موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (6-11)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غريب الكلمات :

فُرُوجٍ: أي: صُدوعٍ وفُتوقٍ وشُقوقٍ، وأصلُ (فرج): يدُلُّ على تَفتُّحٍ في الشَّيءِ .
رَوَاسِيَ: أي: جِبالًا ثوابِتَ، وأصلُه: يدُلُّ على ثَباتٍ .
بَهِيجٍ: أي: حَسَنٍ عَجيبٍ، وأصلُ (بهج): يدُلُّ على السُّرورِ والنُّضْرةِ .
تَبْصِرَةً: أي: تَبْصيرًا وتِبيانًا، وأصلُ (بصر): يدُلُّ على عِلمٍ بالشَّيءِ .
وَذِكْرَى: أي: مَوعِظةً وتَذكِرةً، وأصلُ (ذكر): يدُلُّ على خِلافِ النِّسيانِ .
مُنِيبٍ: أي: رَجَّاعٍ تائبٍ، ومُتذَلِّلٍ خاشِعٍ، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على اعتيادٍ ورُجوعٍ .
الْحَصِيدِ: أي: الزَّرعِ المحصودِ مِن البُرِّ والشَّعيرِ وسائِرِ أنواعِ الحُبوبِ، وأصلُ (حصد): يدُلُّ على قَطعِ الشَّيءِ .
بَاسِقَاتٍ: أي: طَويلاتٍ، وأصلُ (بسق): يدُلُّ على ارتفاعِ الشَّيءِ وعُلُوِّه .
طَلْعٌ: الطَّلعُ: أوَّلُ ما يَخرُجُ مِن ثَمَرِ النَّخلِ، وأصلُ (طلع): يدُلُّ على ظُهورٍ وبُروزٍ .
نَضِيدٌ: أي: مُصَفَّفٌ بَعضُه فَوقَ بَعضٍ، وأصلُ (نضد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شَيءٍ في اتِّساقٍ وجَمْعٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالَى مبيِّنًا الأدلَّةَ على قُدرتِه، وعلى أنَّ البعثَ حقٌّ: أفلمْ يَنظُرْ هؤلاء المكَذِّبونَ بالبعثِ إلى السَّماءِ فَوقَهم، فيَتأمَّلوا كيفيَّةَ بِنائِها وتَزيينِها بالنُّجومِ، وأنَّها مُحكَمةُ البِناءِ ليس بها صُدوعٌ ولا تَشقُّقاتٌ؟! والأرضَ بَسَطَ اللهُ تعالَى سَطْحَها، وجعَلَ فيها جِبالًا راسيةً تُثبِّتُها لكيْلا تَضطرِبَ، وأنبَتَ فيها مِن كُلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الزُّروعِ التي تَسُرُّ النَّاظِرينَ؛ لحُسْنِها، قدْ جعَل اللهُ هذه الأشياءَ كُلَّها تَبصِرةً وتَذكيرًا لكُلِّ عَبدٍ رجَّاعٍ إلى اللهِ تعالَى.
ونزَّلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ ماءً كثيرَ الخَيرِ، فأنبَتَ بسَبَبِه بَساتينَ وأنواعَ الحُبوبِ التي تُحصَدُ -كالقَمحِ والذُّرَةِ وغَيرِهما-، والنَّخلَ طَويلاتٍ لها ثِمارٌ مَصفوفٌ بَعضُها فوقَ بَعضٍ؛ رِزقًا للنَّاسِ، وأحيَا اللهُ بماءِ المطَرِ بَلدةً مُجدِبةً لا زَرْعَ فيها، فكما أحيَا اللهُ الأرضَ بعْدَ مَوتِها كذلك يُخرِجُكم -أيُّها النَّاسُ- يومَ القِيامةِ أحياءً بعدَ مَوتِكم.

تفسير الآيات :

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالَى حالةَ المكَذِّبينَ وما ذَمَّهم به، دعاهم إلى النَّظَرِ في آياتِه الأُفُقيَّةِ؛ كي يَعتَبِروا ويَستَدِلُّوا بها على ما جُعِلَت أدِلَّةً عليه .
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6).
أي: أفلمْ يَنظُرْ هؤلاء المكَذِّبونَ بقُدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتَى إلى السَّماءِ الَّتي رفَعَها اللهُ فَوقَهم، فيَتأمَّلوا كيفيَّةَ بُنيانِنا العَظيمِ لها وتَزيينِنا لها بالنُّجومِ، وأنَّه ليس بها صُدوعٌ ولا تَشقُّقاتٌ، بل هي مَبنيَّةٌ بإحكامٍ بلا عُيوبٍ؟! فالَّذي قدَر على فِعلِ ذلك لا يُعجِزُه شَيءٌ سُبحانَه !
كما قال تعالَى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] .
وقال تعالَى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [النبأ: 12] .
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7).
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا.
أي: والأرضَ بَسَطْنا سَطْحَها .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: 3] .
وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ.
أي: وجعَلْنا فيها جِبالًا راسيةً تُثبِّتُها، فلا تَضطرِبُ الأرضُ ولا تَميدُ .
كما قال تعالَى: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا [الرعد: 3] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان: 10] .
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
أي: وأنبَتْنا في الأرضِ مِن كُلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الزُّروعِ والنَّباتِ والثِّمارِ التي تَسُرُّ النَّاظِرينَ؛ مِن حُسْنِها .
قال تعالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرعد: 3] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ  [لقمان: 10] .
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالَى هذه الصَّنائِعَ الباهِرةَ؛ عَلَّلها بقَولِه :
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8).
أي: فعَلْنا ذلك مِن أجْلِ أنْ يُبصِرَ ويَتذَكَّرَ كُلُّ عَبدٍ رجَّاعٍ إلى اللهِ تعالَى، مُقبِلٍ على طاعتِه، فيَستَدِلَّ بالنَّظَرِ إليها والتَّفكُّرِ فيها على كَمالِ قُدرتِه على البَعثِ وغَيرِه، وإحاطتِه بجَميعِ صِفاتِ الكَمالِ .
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9).
أي: ونزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً كثيرَ الخَيرِ والنَّفعِ، فأنبَتْنا بسَبَبِه بَساتينَ كَثيرةَ الأشجارِ، وأنبَتْنا به أنواعَ الحُبوبِ التي تُحصَدُ؛ كالبُرِّ والذُّرَةِ، والشَّعيرِ والأَرُزِّ .
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10).
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ.
أي: وأنبَتْنا بماءِ المطَرِ النَّخلَ طَويلاتٍ عالياتٍ .
لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ.
أي: للنَّخلِ الطِّوالِ طَلعٌ -وهو أوَّلُ ما يَظهَرُ مِن ثَمَرِه، وهو في غِلافِ العُنقودِ- مُتراكِبٌ مَصفوفٌ بَعضُه فوقَ بَعضٍ .
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانَه بَعضَ ما له في الماءِ مِنَ العَظَمةِ؛ ذكَرَ له عِلَّةً هي غايةٌ في المِنَّةِ على الخَلقِ، فقال :
رِزْقًا لِلْعِبَادِ.
أي: أنزَلْنا المطَرَ، وأنبَتْنا به الجنَّاتِ والحُبوبَ والنَّخيلَ؛ رِزقًا للنَّاسِ مُؤمِنِهم وكافِرِهم .
وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا.
أي: وأحيَيْنا بماءِ المطَرِ بَلدةً مُجدِبةً لا زَرْعَ فيها ولا نَبْتَ .
كَذَلِكَ الْخُرُوجُ.
أي: كما أحْيَينا الأرضَ بعدَ مَوتِها كذلك نُخرِجُكم يومَ القِيامةِ أحياءً بعدَ مَوتِكم .
كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما يَنبُتُ البَقْلُ ، ليس مِنَ الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبلى، إلَّا عَظمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنه يُركَّبُ الخَلقُ يومَ القِيامةِ )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((يَصْعَقُ النَّاسُ، ثمَّ يُنزِلُ اللهُ مَطرًا كأنَّه الطَّلُّ -أو الظِّلُّ- فتَنبُتُ منه أجسادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنفَخُ فيه أُخرى فإذا هم قِيامٌ يَنظرونَ )) .

الفوائد التربوية :

1- قال اللهُ تعالَى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ المُنيبُ إلى رَبِّه يَتذكَّرُ بذلك، فإذا تذَكَّر تبَصَّرَ به، فالتَّذَكُّرُ قبْلَ التَّبَصُّرِ وإنْ قُدِّمَ عليه في اللَّفظِ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] ، والتَّذكُّرُ: تفَعُّلٌ مِنَ الذِّكرِ، وهو حُضورُ صُورةٍ مِنَ المذكورِ في القَلبِ، فإذا استَحضَره القَلبُ وشاهَدَه على وَجهِه أوجَبَ له البَصيرةَ، فأبصَرَ ما جُعِلَ دليلًا عليه، فكان في حَقِّه تَبصرةً وذِكرى، والهُدى مَدارُه على هذَينِ الأصلَينِ: التَّذَكُّرِ، والتبَصُّرِ .
2- قال اللهُ تعالَى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ الآياتُ المخلوقةُ والمَتْلوَّةُ فيها تَبصِرةٌ، وفيها تَذكِرةٌ: تَبصِرةٌ مِنَ العَمَى، وتَذكِرةٌ مِنَ الغَفلةِ؛ فيُبصِرُ مَن لم يكُنْ عَرَف حتَّى يَعرِفَ، ويَذكُرُ مَن عَرَف ونَسِيَ ؛ فإنَّ المضادَّ للعِلمِ إمَّا عَمى القلبِ؛ وزوالُه بالتَّبصُّرِ، وإمَّا غفلتُه؛ وزَوالُه بالتَّذكُّرِ. والمقصودُ تَنبيهُ القَلبِ مِن رَقدتِه بالإشارةِ إلى شَيءٍ مِن بَعضِ آياتِ اللهِ .
3- الإنابةُ إنابتانِ: إنابةٌ لرُبوبيَّتِه، وهي إنابةُ المَخلوقاتِ كُلِّها، يَشتَرِكُ فيها المؤمِنُ والكافِرُ، والبَرُّ والفاجِرُ؛ قال اللهُ تعالَى: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم: 33]، فهذا عامٌّ في حَقِّ كُلِّ داعٍ أصابه ضُرٌّ، كما هو الواقِعُ، وهذه الإنابةُ لا تَستلزِمُ الإسلامَ، بلْ تجامِعُ الشِّركَ والكُفرَ؛ كما قال تعالَى في حَقِّ هؤلاء: ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ [الروم: 33، 34]؛ فهذا حالُهم بعدَ إنابتِهم.
والإنابةُ الثَّانيةُ: إنابةُ أَوليائِه، وهي إنابةٌ لإلهيَّتِه، إنابةُ عُبوديَّةٍ ومَحبَّةٍ. وهي تَتضَمَّنُ أربعةَ أُمورٍ: محبَّتَه، والخُضوعَ له، والإقبالَ عليه، والإعراضَ عمَّا سِواه؛ فلا يَستَحِقُّ اسمَ المُنيبِ إلَّا مَن اجتمَعَت فيه هذه الأربَعُ، وتَفسيرُ السَّلَفِ لهذه اللَّفظةِ يَدورُ على ذلك ، ومِن ذلك قولُه تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ.

الفوائد العلمية واللطائف :

1- في قَولِه تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ إلى قولِه: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ حُجَّةٌ بالاستِدلالِ بالشَّاهدِ على الغائِبِ مِن قُدرةِ الرَّبِّ، وبالخَلْقِ على الخالِقِ مِن صُنعِه .
2- قال اللهُ تعالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَكَر تعالَى في السَّماءِ ثَلاثةً: البِناءَ، والتَّزيينَ، ونَفْيَ الفُروجِ، وفي الأرضِ ثَلاثةً: المَدَّ، وإلقاءَ الرَّواسي، والإنباتَ. قابَلَ المَدَّ بالبناءِ؛ لأنَّ المَدَّ وَضعٌ، والبِناءَ رَفعٌ، وإلقاءَ الرَّواسي بالتَّزيينِ بالكواكِبِ؛ لارتكازِ كُلِّ واحدٍ منهما، والإنباتَ المترَتِّبَ على الشَّقِّ بانتِفاءِ الفُروجِ؛ فلا شَقَّ فيها .
3- العِلمُ يَحصُلُ بالعِلمِ بالدَّليلِ لِمَن لم يكُنْ عالِمًا به قَطُّ، ولِمَن يَذكُرُه بعْدَ النِّسيانِ إذا كان قدْ عَلِمَه ثمَّ نَسِيَه؛ ولهذا قال سُبحانَه: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ؛ فبَيَّن سُبحانَه أنَّ آياتِه تَبصِرةٌ وتَذكِرةٌ؛ فالتَّبصِرةُ بعْدَ العَمَى، وهو الجَهلُ، والتَّذكِرةُ بعدَ النِّسيانِ، وهو ضِدُّ العِلمِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ احتَجَّ به بَعضُهم على استِدارةِ السَّماءِ، وإحاطتِها بالأرضِ مِن جميعِ جِهاتِها؛ لأنَّه سُبحانَه قال: لا فُروجَ فيها ولا فُطورَ، ولو كانتْ مَبسوطةً غيرَ مُتَّصِلةِ الأطرافِ، لم تكُنْ كذلك ، فنَفيُ الفُروجِ فيها على هذا الوَجهِ المؤَكَّدِ يدُلُّ دَلالةً ظاهِرةً على أنَّ السَّماءَ كُرةٌ مُجَوَّفةُ الوَسَطِ، مُقَبَّبةٌ كالبَيضةِ .
5- قَولُه تعالَى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ الفَرقُ بيْنَ التَّبصِرةِ والذِّكرى: أنَّ التَّبصِرةَ مُستَمِرَّةٌ، والذِّكرى عندَ النِّسيانِ؛ فهذه الآياتُ لأجْلِ التَّبصِرةِ والذِّكرى، والفَرقُ بيْنهما: أنَّ التَّبصِرةَ تُوجِبُ العِلمَ والمَعرِفةَ، والذِّكرى تُوجِبُ الإنابةَ والانقيادَ، وبهما تَتِمُّ الهِدايةُ .
6- قال اللهُ تعالَى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ مِن الحِكمِ في إنزالِ الماءِ مِنَ العُلوِّ لِيَشمَلَ قِمَمَ الجِبالِ ومَراتِعَ الإبِلِ، والسَّهْلَ والأوديةَ؛ لأنَّه لو جاء يَمْشي سَيحًا (جاريًا) مِنَ الأرضِ ما وصَلَ إلى قِمَمِ الجِبالِ .
7- قَولُ اللهِ تعالَى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ فيه سُؤالٌ: قَولُه وَحَبَّ الْحَصِيدِ فيه إضافةُ الشَّيء إلى نَفْسِه -لأنَّ الحَبَّ هو الحَصيدُ- وهي مُمتَنِعةٌ؛ لأنَّ الإضافةَ تَقتَضي المغايرةَ بيْن المُضافِ والمضافِ إليه؟
الجوابُ: أنَّ هذه الإضافةَ ليْستْ مُمتَنِعةً مُطلَقًا، بل هي جائِزةٌ عند اختِلافِ اللَّفظَينِ، كما في قَولِه: حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: 95] ، وحَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، و(لَدَارُ الْآخِرَةِ) [يوسف: 109] ، وبتَقديرِ امتِناعِها مُطلَقًا؛ فالتَّقديرُ: حَبُّ الزَّرعِ أو النَّباتِ الحَصيدِ .
8- في قَولِه تعالى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ إثباتُ الأسبابِ ، وكذا في قَولِه سُبحانَه: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا .
9- قولُه: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ... الآياتِ، نبَّهَ فيما تعلَّقَ به الإنباتُ على ما يُقطَفُ كُلَّ سَنةٍ، ويَبقَى أصْلُه، وما يُزرَعُ كُلَّ سَنةٍ أو سَنتَينِ، ويُقطَفُ كُلَّ سَنةٍ، وعلى ما اختلَطَ مِن جِنسَينِ، فبَعضُ الثِّمارِ فاكِهةٌ لا قُوتٌ، وأكثَرُ الزَّرعِ قُوتٌ، والثَّمرُ فاكهةٌ وقوتٌ .
10- قال اللهُ تعالَى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ لم يُقَيِّدْ هنا العِبادَ بالإنابةِ، وقَيَّدَه في قَولِه تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 8] ؛ لأنَّ التَّذكِرةَ لا تكونُ إلَّا للمُنيبِ، والرِّزقَ يَعُمُّ كُلَّ أحدٍ، غَيرَ أنَّ المُنيبَ يَأكُلُ ذاكِرًا أو شاكِرًا للإنعامِ، وغَيرَه يَأكُلُ كما تَأكُلُ الأنعامُ؛ فلم يُخَصَّصْ بقَيدٍ .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ تَفريعٌ على قولِه: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: 2] إلى قولِه: مَرِيجٍ [ق: 5] ؛ لأنَّ أهمَّ ما ذُكِرَ مِن تَكذيبِهم أنَّهم كذَّبوا بالبعثِ، وخَلْقُ السَّمواتِ والنُّجومِ والأرضِ دالٌّ على أنَّ إعادةَ الإنسانِ بعدَ العدَمِ في حيِّزِ الإمكانِ؛ فتلكَ العوالِمُ وُجِدَت عن عدَمٍ .
- قولُه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ ... الاستِفهامُ يَجوزُ أنْ يكونَ إنكاريًّا، ويكونَ النَّظرُ نظَرَ الفِكرِ، ومَحلُّ الإنكارِ هو الحالَ التي دلَّ عليها كَيْفَ بَنَيْنَاهَا، أي: ألمْ يَتدبَّروا في شَواهدِ الخَليقةِ؛ فتَكونَ الآيةُ في معنى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الروم: 8] . ويَجوزُ أنْ يكونَ الاستِفهامُ تَقريريًّا، ويكونَ النَّظرُ المُشاهدةَ، ومَحلُّ التَّقريرِ هو فِعلَ يَنْظُرُوا، أو يكونَ (كيف) مُرادًا به الحالُ المُشاهَدةُ، والتَّقريرُ على نفْيِ الشَّيءِ المُرادِ الإقرارُ بإثباتِه طَريقةٌ قُرآنيَّةٌ، والغرَضُ منه إفساحُ المَجالِ للمُقرَّرِ إنْ كان يَرومُ إنكارَ ما قُرِّرَ عليه؛ ثِقةً مِن المُقرِّرِ بأنَّ المُقرَّرَ لا يُقدِمُ على الجُحودِ بما قُرِّرَ عليه؛ لظُهورِه. وهذا الوجْهُ أشدُّ في النَّعْيِ عليهم؛ لاقتِضائِه أنَّ دَلالةَ المخلوقاتِ المذكورةِ على إمكانِ البَعثِ يَكفي فيها مُجرَّدُ النَّظَرِ بالعينِ .
- وأيضًا لَمَّا أخبَرَهم أنَّهم قالوا عن غيرِ تأمُّلٍ، أنْكَرَ عليهم ذلك مُوبِّخًا لهم دالًّا على صِحَّةِ ما أنْكَروه وفَسادِ إنكارِهم بقولِه -مُسبَّبًا عن عَجَلتِهم إلى الباطلِ-: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ؛ فالاستفهامُ هنا للتَّوبيخِ؛ يُوبِّخُهم عزَّ وجلَّ لِماذا لم يَنظُروا إلى هذا؟! لِماذا لم يَنظُروا إلى السَّماءِ وما فيها مِن عَجائِبَ .
- والفاءُ عاطفةٌ على مَحذوفٍ يُطيحُ بكُلِّ ما قالوه افتِئاتًا على الحقِّ، وإنكارًا له، أي: أغَفَلُوا وعَمُوا فلم يَنظُروا ؟!
- قولُه: إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا أفْرَدَ السَّماءَ ولم يَجمَعْ؛ لأنَّ بِناءَها على ما ذُكِرَ -وإنْ كانتْ واحدةً- يدُلُّ على كَمالِ القُدرةِ؛ فإنَّ البِناءَ المجوَّفَ لا يُمكِنُ إكْمالُ بِنائِه مِن غيرِ أنْ يكونَ له فُروجٌ، وإنِ اختلَّ ذلك كان مَوضعُ الوصلِ ظاهرًا للرَّائِينَ ما فيه مِن فُتورٍ وشُقوقٍ وقُصورٍ وما يُشبِهُ ذاك .
- وقولُه: فَوْقَهُمْ حالٌ مِن السَّماءِ، والتَّقييدُ بالحالِ تنْديدٌ عليهم؛ لإهمالِهم التَّأمُّلَ مع المُكنةِ منه؛ إذ السَّماءُ قَريبةٌ فوقَهم، لا يُكلِّفُهم النَّظرُ فيها إلَّا رفعَ رُؤوسِهم .
- واقتُصِرَ على آيةِ تَزيينِ السَّماءِ دونَ تَفْصيلِ ما في الكواكبِ المُزيَّنةِ بها مِن الآياتِ؛ لأنَّ التَّزيينَ يَشترِكُ في إدراكِه جَميعُ الذين يُشاهدونَه، وللجمْعِ بيْن الاستِدلالِ والامتِنانِ بنِعمةِ التَّمكينِ مِن مُشاهَدةِ المَرائي الحَسنةِ، ثمَّ يَتفاوتُ النَّاسُ في إدْراكِ ما في خَلْقِ الكواكبِ والشَّمسِ والقَمَرِ ونِظامِها مِن دَلائلَ على مِقدارِ تَفاوتِ عُلومِهم وعُقولِهم. والآيةُ صالحةٌ لإفهامِ جَميعِ الطَّبَقاتِ .
2- قولُه تعالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ عطْفٌ على جُملةِ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا [ق: 6] عطْفَ الخبَرِ على الاستِفهامِ الإنكاريِّ، وهو في مَعنى الإخبارِ، والتَّقديرُ: ومدَدْنا الأرضَ. ولَمَّا كانتْ أحوالُ الأرضِ نُصبَ أعيُنِ الناسِ، وهي أقرَبُ إليهم مِن أحوالِ السَّماءِ؛ لأنَّها تَلوحُ للأنظارِ دونَ تكلُّفٍ؛ لم يُؤتَ في لَفْتِ أنظارِهم إلى دَلالتِها باستِفهامٍ إنكاريٍّ؛ تَنْزيلًا لهم مَنزِلةَ مَن نظَرَ في أحوالِ الأرضِ، فلمْ يَكونوا بحاجةٍ إلى إعادةِ الإخبارِ بأحوالِ الأرضِ تذكيرًا لهم .
- وفائِدةُ هذا الوصْفِ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ زِيادةُ التَّنبيهِ إلى بَديعِ خلْقِ اللهِ؛ إذ جعَلَ الجِبالَ مُتداخلةً مع الأرضِ، ولم تكُنْ مَوضوعةً عليها وضْعًا كما تُوضَعُ الخَيمةُ؛ لأنَّها لو كانتْ كذلك لَتزلزَلَتْ وسقَطَتْ وأهلكَتْ ما حوالَيْها .
- وحرْفُ (مِن) في قَولِه: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مَزيدٌ للتَّوكيدِ؛ فالمقصودُ مِن التَّوكيدِ بحرْفِ (مِن) تَنزيلُهم مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ اللهَ أنبَتَ ما على الأرضِ مِن أنواعٍ حين ادَّعَوا استحالةَ إخراجِ الناسِ مِن الأرضِ؛ ولذلك جِيءَ بالتَّوكيدِ في هذه الآيةِ؛ لأنَّ الكلامَ فيها على المشرِكين .
- وكلمةُ كُلِّ مُستعمَلةٌ في معْنى الكَثرةِ، وفائدةُ التَّكثيرِ هنا التَّعريضُ بهم؛ لقلَّةِ تَدْبيرِهم؛ إذ عَمُوا عن دَلائلَ كثيرةٍ واضحةٍ بيْنَ أيديهم .
- والوصْفُ بَهِيجٍ يُفيدُ ذِكْرُه تَقويةَ الاستدلالِ على دِقَّةِ صُنعِ اللهِ تعالى، وإدْماجَ الامتنانِ عليهم بذلك؛ لِيَشْكُروا النِّعمةَ ولا يَكفُروها بعِبادةِ غيرِه . و(البَهيج) يَجوزُ أنْ يكونَ صِفةً مُشبَّهةً، يُقال: بهُجَ؛ إذا حسُنَ في أعينِ النَّاظرينَ؛ فالبهيجُ بمعنى الفاعِلِ، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل: 60] . ويجوزُ أنْ يكونَ فَعيلًا بمَعنى مَفعولٍ، أي: مُنبهَجٌ به، على الحذْفِ والإيصالِ ، أي: يُسَرُّ به النَّاظرُ، يُقال: بهَجَه؛ إذا سرَّه، ومنه الابتهاجُ: المَسرَّةُ .
- قولُه: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ عِلَّتانِ للأفعالِ المذْكورةِ، وإنَّما كانتِ التَّبصرةُ والذِّكْرى علَّةً للأفعالِ المذكورةِ؛ لأنَّ التَّبصرةَ والذِّكرى مِن جُملةِ الحِكَمِ التي أوجَدَ اللهُ تلك المخلوقاتِ لأجْلِها، وليْس ذلك بمُقتضٍ انحصارَ حِكمةِ خَلْقِها في التَّبصرةِ والذِّكرى؛ لأنَّ أفعالَ اللهِ تعالَى لها حِكَمٌ كثيرةٌ عَلِمْنا بَعضَها، وخَفِيَ علينا بعضٌ .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى؛ ليعُمَّ كلَّ ما يَصلُحُ أنْ يُتبصَّرَ في شأنِه بدَلائلِ خلْقِ الأرضِ وما عليها، وأهمُّ ذلك فيهمْ هو التَّوحيدُ والبَعثُ، كما هو السِّياقُ تصْريحًا وتلويحًا .
- وفي قَولِه: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ خُصَّ العبدُ المُنيبُ بالتَّبصرةِ والذِّكْرى، وإنْ كان فيما ذُكِرَ مِن أحوالِ الأرضِ إفادةُ التَّبصرةِ والذِّكْرى لكلِّ أحدٍ؛ لأنَّ العبدَ المُنيبَ هو الذي يَنتفِعُ بذلك، فكأنَّه هو المقصودُ مِن حِكمةِ تلك الأفعالِ، وهذا تَشريفٌ للمؤمنينَ، وتَعريضٌ بإهمالِ الكافرين التَّبصُّرَ والتَّذكُّرَ .
3- قولُه تعالَى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ بعْدَ التَّنظُّرِ والتَّذكيرِ والتَّبصيرِ في صُنعِ السَّمواتِ وصُنعِ الأرضِ، نُقِلَ الكلامُ إلى التَّذكيرِ بإيجادِ آثارٍ مِن آثارِ تلك المَصنوعاتِ تَتجدَّدُ على مُرورِ الدَّهرِ حيَّةً، ثمَّ تَموتُ ثمَّ تَحْيا دأَبًا، وقدْ غُيِّرَ أسلوبُ الكلامِ لهذا الانتقالِ مِن أُسلوبِ الاستِفهامِ في قَولِه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ [ق: 6] ، إلى أُسلوبِ الإخبارِ بقولِه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا؛ إيذانًا بتَبْديلِ المرادِ؛ ليكونَ منه تخلُّصٌ إلى الدَّلالةِ على إمكانِ البعثِ في قَولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] ؛ فجُملةُ وَنَزَّلْنَا عطْفٌ على جُملةِ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا [الحجر: 19] ، وقدْ ذُكِرَت آثارٌ مِن آثارِ السَّماءِ وآثارِ الأرضِ على طَريقةِ النَّشْرِ المُرتَّبِ على وَفقِ اللَّفِّ .
- وهو أيضًا شُروعٌ في بَيانِ كيفيَّةِ إنباتِ ما ذُكِرَ منْ كُلِّ زَوجٍ بَهيجٍ، وهو عَطفٌ على (أَنْبَتْنَا)، وما بيْنهما -على أنَّ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ عِلَّتان لفِعلٍ مُقدَّرٍ بطَريقِ الاستِئنافِ، أيْ: فعَلْنا ما فعَلْنا تَبصيرًا وتذْكيرًا- اعتراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قَبلَه ومُنبِّهٌ على ما بعْدَه .
- وفي هذا استِدلالٌ بتَفصيلِ الإنباتِ الَّذي سبَقَ إجمالُه في قَولِه: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] ؛ لِمَا فيه مِن سَوقِ العُقولِ إلى التَّأمُّلِ في دَقيقِ الصُّنعِ لذلك الإنباتِ، وأنَّ حُصولَه بهذا السَّببِ، وعلى ذلك التَّطوُّرِ؛ أعظَمُ دَلالةً على حِكمةِ اللهِ وسَعةِ عِلمِه ممَّا لو كان إنباتُ الأزواجِ بالطَّفرةِ؛ إذ تَكونُ حينَئذٍ أسبابُ تكوينِها خفيَّةً، فإذا كان خَلْقُ السَّمواتِ وما فيها، ومَدُّ الأرضِ، وإلقاءُ الجِبالِ فيها؛ دَلائلَ على عَظيمِ القُدرةِ الرَّبانيَّةِ لخَفاءِ كَيفيَّاتِ تَكوينِها؛ فإنَّ ظُهورَ كيفيَّاتِ التَّكوينِ في إنزالِ الماءِ، وحُصولِ الإنباتِ والإثمارِ دَلالةٌ على عَظيمِ عِلمِ اللهِ تعالَى .
- قولُه: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ فيه تَخصيصُ إنباتِ الحَبِّ بالذِّكْرِ؛ لأنُه المقصودُ بالذَّاتِ .
- والحَصيدُ: الزَّرعُ المحصودُ، وفائدةُ ذِكْرِ هذا الوَصْفِ في قولِه: وَحَبَّ الْحَصِيدِ الإشارةُ إلى اختِلافِ أحوالِ استِحصالِ ما يَنفَعُ النَّاسَ مِن أنواعِ النَّباتِ؛ فإنَّ الجنَّاتِ تُستَثمَرُ، وأُصولَها باقيةٌ، والحُبوبَ تُستَثمَرُ بعْدَ حَصْدِ أُصولِها، على أنَّ في ذلك الحَصيدِ مَنافعَ للأنعامِ تَأكُلُه بعْدَ أخْذِ حَبِّه، كما قال تعالَى: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات: 33] .
- وفي قَولِه: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ خَصَّ النَّخلَ بالذِّكْرِ مع تَناوُلِ جَنَّاتٍ له؛ لأنَّه أهَمُّ الأشجارِ عِندَهم، وثَمَرَه أكثَرُ أقواتِهم، ولإتْباعِه بالأوصافِ له ولطَلعِه؛ ممَّا يُثيرُ تَذكُّرَ بَديعِ قَوامِه، وأنيقِ جَمالِه . وقيلَ: إنَّ تَخصيصَ النَّخلِ بالذِّكرِ معَ اندراجِها في الجَنَّاتِ؛ لبيانِ فضْلِها على سائرِ الأشجارِ، وتَوسيطَ الحَبِّ بيْنهما؛ لتأْكيدِ استقلالِها وامتيازِها عنِ البقيَّةِ، مع ما فيها مِن مُراعاةِ الفواصلِ .
- والباسِقاتُ: الطَّويلاتُ في ارتفاعٍ، والمقصودُ مِن ذلك: الإيماءُ إلى بَديعِ خِلقتِه، وجَمالِ طَلْعتِه؛ استِدلالًا وامتنانًا. والنَّضيدُ: المنْضودُ، أي: المُصفَّفُ بَعضُه فوقَ بعضٍ ما دامَ في الأغطيةِ، وزِيادةُ الحالِ؛ للازديادِ مِن الصِّفاتِ النَّاشئةِ عن بَديعِ الصَّنعةِ، ومِن المِنَّةِ بمَحاسنِ مَنظرِ ما أُوتُوه .
4- قولُه تعالَى: رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ
- قولُه: رِزْقًا لِلْعِبَادِ عِلَّةٌ لقولِه تعالَى: فَأَنْبَتْنَا. وفي تَعليلِه بذلك بعدَ تَعليلِ (أنْبَتنَا) الأوَّلِ بالتَّبصرةِ والتَّذكيرِ؛ تَنبيهٌ على أنَّ الواجبَ على العبدِ أنْ يكونَ انتفاعُه بذلكَ مِن حيثُ التَّذكُّرُ والاستبصارُ أهَمَّ وأقدَمَ مِن تَمتُّعِه به مِن حيثُ الرِّزقُ .
- قولُه: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ في التَّعبيرِ عن إخراجِ النَّباتِ مِن الأرضِ بالإحياءِ، وعن حَياةِ المَوْتى بالخُروجِ: تَفخيمٌ لشأْنِ الإنباتِ، وتَهوينٌ لأمرِ البعثِ، وتَحقيقٌ للمُماثَلةِ بيْنَ إخراجِ النَّباتِ وإحياءِ المَوْتى؛ لتَوضيحِ مِنهاجِ القياسِ، وتَقريبِه إلى أفهامِ الناسِ .
- وفي قَولِه: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا شبَّهَ الجَدْبَ بالمَوتِ في انعدامِ ظُهورِ الآثارِ؛ ولذلك سُمِّي ضِدُّه -وهو إنباتُ الأرضِ- حياةً .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا فلمْ يُثبِت التَّاءَ في مَيْتًا، وقال في سُورةِ (يس): وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس: 33] ، فأثبَتَ التَّاءَ هناك فقال: الْمَيْتَةُ؛ وذلك أنَّ الأرضَ أرادَ بها الوصْفَ، فقال: الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ؛ لأنَّ معْنى الفاعليَّةِ ظاهرٌ هناك. والبَلدةُ الأصلُ فيها الحَياةُ؛ لأنَّ الأرضَ إذا صارتْ حيَّةً صارتْ آهِلةً، وأقام بها النَّاسُ وعَمَرُوها، فصارتْ بلْدةً، فأسقَطَ التَّاءَ؛ لأنَّ معْنى الفاعليَّةِ ثبَتَ فيها، والَّذي بمعْنى الفاعِلِ لا يَثبُتُ فيه التَّاءُ، وتَحقيقُ هذا قولُه: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ [سبأ: 15] ، حيثُ أثبَتَ التاءَ حيث ظهَرَ بمعْنى الفاعلِ، ولم يَثبُتْ حيث لم يَظهَرْ ، واللهُ أعلمُ.
- قولُه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ بعْدَ ظُهورِ الدَّلائلِ بصُنعِ اللهِ على إمكانِ البَعثِ؛ لأنَّ خَلقَ تلك المخلوقاتِ مِن عَدمٍ يدُلُّ على أنَّ إعادةَ بعضِ الموجوداتِ الضَّعيفةِ أمكَنُ وأهوَنُ- جِيءَ بما يُفيدُ تَقريبَ البَعثِ بقولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ؛ فهذه الجُملةُ فَذْلَكةٌ للاستِدلالِ على إمكانِ البعثِ الذي تَضمَّنَتْه الجُمَلُ السَّابقةُ؛ فوجَبَ انفصالُ هذه الجُملةِ -أي: لا تُعطَفُ على ما قَبْلَها-، فتَكونُ استِئنافًا، أو اعتراضًا في آخِرِ الكلامُ .
- وأيضًا قولُه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ جُملةٌ قُدِّمَ فيهَا الخَبَرُ للقَصْدِ إلى القَصرِ . أو تَقديمُ المجرورِ على المبتدأِ؛ للاهتِمامِ بالخبَرِ؛ لِمَا في الخبَرِ مِن دَفعِ الاستحالةِ، وإظهارِ التَّقريبِ، وفيه تَشويقٌ لِتَلقِّي المُسنَدِ إليه .
- والإشارةُ بـ (ذلك) -في قولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ- إلى ما ذُكِرَ آنفًا مِن إحياءِ الأرضِ بعد مَوتِها؛ فهو إشارةٌ إلى الإحياءِ والبَعثِ، أي: كما أحْيَينا الأرضَ بعْدَ مَوتِها، كذلك نُحيي الناسَ بعدَ مَوتِهم وبِلاهُم، مع إفادتِها تَعظيمَ شأنِ المُشارِ إليه؛ لِما فيها مِن مَعنى البُعدِ، أي: مِثلَ البَعثِ العظيمِ الإبداعِ .