موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (45-54)

ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ

غريب الكلمات:

قَبَضْنَاهُ: أي: أزَلْناه ونسَخْناه، وأصلُ (قبض): يدُلُّ على شيءٍ مأخوذٍ .
لِبَاسًا: أي: ساتِرًا وغِشاءً، وأصلُ (لبس): يدُلُّ على مُخالَطةٍ ومُداخَلةٍ .
سُبَاتًا: أي: راحةً لأبدانِكم، وقَطعًا لأعمالِكم، وأصلُ (سبت): يدُلُّ على القَطعِ .
نُشُورًا: أي: يَقَظةً وحياةً، يَنتشِرونَ فيه، ويَبتَغونَ الرِّزقَ، ويَتصرَّفونَ في حاجاتِهم، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتَشَعُّبِه .
بُشْرًا: أي: مُبَشِّراتٍ بالغَيثِ، والبُشرى تُطلَقُ على الإِخْبار بِمَا يَسُرُّ، وما يُعطَى للمُبشَّرِ، وأصلُ (بشر): ظهورُ الشَّيءِ مع حُسْنٍ وجَمالٍ .
وَأَنَاسِيَّ: الأناسيُّ: جَمعُ إنسيٍّ، وهو مرادِفُ إنسانٍ، مِثلُ كُرسيٍّ وكَراسيَّ، وأصلُ (أنس): يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ، وكلِّ شَيءٍ خالَفَ طريقةَ التَّوحُّشِ .
صَرَّفْنَاهُ: قسَّمْناه، يعني المطرَ: يَسقي أرضًا، ويتركُ أرضًا، وأصلُ (صرف): يدُلُّ على رَجعِ الشَّيءِ .
كُفُورًا: أي: جُحُودًا، وأصلُ (كفر): يدُلُّ على السَّترِ والتَّغطيةِ .
مَرَجَ: أي: خلَطَ أو خلَّى بيْنهما، وأصلُ (مرج): يدُلُّ على مجيءٍ وذَهابٍ واضطرابٍ .
فُرَاتٌ: الفُراتُ: الماءُ الشَّديدُ العُذوبةِ، قِيل: سُمِّي الماءُ الحُلوُ فُراتًا؛ لأنَّه يَفْرُتُ العطشُ، أي: يقطَعُه ويكسِرُه .
أُجَاجٌ: أي: شَديدُ المُلوحةِ، وأصلُ (أجج): يدُلُّ على الشِّدَّةِ .
بَرْزَخًا: أي: حاجِزًا ومانِعًا؛ لئلَّا يَختلطَا، وكلُّ حاجزٍ بيْنَ شَيئينِ فهو برزخٌ .
وَحِجْرًا مَحْجُورًا: أي: حَرامًا مُحَرَّمًا على صاحبِه أنْ يُغَيِّرَه ويُفْسِدَه، أو مانِعًا مَمْنوعًا، وأصلُ (حجر): المَنعُ والإحاطَةُ على الشَّيءِ .
نَسَبًا: النَّسبُ: اشتِراكٌ مِن جهةِ أحدِ الأبوَينِ، أي: أن يجتمعَ إنسانٌ مع آخَرَ في أبٍ أو أمٍّ، قرُبَ ذلك أو بعُدَ، وقيل: نَسَبًا أي: ذا نسبٍ، وهو ما لا يَحِلُّ نكاحُه، وأصلُ (نسب): اتِّصالُ شَيءٍ بشَيءٍ، ومنه النَّسَبُ؛ سُمِّيَ لِاتِّصالِه ولِلاتِّصالِ به .
وَصِهْرًا: الصِّهرُ: قرابةُ النِّكاحِ، وأهلُ بَيتِ المرأةِ، وأصلُ (صهر): يدُلُّ على قُربى .

المعنى الإجمالي:

يَذكُرُ الله تعالى بعضَ مظاهرِ قدرتِه، ويمتَنُّ على عبادِه ببيانِ بعضِ النِّعمِ التي أنعَم بها عليهم، فيقول: ألمْ ترَ -يا محمَّدُ- إلى كيفيَّةِ بسْطِ رَبِّك الظِّلَّ على الأرضِ مِن بعْدِ طُلوعِ الفَجرِ إلى طُلوعِ الشَّمسِ، ولو شاء اللهُ لجعَلَ الظِّلَّ دائمًا لا يتحَرَّكُ، ثمَّ جعَلَ الشَّمسَ عندَ طلوعِها دالَّةً على الظِّلِّ، ثمَّ نقَصَ ذلك الظِّلَّ.
واللهُ سُبحانَه الذي جعَلَ لكم اللَّيلَ سِترًا يَستُرُكم بظَلامِه، وجعَل النَّومَ قاطعًا لحركتِكم لِتَستريحوا، وجعل النَّهارَ حياةً تنتَشِرونَ فيه لطلَبِ الأرزاقِ.
واللهُ وحْدَه الذي أرسَلَ الرِّياحَ تبَشِّرُ النَّاسَ بنُزولِ المطَرِ، وأنزَل مِن السَّماءِ ماءَ المطَرِ الطَّهورَ؛ ليُحييَ به أرضًا مُجدِبةً لا نباتَ فيها، ويَسقيَ به ما خلَقَه مِن الأنعامِ والنَّاسِ.
ولقد قسَّم سُبحانَه ماءَ المطَرِ بيْن النَّاسِ للتذكُّرِ والاعتِبارِ، فأبى أكثَرُ النَّاسِ إلَّا الكُفرَ باللهِ والجُحودَ، ولو شاء اللهُ تعالى لجعَلَ في كلِّ قَريةٍ رَسولًا يُنذِرُ النَّاسَ عَذابَ اللهِ ويدعوهم إليه؛ فلا تُطِعِ الكافرين -يا محمَّدُ- فيما يُريدونَه مِن عبادةِ آلهتِهم، أو تَرْكِ شَيءٍ مما أُرسِلتَ به، وجاهِدْهم بالقُرآنِ جِهادًا شديدًا.
واللهُ وحْدَه هو الذي أرسل البَحرينِ وخلَّاهما؛ أحدُهما شديدُ العذوبةِ، والآخَرُ شديدُ الملوحةِ، وهو بقدرتِه يَفصِلُ بيْنهما ويمنَعُهما التَّمازُجَ والاختِلاطَ.
 وهو وحْدَه الذي خلَقَ مِن المَنيِّ إنسانًا، فجعَلَ ذلك الإنسانَ ذا نَسَبٍ وذا صِهرٍ، ولم يزَلْ سُبحانَه قَديرًا على كلِّ شَيءٍ.

تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمّا بَيَّنَ سُبحانَه جهْلَ المُعرِضين عن دلائلِه، وفَسادَ طريقِهم في ذلك؛ ذَكَرَ بعْدَه أنواعًا مِن الدَّلائلِ الدالَّةِ على وجودِ الصَّانعِ، فقال تعالى :
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا.
أي: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- إلى هيئةِ بسْطِ رَبِّك الظِّلَّ على الأرضِ مِن بعْدِ طُلوعِ الفَجرِ إلى طُلوعِ الشَّمسِ، ولو شاء اللهُ لجعَلَ الظِّلَّ مَمدودًا دائِمًا لا يتحَرَّكُ بزيادةٍ ولا نُقصانٍ ؟!
ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا.
أي: ثمَّ جعَلْنا الشَّمسَ عندَ طلوعِها دالَّةً على الظِّلِّ؛ فهو يَتبَعُها، ويتفاوَتُ بحَركتِها .
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا.
أي: ثمَّ نَقَصْنا ذلك الظِّلَّ الممدودَ بسُهولةٍ وتدريجٍ .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
مُناسَبةُ الانتِقالِ مِن الاستِدلالِ باعتبارِ أحوالِ الظِّلِّ والضَّحاءِ إلى الاعتِبارِ بأحوالِ اللَّيلِ والنَّهارِ: ظاهِرةٌ؛ فاللَّيلُ يُشبِهُ الظِّلَّ في أنَّه ظُلمةٌ تَعقُبُ نورَ الشَّمسِ .
وأيضًا لَمَّا تضَمَّنتْ هذه الآيةُ اللَّيلَ والنهارَ؛ قال مُصَرِّحًا بهما دليلًا على الحَقِّ، وإظهارًا للنِّعمةِ على الخلْقِ :
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا.
أي: واللهُ هو الذي جعَلَ لكم اللَّيلَ -أيُّها النَّاسُ- غِطاءً وسِترًا يَستُركم ويُغشِّيكم بظَلامِه .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا [النبأ: 10].
وقال سُبحانَه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل: 1] .
وَالنَّوْمَ سُبَاتًا .
أي: وجعَل اللهُ لكم النَّومَ قاطِعًا لحركتِكم وأشغالِكم، فتستريحُ به أبدانُكم .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [النبأ: 9] .
وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا .
أي: وجعَل اللهُ لكم النَّهارَ حَياةً بعْدَ نَومِكم الذي يُشبِهُ الموتَ، ويَقَظةً تَنتَشِرون في ضيائِه لطَلَبِ الأرزاقِ .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الإسراء: 12] .
وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [غافر: 61] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ: 11] .
وعن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أراد أن ينامَ قال: باسمِك اللَّهمَّ أموتُ وأَحْيَا. وإذا استيقَظَ مِن مَنامِه قال: الحمدُ لله الذي أحيانا بعْدَ ما أماتَنا، وإليه النُّشورُ )) .
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا دلَّ على عظَمتِه بتصَرُّفِه في المعاني بالإيجادِ والإعدامِ، وخَتَمَه بالإماتةِ والإحياءِ بأسبابٍ قريبةٍ؛ أتبَعَه التصرُّفَ في الأعيانِ بمِثلِ ذلك؛ دالًّا على الإماتةِ والإحياءِ بأسبابٍ بعيدةٍ، وبدأه بما هو قريبٌ لِلَطافتِه مِن المعاني، فقال :
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ بُشْرًا أي: تُبشِّرُ بالمطَرِ .
2- قراءةُ نَشْرًا، قيل: المرادُ: يُرسِلُ الرِّياحَ حياةً، أي: تحيا بها البلادُ الميتةُ. وقيل: أي: تهبُّ مِن كُلِّ وجهٍ لجمعِ السَّحابِ الممطِرةِ. وقيل: النَّشْرُ مِن الرِّياحِ: الطيِّبةُ الليِّنةُ التي تُنشئُ السَّحابَ .      
3- قراءةُ نُشْرًا جمعُ نُشُورٍ، قيل: المرادُ: تنشرُ السَّحابَ وتَبسُطُها في السَّماءِ، وقيل: ليِّنةً طيِّبةً. وقيل: متفَرِّقةً، وهي الرِّياحُ التي تهبُّ مِن كُلِّ ناحيةٍ .
4- قراءةُ نُشُرًا جمعُ نُشُورٍ، قيل: المرادُ: تنشرُ السحابَ، وتبسطُها في السماءِ. وقيل: متفرقةً .
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.
أي: واللهُ وحْدَه الذي أرسَلَ الرِّياحَ فتبَشِّرُ النَّاسَ بمَجيءِ السَّحابِ ونُزولِ المطَرِ قبْلَ أن يفجَأَهم بنُزولِه .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان السَّحابُ قريبًا مِن الرِّيحِ في اللَّطافةِ، والماءُ قريبًا منهما، ومُسَبَّبًا عمَّا تحمِلُه الريحُ مِن السَّحابِ؛ أتبَعَهما به، فقال :
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا.
أي: وأنزَلْنا مِن السَّحابِ ماءَ المطَرِ، الطَّاهِرَ في نفْسِه، المطَهِّرَ لِغَيرِه .
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا.
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا.
أي: لِنُحييَ بالمطَرِ أرضًا مُجدِبةً لا نباتَ فيها .
كما قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .
وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا.
أي: ونُسقِيَ بالمطَرِ كَثيرًا مِمَّا خلَقْنا مِن الأنعامِ والنَّاسِ، فيَشرَبون مِن ماءِ المطَرِ، ويَسقُونَ به زُروعَهم .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، وعلَّلَه بحياةِ البَلدةِ المَيْتةِ، وسَقْيِ بعضِ الأنعامِ وبَعضِ الأَناسيِّ، عُرِف أنَّ ذلك كان بقَدْرِ الاحتِياجِ، ولا بدَّ مِن قادرٍ مُختارٍ عالِمٍ بجُزئيَّاتِ أحوالِ المَخلوقينَ، حتَّى يُحوِّلَ إلى كلٍّ مِن ذلك ما يَحتاجُ إليه ؛ فقال تعالى:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا.
أي: ولقد قسَّمْنا ماءَ المطَرِ بيْن النَّاسِ؛ لأجْلِ أن يتذكَّروا ويعتَبِروا .
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا.
أي: فلمْ يتذكَّرْ أكثَرُ النَّاسِ بتَصريفِ اللهِ للمطَرِ، وأصَرُّوا على الكُفرِ باللهِ، وجُحودِ نِعَمِه، وإنكارِ قُدرتِه وحِكمتِه .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 99] .
وقال سُبحانَه: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] .
وعن زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رضِيَ الله عنه، قال: ((صلَّى بنا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الصُّبحِ بالحُدَيْبِيَةِ في إثرِ السَّماءِ كانت من اللَّيلِ، فلمَّا انصرفَ أقبَلَ على النَّاسِ، فقال: هل تَدرُونَ ماذا قال ربُّكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: قال: أصبَحَ مِن عِبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ؛ فأمَّا مَن قال: مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورحمتِه، فذلك مؤمِنٌ بي كافِرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا مَن قال: مُطِرنا بنَوءِ كذا وكذا، فذلك كافِرٌ بي مؤمِنٌ بالكوكَبِ)) .
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا عَلِمَ تعالى ما كابَدَه الرَّسولُ مِن أذَى قَومِه؛ أعْلَمَه أنَّه تعالى لو أراد لَبَعثَ في كلِّ قريةٍ نذيرًا فيُخَفِّفُ عنك الأمرَ، ولكنَّه أعظَمَ أجرَك وأجَلَّك؛ إذْ جعَلَ إنذارَك عامًّا للنَّاسِ كلِّهم، وخَصَّك بذلك؛ لِيَكثُرَ ثوابُك؛ لأنَّه على كثرةِ المجاهَدةِ يكونُ الثَّوابُ، ولِيَجمعَ لك حَسَناتِ مَن آمَنَ بك؛ إذْ أنت مُؤَسِّسُها .
وأيضًا فهذه الآيةُ متَّصِلةٌ بقَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] الآيةَ، فبعْدَ أن بيَّنَ إبطالَ طَعنِهم، فقال: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان: 32] ، انتقَل إلى تنظيرِ القُرآنِ بالكتابِ الذي أوتيَه موسى عليه السَّلامُ وكيف استأصل اللهُ مَن كذَّبوه، ثمَّ استطرَد بذِكرِ أُمَمٍ كذَّبوا رسُلَهم، ثم انتقَل إلى استهزاءِ المُشرِكين بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشار إلى تحرُّجِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن إعراضِ قَومِه عن دعوتِه، بقَولِه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 43] . وتسلْسَلَ الكلامُ بضَربِ المثَلِ بمَدِّ الظِّلِّ وقَبضِه، وبحالِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وبإرسالِ الرِّياحِ، أمارةً على رحمةِ غَيثِه الذي تحيا به المَواتُ، حتى انتهى إلى قَولِه: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا [الفرقان: 51] ، ويؤيِّدُ ما ذكَرْنا اشتِمالُ التَّفريعِ على ضميرِ القُرآنِ في قَولِه: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ، وممَّا يَزيدُ هذه الآيةَ اتِّصالًا بقَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] : أنَّ في بَعثِ نذيرٍ إلى كُلِّ قَريةٍ ما هو أشَدُّ مِن تنزيلِ القرآنِ مجزَّأً، فلو بعَثَ اللهُ في كلِّ قَريةٍ نَذيرًا لقال الذين كفَروا: لولا أُرسِلَ رسولٌ واحِدٌ إلى الناسِ جميعًا؛ فإنَّ مَطاعِنَهم لا تقِفُ .
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا.
أي: ولو شِئْنا لجعَلْنا في كُلِّ مدينةٍ رَسولًا يُنذِرُ النَّاسَ عَذابَ اللهِ ويَدْعوهم إليه، ولكِنَّنا خَصَصْناك -يا محمَّدُ- بالرِّسالةِ إلى جميعِ النَّاسِ .
كما قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .
وقال سُبحانَه: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام: 92] .
وقال تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطِيتُ خَمسًا لم يُعطَهنَّ أحَدٌ قَبلي:... وكان النبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً، وبُعِثتُ إلى النَّاسِ عامَّةً )) .
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ سبحانَه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ما خَصَّصَه به مِن الكرامةِ؛ دعاه إلى مُقابَلةِ ذلك بعدَمِ طاعةِ أهلِ الكُفرِ، والثَّباتِ على جهادِهم بالقُرآنِ .
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ.
أي: فلا تُطِعِ الكافرينَ -يا محمَّدُ- فيما يَدْعونَك إليه مِن عبادةِ آلهتِهم، أو في تَركِ شَيءٍ مِمَّا أُرسِلْتَ به .
كما قال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 23، 24].
وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا.
أي: وجاهِدِ الكافرينَ -يا محمَّدُ- بالقُرآنِ جِهادًا شَديدًا بكُلِّ طاقتِك بلا فُتورٍ؛ نُصرةً للحَقِّ، وقمعًا للباطِلِ .
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
هذه الآيةُ عَودٌ إلى الاستِدلالِ على تفرُّدِه تعالى بالخَلقِ .
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ.
أي: واللهُ وحْدَه هو الذي أرسَل البَحرينِ وخلَّاهما، لا يَختلِطُ أحدُهما بالآخَرِ .
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ.
أي: أحدُهما شَديدُ الحَلاوةِ، والآخَرُ شَديدُ الملوحةِ والمرارةِ .
كما قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [فاطر: 12] .
وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا.
أي: وجعَلَ اللهُ بقُدرتِه بيْنهما حاجِزًا، ومانِعًا حصينًا يمنَعُهما منعًا شديدًا مِن الامتِزاجِ والاختِلاطِ ببَعضِهما .
كما قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا [النمل: 61] .
وقال سُبحانَه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ [الرحمن: 19، 20].
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى قُدرتَه في منْعِ الماءِ مِن الاختِلاطِ؛ أتبَعَه القُدرةَ على خَلطِه؛ لئلَّا يُظَنَّ أنَّه مُمتَنِعٌ؛ تقريرًا للفِعلِ بالاختيارِ، وإبطالًا للقَولِ بالطَّبائعِ .
وأيضًا فمُناسَبةُ مَوقِعِ هذا الاستِدلالِ بعْدَ ما قبْلَه أنَّه استِدلالٌ بدَقيقِ آثارِ القُدرةِ في تكوينِ المياهِ وجعْلِها سببَ حياةٍ مُختلِفةِ الأشكالِ والأوضاعِ، ومِن أعظَمِها دقائقُ الماءِ الذي خُلِقَ منه أشرفُ الأنواعِ التي على الأرضِ، وهو نطفةُ الإنسانِ؛ بأنَّها سببُ تكوينِ النَّسلِ للبشَرِ؛ فإنَّه يكونُ أوَّلَ أمرِه ماءً، ثم يتخلَّقُ منه البَشرُ العظيمُ .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا.
أي: واللهُ وحْدَه هو الذي خلَقَ مِن المَنيِّ إنسانًا ذكَرًا أو أُنثى .
فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا.
أي: فجعَلَ اللهُ الإنسانَ ذا نَسَبٍ، وذا صِهرٍ .
وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا.
أي: ولم يَزَلْ رَبُّك -يا محمَّدُ- مُتَّصِفًا بكَمالِ القُدرةِ، ومِن ذلك قُدرتُه البالِغةُ على خَلقِ ما يشاءُ .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا أنَّه ينبغي للإنسانِ ألَّا يَجعَلَ النِّعَمَ أُمورًا عاديَّةً لا بُدَّ منها، بل يُقَدِّرُها بضِدِّها، فمَثَلًا: طُلوعُ الشَّمسِ على هذه الأرضِ وغُروبُها أمرٌ مُعتادٌ، ومِن أجْلِ كَونِه مُعتادًا لا يُحِسُّ الإنسانُ بأنَّه نِعْمةٌ، لكِنْ قَدِّرْ هذا الشَّيءَ بضِدِّه وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا، كذلك فإنَّ خُروجَ النَّفَسِ مِن جِسمِ الإنسانِ أمرٌ مُعتادٌ؛ ولهذا لا يُحِسُّ الإنسانُ بقَدْرِ هذه النِّعْمةِ، لكِنْ قَدِّرْ أنَّ اللهَ تعالى لو شاءَ لحَبَسَه، وحينَئِذٍ يتَبيَّنُ قَدْرُ النِّعْمةِ .
2- قال الله تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا هذه الآيةُ نصٌّ صريحٌ في أنَّ الجهادَ في الدعوةِ إلى اللهِ وإحقاقِ الحقِّ: هو مِن الدِّينِ، وأنَّ إبطالَ الباطلِ مِن شُبَهِ المشبِّهِين، وضلالاتِ الضالِّين، وإنكارِ الجاحدِين: هو بالقرآنِ العظيمِ؛ ففيه بيانُ العقائدِ وأدلَّتِها، ورَدُّ الشُّبَهِ عنها، وفيه بيانُ الأخلاقِ محاسِنِها ومساويها، وطُرُقِ الوصولِ إلى التحلِّي بالأولى، والتخلِّي عن الثانيةِ ومعالجتِها، وفيه أصولُ الأحكامِ وعِلَلُها، وهكذا فيه كلُّ ما يَحتاجُ إليه المجاهِدُ به في دينِ اللهِ، فيُستفادُ منها -كما يُستفادُ مِن آياتٍ أخرى غيرِها- أنَّ على الدعاةِ والمرشِدين أنْ تكونَ دعوتُهم وإرشادُهم بالقرآنِ العظيمِ .
3- قال الله تعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا عندَما يختلفُ عليك الدعاةُ الذين يَدَّعي كلٌّ منهم أنَّه يَدعوك إلى اللهِ تعالى، فانظُرْ مَن يَدعوك بالقرآنِ إلى القرآنِ -ومثلُه ما صَحَّ مِن السُّنَّةِ؛ لأنَّها تفسيرُه وبيانُه- فاتَّبِعْه؛ لأنه هو المُتَّبِعُ للنَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في دعوتِه وجهادِه بالقرآنِ، والمُتمثِّلُ لِمَا دلَّتْ عليه أمثالُ هذه الآيةِ الكريمةِ مِن آياتِ القرآنِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا في مَدِّ الظِّلِّ وقَبضِه نِعمةُ مَعرفةِ أوقاتِ النَّهارِ للصَّلواتِ وأعمالِ النَّاسِ، ونِعمةُ التناوُبِ في انتِفاعِ الجماعاتِ والأقطارِ بفوائِدِ شُعاعِ الشَّمسِ وفوائِدِ الفَيءِ، ووراءَ ذلك عِبرةٌ عِلميَّةٌ كُبرى توضِّحُها قواعِدُ النِّظامِ الشَّمسيِّ، وحَركةُ الأرضِ حولَ الشَّمسِ، وظهورُ الظُّلمةِ والضِّياءِ، ونشَأ عن تداوُلِ الظُّلمةِ والنُّورِ نِظامُ اللَّيلِ والنَّهارِ، وعن ذلك نظامُ الفُصولِ، وخطوطُ الطولِ والعَرضِ للكُرةِ الأرضيَّةِ، وبها عُرِفت مناطِقُ الحرارةِ والبرودةِ.
ومِن وراءِ ذلك إشارةٌ إلى أصلِ المخلوقاتِ كيف طَرأَ عليها الإيجادُ بعْدَ أنْ كانت عَدَمًا، وكيف يَمتدُّ وُجودُها في طَورِ نَمائِها، ثمَّ كيف تعودُ إلى العدَمِ تدريجًا في طَورِ انحطاطِها إلى أنْ تصيرَ إلى العدمِ؟ فذلك ممَّا يشيرُ إليه ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا، فيكونُ قد حصَلَ مِن التَّذكيرِ بأحوالِ الظِّلِّ في هذه الآيةِ -مع المِنَّةِ والدَّلالةِ على نظامِ القدرةِ- تقريبٌ لحالةِ إيجادِ النَّاسِ، وأحوالِ الشَّبابِ، وتقَدُّمِ السِّنِّ، وأنَّهم عَقِبَ ذلك صائرونَ إلى ربِّهم يومَ البعثِ مَصيرًا لا إحالةَ فيه ولا بُعْدَ -كما يزعمون-، فلمَّا صار قَبضُ الظِّلِّ مثلًا لمصيرِ النَّاسِ إلى اللهِ بالبَعثِ، وصَفَ القَبضَ بـ يَسِيرًا؛ تلميحًا إلى قوله تعالى: ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 44] -على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ-، وفي هذا التَّمثيلِ إشارةٌ إلى أنَّ الحياةَ في الدُّنيا كظلٍّ يَمتدُّ ويَنقَبضُ، وما هو إلَّا ظِلٌّ، فهذان المحمَلانِ في الآيةِ مِن مُعجِزاتِ القُرآنِ العلميَّةِ .
2- قولُه تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فيه الاستِدلالُ بالشَّيءِ على ضِدِّه (وبضِدِّه يُعرَفُ الضِّدُّ)، ويقولُ بعضُهم: (وبضِدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ) ، والمرادُ بالاستِدلالِ بالشَّيءِ على ضِدِّه: النِّعَمُ؛ ففيه مَعرِفةُ قدْرِ النِّعَمِ بمَعرفةِ ضِدِّها، وأنَّ الإنسانَ يستَدِلُّ على مِقدارِ هذه النِّعمةِ بضِدِّها .
3- جمعَتِ الآيةُ الكريمةُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا استِدلالًا وامتِنانًا؛ فهي دَليلٌ على عِظَمِ قُدرةِ الخالقِ، وهي أيضًا تذكيرٌ بنِعَمِه؛ فإنَّ في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ آياتٍ جَمَّةً لِما يدُلُّ عليه حُصولُ الظُّلمةِ مِن دِقَّةِ نظامِ دَوَرانِ الأرضِ حوْلَ الشَّمسِ، ومِن دِقَّةِ نِظامِ خَلقِ الشَّمسِ، ولِما يتوقَّفُ عليه وُجودُ النَّهارِ مِن تغيُّرِ دورانِ الأرضِ، ومِن فوائِدِ نورِ الشَّمسِ، ثمَّ ما في خلالِ ذلك مِن نظامِ النَّومِ المناسِبِ للظُّلمةِ حين ترتخي أعصابُ النَّاسِ فيَحصُلُ لهم بالنَّومِ تجَدُّدُ نشاطِهم، ومِن الاستعانةِ على التستُّرِ بظُلمةِ اللَّيلِ، ومِن نِظامِ النَّهارِ مِن تجَدُّدِ النَّشاطِ وانبِعاثِ النَّاسِ للعَمَلِ وسآمتِهم مِنَ الدَّعةِ، مع ما هو ملائِمٌ لذلك مِن النُّورِ الذي به إبصارُ ما يَقصِدُه العامِلون .
4- قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، وقال: وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ [فصلت: 37] ، وقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [يونس: 67] ، وهذا كثيرٌ في القُرآنِ، فانظُرْ إلى هاتين الآيتينِ وما تضَمَّنَتاه مِن العِبرِ والدَّلالاتِ على ربوبيَّةِ اللهِ وحِكمتِه؛ كيف جعل اللَّيلَ سَكنًا ولِباسًا يغشى العالَمَ فتَسكُنُ فيه الحَرَكاتُ، وتأوي الحيواناتُ إلى بيوتِها، والطيرُ إلى أوكارِها، وتستجِمُّ فيه النُّفوسُ وتستريحُ مِن كَدِّ السَّعيِ والتَّعَبِ؟! حتى إذا أخَذَت منه النُّفوسُ راحتَها وسُباتَها، وتطَلَّعَت إلى معايشِها وتصَرُّفِها، جاء فالِقُ الإصباحِ سُبحانَه وتعالى بالنَّهارِ يَقدُمُ جَيشَه بشيرُ الصَّباحِ، فهزَم تلك الظُّلمةَ، ومَزَّقَها كُلَّ مُمَزَّقٍ، وكشَفَها عن العالَمِ، فإذا هم مُبصِرون، فانتشر الحيوانُ، وتصَرَّف في معاشِه ومصالحِه، وخرجت الطيورُ مِن أوكارِها، فيا له مِن مَعادٍ ونشأةٍ دالٍّ على قدرةِ الله سُبحانَه على المعادِ الأكبرِ! وتكَرُّرُه ودوامُ مُشاهَدةِ النُّفوسِ له بحيثُ صار عادةً ومألَفًا منَعَها مِن الاعتِبارِ به والاستِدلالِ به على النَّشأةِ الثَّانيةِ وإحياءِ الخَلقِ بعْدَ موتِهم، ولا ضَعْفَ في قدرةِ القادِرِ التَّامِّ القُدرةِ، ولا قُصورَ في حكمتِه ولا في عِلمِه يوجِبُ تخلُّفَ ذلك، ولكِنَّ اللهَ يَهدي مَن يشاءُ، ويُضِلُّ مَن يشاءُ، وهذا أيضًا مِن آياتِه الباهرةِ: أن يُعميَ عن هذه الآياتِ الواضحةِ البَيِّنةِ مَن شاء مِن خَلقِه، فلا يهتديَ بها ولا يُبصِرَها، وبهذا وأمثالِه يُعرَفُ اللهُ عزَّ وجَلَّ، ويُشكَرُ ويُحمَدُ، ويُتضَرَّعُ إليه ويُسألُ .
5- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا إشارةٌ إلى أنَّ النَّومَ واليقظةَ أُنموذجانِ للمَوتِ والنُّشورِ .
6- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ قُدرةُ اللهِ عزَّ وجلَّ في إرسالِ الرِّياحِ؛ لأنَّ هذه الرِّياحَ لو اجتمَعَ الخلْقُ كلُّهم على أنْ يأتوا بواحدةٍ منها، ما استطاعوا إلى ذلك سَبيلًا، مع أنَّ هذه الرِّياحَ في بعضِ الأحيانِ تقتَلِعُ الأشجارَ، وتُدمِّرُ المنازِلَ، هذه القوَّةُ العظيمةُ لو أتيتَ بمولِّداتِ الدُّنيا كلِّها لِتَخلُقَ مِثلَ هذا الهواءَ، ما حَصَلَ هذا .
7- إرسالُ المُبَشِّراتِ والمُقَدِّماتِ بيْن يدَيِ الأشياءِ لقوَّةِ الرَّجاءِ؛ لقَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ .
8- قَولُه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا هو أصلٌ في الطَّهارةِ بالماءِ ، وفيه دَلالةٌ على أنَّ الماءَ يُطَهِّرُ مِن الحَدَثِ والنَّجاسةِ .
9- في قَولِه تعالى: مَاءً طَهُورًا أنَّ الأصلَ في الماءِ الطَّهارةُ، ونحن نَعرفُ أنَّ الماءَ الموجودَ في الأرضِ كلُّه مِن السماءِ؛ لِقَولِه تعالى: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ [الحجر: 22] ، فإذا كان مِن السَّماءِ فإنَّ الأصلَ فيما نَبَعَ مِن الأرضِ، أو فيما نَزَلَ مِن السَّماءِ أنْ يكونَ طَهورًا ، فكلُّ ماءٍ نزَلَ مِن السَّماءِ فهو طَهورٌ .
10- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً حِكمةُ اللهِ سُبحانَه وتعالى بكَونِ المطرِ يَنزِلُ مِن السَّماءِ، لو كان هذا المطرُ -الذي تحيا به الأرضُ- يأتي جريًا على سَطحِ الأرضِ ما كان فيه هذا النَّفعُ؛ لأنَّه لا يَصِلُ إلى قِمَمِ الجبالِ إلَّا بعدَ أنْ يُغرِقَ ما تحتَها، لكنَّه إذا نَزَلَ مِن فوقٍ أَتَى على قِمَمِ الجبالِ، وأَتَى على ما هو أسفَلَ منها، وهذا مِن حِكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بذلك .
11- قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا لِماءِ المطرِ خاصيَّةُ الإحياءِ لكُلِّ أرضٍ؛ لأنَّه لخُلوِّه مِن الجراثيمِ ومِن بعضِ الأجزاءِ المعدِنيَّةِ والترابيَّةِ التي تشتَمِلُ عليها مياهُ العُيونِ ومياهُ الأنهارِ والأوديةِ، كان صالحًا بكُلِّ أرضٍ وبكلِّ نباتٍ على اختِلافِ طِباعِ الأرَضينَ والمنابِتِ .
12- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا إخبارٌ أنَّه سُبحانَه يَجعَلُ حياةَ بعضِ مخلوقاتِه ببَعضٍ .
13- في قَولِه تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا إيماءٌ إلى تقريبِ إمكانِ البَعثِ .
14- قَولُه تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا فيه إثباتُ الأسبابِ .
15- نستفيدُ مِن قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا إثباتَ الحِكمةِ في أفعالِ اللهِ؛ لِقَولِه تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ، وهذه «اللامُ» هي لامُ التَّعليلِ، وهذا دليلٌ مِن مئاتِ الأدلَّةِ على إثباتِ الحِكمةِ؛ فيكونُ فيه رَدٌّ على طائفةٍ مِن طوائفِ المبتدِعةِ وهم الجهميَّةُ؛ لأنَّهم يَرَون أنَّ فِعْلَ اللهِ لمجرَّدِ المشيئةِ ليس لعلَّةٍ، فإنَّه لا يُرَجِّحُ شيئًا على شَيءٍ لحِكمةٍ، إنَّما لمجرَّدِ المشيئةِ، ولا يَفعَلُ شيئًا إلَّا لمجرَّدِ المشيئةِ !!
16- في قَولِه تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا جوازُ ذِكْرِ بَعضِ الفوائدِ، وأنَّ الاقتِصارَ على البَعضِ لا يُعَدُّ نقصًا، فهنا ذَكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى مِن فوائدِ المطرِ فائدتينِ فقط: إحياءَ الأرضِ، وسَقْيَ الأنعامِ والأناسيِّ، مع أنَّ للمَطرِ فوائدَ أُخرى؛ كالتطهُّرِ به مثلًا، فالتطهُّرُ به ليس سَقيًا، وليس إحياءً للأرضِ، وغير ذلك أيضًا مِن الفوائدِ، لكنَّه لَمَّا كان أشَدُّ ما يكونُ ضرورةً للمَطرِ هو إحياءَ الأرضِ بالنباتِ؛ لِيأكُلَ الناسُ والأنعامُ، وكذلك السَّقيُ؛ فالطعامُ والشرابُ ضرورةٌ مِن ضرورياتِ الحياةِ بالنِّسبةِ للأنعامِ وبالنِّسبةِ للناسِ، فاقتصَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ على ذِكرِ هاتينِ الفائدتينِ فقط؛ لأنَّهما هما الفائدتان الضروريَّتانِ الحاصِلتان بنزولِ المطرِ .
17- قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا يؤخَذُ مِن الآيةِ أنَّ الماءَ المنزَّلَ مِن السَّماءِ لا يختلفُ مِقدارُه، وإنما تختلفُ مقاديرُ توزيعِه على مواقعِ القَطرِ؛ فعن ابنِ عباس: (ما عامٌ أقَلَّ مطرًا مِن عامٍ، ولكنَّ اللهَ قَسَمَ ذلك بيْن عِبادِه على ما شاء. وتلا هذه الآيةَ) ، فحصَلَ مِن هذا أنَّ المقدارَ الذي تفضَّل اللهُ به مِن المطَرِ على هذه الأرضِ لا تختَلِفُ كَمِّيَّتُه، وإنَّما يختَلِفُ توزيعُه. وهذه حقيقةٌ قَرَّرها عُلَماءُ حوادثِ الجوِّ في القرن الحاضِرِ، فهو من معجزاتِ القُرآنِ العلميَّةِ .
18- ثبوتُ الحكمةِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَولِه تعالى: لِيَذَّكَّرُوا، فـ «اللامُ» للتَّعليلِ .
19- إبطالُ مذهَبِ الجبريَّةِ؛ لِقَولِه سُبحانَه وتعالى: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، فجعَلَ هذا باختيارِهم؛ أبَوا إلَّا أن يكفُروا بذلك .
20- قال عزَّ وجَلَّ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا قولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا يدخُلُ فيه مَن قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، ومَن قال: مُطِرْنا بالبُخارِ، يعني: أنَّ البحرَ يتصاعَدُ منه بُخارُ الماءِ ثمَّ يتجَمَّعُ، ثمَّ يَنزِلُ على الأرضِ بمُقتضى الطَّبيعةِ لا بفِعلِ فاعلٍ، وأنَّ المطَرَ منه !
21- في قَولِه تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا أنَّ مِن إكرامِ اللهِ تعالى عبدَه تحميلَه أعباءَ الرِّسالةِ وحْدَه .
22- قولُه تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا المرادُ مِن ذلك تعظيمُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وذلك لوُجوهٍ:
أحدُها: كأنَّه تعالى بيَّن له أنَّه مع القُدرةِ على بَعثةِ رَسولٍ ونَذيرٍ في كُلِّ قَريةٍ، خَصَّه بالرِّسالةِ وفضَّلَه بها على الكُلِّ؛ ولذلك أتبَعَه بقَولِه: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، أي: لا تُوافِقْهم.
وثانيها: المرادُ: ولو شِئْنا لخفَّفْنا عنك أعباءَ الرِّسالةِ إلى كُلِّ العالَمينَ، ولَبَعَثْنا في كُلِّ قَريةٍ نَذيرًا، ولكِنَّا قصَرْنا الأمرَ عليك، وأجلَلْناك وفضَّلْناك على سائرِ الرُّسُلِ، فقابِلْ هذا الإجلالَ بالقوَّةِ في الدِّينِ.
 وثالثها: أنَّ الآيةَ تقتضي مَزْجَ اللُّطفِ بالعُنفِ؛ لأنَّها تدُلُّ على القُدرةِ على أن يَبعَثَ في كُلِّ قريةٍ نَذيرًا مِثلَ محمَّدٍ، وقَولُه: وَلَوْ يدُلُّ على أنَّه سُبحانَه لا يفعَلُ ذلك، فبالنَّظَرِ إلى الأوَّلِ يحصُلُ التأديبُ، وبالنظَرِ إلى الثاني يحصُلُ الإعزازُ .
23- قال الله تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا كما لا تجوزُ طاعةُ الكافرين في شيءٍ ممَّا يُمليه عليهم كُفرُهم؛ كذلك لا تجوزُ طاعةُ العصاةِ في شيءٍ ممَّا تُمليه عليهم معصيتُهم؛ لأنَّ الجميعَ فيه مخالفةٌ لدينِ اللهِ، وكما يُجاهَدُ أهلُ الكُفرِ بالقرآنِ العظيمِ الجهادَ الكبيرَ، كذلك يُجاهَدُ به أهلُ المعصيةِ؛ لأنَّه كتابُ الهدايةِ لكلِّ ضالٍّ، والدَّعوةِ لكل مُرشدٍ، وفي ذِكرِ الكافرين تنبيهٌ على العصاةِ مِن بابِ التَّنبيهِ بالأعلى على الأدنى؛ لاشتِراكِهم في العلَّةِ، وهي المخالَفةُ .
24- قال الله تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ النهيَ عن الشَّيءِ لا يقتضي كونَ المنهيِّ عنه مُشتغِلًا به .
25- في قَولِه تعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا أنَّه قد سمَّى اللهُ تعالى الجهادَ بالقرآنِ جهادًا كبيرًا، وفي هذا مَنقبةٌ كبرى للقائمِين بالدَّعوةِ إلى اللهِ بالقُرآنِ العظيمِ، وفي ذلك نِعمةٌ عظيمةٌ مِن اللهِ عليهم حيثُ يَسَّرَهم لهذا الجهادِ، حتى لَيَصِحُّ أن يُسَمَّوا بهذا الاسمِ الشَّريفِ «مجاهدون»؛ فحُقَّ عليهم أنْ يُقَدِّروا هذه النِّعمةَ، ويُؤدُّوا شُكرَها بالقَولِ والعَمَلِ والإخلاصِ، والصَّبرِ والثَّباتِ واليقينِ .
26- قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا يدُلُّ على أنَّ الله سُبحانَه جعل الماءَ سَبَبَ الاجتِماعِ والتآلُفِ .
27- قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا فيه إشارةٌ إلى المحرَّماتِ بالسَّبَبِ والنَّسَبِ، وأنَّ كُلَّ ذلك تولَّد مِن الماءِ .
28- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا بيانُ خطأِ مَن يُسمِّي أقاربَ الزَّوجِ أو الزَّوجةِ «أنسابي» لأنَّه تزوَّجَ منهم، وهذا خطأٌ على اللُّغةِ؛ فإنَّ الأنسابَ هم القَرابةُ مِن قِبَلِ الأبِ أو مِن قِبَلِ الأمِّ، والأرحامَ كذلك هم القَرابةُ مِن قِبَلِ الأبِ أو مِن قِبَلِ الأمِّ، وأمَّا أقاربُ الزَّوجينِ فإنهم يُسمَّون أصهارًا لا أنسابًا؛ فقد جَعَلَ اللهُ تعالى الصِّلةَ بيْن البشَرِ بهذينِ الأمْرينِ: النَّسبِ، والصِّهرِ، وهما قَسيمانِ، أي: أنَّ بعضَهما قسيمٌ للآخَرِ، ومُبايِنٌ له .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا استِئنافٌ ابتِدائيٌّ، فيه انتِقالٌ مِن إثباتِ صِدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإثباتِ أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ أنزَلَه على رَسولِه، وصِفاتِ الرُّسلِ وما تَخلَّلَ ذلك مِنَ الوَعيدِ، وهو مِن هذا الاعتِبارِ متَّصِلٌ بقولِه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] الآيةَ. وفيه انتِقالٌ إلى الاستِدلالِ على بُطلانِ شِرْكِهم، وإثباتِ الوَحدانيَّةِ للهِ، وهو مِن هذه الجهةِ متَّصِلٌ بقولِه في أوَّلِ السُّورةِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا [الفرقان: 3] الآيةَ .
- قولُه: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الاستِفهامُ في قَولِه: أَلَمْ تَرَ ... استِفهامٌ تَقريريٌّ .
- وأصْلُ النَّظمِ: (ألمْ تَنظُرْ إلى الظِّلِّ كيف مَدَّه ربُّك؟)، فغُيِّر النَّظمُ فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ؛ إشعارًا بأنَّه المعقولُ مِن هذا الكلامِ؛ لوُضوحِ بُرهانِه، وهو دَلالةُ حُدوثِه وتَصرُّفِه على الوجهِ النَّافعِ بأسبابٍ مُمكِنةٍ، على أنَّ ذلك فِعلُ الخالِقِ الحَكيمِ كالمُشاهَدِ المَرْئيِّ، فكيف بالمَحسوسِ منه؟! ولو قيل: (ألمْ تَرَ إلى الظِّلِّ كيف مَدَّه؟) كان الانتِقالُ مِنَ الأثرِ إلى المؤَثِّرِ، والَّذي عليه التِّلاوةُ عكْسُه، والمَقامُ يَقتَضِيه؛ لأنَّ الكلامَ في تَقريعِ القَومِ، وتَجهيلِهم في اتِّخاذِهمُ الهوَى إلهًا مع وُضوحِ هذه الدَّلائلِ؛ ولذلك جَعَل ما يدُلُّ على ذاتِه مُقدَّمًا على أفعالِه في سائِرِ آياتِه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ [الفرقان: 47] ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ [الفرقان: 48] ، وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا [الفرقان: 51] . وأيضًا لعلَّ تَوجيهَ الرُّؤيةِ إليه سبحانه وتعالى مع أنَّ المرادَ تَقريرُ رؤْيَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لكيفيَّةِ مَدِّ الظِّلِّ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ نظَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَيرُ مَقصورٍ على ما يُطالِعُه مِنَ الآثارِ والصَّنائعِ، بل مَطمَحُ أنظارِه مَعرِفةُ شُؤونِ الصَّانعِ المَجيدِ .
- والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ معَ الإضافةِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَبِّكَ؛ لتَشريفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وللإيذانِ بأنَّ ما يَعقُبُه مِن آثارِ رُبوبيَّتِه ورحمتِه تعالى .
- وقُوبِلَ قَولُه: مَدَّ الظِّلَّ بقَولِه: سَاكِنًا، ومقابِلُ السُّكونِ الحرَكةُ؛ فيكونُ إطلاقُ مَدِّ ظِلٍّ وبَسْطِه على الحركةِ مِن بابِ تَسميةِ الشَّيءِ باسمِ مُلابِسِه أو سببِه. وعَدَل عن (متحرِّكًا) إلى (مَدَّ)، وهو أَظهَرُ مِن (مَدَّ) في تَناوُلِه الانبِساطَ والامتِدادَ؛ ليُدمِجَ فيه معنَى الانتِفاعِ المقصودِ بالذَّاتِ، وهو معرفةُ أوقاتِ الصَّلَواتِ؛ فإنَّ اعتِبارَ الظِّلِّ فيها بالامتِدادِ دُونَ الانبِساطِ، وتَمَّمَ معنَى الإدماجِ بقَولِه: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا، أيْ: بالتَّدريجِ والمَهَلِ لمعرفةِ السَّاعاتِ والأوقاتِ، وفيه لَمحةٌ مِن معنَى قَولِه تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 188] ؛ فلَمَّا كان مَدُّ الظِّلِّ يُشبِهُ صورةَ التَّحرُّكِ أَطلَقَ على انتِفاءِ الامتِدادِ اسمَ السُّكونِ بأنْ يُلازِمَ مِقْدارًا واحدًا لا يَنقُصُ ولا يَزيدُ. ودلَّتْ مُقابَلةُ قَولِه: مَدَّ الظِّلَّ بقَولِه: لَجَعَلَهُ سَاكِنًا على حالةٍ مَطْويَّةٍ مِنَ الكلامِ؛ وهي حالةُ عُمومِ الظِّلِّ جميعَ وجْهِ الأرضِ .
- وجُملةُ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا جملةٌ معترِضةٌ للتَّذكيرِ بأنَّ في الظِّلِّ مِنَّةً ، وأيضًا قدِ اعتَرضتْ بيْن المَعطوفَينِ؛ للتَّنبيهِ مِن أوَّلِ الأمرِ على أنَّه لا مَدخَلَ فيما ذُكِر مِنَ المَدِّ للأسبابِ العاديَّةِ، وإنَّما المؤثِّرُ فيه المَشيئةُ والقُدرةُ. ومَفعولُ المشيئةِ مَحذوفٌ، أي: ولو شاء سُكونَه لجَعَله ساكنًا، أي: ثابتًا على حالِه مِنَ الطُّولِ والامتِدادِ، وإنَّما عُبِّر عن ذلك بالسُّكونِ؛ لِما أنَّ مُقابِلَه الَّذي هو تَغيُّرُ حالِه حسَبَ تَغيُّرِ الأوضاعِ بيْن الظلِّ وبيْن الشَّمسِ يُرَى رأيَ العَينِ حرَكةً وانتِقالًا، وحاصِلُه: أنَّه لا يَعتَريهِ اختِلافُ حالٍ بألَّا تَنسَخَه الشَّمسُ .
- وجُعِل امتِدادُ الظِّلِّ لاختِلافِ مَقاديرِه كامتِدادِ الطَّريقِ، وعلاماتُ مقاديرِه مثلَ صُوَى الطَّريقِ (أي: الأعلامِ المنصوبةِ التي يُستدلُّ بها عليه)، وجُعِلَتِ الشَّمسُ -مِن حيثُ كانتْ- سببًا في ظهورِ مَقاديرِ الظِّلِّ كالهادي إلى مَراحِلَ، بطريقةِ التَّشبيهِ البَليغِ؛ فكما أنَّ الهادي يُخبِرُ السَّائرَ أين يَنزِلُ مِنَ الطَّريقِ، كذلك الشَّمسُ بتَسبُّبِها في مَقاديرِ امتِدادِ الظِّلِّ تُعرِّفُ المُستدِلَّ بالظِّلِّ بأوقاتِ أعمالِه ليَشرَعَ فيها. وتَعديةُ دَلِيلًا بحرف (على) تُفيدُ أنَّ دَلالةَ الشَّمسِ على الظِّلِّ هنا دَلالةُ تَنبيهٍ على شَيءٍ قد يَخفَى .
- وفي قولِه: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا الالتِفاتُ إلى نُونِ العظَمةِ؛ لِمَا في الجَعْلِ المَذكورِ العاري عنِ التَّأثيرِ مع ما يُشاهَدُ بيْنَ الشَّمسِ والظِّلِّ مِنَ الدَّوَرانِ المُطَّردِ المُنبئِ عنِ السَّببيَّةِ: مِن مَزيدِ دَلالةٍ على عِظَمِ القُدرةِ، ودِقَّةِ الحكمةِ، وهو السِّرُّ في إيرادِ كلمةِ التَّراخي . وقيل: الالتِفاتُ مِنَ الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ في ثُمَّ جَعَلْنَا؛ لأنَّ ضميرَ المتكلِّمِ أَدخَلُ في الامتِنانِ مِن ضَميرِ الغائبِ، فهو مُشعِرٌ بأنَّ هذا الجَعْلَ نِعمةٌ، وهي نعمةُ النُّورِ الَّذي به تَمييزُ أحوالِ المَرئيَّاتِ؛ وعليه فقولُه تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ارتِقاءٌ في المِنَّةِ .
- وأيضًا قولُه: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عطْفٌ على جُملةِ مَدَّ الظِّلَّ، وأفادَتْ (ثُمَّ) أنَّ مَدلولَ المَعطوفِ بها مُتَراخٍ في الرُّتبةِ عن مَدلولِ المعطوفِ عليه، شأنُ (ثُمَّ) إذا عَطَفَتِ الجملةَ. ومعنَى تَراخي الرُّتبةِ أنَّها أبعَدُ اعتِبارًا، أي: أنَّها أرفَعُ في التَّأثيرِ أو في الوُجودِ؛ فإنَّ وُجودَ الشَّمسِ هو عِلَّةُ وُجودِ الظِّلِّ للأجسامِ الَّتي على الأرضِ، والسَّببُ أرفَعُ رُتبةً مِنَ المُسبَّبِ، أي: أنَّ اللهَ مَدَّ الظِّلَّ بأنْ جَعَل الشَّمسَ دليلًا على مَقاديرِ امتِدادِه .
- وموقعُ (ثُمَّ) في هذَينِ المَوضعَينِ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا لبيانِ تَفاضُلِ الأمورِ الثَّلاثةِ (مَد الظِّل، وسُكونه، وقَبْضه): كأن الثَّاني أَعظَمُ مِنَ الأوَّلِ، والثَّالثَ أَعظَمُ منهما -لأنَّ في إزالةِ الظِّلِّ بالشَّمسِ دَليلًا على جُودِه؛ فلولا الشَّمسُ ما عُرِفَ الظِّلُّ-؛ تشبيهًا لتَباعُدِ ما بيْنَهما في الفضلِ بتَباعُدِ ما بيْنَ الحَوادثِ في الوقتِ، أو لتَفاضُلِ مَبادئِ أوقاتِ ظُهورِها. أو أنَّ «ثمَّ» تُفيدُ التَّراخيَ في الزَّمانِ .
2- قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا
- قولُه: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ (ثمَّ) للتَّراخي الزَّمانيِّ؛ لِما أنَّ في بيانِ كَونِ القبضِ والمدِّ مُرتَّبَينِ دائِرَينِ على قُطبِ مَصالِحِ المَخلوقاتِ مَزيدَ دَلالةٍ على الحكمةِ الرَّبَّانيَّةِ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ للتَّراخي الرُّتْبيِّ، أي: أزَلْناه بعْدَ ما أَنشَأْناهُ مُمتَدًّا، ومَحَوْناه بمَحْضِ قُدرتِنا ومَشيئتِنا عِندَ إيقاعِ شُعاعِ الشَّمسِ مَوقعَه، مِن غَيرِ أن يكونَ له تأثيرٌ في ذلك أصلًا، وإنَّما عَبَّر عنه بالقَبضِ المُنبئِ عن جمْعِ المُنبسِطِ وطَيِّه؛ لِمَا أنَّه قد عَبَّر عن إحداثِه بالمَدِّ الَّذي هو البَسْطُ طُولًا .
- وجُملةُ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا  ... إلخ عطْفٌ على جُملةِ مَدَّ الظِّلَّ، أو على جُملةِ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؛ لأنَّ قَبضَ الظِّلِّ مِن آثارِ جعْلِ الشَّمسِ دليلًا على الظِّلِّ. و(ثمَّ) الثَّانيةُ مِثلُ الأُولى مُفيدةٌ التَّراخيَ الرُّتبيَّ؛ لأنَّ مَضمونَ جملةِ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا أهَمُّ في الاعتِبار بمَضمونِها مِن مَضمونِ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؛ إذْ في قَبضِ الظِّلِّ دَلالةٌ مِن دَلالةِ الشَّمسِ هي عكْسُ دَلالتِها على امتِدادِه؛ فكانت أَعجَبَ؛ إذْ هي عمَلٌ ضِدٌّ للعملِ الأوَّلِ، وصُدورُ الضِّدَّينِ مِنَ السَّببِ الواحدِ أَعجَبُ مِن صُدورِ أحدِهما السَّابقِ في الذِّكرِ .
- قولُه: إِلَيْنَا للتَّنصيصِ على كَونِ مَرجعِه إليه تعالى، كما أنَّ حُدوثَه منه عزَّ وجلَّ .
- قولُه: قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا أفادَ قولُه: إِلَيْنَا وصِيغةُ الجَمعِ: القَبضَ التَّامَّ، كقَولِه تعالى: وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 2] .
- ومَوقعُ وصْفِ القَبضِ بـ (يَسيرٍ) هنا أنَّه أُريدَ أنَّ هذا القَبضَ يَحصُلُ ببُطْءٍ دُونَ طَفْرةٍ؛ فإنَّ في التَّريُّثِ تَسهيلًا لقَبضِه؛ لأنَّ العملَ المُجَزَّأَ أَيسَرُ على النُّفوسِ مِنَ المُجتمِعِ غالِبًا، فأُطلِقَ اليُسرُ، وأُريدَ به لازِمُ معناهُ عُرْفًا، وهو التَّدريجُ ببُطْءٍ، على طريقةِ الكِنايةِ .
3- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا بيانٌ لبعضِ بَدائعِ آثارِ قُدرتِه تعالى وحِكمتِه ورَوائعِ أحكامِ رحمتِه ونِعَمِه الفائِضةِ على الخَلْقِ. وتَلوينُ الخِطابِ لتَوفيةِ مَقامِ الامتِنانِ حقَّه، واللَّامُ مُتعلِّقةٌ بـ جَعَلَ، وتَقديمُها على مَفعولَيْهِ؛ للاعتِناءِ ببَيانِ كَونِ ما يَعْقُبُه مِن مَنافعِهم، وفي تَعقيبِ بَيانِ أحوالِ الظِّلِّ ببَيانِ أحكامِ اللَّيلِ -الَّذي هو ظِلُّ الأرضِ- مِن لُطْفِ المَسلَكِ ما لا مَزيدَ عليه .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا التِفاتٌ؛ حيث رَجَع أسلوبُ الكلامِ مِنَ المُتكلِّمِ إلى الغَيبةِ .
- والقَصرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ جُزْأَيِ الجُملةِ في قولِه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ قَصْرُ إفرادٍ، أي: لا يَشْركُه غَيرُه في جَعْلِ اللَّيلِ والنَّهارِ، أمَّا كَونُ الجَعلِ المذكورِ بخَلْقِ اللهِ فهُم يُقِرُّون به، ولكنَّهم لَمَّا جَعَلوا له شُركاءَ على الإجمالِ أُبطِلَتْ شَرِكَتُهم بقَصرِ التَّصرُّفِ في الأزمانِ على اللهِ تعالى؛ لأنَّه إذا بَطَل تَصرُّفُهم في بعضِ الموجوداتِ اختَلَّتْ حقيقةُ الإلهيَّةِ عنهم؛ إذِ الإلهيَّةُ لا تَقبَلُ التَّجزئةَ .
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا شُبِّه ما يَستُرُ مِن ظَلامِ اللَّيلِ باللِّباسِ السَّاترِ، على طَريقةِ التَّشبيهِ البَليغِ .
- قولُه: وَالنَّوْمَ سُبَاتًا قيل: عبَّر عنِ النَّومِ بالسُّباتِ الَّذي هو الموتُ -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-؛ لِما بيْنهما مِنَ المُشابَهةِ التَّامَّةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ .
- قولُه: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، أيْ: جعَل النَّهارَ زمانَ بَعثٍ ونُشورٍ مِن ذلك السُّباتِ كبَعثِ الموتَى؛ على حَذفِ المُضافِ وإقامةِ المُضافِ إليه مقامَه، أو: جعَل النَّهارَ نفْسَ البَعثِ على طَريقِ المبالَغةِ . والنُّشورُ هنا الإحياءُ؛ شَبَّهَ اليَقظةَ به؛ لِيَتطابَقَ الإحياءُ مع الإماتةِ اللَّذَينِ يَتضمَّنُهما النَّومُ والسُّباتُ .
- وإعادةُ فِعلِ (جَعَل) في قَولِه: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا دُونَ أن يُعادَ في قَولِه: وَالنَّوْمَ سُبَاتًا مُشعِرةٌ بأنَّه تَنبيهٌ إلى أنَّه جَعْلٌ مُخالِفٌ لجَعلِ اللَّيلِ لِباسًا؛ وذلك أنَّه أخبَرَ عنه بقوله: نُشُورًا، والنُّشورُ: بَعثُ الأمواتِ، وهو إدماجٌ للتَّذكيرِ بالبَعثِ، وتَعريضٌ بالاستِدلالِ على مَن أَحالُوه بتَقريبِه بالهُبوبِ في النَّهارِ. والنُّشورُ: الحياةُ بعْدَ المَوتِ، وهو هنا يَحتمِلُ مَعنيَينِ: أن يكونَ مُرادًا به البُروزُ والانتِشارُ؛ فيكونَ ضِدَّ اللِّباسَ في قَولِه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا، فيكونَ الإخبارُ به عنِ النَّهارِ حقيقيًّا، والمِنَّةُ في أنَّ النَّهارَ يَنتشِرُ فيه النَّاسُ لحَوائجِهم واكتِسابِهم. ويحتمِلُ أن يكونَ مرادًا به بَعْثُ الأجسادِ بعْدَ مَوتِها؛ فيكونَ الإخبارُ على طريقةِ التَّشبيهِ البَليغِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قُدِّمَ الاعتِبارُ بحالةِ سَترِ اللَّيلِ على الاعتِبارِ بحالةِ النَّومِ؛ لرَعيِ مناسَبةِ اللَّيلِ بالظِّلِّ، بخِلافِ قَولِه في سُورةِ النَّبَأ: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا [النبأ: 8-10] ؛ فإنَّ نِعمةَ النَّومِ أهَمُّ مِن نِعمةِ السَّترِ، ولأنَّ المناسَبةَ بيْنَ نِعمةِ خلْقِ الأزواجِ وبيْنَ النَّومِ أَشَدُّ .
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا فيه احتِباكٌ ؛ حيثُ ذَكَر السُّباتَ أوَّلًا دليلًا على الحركةِ ثانيًا، والنُّشورَ ثانيًا دليلًا على الطَّيِّ والسُّكونِ أوَّلًا .
4- قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا استِدلالٌ على الانفِرادِ بالخَلْقِ، وامتِنانٌ بتَكوينِ الرِّياحِ والسُّحبِ والمطرِ، ومَردودُ الاستِدلالِ قَصْرُ إرسالِ الرِّياحِ وما عُطِف عليه على اللهِ تعالى؛ إبطالًا لادِّعاءِ الشُّرَكاءِ له في الإلهيَّةِ بنَفيِ الشَّرِكةِ في التَّصرُّفِ في هذه الكائناتِ، وذلك ما لا يُنكِرُه المشْركونَ، ولكنَّهم لَمَّا جَعَلوا له شُركاءَ على الإجمالِ أُبطِلَت شَرِكتُهم بقَصرِ التَّصرُّفِ في الرِّياحِ على اللهِ تعالى؛ لأنَّه إذا بَطَل تَصرُّفُهم في بعضِ المَوجوداتِ اختلَّتْ حقيقةُ الإلهيَّةِ عنهم؛ إذِ الإلهيَّةُ لا تَقبَلُ التَّجزِئةَ .
- وجملةُ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا عطْفٌ على جملةِ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ ؛ فهي داخلةٌ في حَيِّزِ القَصرِ، أي: وهو الَّذي أَنزَل مِنَ السَّماءِ ماءً طَهورًا .
- وفي قولِه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا التِفاتٌ إلى نونِ العَظَمةِ؛ لإبرازِ كَمالِ العنايةِ بالإنزالِ؛ لأنَّه نتيجةُ ما ذُكِر مِن إرسالِ الرِّياحِ . وأيضًا الالتِفاتُ مِنَ الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ في قَولِه: وَأَنْزَلْنَا، لِنُحْيِيَ، وَنُسْقِيَهُ، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ؛ لِمَا في إنزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ، وإحياءِ البلدِ المَيْتِ به، وسَقْيِه للنَّاسِ والدَّوابِّ، وتَصريفِ الماءِ: مِن مَزيدِ دَلالةٍ على عِظَمِ القُدرةِ، ودِقَّةِ الحِكمةِ، ولأنَّ ضَميرَ المُتكلِّمِ أَدخلُ في الامتِنانِ مِن ضَميرِ الغائبِ؛ فهو مُشعِرٌ بأنَّ (الإنزالَ، والإحياءَ، والسَّقيَ، والتصريفَ) نِعمةٌ .
- وأيضًا في قولِه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا وصَفَ الماءَ بالطَّهارةِ، وعلَّلَ إنزالَه بالإحياءِ والسَّقْيِ؛ لأنَّه لَمَّا كان سَقْيُ الأناسيِّ مِن جملةِ ما أنزَلَ له الماءَ، وصَفَه بالطَّهورِ إكرامًا لهم، وتَتْميمًا للمِنَّةِ عليهم، وبيانًا أنَّ مِن حقِّهم حينَ أرادَ اللهُ لهمُ الطَّهارةَ، وأَرادَهم عليها أن يؤْثِرُوها في بَواطِنِهم ثمَّ في ظَواهِرِهم، وأنَّ يَرْبَؤوا بأنفُسِهم عن مُخالَطةِ القاذُوراتِ كلِّها، كما رَبَأ بهم ربُّهُم. وقيل: الظَّاهرُ في قَولِه: مَاءً طَهُورًا أن يكونَ للمُبالَغةِ في طَهارتِه، وجِهةُ المُبالَغةِ: كَونُه لم يَشُبْهُ شَيءٌ بخِلافِ ما نَبَع مِنَ الأرضِ ونَحوِه؛ فإنَّه تَشوبُه أجزاءٌ أرْضيَّةٌ مِن مَقرِّه أو مَمَرِّه أو ممَّا يُطرَحُ فيه، ويَجوزُ أن يوصَفَ بالاسمِ وبالمَصدرِ . والطَّهورُ -بفَتحِ الطَّاءِ- مِن أمثلةِ المُبالَغةِ في الوَصفِ بالمصدرِ، ووصْفُ الماءِ بالطَّهورِ يَقتَضي أنَّه مُطهِّرٌ لغَيرِه؛ إذِ العُدولُ عن صيغةِ (فاعِلٍ) إلى صيغةِ (فَعولٍ) لزِيادةِ معنًى في الوَصفِ، فاقتِضاؤُه في هذه الآيةِ أنَّه مُطهِّرٌ لغَيرِه اقتِضاءٌ التِزاميٌّ؛ ليَكونَ مُستكمِلًا وصْفَ الطَّهارةِ القاصِرةِ والمُتعدِّيةِ، فيكونَ ذِكرُ هذا الوَصفِ إدماجًا لمِنَّةٍ في أثناءِ المِنَنِ المَقصودةِ، ويكونَ كقَولِه تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] ، وصَفَ الطَّهارةَ الذَّاتيَّةَ وتَطهيرَه، فيكونُ هذا الوَصفُ إدماجًا، ولولا ذلك لكان الأحَقَّ بمَقامِ الامتِنانِ وصْفُ الماءِ بالصَّفاءِ أو نَحوِ ذلك .
5- قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا
- قولُه: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا لَمَّا كان المقصودُ بإحياءِ الأرضِ بالنَّباتِ إحياءَ البلادِ لإحياءِ أهْلِها؛ قال: بَلْدَةً، ولو كان مِلْحًا أو مُرًّا أو مُكَبرتًا لم تكنْ فيه قوَّةُ الإحياءِ. ولَمَّا كُرِه أن يُفهَمَ تَخصيصُ البلادِ، أُجريَ الوَصفُ باعتِبارِ المَوضعِ؛ لِيَعُمَّ كلَّ مكانٍ، فقال: مَيْتًا .
- وقيل: ذكَّر الصِّفةَ مَيْتًا مع أنَّ المَوصوفَ بَلْدَةً مؤنَّثٌ؛ لأنَّه أُريدَ به اسمُ المَيتِ، ووصْفُ البَلدةِ به وصْفٌ على معنَى التَّشبيهِ البَليغِ . وقيل: ذَكَّره نظرًا إلى معنَى البلدةِ وهو المكانُ، لا إلى لفْظِها، والسِّرُّ فيه تَخفيفُ اللَّفظِ. وقيل: التَّذكيرُ لأنَّ البَلدةَ بمعنَى البلدِ، ولأنَّه غَيرُ جارٍ على الفعلِ كسائرِ أَبنيةِ المُبالَغةِ؛ فأُجريَ مَجرَى الجامدِ .
- قولُه: وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا المَوصولُ (ما) للإيماءِ إلى علَّةِ الخَبرِ، أي: نُسْقِيَهم؛ لأنَّهم مَخلوقاتٌ؛ ففائدةُ هذا الحالِ الإشارةُ إلى رحمةِ اللهِ بها؛ لأنَّها خَلْقُه .
- وفي قولِه: مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا إشارةٌ إلى أنَّ أنواعًا أُخرى مِنَ الخَلائقِ تُسقَى بماءِ السَّماءِ، ولكنَّ الاقتِصارَ على ذِكرِ الأنعامِ والأناسيِّ؛ لأنَّهما مَوقِعُ المِنَّةِ؛ فالأنعامُ بها صَلاحُ حالِ البادينَ بألْبانِها وأَصوافِها وأَشعارِها ولُحومِها، وهي تَشرَبُ مِن مياهِ المطرِ مِنَ الأَحواضِ والغُدْرانِ . وقيل: خَصَّ الأنعامَ بالذِّكرِ مِن بيْنِ ما خَلَق مِنَ الحَيوانِ الشَّاربِ بخِلافِ الأنعامِ؛ لأنَّ أهلَ القُرَى والأمصارِ يُقِيمون بقُربِ الأنهارِ والمَنابعِ، فبهم وبما لهم مِنَ الأنعامِ غُنْيةٌ عن سُقْيَا السَّماءِ؛ فكان الإنعامُ عليهم بسَقيِ أنعامِهم كالإنعامِ بسَقْيِهم، والطَّيرُ والوَحْشُ وسائرُ الحيواناتِ بخِلافِ ذلك؛ إذ تُبعِدُ في طلَبِ الماءِ فلا يُعوِزُها الشُّربُ غالبًا، مع أنَّ مَساقَ الآياتِ الكريمةِ كما هو للدَّلالةِ على عِظَمِ القُدرةِ فهو لتَعدادِ أنواعِ النِّعمةِ، والأنعامُ -حيثُ كانتْ- قُنْيةٌ للإنسانِ، وعامَّةُ مَنافِعِهم ومَعايشِهم مُتعلِّقةٌ بها .
- وتَنكيرُ الأنعامِ والأَناسيِّ ووصْفُها بالكَثرةِ في قولِه: وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا؛ لأنَّ عِلْيةَ النَّاسِ وجُلَّهم قَريبونَ مِنَ الأوديةِ والأنهارِ ومَنابعِ الماءِ؛ ففيهم غُنْيةٌ عن سَقيِ السَّماءِ، وأعقابُهم -وهُم كثيرٌ منهم- لا يُعيِّشُهم إلَّا ما يُنزِلُ اللهُ مِن رَحمتِه، وسُقْيَا سَمائِه .
- وفي قولِه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا تقديمٌ وتأخيرٌ؛ فقد قَدَّمَ حَياةَ الأرضِ وإسقاءَ الأنعامِ على إسقاءِ النَّاسِ، وإنْ كانوا أَشرَفَ محلًّا؛ لأنَّ حياةَ الأرضِ هي سبَبٌ لحَياةِ الأنعامِ والنَّاسِ؛ فلمَّا كانت بهذه المَثابةِ جُعِلَتْ مُقدَّمةً في الذِّكرِ، ولَمَّا كانتِ الأنعامُ مِن أسبابِ التَّعيُّشِ والحياةِ للنَّاسِ قدَّمَها في الذِّكرِ على النَّاسِ؛ لأنَّ حياةَ النَّاسِ بحياةِ أرْضِهم وأَنعامِهم، فقُدِّمَ سَقْيُ ما هو سبَبُ نَمائِهم ومَعاشِهم على سَقْيِهم، وهذا الوَجهُ مَبنيٌّ على تَقدُّمِ الأسبابِ على المُسبَّباتِ. ووجْهٌ آخَرُ: أنَّهم إذا وجَدوا ما يَسقي أرضَهم ومواشيَهم وجَدوا سُقياهُم، وهذا الوجهُ مَبنيٌّ على تقديمِ ما يَشتَدُّ فيه الاحتِياجُ إلى الماءِ، ويَكثُرُ به الانتِفاعُ؛ فإنَّ انتِفاعِ الإنسانِ بحياةِ الأرضِ أكثَرُ، واهتِمامَه بسُقياها أشَدُّ مِن سُقيَا الأنعامِ، ثمَّ اهتِمامُه بسُقْيا الأنعامِ أقدَمُ مِن سُقيا نفْسِه؛ لأنَّهم إذا ظَفِروا بما يكونُ سُقْيَا أرْضِهم ومواشيهم لمْ يَعدَموا سُقياهم. وهذا الوجهُ أحسَنُ، ولمعنَى الإيغالِ والتَّتميمِ أجمَعُ؛ إذْ ليس اهتِمامُ مَن يَقرَبُ الأَوديةَ والأنهارَ ومَنابعَ الماءِ كاهتِمامِ مَن هو بعيدٌ منها؛ فعلى هذا المرادُ بالأناسيِّ: أصحابُ البَوادي والمُتبعِّدونَ مِن مَظانِّ الماءِ .
- وأيضًا قولُه: وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا فيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قَدَّم ذِكرَ الأنعامِ على الأَناسيِّ؛ لأنَّه اقتَضاهُ نَسْجُ الكلامِ على طريقةِ الإحكامِ في تعقيبِه بقَولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان: 50] ، ولو قُدِّمَ ذِكرُ (أَناسيَّ) لتَفكَّكَ النَّظمُ. ولم يُقدِّمْ ذِكرَ النَّاسِ في قَولِه تعالى: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات: 33، عبس: 32]؛ لانتِفاءِ الدَّاعي للتَّقديمِ؛ فجاءَ على أصلِ التَّرتيبِ .
6- قولُه تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
- قولُه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ جيءَ بالجملةِ القَسَميَّةِ، لإبطالِ زَعمِ مَن يَزعُمُ أنَّ ذلك بسببِ الأَنواءِ .
- قولُه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا فيه توكيدُ الجُملةِ بلامِ القَسمِ و(قد) لتَحقيقِ التَّعليلِ؛ لأنَّ تَصرُّفَ المطرِ مُحقَّقٌ لا يَحتاجُ إلى التَّأكيدِ، وإنَّما الشَّيءُ الَّذي لم يَكُنْ لهم عِلمٌ به هو أنَّ مِن حِكمةِ تَصريفِه بيْن النَّاسِ أن يَذْكروا نِعمةَ اللهِ تعالى عليهم مع نُزولِه عليهم، وفي حالةِ إمساكِه عنهم؛ لأنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ لا يَقدُرُ قَدْرَ النِّعمةَ إلَّا عِندَ فَقدِها، فيَعلَموا أنَّ اللهَ هو الرَّبُّ الواحِدُ المُختارُ في خلْقِ الأسبابِ والمُسبَّباتِ .
- ولَمَّا كان التَّذكُّرُ شاملًا لشُكرِ المُنعَمِ عليهم بإصابةِ المطرِ، ولتَفطُّنِ المَحرومينَ إلى سببِ حِرمانِهم إيَّاه لعلَّهم يَستَغفِرون، جيءَ في التَّعليلِ بفِعلِ لِيَذَّكَّرُوا؛ لِيَكونَ علَّةً لحالَتَيِ التَّصريفِ بيْنهم .
- وقوله: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا تَركيبٌ جرَى بمادَّتِه وهَيئتِه مَجرَى المَثَلِ في الإخبارِ عن تَصميمِ المُخبَرِ عنه على ما بعْدَ حَرْفِ الاستِثناءِ، وذلك يَقتَضي وُجودَ الصَّارفِ عنِ المُستثنَى، أي: فصَمَّموا على الكُفورِ لا يَرجِعون عنه؛ لأنَّ الاستِثناءَ مِن عُمومِ أشياءَ مُبهمَةٍ جُعِلَتْ كلُّها ممَّا تَعلَّقَ به الإباءُ، كأنَّ الآبِينَ قد عُرضَتْ عليهم -مِنَ النَّاسِ أو مِن خَواطِرِهم- أمورٌ وراجَعوا فلمْ يَقبَلوا منها إلَّا الكُفورَ، وإنْ لم يَكُنْ هنالك عَرْضٌ ولا إباءٌ .
7- قولُه تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا
- الأصلُ في (بَعَث) و(أرسل) وأمثالِهما أنْ يَتعدَّى بـ (إلى)، وهنا قال: لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا؛ فجُعِلتِ القريةُ موضعًا للإرسالِ؛ فلم يُعَدَّ بـ (في) كما عُدِّي بـ (إلى)، ولم يُجعَلْ صِلةً مِثلَه، يعني: أنَّ «في» هنا ليستْ للتَّعديةِ، مِثل «إلى»، لكنها: ظرفٌ له، اقتطع «بَعَثْنا» مِن صِلتِه، وجُعِلَ مطلقًا .
8- قولُه تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا هذا النهيُ مرادٌ به تَهييجُه صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَهييجُ المؤْمنينَ وتَحريكُهم على عَدمِ طاعةِ الكافِرينَ فيما يُريدونَهم عليه؛ والخِطابُ وإنْ كان له فالحُكمُ شاملٌ لِأُمَّتِه .
- وتفريعُ قَولِه: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ على جُملةِ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا؛ لأنَّها تَتضمَّنُ أنَّه مُرسَلٌ إلى المشْركينَ مِن أهلِ مكَّةَ، وهُم يَطلُبون منه الكَفَّ عن دَعوَتِهم، وعن تَنقُّصِ أصنامِهم. والنَّهيُ مُستعمَلٌ في التَّحذيرِ والتَّذكيرِ، وفِعلُ تُطِعِ في سِياقِ النَّهيِ يُفيدُ عُمومَ التَّحذيرِ مِن أَدْنى طاعةٍ لهم .
- قولُه: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا قيل: إنَّه أُمِر بالحِرصِ على الدَّعوةِ والمُبالَغةِ فيها، وعُبِّرَ عن ذلك بالجِهادِ -وهو الاسمُ الجامعُ لمُنتهَى الطَّاقةِ- وصِيغةِ المُفاعَلةِ فيه؛ ليُفيدَ مُقابلةَ مَجهودِهم بمَجهودِه فلا يَضعُفُ؛ ولذلك وُصِف بالجِهادِ الكَبيرِ، أي: الجامعِ لكلِّ مُجاهَدةٍ . قيل: لأنَّ مُجاهَدةَ السُّفهاءِ بالحُجَجِ أَكبَرُ مِن مُجاهَدةِ الأعداءِ بالسَّيفِ، أو لأنَّ مُخالفتَهم ومُعاداتِهم فيما بيْن أظهُرِهم مع عُتُوِّهم وظُهورِهم ، أو جعَلَه جِهادًا كبيرًا لِما يُحتمَلُ فيه مِنَ المَشاقِّ العِظامِ، أو لأنَّه جِهادٌ مع كلِّ الكَفرةِ؛ لأنَّه مَبعوثٌ إلى القُرى كافَّةً .
9- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا جمَعَتْ هذه الآيةُ: استِدلالًا، وتَمثيلًا، وتَثبيتًا، ووعْدًا؛ فصريحُها استِدلالٌ على شَيءٍ عظيمٍ مِن آثارِ القُدرةِ الإلهيَّةِ، وهو التِقاءُ الأنهارِ والأَبحُرِ. وفي ضِمْنِها تَمثيلٌ لحالِ دَعوةِ الإسلامِ في مكَّةَ يوْمَئذٍ واختِلاطِ المؤْمنينَ مع المشْركينَ بحالِ تَجاوُزِ البَحرينِ: أحدِهما عَذْبٌ فُراتٌ، والآخَرِ مِلْحٌ أُجاجٌ. وتمثيلُ الإيمانِ بالعَذْبِ الفُراتِ، والشِّركِ بالمِلْحِ الأُجاجِ، وأنَّ اللهَ تعالى كما جَعَل بيْن البَحرَينِ بَرْزخًا يَحفَظُ العَذْبَ مِن أنْ يُكدِّرَه الأُجاجُ، كذلك حَجَز بيْن المُسلِمينَ والمُشركينَ فلا يَستطيعُ المُشرِكونَ أنْ يَدُسُّوا كُفرَهم بيْن المسْلمينَ. وفي هذا تَثبيتٌ للمسْلمينَ بأنَّ اللهَ يَحجُزُ عنهم ضُرَّ المُشركينَ، لقَولِه: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران: 111] . وفي ذلك تَعريضٌ كِنائيٌّ بأنَّ اللهَ ناصِرٌ لهذا الدِّينِ مِن أن يُكدِّرَه الشِّركُ؛ ولأجْلِ ما فيها مِنَ التَّمثيلِ والتَّثبيتِ والوعدِ كان لِمَوقِعِها عَقِبَ جملةِ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] أَكمَلُ حُسنٍ .
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ القَصرُ المُستفادُ هنا مِن تَعريفِ جُزأَيِ الجُملةِ، هو قَصرُ إفرادٍ، أي: لا يَشرَكُه غَيرُه في مَرْجِ البَحرَينِ؛ لَمَّا جَعَلوا له شُركاءَ على الإجمالِ أُبطِلَتْ شَرِكَتُهم بقَصرِ التَّصرُّفِ في مَرْجِ البَحرَينِ على اللهِ تعالى؛ لأنَّه إذا بَطَل تَصرُّفُهم في بعضِ الموجوداتِ اختلَّتْ حَقيقةُ الإلهيَّةِ عنهم؛ إذِ الإلهيَّةُ لا تَقبَلُ التَّجزِئةَ .
- قولُه: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا مَحْجُورًا وصْفٌ لـ حِجْرًا مُشتَقٌّ مِن مادَّتِه؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِ المعنَى المُشتَقِّ منه، كما قالوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ .
10- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا
- عَبَّر بالضَّميرِ وَهُوَ -كما تقدَّمه- حَثًّا على استِحضارِ الأفعالِ والصِّفاتِ التي تقَدَّمتْ؛ لِتُعرفَ الحيثيَّةُ التي كُرِّرَ الضَّميرُ لأجلِها .
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ ... القَصرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ الجُزأَينِ قَصرُ إفرادٍ؛ لإبطالِ دَعْوى شَرِكةِ الأصنامِ للهِ في الإلهيَّةِ .
- والماءُ في قَولِه: خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا مُطلَقٌ دَلَّ على شائعٍ في جِنسِ الماءِ؛ فتَقييدُه بقَولِه: بَشَرًا دَلَّ على أنَّ المرادَ منه النُّطفةُ الواحدةُ، ثمَّ تَقسيمُه بقَولِه: نَسَبًا وَصِهْرًا دَلَّ على نَوعَينِ: ذكَرٍ وأُنثى، وإنَّما عَدَل عنِ الذَّكرِ والأُنثى؛ ليؤْذِنَ بالانشِعابِ نَصًّا؛ فالنُّطفةُ الواحدةُ نُطفةُ آدَمَ عليه السَّلامُ؛ فإذَنِ الآيةُ على وِزانِ قَولِه تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1] .
- والتَّنوينُ في قَولِه: بَشَرًا للتَّعظيمِ .
- وفي ترَكيبِ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا مِن دَقيقِ الإيذانِ بأنَّ قُدرتَه راسِخةٌ واجِبةٌ له، مُتَّصِفٌ بها في الأَزَلِ بما اقتَضاهُ فِعلُ (كان)، وما في صِيغةِ (قَدير) مِنَ الدَّلالةِ على قوَّةِ القُدرةِ المُقتضيةِ تمامَ الإرادةِ والعِلمِ .