود)) (7/251)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/386، 387)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/410). .
- ويجوزُ أنْ يكونَ مَثَانِيَ بَيانًا لِكَونِه مُتَشَابِهًا؛ لأنَّ القِصصَ المُكرَّرةَ لا تكونُ إلَّا مُتشابِهةً [578] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/123). .
- ووَصْفُ المُفرَدِ كِتَابًا باللَّفظِ الجَمعِ مَثَانِيَ -وهو مُقتَضٍ التَّعدُّدَ- يُعيِّنُ أنَّ هذا الوَصْفَ جَرَى عليه باعتِبارِ أجْزائِه، أي: سُوَرِه أو آياتِه، باعتِبارِ أنَّ كُلَّ غَرَضٍ منه يُكرَّرُ، أي: باعتِبارِ تَباعيضِه؛ لِأنَّ الكِتابَ جُملةٌ ذاتُ تَفاصيلَ، ألَا تَراكَ تَقولُ: القُرآنُ أسباعٌ وأخماسٌ، وسُوَرٌ وآياتٌ، وأقاصيصُ وأحكامٌ، ومَواعِظُ مُكَرَّراتٌ، ونَظيرُه قَولُكَ: الإنسانُ عِظامٌ وعُروقٌ وأعصابٌ [579] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/123)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((تفسير أبي حيان)) (9/195)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/387)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/410، 411). .
- قولُه: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ... استِئنافٌ مَسوقٌ لِبَيانِ آثارِ القُرآنِ العظيمِ الظَّاهِرةِ في سامِعيه، بعدَ بَيانِ أوصافهِ في نَفْسِه، ولِتَقريرِ كَونِه أحسَنَ الحَديثِ، أو صفةٌ لـ كِتَابًا، أو حالٌ منهُ لتخصُّصِه بالصِّفةِ [580] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/251). .
- وهذا الوَصفُ مُرتَّبٌ على الوَصفِ قَبْلَه، وهو كَوْنُ القُرآنِ مَثانيَ، أيْ: مُثَنَّى الأغراضِ، وهو مُشتَمِلٌ على عِدَّةِ جِهاتٍ؛ منها: وَصْفُ القُرآنِ بالجَلالةِ والرَّوعةِ في قُلوبِ سامِعيه؛ وذلك لِمَا في آياتِه الكَثيرةِ مِنَ المَوعِظةِ الَّتي تَوْجَلُ منها القُلوبُ، وهو وصْفُ كَمالٍ؛ لِأنَّه مِن آثارِ قُوَّةِ تأثيرِ كلامِه في النُّفوسِ. ومِن جِهاتِ هذا الوَصفِ: لِينُ قُلوبِ المُؤمِنينَ عِندَ سَماعِه أيضًا عَقِبَ وَجَلِها العارِضِ مِن سَماعِه قَبْلُ. الجِهةُ الثَّالِثةُ مِن جِهاتِ هذا الوَصفِ: أُعْجوبةُ جَمعِهِ بيْنَ التَّأثيرَينِ المُتَضادَّينِ: مرَّةً بتَأْثيرِ الرَّهْبةِ، ومرَّةً بتَأْثيرِ الرَّغْبةِ [581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/387 - 289). .
- وقدِ اقتَضى قَولُه: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أنَّ القُرآنَ يَشتَمِلُ على مَعانٍ تَقشَعِرُّ منها الجُلودُ، وهي المَعاني المَوسومةُ بالجَزالةِ الَّتي تُثيرُ في النُّفوسِ رَوعةً وجَلالةً ورَهبةً تَبعَثُ على امتِثالِ السَّامِعينَ له، وعَمَلِهم بما يَتَلقَّونَه مِن قَوارِعِ القُرآنِ وزَواجِرِه، وكُنِّيَ عن ذلك بحالةٍ تُقارِنُ انفِعالَ الخَشيةِ والرَّهبةِ في النَّفْسِ؛ لِأنَّ الإنسانَ إذا ارتاعَ وخَشيَ، اقشَعَرَّ جِلدُه مِن أثَرِ هذا الانفِعالِ، ومَعنى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ: تَقشَعِرُّ مِن سَماعِه وفَهمِه؛ فإنَّ السَّماعَ والفَهْمَ يَومَئذٍ مُتَقارِنانِ؛ لأنَّ السَّامِعينَ أهْلُ اللِّسانِ، يُقالُ: اقْشعَرَّ الجِلدُ: إذا تقبَّضَ تَقبُّضًا شَديدًا، وتَركيبُه مِن حُروفِ القشْعِ، وهو الأديمُ اليابِسُ، مُضمومًا إليها حرفٌ رابعٌ، وهو الرَّاءُ؛ لِيَكونُ رُباعيًّا ودالًّا على معنًى زائدٍ؛ يقال: اقْشَعَرَّ جِلدُه مِن الخَوفِ، وقَفَّ شَعرُه، وهو مَثَلٌ في شِدَّةِ الخَوفِ، وكِنايةٌ عن وَجَلِ القُلوبِ الَّذي تَلزَمُه قُشَعْريرةٌ في الجِلدِ غالِبًا، فيجوزُ أنْ يُريدَ به اللهُ سُبْحانَه التَّمْثيلَ؛ تَصْويرًا لإفْراطِ خَشيَتِهم، وأنْ يُريدَ التَّحقيقَ، والمَعْنى: أنَّهم إذا سَمِعوا بالقُرآنِ وبآياتِ وَعيدِهِ: أصابَتْهم خَشْيةٌ تَقشعِرُّ منها جُلودُهم، ثُمَّ إذا ذَكَروا اللهَ ورَحْمَتَه وَجُودَه بالمَغْفِرةِ: لَانَتْ جُلودُهم وقُلوبُهم، وزالَ عنها ما كان بها مِن الخَشْيةِ والقُشَعْريرةِ. وقيلَ: إنَّ المَعنى أنَّ القُرآنَ لَمَّا كان في غايةِ الجَزالةِ والبَلاغةِ، كانوا إذا رَأوْا عَجْزَهم عن مُعارَضَتِه اقشَعَرَّتِ الجُلودُ منه؛ إعظامًا له، وتَعَجُّبًا مِن حُسنِه وبَلاغَتِه، ثمَّ تَلينُ جُلودُهم وقُلوبُهم إلى ذِكرِ اللهِ [582] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/124)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/368)، ((تفسير أبي حيان)) (9/195، 196)، ((تفسير أبي السعود)) (7/251)، ((تفسير الشوكاني)) (4/527)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/388)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/411). .
- وخَصَّ القُشَعْريرةَ بالَّذين يَخْشَون ربَّهم، باعتِبارِ ما سيُرْدَفُ به مِن قولِه: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/387، 388). .
- وضُمِّنَ تَلِينُ مَعنى تَطمَئِنُّ جُلودُهم لَيِّنةً غَيرَ مُنقَبِضةٍ، وقُلوبُهم راجيةٌ غَيرُ خاشيةٍ؛ ولذلك عَدَّاه بـ إِلَى [584] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/124)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((تفسير أبي حيان)) (9/196)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/391). . على أنَّ ذِكرَ اللِّينِ هنا أبلَغُ مِن ذِكرِ الطُّمأنينةِ؛ لأنَّ القُشَعْريرةَ تَقْتضي نُشوزَ الجِلدِ وارتفاعَه وتَصلُّبَه، والَّذي يُقابِلُ ذلك اللِّينُ والهُدوءُ؛ فذِكرُ اللِّينِ هنا؛ لأنَّ الجِلدَ إذا اقشعَرَّ يَتصلَّبُ، ولهذا تجِدُ أطرافَ الإنسانِ تَبرُدُ؛ لانحسارِ الدَّمِ عنها بعضَ الشَّيءِ، فإذا هدَأَ الرَّوعُ فإنَّه يَلِينُ ويَزولُ ذلك التَّصلُّبُ [585] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 191). .
- واللِّينُ: مُعبَّرٌ به عن القَبولِ والسُّرورِ، وهو ضِدٌّ للقَساوةِ الَّتي في قَولِه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] ، فإنَّ المُؤمِنَ إذا سَمِعَ آياتِ الوَعيدِ والتَّهْديدِ يَخْشى ربَّه، ويَتَجنَّبُ ما حذَّرَ منه، فيَقشعِرُّ جِلدُه، فإذا عقَّبَ ذلك بآياتِ البِشارةِ والوَعدِ استَبْشَرَ وفَرِحَ، وعرَضَ أعْمالَهُ على تلك الآياتِ، فرأى نفْسَه مُتحلِّيةً بالعَمَلِ الَّذي وَعَدَ اللهُ عليه بالثَّوابِ، فاطمَأَنَّتْ نَفْسُه، وانقَلَبَ الوَجَلُ والخَوفُ رجاءً وتَرقُّبًا، فذلك مَعْنى لِينِ القُلوبِ [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/390). .
- وجُمِعَ بيْنَ الجُلودِ والقُلوبِ في قَولِه: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ولم يُكتَفَ بأحَدِ الأمْرَينِ عنِ الآخَرِ كما اكتُفِيَ في قَولِه: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ؛ لِأنَّ اقشِعرارَ الجُلودِ حالةٌ طارِئةٌ عليها، لا يَكونُ إلَّا مِن وَجَلِ القُلوبِ ورَوعَتِها، فكُنِّيَ به عن تلك الرَّوعةِ، وأمَّا لِينُ الجُلودِ عَقِبَ تلك القُشَعْريرةِ فهو رُجوعُ الجُلودِ إلى حالَتِها السَّابِقةِ قبْلَ اقشِعرارِها، وذلك قد يَحصُلُ عن تَناسٍ أو تَشاغُلٍ بَعدَ تلك الرَّوعةِ، فعُطِفَ عليه لِينُ القُلوبِ؛ لِيُعلَمَ أنَّه لِينٌ خاصٌّ ناشئٌ عنِ اطمِئنانِ القُلوبِ بالذِّكرِ، كما قال تَعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ، وليس مُجَرَّدَ رُجوعِ الجُلودِ إلى حالَتِها الَّتي كانت قبْلَ القُشَعْريرةِ، ولم يُكتَفَ بذِكرِ لِينِ القُلوبِ عن لِينِ الجُلودِ؛ لِأنَّه قُصِدَ أنَّ لِينَ القُلوبِ أفعَمَها حتَّى ظَهَر أثَرُه على ظاهِرِ الجُلودِ [587] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/390). . أو ذُكرَتِ الجُلودُ وَحْدَها أوَّلًا، ثمَّ قُرِنتْ بها القُلوبُ؛ لِأنَّه إذا ذُكِرتِ الخَشيةُ الَّتي مَحَلُّها القُلوبُ فقد ذُكِرتِ القُلوبُ، فكان ذِكرُ القُلوبِ لِتقدُّمِ الخَشْيةِ الَّتي هي مِن عَوارِضِها، فكأنَّه قيلَ: تَقشَعِرُّ جُلودُهم مِن آياتِ الوَعيدِ، وتَخشى قُلوبُهم في أوَّلِ وَهْلةٍ، فإذا ذَكَروا اللهَ ومَبْنى أمْرِه على الرَّأفةِ والمَرحَمةِ، استَبدَلوا بالخَشيةِ رَجاءً في قُلوبِهم، وبالقُشَعْريرةِ لِينًا في جُلودِهم [588] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/124)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((تفسير أبي حيان)) (9/196)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/411). .
- وقيلَ: إنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وَصَف القُرآنَ المَجيدَ، وبالَغَ في مَدحِه حتَّى بَلَغ غايَتَه مِنَ الكَمالِ، على ما سَبَق في قَولِه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا، وأرادَ أنْ يُبيِّنَ كيفيَّةَ هِدايَتِه لِلخَلقِ، فإنَّ جُلَّ الغَرَضِ مِنَ الكُتُبِ السَّماويَّةِ الهِدايةُ؛ قال: مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، يَعْني: مَن أرادُ اللهُ أنْ يَهدِيَه به أوْقَعَ في قَلبِهِ الخَشْيةَ، كقَولِه: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ، ثُمَّ يَتأثَّرُ منه ظاهِرُه بأنْ يأخُذَه في بَدءِ الحالِ قُشَعْريرةٌ في الجِلْدِ؛ لِضَعفِ الحالِ أو قُوَّةِ سَطْوةِ الوارِدِ، فإذا أدْمَنَ سَماعَه، وأَلِفَ أنْوارَه، تَلينُ جُلودُه، فيتأثَّرُ منه القَلْبُ، فيَطمَئِنُّ إليه، فتَنقلِبُ النَّفْسُ الأمَّارةُ مُطمَئِنَّةً، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ، فكما يتأثَّرُ الظَّاهِرُ مِن القَلبِ في بَدءِ الحالِ، يَنعَكِسُ في ثاني الحالِ، ويتأثَّرُ القَلْبُ مِن الظَّاهِرِ؛ ولذلك جُعِلَ اقْشِعرارُ الجِلدِ تابعًا لِخَشْيةِ اللهِ أوَّلًا، ولِينُ القَلْبِ تابعًا لِلِينِ الجِلْدِ ثانيًا، فيَستَمِدُّ الظَّاهِرُ مِن الباطِنِ أنْوارَه، والباطِنُ مِن الظَّاهِرِ آثارَه، فلا يَزالانِ يَتَناوَبانِ حتَّى يَصعَدَ السَّالِكُ بذلك إلى مَدارِجِ القُدسِ، ومَعارِجِ الكَمالِ، فيَتوطَّنُ في مَخدَعِ القُربِ، ثمَّ يَفيضُ نورُهُ المُسْتَفيضُ على الغَيرِ، كما قال تعالى: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وكُشِفَ عن القِناعِ، حيث أشارَ مَن صَحِبَ أولئك ورآهُمْ خاشِينَ راجِينَ، فكان ذلك مُرغِّبًا لهم في الاقتِداءِ بسيرتِهِم، وسُلوكِ طَريقَتِهِم، رَزَقَنا اللهُ الاقتِداءَ بهم بفَضلِه وجُودِه [589] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/373، 374). .
- وكان في ذِكْرِ القُلوبِ في هذه الجُملةِ دليلٌ على تأثُّرِها عِندَ السَّماعِ، فاكْتَفَى بقُشَعْريرةِ الجُلودِ عن ذِكرِ خَشْيةِ القُلوبِ لِقيامِ المُسبَّبِ مَقامَ السَّبَبِ، فلمَّا ذكَرَ اللِّينَ ذَكَرهما، وفي ذِكرِ اللِّينِ دَليلٌ على المَحذوفِ الَّذي هو رَحمةُ اللهِ، كما كان في قَولِه: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] دَليلٌ بقَولِه: وَجِلَتْ عن ذِكرِ المَحذوفِ، أي: إذا ذُكِرَ وَعيدُ اللهِ وبَطشُه [590] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/196). .
- و(ذِكْر اللَّهِ) هو (أَحْسَنُ الْحَدِيثِ)، وعُدِلَ عن ضَميرِه في قولِه: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ؛ لِبُعدِ الـمعادِ، وعُدِلَ عن إعادةِ اسمِه السَّابِقِ؛ لِمَدحِه بأنَّه ذِكرٌ مِنَ اللهِ بَعدَ أنْ مُدِحَ بأنَّه أحسَنُ الحَديثِ، والمُرادُ بذِكرِ اللهِ: ما في آياتِه مِن ذِكرِ الرَّحمةِ والبِشارةِ؛ وذلك أنَّ القُرآنَ ما ذَكَرَ مَوعِظةً وتَرهيبًا إلَّا أعقَبَها بتَرغيبٍ وبِشارةٍ [591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/391). .
وقيل: مفعولُ ذِكْرِ اللَّهِ محذوفٌ، والتقديرُ: إلى ذكرِ الله رحمتَه وثوابَه وجنتَه. وحُذف؛ للعِلم به [592] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/527). .
- وقيل: لم يَقُلْ سُبحانَه: «لذكرِ اللهِ»! بل قال: إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وكأنَّ هذا اللِّينَ صار له غايةً، وهو ذِكْرُ اللهِ عزَّ وجلَّ [593] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 191). .
- واقتُصِرَ على ذِكْرِ اللَّهِ، مِن غَيرِ ذِكرِ الرَّحمةِ؛ لِأنَّ أصْلَ أمْرِه الرَّحمةُ والرَّأفةُ، ورَحمَتُه سابِقةٌ غَضَبَه، فلِأصالةِ رَحمَتِه إذا ذُكِرَ لم يَخطُرْ بالبالِ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ مِن صِفاتِه إلَّا كَونُه رَؤوفًا رَحيمًا [594] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/124). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ ذُكِرَ للمؤمنينَ هنا في هذه الآيةِ حالتانِ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ؛ لِوُقوعِها بعْدَ قولِه: مَثَانِيَ، وفي سُورةِ (الأنفالِ) اقتُصِرَ على وَصْفِ اللهِ المؤمنينَ بالوَجَلِ في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ المقامَ هنا لِبَيانِ تأثُّرِ المؤمنينَ بالقرآنِ، والمقامَ هنالك للثَّناءِ على المؤمنينَ بالخشيةِ مِن اللهِ في غيرِ حالةِ قِراءةِ القرآنِ [595] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/390). .
- قولُه: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ فإنَّ إجراءَ الصِّفاتِ الغُرِّ على القُرآنِ الدَّالَّةِ على أنَّه قدِ استَكمَلَ أقصَى ما يُوصَفُ به كَلامٌ بالِغٌ في نُفوسِ المُخاطَبينَ كيف سُلِكَتْ آثارُه إلى نُفوسِ الَّذين يَخشَوْنَ رَبَّهم؛ مِمَّا يُثيرُ سُؤالًا يَهجِسُ في نَفْسِ السَّامِعِ أنْ يَقولَ: كيف لم تَتأثَّرْ به نُفوسُ فَريقِ المُصِرِّينَ على الكُفرِ وهو يَقرَعُ أسماعَهم يَومًا فيَومًا؟ فتَقَعُ جُملةُ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ جَوابًا عن هذا السُّؤالِ الهاجِسِ [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/391). .
- والإشارةُ إلى مَضمونِ صِفاتِ القُرآنِ المَذكورةِ وتأثُّرِ المُؤمِنينَ بهَدْيِه، أيْ: ذلك المَذكورُ هُدى اللهِ، أيْ: جَعَله اللهُ سَبَبًا كامِلًا جامِعًا لِوَسائِلِ الهُدى.
 ويجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وهو الكتابُ، أي: ذلك القرآنُ هُدى اللهِ، أي: دليلُ هُدى اللهِ ومَقصدُه؛ اهتدى به مَن شاء اللهُ اهتِداءَه، وكفَرَ به مَن شاء اللهُ ضَلالَه [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/391، 392). .
- وجُملةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ تَذييلٌ للاستِئنافِ البَيانيِّ [598] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/392). .
- وفي قَولِه: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ احتِباكٌ [599] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذكَرَ أوَّلًا: إطلاقَ أمْرِه في الهدايةِ دَليلًا على حَذفِ مِثلِه في الضَّلالِ، وثانيًا: انسِدادَ بابِ الهدايةِ على مَن أضَلَّه دَليلًا على حَذْفِ مِثْلِه فيمَن هداه، وهي دامِغةٌ للقَدَريَّةِ [600] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/491). .