موسوعة التفسير

سورةُ فُصِّلَت
الآيات (37-39)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ

غريب الكلمات:

يَسْأَمُونَ: أي: يَمَلُّونَ ويَفتُرونَ، والسَّآمةُ: المَلالةُ مِمَّا يَكثُرُ لُبثُه فِعلًا كان أو انفِعالًا .
خَاشِعَةً: أي: هامِدةً يَابِسةً جَدْبةً لا نَباتَ فيها، وأصلُ (خشع): يدُلُّ على التَّطامُنِ .
اهْتَزَّتْ: أي: تحرَّكتْ بالنَّباتِ، والهزُّ: التَّحريكُ، وأصلُ (هزز): يدُلُّ على اضْطِرابٍ في شيءٍ وحَرَكةٍ .
وَرَبَتْ: أي: عَلَت وانتَفَخَت؛ لأنَّ النَّبتَ إذا أراد أن يَخرُجَ ارتَفَعتْ له الأرضُ، وأصلُ (ربو): يدُلُّ على الزِّيادةِ والنَّماءِ والعُلُوِّ .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى بعضَ الأدلَّةِ على وحدانيَّتِه وقُدرتِه، فيقولُ: ومِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على وُجودِه ووَحدانيَّتِه وقُدرتِه سُبحانَه: اللَّيلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمَرُ، لا تَسجُدوا -أيُّها النَّاسُ- للشَّمسِ ولا للقَمَرِ، واسجُدوا لله وَحْدَه الَّذي خلَقَهنَّ إنْ كُنتُم إيَّاه تَعبُدون.
فإنْ تكبَّرَ أولئك المُشرِكونَ عن إفرادِ اللهِ تعالى بالعُبوديَّةِ، فإنَّ له سُبحانَه عِبادًا آخَرِينَ -يا مُحمَّدُ- هم الملائِكةُ الَّذين عِندَه، فهم يُنَزِّهونَه لَيلًا ونَهارًا، ولا يَمَلُّونَ مِن ذلك.
ومِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على وَحدانيَّتِه تعالى وقُدرتِه على إحياءِ الموتى: أنَّك ترَى الأرضَ يابِسةً مُجدِبةً لا نَباتَ فيها، فإذا أنزَلْنا عليها الماءَ تحَرَّكَت وارتَفَعت، إنَّ الَّذي أحيا تلك الأرضَ اليابِسةَ بالمطَرِ لَمُحْيي الأمواتِ يومَ القيامةِ، إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

تفسير الآيات:

وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن تعالَى أنَّ أحسَنَ الأعمالِ والأقوالِ هو الدَّعوةُ إلى اللهِ؛ أردَفَه بذِكْرِ الدَّلائلِ العُلْويَّةِ والسُّفليَّةِ على قُدْرتِه الباهرةِ، وحِكْمتِه البالِغةِ، وحُجَّتِه القاطعةِ ؛ تنبيهًا على أنَّ الدَّعوةَ إلى اللهِ تعالى عِبارةٌ عن تقريرِ الدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على ذاتِ اللهِ وصِفاتِه، فهذه تنبيهاتٌ شَريفةٌ مُستفادةٌ مِن تناسُقِ هذه الآياتِ؛ فكان العِلمُ بهذه اللَّطائِفِ أحسَنَ عُلومِ القُرآنِ .
وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ.
أي: ومِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على وُجودِه ووَحدانيَّتِه، وقُدرتِه ورَحمتِه بعِبادِه، وغيرِ ذلك مِن صفاتِ كَمالِه: اللَّيلُ والنَّهارُ في تَعاقُبِهما، واختِلافِهما في الظَّلامِ والضِّياءِ، والزِّيادةِ والنُّقصانِ، والاستِواءِ وغيرِ ذلك؛ ومِن آياتِه الشَّمسُ والقَمَرُ في دَوَرانِهما المُستَمِرِّ بانتِظامٍ، وتَقديرِ مَنازِلِهما لِمَصالِحِ الأنامِ، وغيرِ ذلك مِن مَنافِعِهما وعَجائبِهما .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [الإسراء: 12] .
وعن أبي بَكْرةَ رَضِي اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيتانِ مِن آياتِ اللهِ، لا يَنكَسِفانِ لِمَوتِ أحَدٍ ولا لحَياتِه، ولكِنَّ اللهَ تعالى يُخَوِّفُ بها عِبادَه)) .
لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.
أي: لا تَسجُدوا -أيُّها النَّاسُ- للشَّمسِ، ولا تَسجُدوا للقَمَرِ؛ فهما مُدَبَّرانِ مُسَخَّرانِ، واسجُدوا للهِ وَحْدَه الَّذي خلَقَهنَّ ، إنْ كنتُم تَعبُدونَ اللهَ وتَذِلُّونَ له بالطَّاعةِ حَقًّا .
كما قال تعالى حِكايةً عن هُدهُدِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 23 - 26].
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38).
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
أي: فإنْ تكبَّرَ المُشرِكونَ وتعاظَموا عن إفرادِ اللهِ بالعِبادةِ والسُّجودِ له وَحْدَه، فله عِبادٌ آخَرُونَ هم الملائِكةُ الَّذين عِندَ رَبِّك -يا مُحمَّدُ-، فهم يُنَزِّهونَه لَيلًا ونَهارًا .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206] .
وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ.
أي: وهم لا يَمَلُّونَ مِن ذلك .
كما قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20].
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر الآياتِ الأربَعَ الفَلَكيَّةَ، وهي اللَّيلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمَرُ، أتْبَعَها بذِكرِ آيةٍ أرضيَّةٍ .
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً.
أي: ومِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على وَحدانيَّتِه وقُدرتِه تعالى على إحياءِ الموتى وغَيرِ ذلك: أنَّك ترَى الأرضَ يابِسةً مُجدِبةً لا نَباتَ فيها ولا زَرْعَ .
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ.
أي: فإذا أنزَلْنا الماءَ على تلك الأرضِ اليابِسةِ تحَرَّكَت وارتَفَعت .
كما قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى [الحج: 5، 6].
إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى.
أي: إنَّ الَّذي أحيا تلك الأرضَ الخاشِعةَ، فأخَرَج منها النَّباتَ والزَّرعَ بالمطَرِ: لَقادِرٌ على إحياءِ الأمواتِ يومَ القيامةِ .
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 57].
وقال سُبحانَه: فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50] .
وقال تبارك وتعالى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما بيْنَ النَّفخَتينِ أربعونَ. قالوا: يا أبا هُرَيرةَ، أربعونَ يَومًا؟ قال: أَبَيْتُ . قالوا: أربَعونَ شَهرًا؟ قال: أَبَيتُ. قالوا: أربَعونَ سَنةً؟ قال: أَبَيتُ. ثمَّ يُنزِلُ اللهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما يَنبُتُ البَقْلُ، وليس مِن الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبلى إلَّا عَظْمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ ، ومِنه يُرَكَّبُ الخَلقُ يَومَ القيامةِ)) .
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ ذو قدرةٍ على كلِّ شيءٍ، فلا يُعجِزُه شَيءٌ كائِنًا ما كان .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ فيه إشارةٌ إلى الحَثِّ على صِيانةِ الآدَميِّينَ عن أن يَقعَ منهم سُجودٌ لِغَيرِه تعالى؛ رَفعًا لِمَقامِهم عن أن يَكونوا ساجِدينَ لِمَخلوقٍ بعدَ أن كانوا مَسجودًا لهم؛ فإنَّه سُبحانَه أمَرَ الملائِكةَ الَّذين هم أشرَفُ خَلْقِه بَعْدَهم بالسُّجودِ لآدَمَ وهم في ظَهْرِه، فتكَبَّرَ اللَّعينُ إبليسُ، فأبَّدَ لَعْنَه، فشَتَّانَ ما بيْنَ المقامَينِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ الشَّمسُ أعظَمُ ما يُرى في عالَمِ الشَّهادةِ، وأعَمُّه نَفعًا وتأثيرًا، فالنَّهيُ عن السُّجودِ لها نَهيٌ عَمَّا هو دُونَها بطَريقِ الأَولى، مِنَ الكواكِبِ والأشجارِ وغَيرِ ذلك .
2- أنَّ مِن بلاغةِ القُرآنِ أنَّه إذا ذُكِرَ الحُكمُ ذُكِرَ الدَّليلُ العقليُّ عليه؛ لِقَولِه: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ، فقولُه: (اسْجُدُوا للهِ) أمرٌ شَرعيٌّ، وقولُه: الَّذِي خَلَقَهُنَّ دَليلٌ كَونيٌّ قَدَرِيٌّ على أنَّ المُستَحِقَّ للسُّجودِ هو الَّذي خَلَق هذه الأشياءَ .
3- قَولُ الله تعالى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ، استُدِلَّ به على صلاةِ الكسوفِ؛ لأنَّه ليس هاهنا صلاةٌ تتعلَّقُ بالشَّمسِ والقمرِ إلَّا صلاةُ الكسوفِ .
4- في قَولِه تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ رَدٌّ على الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ ومَن يَزعُمُ أنَّ اللهَ ليس بنَفْسِه في السَّماءِ وَحْدَها دونَ الأرضِ؛ فقد قال تعالى: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهمُ الملائكةُ، لا يَشُكُّ أحَدٌ أنَّهم في السَّماءِ .
5- قَولُ الله تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ فيه سُؤالٌ: قال هاهنا في صِفةِ الملائكةِ: يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فهذا يدُلُّ على أنَّهم مُواظِبونَ على التَّسبيحِ، لا ينفَكُّونَ عنه لحظةً واحِدةً، واشتِغالُهم بهذا العَمَلِ على سَبيلِ الدَّوامِ يمنَعُهم مِنَ الاشتِغالِ بسائِرِ الأعمالِ، ككَونِهم يَنزِلونَ إلى الأرضِ، كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194]، وقال: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الحجر: 51]، وقَولِه تعالى: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ [التحريم: 6] ؟
الجَوابُ: أنَّ الَّذين ذكَرَهم اللهُ تعالى هاهنا بكَونِهم مُواظِبينَ على التَّسبيحِ أقوامٌ مُعَيَّنونَ مِن الملائِكةِ، وهم الأشرافُ الأكابِرُ منهم، وهذا لا يُنافي كَونَ طائفةٍ أُخرى مِن الملائِكةِ مُشتَغلِينَ بسائِرِ الأعمالِ .
6- قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فقد دَلَّ سُبحانَه عِبادَه بما أراهم مِنَ الإحياءِ الَّذي تحَقَّقوه وشاهَدوه على الإحياءِ الَّذي استَبعَدوه، وذلك قياسُ إحياءٍ على إحياءٍ، واعتبارُ الشَّيءِ بنَظيرِه، والعِلَّةُ المُوجِبةُ هي عُمومُ قُدرتِه سُبحانَه، وكَمالُ حِكمتِه، وإحياءُ الأرضِ دَليلُ العِلَّةِ، ويُسمَّى هذا القياسُ بقياسِ الدَّلالةِ، وهو الجَمعُ بيْنَ الأصلِ والفَرعِ بدَليلِ العِلَّةِ ومَلزومِها .
7- الاستِدلالُ بالعمومِ على الخصوصِ، فاللهُ تعالى استدَلَّ على قدرتِه على إحياءِ الموتَى بدليلَينِ؛ أحدُهما خاصٌّ، والثَّاني عامٌّ؛ الخاصُّ: «يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها»، والعامُّ: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ويَنبني على هذه الفائدةِ: أنَّ العامَّ يَتناوَلُ جميعَ أفرادِه .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ عطْفٌ على جُملةِ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] الآيةَ، عطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ؛ فإنَّ المقصودَ مِن ذِكرِ خلْقِ العوالِمِ أنَّها دَلائلُ على انفِرادِ اللهِ بالإلهيَّةِ؛ فلذلك أُخبِرَ هنا عن المَذْكوراتِ في هذه الجُملةِ بأنَّها مِن آياتِ اللهِ، انتِقالًا في أفانينِ الاستِدلالِ؛ فإنَّه انتِقالٌ مِنَ الاستِدلالِ بذَواتٍ مِن مَخلوقاتِه إلى الاستِدلالِ بأحوالٍ مِن أحوالِ تلك المَخلوقاتِ، فابتُدِئَ ببَعضِ الأحوالِ السَّماويَّةِ، وهي حالُ اللَّيلِ والنَّهارِ، وحالُ طُلوعِ الشَّمسِ وطُلوعِ القَمَرِ، ثمَّ ذَكَر بَعدَه بَعضَ الأحوالِ الأرضيَّةِ بقَولِه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت: 39] . ويدُلُّ لهذا الانتقالِ أنَّه انتَقَلَ مِن أُسلوبِ الغَيبةِ مِن قَولِه: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً [فصلت: 13] ، إلى قَولِه: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: 34] ، إلى أُسلوبِ خِطابِهم؛ رُجوعًا إلى خِطابِهمُ الَّذي في قَولِه: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: 9] ، والآياتُ: الدَّلائِلُ، وإضافَتُها إلى ضَميرِ اللهِ لِأنَّها دَليلٌ على وَحدانيَّتِه وعلى وُجودِه .
- قولُه: وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... فبَدَأ بذِكرِ الفَلَكيَّاتِ باللَّيلِ والنَّهارِ، وقدَّمَ ذِكرَ اللَّيلِ؛ قيلَ: تَنبيهًا على أنَّ الظُّلمةَ عَدَمٌ، والنُّورَ وُجودٌ، ولأنَّ اللَّيلَ متقدِّمٌ على النَّهارِ، وناسَبَ ذِكرُ الشَّمسِ بَعدَ النَّهارِ؛ لأنَّها سَبَبٌ لِتَنويرِه، ويَظهَرُ العالَمُ فيه، ولأنَّها أبلَغُ في التَّنويرِ مِنَ القَمَرِ، ولأنَّ القَمَرَ فيما يَقولونَ مُستَفادٌ نُورُه مِن نُورِ الشَّمسِ .
- ولم يُذكَرْ ما يدُلُّ على بَعضِ أحوالِ الشَّمسِ والقمَرِ -مِثلُ طُلوعٍ أو غُروبٍ، أو فَلَكٍ أو نَحوِ ذلك-؛ لِيَكونَ صالحًا للاستِدلالِ بأحْوالِهما -وهو المَقصودُ الأوَّلُ- وبخَلْقِهما تأكيدًا لِمَا استُفِيدَ مِن قولِه: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ؛ تَوفيرًا للمعاني .
- قولُه: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ إمَّا أنْ يكونَ النَّهيُ نَهْيَ إقلاعٍ بالنِّسبةِ لِلَّذين يَسجُدونَ لِلشَّمسِ والقَمَرِ، أو نَهْيَ تَحذيرٍ لِمَن لم يَسجُدْ لهما ألَّا يَتَّبِعوا مَن يَعبُدونَهما، ووُقوعُ قَولِه: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ بَعدَ النَّهيِ عنِ السُّجودِ لِلشَّمسِ والقَمَرِ يُفيدُ مُفادَ الحَصرِ؛ لِأنَّ النَّهيَ بمَنزِلةِ النَّفيِ، ووُقوعُ الإثباتِ بَعدَه بمَنزِلةِ مُقابَلةِ النَّفيِ بالإيجابِ؛ فإنَّه بمَنزِلةِ النَّفيِ والاستِثناءِ في إفادةِ الحَصرِ، فكَأنَّه قيلَ: لا تَسجُدوا إلَّا للهِ، أيْ: دُونَ الشَّمسِ والقَمَرِ؛ فجُملةُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ مُعتَرِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وبيْن جُملةِ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا [فصلت: 38] .
- وأعاد النَّافيَ في قولِه: وَلَا لِلْقَمَرِ؛ تأكيدًا للنَّفيِ، وإفادةً لأنَّ النَّهيَ عن كلٍّ منهما على حِدَتِه .
- والضَّميرُ في خَلَقَهُنَّ لِلأربَعةِ -على قولٍ-؛ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؛ لأنَّ حُكْمَ جَماعةِ ما لا يَعقِلُ حُكْمُ الأُنثَى أو الإناثِ، أو عُبِّرَ عن الأرْبعِ بضَميرِ الإناثِ، مع أنَّ فيها ثلاثةً مُذكَّرةً، والعادةُ تَغليبُ المُذكَّرِ على المُؤنَّثِ؛ لِأنَّه لَمَّا قال: وَمِنْ آَيَاتِهِ فنَظَمَ الأربَعةَ في سِلكِ الآياتِ، صارَ كُلُّ واحِدٍ منها آيةً، فعَبَّرَ عنها بضَميرِ الإناثِ .
- وأيضًا تَعليقُ الفِعلِ خَلَقَهُنَّ بالكُلِّ، مع كِفايةِ بَيانِ مَخلوقيَّةِ الشَّمسِ والقَمَرِ؛ لِلإيذانِ بكَمالِ سُقوطِهما عن رُتبةِ المَسجوديَّةِ بنَظمِهما في المَخلوقيَّةِ في سِلكِ الأعراضِ الَّتي لا قيامَ لها بذاتِها .
- قَولُه: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تَتميمٌ لِلمَعنى، وتَقريعٌ لِلغافِلينَ ، وقَدَّمَ المفعولَ به لإفادةِ الحَصْرِ؛ لأنَّ مِن القواعدِ المُقَرَّرَةِ في علمِ البلاغةِ وغيرِها أنَّ تقديمَ ما حَقُّه التَّأخيرُ يُفيدُ الحَصْرَ .
2- قولُه تعالَى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ هذا تَتميمٌ بَعدَ تَتميمٍ، وتَسليةٌ لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو مُتَضمِّنٌ لِلذَّمِّ على تَركِ السُّجودِ؛ فإنَّ قَولَه: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا وُضِعَ مَوضِعَ: فإنْ لم يَسجُدوا؛ إقامةً لِلسَّبَبِ مَوضِعَ المُسَبَّبِ؛ لِلعِلِّيَّةِ .
- والفاءُ في قولِه: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ... لِلتَّفريعِ على نَهيِهم عنِ السُّجودِ لِلشَّمسِ والقَمَرِ، وأمْرِهم بالسُّجودِ للهِ وَحْدَه، أيْ: فإنِ استَكبَروا أنْ يَتَّبِعوكَ وصَمَّموا على السُّجودِ لِلشَّمسِ والقَمَرِ، أو فإنِ استَكبَروا عن الاعتِرافِ بدَلالةِ اللَّيلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقَمَرِ على تَفَرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ، فيَعُمُّ ضَميرُ اسْتَكْبَرُوا جَميعَ المُشرِكينَ؛ فاللهُ غَنيٌّ عن عِبادَتِهم إيَّاه .
- والاستِكبارُ: قُوَّةُ التَّكَبُّرِ، فالسِّينُ والتَّاءُ لِلمُبالَغةِ، أيْ: عَدُّوا أنْفُسَهم ذَوي كِبرٍ شَديدٍ مِن فَرْطِ تَكَبُّرِهم .
- وجُملةُ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ دَليلُ جَوابِ الشَّرطِ المَحذوفِ، والتَّقديرُ: فإنْ تَكَبَّروا عنِ السُّجودِ للهِ فهو غَنيٌّ عن سُجودِهم؛ لِأنَّ له عَبيدًا أفضَلَ منهم لا يَفْتُرونَ عن التَّسبيحِ له بإقبالٍ دُونَ سَآمةٍ .
- قولُه: يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذِكْرُ اللَّيلِ والنَّهارِ هنا؛ لِقَصدِ استِيعابِ الزَّمانِ، أيْ: يُسَبِّحونَ له الزَّمانَ كُلَّه .
- وجُملةُ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ في مَوضِعِ الحالِ، وهو أوقَعُ مِن مَحمَلِ العَطفِ؛ لِأنَّ كَونَ الإخبارِ عنهم مُقَيَّدًا بهذه الحالِ أشَدُّ مِن إظهارِ عَجيبِ حالِهم؛ إذْ شَأنُ العَمَلِ الدَّائِمِ أنْ يَسْأمَ منه عامِلُه .
- وأيضًا قولُه: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ فيه احتباكٌ ، حيثُ ذكَرَ الاستِكبارَ أوَّلًا دليلًا على حذْفِه ثانيًا، والتَّسبيحَ ثانيًا دليلًا على حذْفِه أوَّلًا؛ وسِرُّ ذلك: أنَّه ذكَرَ أقبَحَ ما لِأعدائِه، وأحسَنَ ما لِأوليائِه .
3- قولُه تعالَى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عطْفٌ على جُملةِ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ [فصلت: 37] ، وهذا استِدلالٌ بهذا الصُّنعِ العَظيمِ على أنَّه تعالَى مُنفَرِدٌ بفِعلِه، فهو دَليلُ إلهيَّتِه دُونَ غَيرِه؛ لِأنَّ مَن يَفعَلُ ما لا يَفعَلُه غَيرُه هو الإلهُ الحَقُّ، وإذا كان كذلك لم يَجُزْ أنْ يَتعَدَّدَ؛ لِكَونِ مَن لا يَفعَلُ مِثلَ فِعلِه ناقصَ القُدرةِ، والنَّقصُ يُنافي الإلهيَّةَ، كما قال: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النحل: 17] .
- ولَمَّا كان السِّياقُ لِلوَحْدانيَّةِ، عُبِّرَ بما هو أقرَبُ إلى حالِ العابدِ، بخِلافِ ما مَضى في (الحجِّ): وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً [الحج: 5] ، فقال: خَاشِعَةً، أي: يابسةً لا نَباتَ فيها؛ فهي بصُورةِ الذَّليلِ الَّذي لا مَنَعةَ عِندَه؛ لأنَّه لا مانعَ مِن المَشْيِ فيها؛ لِكَونِها مُتطامِنةً بعْدَ السَّاترِ لِوَجْهِها، بخلافِ ما إذا كانتْ مُهتزَّةً رابيةً مُتزَخْرِفةً تَختالُ بالنَّباتِ .
- وعُطِفَ وَرَبَتْ على اهْتَزَّتْ؛ لِأنَّ المَقصودَ مِنَ الاهتِزازِ هو ظُهورُ النَّباتِ عليها وتَحَرُّكُه، والمَقصودُ بالرَّبْوِ: انتِفاخُها بالماءِ واعتِلاؤُها .
- قولُه: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إدماجٌ لِإثباتِ البَعثِ في أثناءِ الاستِدلالِ على تَفَرُّدِه تعالَى بالخَلقِ والتَّدبيرِ، ووُقوعُه على عادةِ القُرآنِ في التَّفنُّنِ وانتهازِ فُرَصِ الهُدى إلى الحقِّ. والجُملةُ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ، والمُناسَبةُ مُشابَهةُ الإحياءَيْنِ .
- وحَرفُ التَّوكيدِ إِنَّ لِمُراعاةِ إنكارِ المُخاطَبينَ إحياءَ المَوتى، وتَعريفُ المُسنَدِ إليه بالمَوصوليَّةِ الَّذِي أَحْيَاهَا؛ لِمَا في المَوصولِ مِن تَعليلِ الخَبَرِ .
- وفي قولِه: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى شَبَّهَ إمدادَ الأرضِ بماءِ المَطَرِ الَّذي هو سَبَبُ انبِثاقِ البُذورِ الَّتي في باطِنِها الَّتي تَصيرُ نَباتًا بإحياءِ المَيِّتِ، ثمَّ ارتُقِيَ مِن ذلك إلى جَعْلِ ذلك -الَّذي سُمِّيَ إحياءً؛ لِأنَّه شَبيهُ الإحياءِ- دَليلًا على إمكانِ إحياءِ المَوتَى بطَريقةِ قِياسِ الشَّبَهِ، وهو يُفيدُ تَقريبَ المَقيسِ بالمَقيسِ عليه، وليس الاستِدلالُ بالشَّبهِ والتَّمثيلِ بحُجَّةٍ قَطعيَّةٍ، بلْ هو إقناعيٌّ، ولكِنَّه هنا يَصيرُ حُجَّةً؛ لِأنَّ المَقيسَ عليه، وإنْ كانَ أضعَفَ مِنَ المَقيسِ؛ إذِ المُشَبَّهُ لا يَبلُغُ قُوَّةَ المُشَبَّهِ به؛ فالمُشَبَّهُ به حيث كان لا يَقدِرُ على فِعلِه إلَّا الخالِقُ الَّذي اتَّصَفَ بالقُدرةِ التَّامَّةِ لِذَاتِه، فقد تَساوى فيه قَويُّه وضَعيفُه، وهمْ كانوا يُحيلونَ إحياءَ الأمواتِ استِنادًا لِلاستِبعادِ العاديِّ، فلَمَّا نُظِّرَ إحياءُ الأمواتِ بإحياءِ الأرضِ المُشَبَّهِ، تَمَّ الدَّليلُ الإقناعيُّ المُناسِبُ لِشُبهَتِهمُ الإقناعيَّةِ، وقد أشارَ إلى هذا تَذييلُه بقَولِه: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .