موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (33-36)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَآَيَةٌ: أي: عَلامَةٌ، ودليلٌ، وحُجَّةٌ على وحدانيَّةِ الله، وكمالِ قدرتِه، وتُطلَقُ الآيةُ أيضًا على العَجيبةِ، وأصلُ (أيي): النَّظرُ [314] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 212)، ((تفسير ابن جرير)) (9/125) و (19/432)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/47)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/167)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/361). قال الشنقيطيُّ: (والآيةُ في القرآنِ تُطلَقُ إطلاقَينِ: تُطلَقُ الآيةُ على الآيةِ الكَونيَّةِ القَدَريَّةِ، وهي مِن الآيةِ بمعنى: العلامةِ، وهي ما نصَبه اللهُ جلَّ وعلا مِن آياتِه، جاعلًا لها علاماتٍ على كمالِ قُدرتِه، وأنَّه الرَّبُّ وحْدَه، المعبودُ وحْدَه، كقولِه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ [آل عمران: 190] أي: لَعلاماتٍ ودَلالاتٍ واضحاتٍ على أنَّه الرَّبُّ المستحِقُّ أنْ يُعبَدَ وحْدَه. الإطلاقُ الثَّاني: تُطلَقُ الآيةُ في القرآنِ على الآيةِ الشَّرعيَّةِ الدِّينيَّةِ، كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ). ((العذب النمير)) (4/362). .
وَفَجَّرْنَا: أي: أنْبَعْنا، والفَجْرُ: شَقُّ الشَّيءِ شَقًّا واسعًا، يُقالُ: فَجَرْتُه فانْفَجَر، وفَجَّرْتُه فتَفَجَّرَ، وأصلُ (فجر): يدُلُّ على تفتُّحٍ في الشَّيءِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/432)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/475)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625). .
الْأَزْوَاجَ: أي: الأجناسَ والأصنافَ، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ [316] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 365)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/35)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/151). .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى الأدلَّةَ الدَّالَّةَ على وحدانيَّتِه وقدرتِه، فيقولُ: ومِن العَلاماتِ الواضِحةِ لهؤلاء المُشرِكينَ على قُدرتِنا على إحياءِ الموتى: أنَّنا نُنزِّلُ الماءَ على الأرضِ الجَدباءِ، فتَحيا وتُخرِجُ ألوانًا وأصنافًا مِن الحُبوبِ الَّتي يأكُلونَها، وأنَّنا جعَلْنا فيها بَساتينَ مِن النَّخيلِ والأعنابِ، وفجَّرْنا فيها مِن عُيونِ الماءِ؛ لِيأكُلوا مِن الثِّمارِ الَّتي جعَلْناها لهم، ولم تَصنَعْها أيديهم؛ أفلا يَشكُرُ النَّاسُ رَبَّهم الَّذي أوجَدَ لهم تلك النِّعَمَ.
تَنَزَّهَ اللهُ -تعالى- عمَّا لا يَليقُ به؛ الَّذي خلَقَ الأنواعَ والأصنافَ كُلَّها، مِن النَّباتاتِ، ومِن النَّاسِ، وممَّا لا يَعلَمونَه!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس: 32] كان ذلك إشارةً إلى الحَشرِ، فذكَرَ ما يدُلُّ على إمكانِه؛ قَطعًا لإنكارِهم واستِبعادِهم، وإصرارِهم وعِنادِهم، فقال: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا كذلك نُحيي الموتى [317] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/271). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ حالَ المُرسَلينَ وإهلاكَ المكَذِّبينَ، وكان شُغلُهم التَّوحيدَ؛ ذكَرَ ما يدُلُّ عليه، وبدأ بالأرضِ؛ لِكَونِها مكانَهم، لا مُفارقةَ لهم منها عندَ الحَركةِ والسُّكونِ [318] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/272). .
وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33).
أي: وعَلامةٌ عَظيمةٌ لكفَّارِ قريشٍ [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/432)، ((تفسير ابن عطية)) (4/453)، ((تفسير القاسمي)) (8/183). قال أبو حيَّان: (والضَّميرُ في لَهُمُ عائدٌ على كُفَّارِ قُريشٍ ومَن يجري مَجراهُم في إنكارِ الحشرِ). ((تفسير أبي حيان)) (9/64). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/453). دالَّةٌ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وكَمالِ قُدرتِه على بَعثِ الموتَى، وعلى غيرِ ذلك، وهي إحياءُ اللهِ الأرضَ المُجدِبةَ، وإخراجُه منها أنواعًا مِن الحُبوبِ الَّتي يتغذَّى النَّاسُ عليها [320] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/807)، ((تفسير ابن جرير)) (19/432)، ((تفسير الماتريدي)) (8/516)، ((تفسير ابن عطية)) (4/453)، ((تفسير القرطبي)) (15/25)، ((تفسير ابن كثير)) (6/575)، ((تفسير القاسمي)) (8/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695). .
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34).
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ.
أي: وجعَلْنا في الأرضِ -الَّتي كانت مَيْتةً فأحْيَيْناها- بَساتينَ مِن أشجارِ النَّخيلِ والأعنابِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/432)، ((تفسير السمرقندي)) (3/122)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695). .
كما قال تعالى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 19] .
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت الجنَّاتُ لا تَصلُحُ إلَّا بالماءِ، وكان مِن طَبعِ الماءِ الغَورُ في التُّرابِ، والرُّسوبُ بشِدَّةِ السَّرَيانِ إلى أسفَلَ؛ فكان فَوَرانُه إلى جِهةِ العُلُوِّ أمرًا باهِرًا للعَقلِ، لا يكونُ إلَّا بقَسرِ قاسرٍ حكيمٍ- قال [322] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/125). :
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ.
أي: وفجَّرْنا في الأرضِ مِن عُيونِ الماءِ [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/432)، ((تفسير السمرقندي)) (3/122)، ((البسيط)) للواحدي (18/478)، ((تفسير الرازي)) (26/273)، ((تفسير الشوكاني)) (4/423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695). .
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35).
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ.
أي: لِيَأكُلَ النَّاسُ مِن ثَمَرِه [324] قيل: الضمَّيرُ في ثَمَرِهِ يعودُ إلى الله تعالى، فهو مِن فِعْلِه وخَلْقِه. وممَّن قال بهذا المعنى: الزَّمخشريُّ، والنَّسفيُّ، وذكر الرَّازيُّ أنَّه القولُ المشهورُ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/15)، ((تفسير النسفي)) (3/103)، ((تفسير الرازي)) (26/274). وقيل: يعودُ إلى الماءِ الَّذي فجَّره اللهُ تعالى مِن الأرضِ، أي: ليأكُلوا مِن الثَّمَرِ الحاصِلِ بالماءِ. وممَّن قال بهذا المعنى: مكِّي، والسمعانيُّ، والبغوي، والقرطبي، والخازن، وأبو حيان. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6031)، ((تفسير السمعاني)) (4/376)، ((تفسير البغوي)) (4/13)، ((تفسير القرطبي)) (15/25)، ((تفسير الخازن)) (4/7)، ((تفسير أبي حيان)) (9/64). وقيل: المعنى: مِن ثَمَرِ ما تقدَّمَ ذِكرُه مِن الجنَّاتِ والنَّخيلِ. وممَّن قال بهذا في الجملةِ: ابنُ جرير، والبيضاوي، وجلال الدين المحلي، والبِقاعي، وأبو السعود، والشوكاني، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/432)، ((تفسير البيضاوي)) (4/268)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 582)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/126)، ((تفسير أبي السعود)) (7/166)، ((تفسير الشوكاني)) (4/423)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/14)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 120). ، وما [325] قيل: (مَا) هنا اسمٌ موصولٌ بمعنى الَّذي، أي: لِيَأكُلوا أيضًا ممَّا صنَعَتْه أيديهم، بالغَرسِ والحَفرِ والزِّراعةِ. وممَّن قال بهذا القولِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، ومكِّي، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، وابن جُزَي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/433)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/286)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6031)، ((تفسير السمعاني)) (4/376)، ((تفسير البغوي)) (4/13)، ((تفسير القرطبي)) (15/25)، ((تفسير ابن جزي)) (2/182)، ((تفسير العليمي)) (5/482). وقيل: المرادُ بما عَمِلَتْه أيديهم: ما يُتَّخَذُ مِن الثَّمَرِ؛ كالعصيرِ والدِّبْسِ وغيرِهما. وممَّن اختاره: البيضاوي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/268)، ((تفسير الألوسي)) (12/9). وجمَعَ الشَّوكانيُّ بين المعنيَينِ السابقين؛ فقال: (أي: لِيَأْكُلوا مِن ثَمَرِه، ويأْكُلوا مِمَّا عَمِلَتْه أيْديهم كالعصيرِ والدِّبْسِ ونحوِهما، وكذلك ما غَرَسوه وحَفَروه، على أنَّ «ما» موصولةٌ). ((تفسير الشوكاني)) (4/423). وقيل (مَا) نافيةٌ، والمعنى: ليست تلك الثِّمارُ مِن صُنعِ أيديهم، وليست بحَولِهم وقوَّتِهم، ولكِنْ هي مِن فِعلِ اللهِ رحمةً بهم. وممَّن قال بهذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بنُ سلام، وابنُ كثير، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/578)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/807)، ((تفسير ابن كثير)) (6/575)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/807)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/55). وقيل: الآيةُ صالحةٌ للمَعنيَينِ: أن تكونَ (ما) بمعنى (الَّذي)، وأن تكونَ نافيةً، ولا مانِعَ مِن حَملِها عليهما؛ فيَشمل قولُه: وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما يَصْنَعُه النَّاسُ بأيديهم؛ كالعصيرِ والخبزِ وغيرِ ذلك، والمعنى الثَّاني: أنَّ أيديَنا لم تعملْ هذه الثَّمَراتِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 121). قال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن تكونَ «مَا» في قَولِه: وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَوصولةً مَعطوفةً على ثَمَرِهِ، أي: ليأكُلوا مِن ثمَرِ ما أخرَجْناه، ومِن ثمَرِ ما عمِلَتْه أيديهم... وضميرُ عَمِلَتْهُ على هذا عائدٌ إلى اسمِ الموصولِ. ويجوزُ أن يكونَ «مَا» نافيةً، والضَّميرُ عائدٌ إلى ما ذُكِرَ مِن الحَبِّ والنَّخيلِ والأعنابِ، والمعنى: أنَّ ذلك لم يَخلُقوه... ويجوزُ أن يكونَ مِن حَذفِ المفعولِ؛ لإرادةِ العُمومِ، والتَّقديرُ: وما عَمِلَت أيديهم شيئًا مِن ذلك. وكِلا الحذفَينِ شائِعٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/14، 15). عَمِلَتْه أيديهم [326] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/432، 433)، ((تفسير القرطبي)) (15/25، 26)، ((تفسير الشوكاني)) (4/423). .
أَفَلَا يَشْكُرُونَ.
أي: أفلا يَشكُرُ النَّاسُ رَبَّهم الَّذي أوجَدَ لهم تلك النِّعَمَ [327] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/578)، ((تفسير ابن جرير)) (19/433)، ((تفسير ابن كثير)) (6/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695). قال ابن عثيمين: (الشُّكرُ هو: القيامُ بطاعةِ المُنعِمِ، وصَرْفُ نِعَمِه فيما جعَلَها اللهُ له... والشُّكرُ مُتعَلَّقُه ثلاثةُ أشياءَ: القَلبُ، واللِّسانُ، والجوارحُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 122). ؟
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرهم الله تعالى بالشُّكرِ، وشُكْرُ الله تعالى بالعبادةِ، وهم ترَكوها وعبَدوا غيرَه وأشرَكوا؛ قال تعالى [328] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/349). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (26/274). :
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ.
أي: تَنَزَّهَ اللهُ عمَّا لا يَليقُ به مِن الشِّركِ وجَميعِ النَّقائِصِ؛ الَّذي خلَقَ الأصنافَ كلَّها ممَّا تُنبِتُه الأرضُ مِن النَّباتاتِ والزُّروعِ والثِّمارِ والحبوبِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/433)، ((تفسير القرطبي)) (15/26)، ((تفسير السمعاني)) (4/376)، ((تفسير ابن كثير)) (6/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/15). قال القرطبي: (نزَّه نَفْسَه سُبحانَه عن قَولِ الكُفَّارِ؛ إذ عَبَدوا غيرَه مع ما رأَوْه مِن نِعَمِه وآثارِ قُدرتِه، وفيه تقديرُ الأمرِ، أي: سَبِّحوه ونَزِّهوه عمَّا لا يَليقُ به. وقيل: فيه معنى التَّعجُّبِ، أي: عَجبًا لهؤلاء في كُفرِهم مع ما يُشاهِدونَه مِن هذه الآياتِ! ومَن تعجَّبَ مِن شَيءٍ قال: سُبحانَ اللهِ!). ((تفسير القرطبي)) (15/26). .
كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49].
وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ.
أي: ومِن النَّاسِ أنفُسِهم، فخَلَق منهم ذُكورًا وإناثًا [330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/433)، ((تفسير القرطبي)) (15/26)، ((تفسير ابن كثير)) (6/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695). .
كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم: 45، 46].
وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ.
أي: وممَّا لا يَعلَمُه النَّاسُ [331] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/433)، ((تفسير السمعاني)) (4/376)، ((تفسير القرطبي)) (15/26)، ((تفسير السمعاني)) (4/376)، ((تفسير ابن كثير)) (6/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 695). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَشْكُرُونَ وُجوبُ شُكرِ نِعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ اللهَ وَبَّخَ مَن لا يَشكُرُ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 127). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- كلُّ شَيءٍ يَنمو ويَتزايدُ تُسمِّيه العَرَبُ حَيًّا؛ ولذا يُسَمُّونَ النَّباتَ حَيًّا؛ لأنَّه يَنمو، ويُسَمُّونَ اليابِسَ منه -الَّذي لا يَنمو- مَيْتًا، ومِن هنا كانوا يقولون للأرضِ الجَدْبةِ القاحِلةِ: مَيْتةً؛ لأنَّ نباتَها يابِسٌ لا ينمو، فإذا نبَتَ فيها النَّباتُ الأخضَرُ النَّامي سَمَّوها: حيَّةً، كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [333] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/533). .
2- في قَولِه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أنَّه إنْ قُلْنا: إنَّ الآيةَ مَذكورةٌ للاستِدلالِ على جوازِ إحياءِ الموتى، فكان يَكفي قَولُه: أَحْيَيْنَاهَا؛ فما الفائِدةُ من قَولِه تعالى: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا؟
الجوابُ: له فائِدةٌ بالنِّسبةِ إلى بيانِ إحياءِ الموتى؛ وذلك لأنَّه لَمَّا أحيا الأرضَ، وأخرَجَ منها حبًّا، كان ذلك إحياءً تامًّا؛ لأنَّ الأرضَ المُخضَرَّةَ الَّتي لا تُنبِتُ الزَّرعَ ولا تُخرِجُ الحَبَّ دونَ ما تُنبِتُه في الحياةِ؛ فكأنَّه قال تعالى: الَّذي أحيا الأرضَ إحياءً كامِلًا مُنْبِتًا للزَّرعِ: يُحيي الموتى إحياءً كامِلًا [334] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/272). .
3- في قَولِه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا الاستِدلالُ بالشَّاهدِ على الغائِبِ؛ فإنَّ إحياءَ الأرضِ بعدَ الموتِ مُشاهَدٌ، ويُستَدَلُّ بها على إحياءِ اللهِ الموتى عندَ بَعثِهم يومَ القيامةِ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 124). .
4- في قَولِه تعالى: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ قال عندَ ذِكرِ الحَبِّ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وفي الأشجارِ والثِّمارِ قال: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ؛ وذلك لأنَّ الحَبَّ قُوتٌ لا بدَّ منه؛ فقال: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي: هم آكِلوه، وأمَّا الثِّمارُ فليست كذلك، فكأنَّه تعالى قال: إنْ كُنَّا ما أخرَجْناها كانوا يَبقَون من غيرِ أكلٍ، فأخرَجْناها لِيأكُلوها [336] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/273). .
5- في قَولِه تعالى: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ بيانُ حاجةِ العبدِ لربِّه، وكأنَّ هذا الحصرَ فيه إشارةٌ إلى تحدِّي الإنسانِ أنَّه لا يمكنُ أنْ يأكُلَ إلَّا مِن هذا الَّذي أخرجَه اللهُ له -وهذا مِن فوائدِ الحصرِ-، كأنَّه يقولُ: إنْ كنتَ قادرًا فأخرِجْ لِنَفْسِك ما تأكُلُه؛ إنَّك لنْ تأكُلَ إلَّا ممَّا أخرَجْناه لك [337] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 124). .
6- في قَولِه تعالى: مِنْ نَخِيلٍ إشارةٌ إلى أنَّه نَفْعٌ كُلُّه؛ خَشَبُه، ولِيفُه، وشُعَبُه، وخُوصُه، وعراجينُه، وثمَرُه؛ طَلْعًا، وجُمَّارًا [338] الجُمَّارُ: قلْبُ النَّخلِ، واحدتُه جُمَّارةٌ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/294)، ((المعجم الوسيط)) (1/134). ، وبُسْرًا، ورُطَبًا، وتَمْرًا؛ ولذلك -واللهُ أعلَمُ- أتَى فيه بصيغةِ جمعِ الكَثرةِ، كـ الْعُيُونِ [339] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/125). .
7- قَولُه تعالى: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ خَصَّص النَّخيلَ والأعنابَ بالذِّكرِ مِن سائِرِ الفواكِهِ؛ لأنَّ ألَذَّ المطعومِ الحَلاوةُ، وهي فيها أتَمُّ، ولأنَّ التَّمرَ والعِنَبَ قُوتٌ وفاكِهةٌ، ولا كذلك غيرُهما، ولأنَّهما أعَمُّ نَفعًا؛ فإنَّها تُحمَلُ مِن البلادِ إلى الأماكِنِ البعيدةِ. فإنْ قيل: فقد ذكَرَ اللهُ الرُّمَّانَ والزَّيتونَ في (الأنعامِ)، والقَضْبَ والزَّيتونَ والتِّينَ في مواضِعَ؟
نقول: في (الأنعامِ) وغيرِها المقصودُ ذِكرُ الفواكهِ والثِّمارِ؛ ألا ترَى إلى قَولِه تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ... [الأنعام: 99] ، وإلى قَوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس: 24] ؟ فاستوفى الأنواعَ بالذِّكرِ، وهاهنا المقصودُ ذِكرُ صِفاتِ الأرضِ؛ فاختار منها الألَذَّ الأنفَعَ [340] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/273). .
8- في قَولِه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ أنَّ بني آدمَ على أصنافٍ متنوِّعةٍ، كما كان ذلك أيضًا فيما تُنبِتُه الأرضُ، بل وفي الأرضِ نفْسِها؛ قال اللهُ تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ [الرعد: 4] ، فإثباتُ التَّجاوُرِ لها يقتضي أنَّ كلَّ واحدٍ منها يُخالِفُ الآخَرَ؛ لأنَّ الجارَ غيرُ جارِه، وكذلك هنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ يدُلُّ على أنَّ في الأرضِ أصنافًا مُنوَّعةً مِن النَّباتاتِ، كذلك وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ فيما خَلَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن بني آدمَ أصنافًا: ذكرًا وأنثى، أسْوَدَ وأبيضَ، طويلًا وقصيرًا، شقيًّا وسعيدًا، ذكيًّا وبَليدًا، عاقِلًا وسَفيهًا... وهكذا؛ لِيَعتبِرَ الإنسانُ قدرةَ اللهِ عزَّ وجلَّ على خَلقِ هذه الأشياءِ المُتضادَّةِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 133). .
9- قال الله عزَّ وجلَّ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ في قَولِه: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ إشارةٌ إلى أسرارٍ مُودَعةٍ في خَلقِ أنْواعِ الحَيَوانِ وأصْنافِه هي الَّتي ميَّزَتْ أنْواعَه عن بَعضٍ، وميَّزَتْ أصْنافَه وذُكورَه عن إناثِه، وأُودِعَتْ فيه الرُّوحُ الَّذي امتازَ به عن النَّباتِ بتَدبيرِ شُؤونِه على حَسَبِ استِعدادِ كُلِّ نَوعٍ وكُلِّ صِنفٍ، وأشرَفُ أنواعِه هو نَوعُ الإنسانِ، فمَعنى و(مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ): مِمَّا لا يَعلَمونَه تَفصيلًا، وإن كانوا قد يَشعُرونَ به إجمالًا، فإنَّ المتأمِّلَ يَعلَمُ أنَّ في المخلوقاتِ أسرارًا خَفيَّةً لم تصِلْ أفهامُهم إلى إدراكِ كُنْهِها، ومِن ذلك الرُّوحُ؛ فقد قال تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، وقد يَتفاضَلُ النَّاسُ في إدراكِ بَعضِ تلك الخصائِصِ إجمالًا وتفصيلًا، ثمَّ يَستوُونَ في عدَمِ العِلمِ ببَعضِها، وقد يمتازُ بعضُ الطوائِفِ أو الأجيالِ بمعرفةِ شَيءٍ مِن دقائقِ الخَلقِ بسَبَبِ اكتِشافٍ أو تجرِبةٍ أو تَقَصِّي آثارٍ لم يكُنْ يَعرِفُها غيرُ أولئك، ثمَّ يَستوون فيما بَقِيَ تحتَ طَيِّ الخَفاءِ مِن دقائِقِ التَّكوينِ؛ فبهذا الشُّعورِ الإجماليِّ بها وقع عَدُّها في ضِمنِ الاعتِبارِ بآيةِ خَلقِ الأزواجِ مِن جميعِ النَّواحي [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/16). .
10- قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، ولم يَقُلْ: (الحمدُ لله الَّذي خلق الأزواجَ)، بل قال: سُبْحَانَ؛ لأنَّ كَونَ كُلِّ شَيءٍ يحتاجُ إلى ازدواجيَّةٍ: يدُلُّ على كَمالِ الواحِدِ المتفَرِّدِ الَّذي لا يماثِلُه شَيءٌ مِن مخلوقاتِه؛ فبنو آدَمَ لا بدَّ مِن ازدواجيَّةِ ذكرٍ وأُنثَى [343] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 133). .
11- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا إعلامُه بكثرةِ مخلوقاتِه: يدُلُّ على اتِّساعِ مُلكِه، وعِظَمِ قُدرتِه [344] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/65). .

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ كلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لإيرادِ آيةٍ على البَعثِ والتَّوحيدِ [345] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/196). . وقيل: عَطفٌ على قِصَّةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] ؛ فإنَّه ضرَبَ لهم مَثَلًا لحالِ إعراضِهم، وتَكذيبِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما تَشتمِلُ عليه تلك الحالُ مِن إشراكٍ، وإنْكارٍ للبَعثِ، وأذًى للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعاقِبةِ ذلك كُلِّه، ثم أُعقِبَ ذلك بالتَّفْصيلِ؛ لإبطالِ ما اشتَمَلَتْ عليه تلك الاعتقاداتُ مِن إنْكارِ البَعثِ، ومِن الإشراكِ باللهِ، وابتُدِئَ بدَلالةِ تَقريبِ البَعثِ؛ لمُناسَبةِ الانتِقالِ مِن قَولِه: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 32] ، على أنَّ هذه لا تَخلو مِن دَلالتِها على الانفِرادِ بالتَّصرُّفِ، وفي ذلك إثباتُ الوَحْدانيَّةِ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/12). .
- وقيلَ: إنَّ قولَه: وَآَيَةٌ خَبَرٌ مُقدَّمٌ؛ للاهتِمامِ به، وتَنكيرُها للتَّفخيمِ [347] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/166). .
- وفي قَولِه: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ... بَدَأَ بالأرضِ؛ لأنَّها مُستَقَرُّهم، حَرَكةً وسُكونًا، حَياةً ومَوتًا [348] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/64). .
- وجُملةُ أَحْيَيْنَاهَا في مَوضِعِ الحالِ مِن الْأَرْضُ، وهي حالٌ مُقيِّدةٌ؛ لأنَّ إحْياءَ الأرضِ هو مَناطُ الدَّلالةِ على إمْكانِ البَعثِ بعدَ المَوتِ، أو يَكونُ جُملةُ أَحْيَيْنَاهَا بَيانًا لِجُملةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ؛ لبَيانِ مَوقِعِ الآيةِ فيها، أو بَدَلَ اشتِمالٍ مِن جُملةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ، أو استِئْنافًا بَيانيًّا؛ كأنَّ سائِلًا سَألَ: كيف كانتِ الأرضُ المَيْتةُ [349] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/14)، ((تفسير البيضاوي)) (4/267)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/41)، ((تفسير أبي حيان)) (9/64)، ((تفسير أبي السعود)) (7/166)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/12). ؟
- قَولُه: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ إخراجُ الحَبِّ مِن الأرضِ: هو إخْراجُه مِن نَباتِها، فهو جاءَ منها بواسِطةٍ، وهذا إدْماجٌ [350] سبق تعريفه (ص: 55). للامتِنانِ في ضِمنِ الاستِدلالِ؛ ولذلك فُرِّعَ عليه فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/13). .
- وتَقديمُ الظَّرفِ فَمِنْهُ على يَأْكُلُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الحَبَّ هو الشَّيءُ الَّذي يَتعلَّقُ به مُعظَمُ العَيشِ؛ فتَقديمُ صِفةِ الأكْلِ تُفيدُ الاختِصاصَ، وقد عُلِم أنَّ المَأْكولَ غَيرُ مُختَصٍّ به، لكنْ قُدِّمَ الحَبُّ لِيَدُلَّ على أنَّه الأصْلُ في الارتِزاقِ، والمَأْكولاتُ تابِعةٌ له، فإنَّه إذا قَلَّ نزَلَ القَحطُ، وإذا حُصِر جاء الهلاكُ؛ فالدَّوَرانُ معه؛ فإرادةُ التَّخْصيصِ على المُبالَغةِ والادِّعاءِ، نحوُ إطلاقِ اسْمِ الجِنسِ على فَردٍ مِن أفرادِه، كحاتِمٍ الجَوادِ. ويجوزُ أنْ يُقدَّمَ رِعايةً للفَواصِلِ [352] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/15)، ((تفسير البيضاوي)) (4/267)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/42)، ((تفسير أبي السعود)) (7/166)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/13). .
2- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ - قَولُه: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ أي: مِن أنْواعِ النَّخلِ والعِنبِ؛ ولذلك جُمِعَا دُونَ الحبِّ في قولِه: حَبًّا؛ فإنَّ الدَّالَّ على الجِنسِ مُشعِرٌ بالاختِلافِ، ولا كذلك الدَّالُّ على الأنواعِ [353] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/166)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/13، 14). . فالجمعُ في النَّخيلٍ والأعنابِ دونَ الحَبِّ فيه دَلالةٌ على كثرةِ اختِلافِ الأصنافِ في النَّوعِ الواحِدِ؛ الموجِبِ للتَّفاوُتِ الظَّاهِرِ في القَدرِ والطَّعمِ وغَيرِ ذلك [354] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/125). .
- قَولُه: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ في المواضِعِ التي ذَكَر الله فيها الفواكِهَ لم يَذكُرِ التَّمْرَ إلَّا بلَفظِ شَجَرتِه -وهي النَّخلةُ-، ولم يَذكُرِ العِنبَ بلَفظِ شَجَرتِه، بل ذكَرَه بلَفظِ العِنَبِ والأعنابِ، ولم يَذكُرِ الكَرْمَ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ العِنَبَ شَجَرتُه بالنِّسبةِ إلى ثَمَرتِه حقيرةٌ قليلةُ الفائدةِ، والنَّخلَ بالنِّسبةِ إلى ثمَرتِه عظيمةٌ جَليلةُ القَدرِ، كثيرةُ الجَدوى [355] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/273). ، فهو يختصُّ بمَزيدِ النَّفعِ، وآثارِ الصُّنعِ [356] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/166). .
3- قولُه تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ
- قَولُه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ مُتعلِّقٌ بـ (جَعَلْنَا)، وتَأخيرُه عن تَفْجيرِ العُيونِ؛ لأنَّه مِن مَبادِئِ الإثْمارِ، أي: وجَعَلْنا فيها جنَّاتٍ مِن نَخيلٍ، ورَتَّبْنا مَبادئَ إثمارِها؛ لِيأكُلوا مِن ثَمَرِ ما ذُكِرَ مِن الجنَّاتِ والنَّخيلِ -على قَولٍ في التَّفسيرِ-؛ بإجراءِ الضَّميرِ مُجرَى اسمِ الإشارةِ [357] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/166). ؛ فالثِّمارُ لا تَتِمُّ إلَّا بالأنهارِ، ولا تصيرُ الأشجارُ حامِلةً للثِّمارِ إلَّا بعدَ وُجودِ الأنهارِ؛ فلهذا أُخِّرَ، بيْنَما قال: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، فقال عَقِيبَ ذِكرِ الحَبِّ: (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)؛ وذلك لأنَّ الحَبَّ قُوتٌ، وهو يَتِمُّ وُجودُه بمياه الأمطارِ؛ ولهذا يُرى أكثَرُ البلادِ لا يكونُ بها شَيءٌ مِن الأشجارِ، والزَّرعُ والحِراثةُ لا تَبطُلُ هناك؛ اعتِمادًا على ماءِ السَّماءِ، وهذا لُطفٌ مِن الله؛ حيثُ جَعَل ما يحتاجُ إليه الإنسانُ أعَمَّ وُجودًا [358] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/273). .
- قَولُه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ قيلَ: الضَّميرُ في قولِه: ثَمَرِهِ للهِ تَعالى بطريقِ الالتِفاتِ، وأصْلُه: (مِنْ ثَمَرِنَا)، كما قال: وَجَعَلْنَا وَفَجَّرْنَا؛ فنُقِلَ الكَلامُ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيْبةِ على طَريقةِ الالتِفاتِ، والإضافةُ إليه؛ لأنَّ الثَّمَرَ بخَلْقِه، والمَعْنى على ذلك: لِيَأكُلوا ممَّا خلَقَه اللهُ مِن الثَّمَرِ، وممَّا عَمِلَتْه أيْديهم مِن الغَرْسِ والسَّقيِ والتلقيحِ وغَيرِ ذلك مِن الأعمالِ إلى أنْ بلَغَ الثَّمَرُ مُنتهاهُ، يعني: أنَّ الثَّمَرَ في نفْسِه فِعلُ اللهِ وخَلْقُه، وفيه آثارٌ مِن كَدِّ بَني آدَمَ [359] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/15)، ((تفسير البيضاوي)) (4/268)، ((تفسير أبي حيان)) (9/65)، ((تفسير أبي السعود)) (7/166). .
- وقيل: إنَّ الضَّميرَ في ثَمَرِهِ عائِدٌ على الماءِ؛ لدَلالةِ العُيونِ عليه، ولكَونِه على حَذْفِ مُضافٍ، أي: مِن ماءِ العُيونِ، وقيلَ: على النَّخيلِ، واكْتُفِيَ به للعِلمِ في اشتِراكِ الأعيانِ فيما عُلِّقَ به النَّخيلُ مِن أكْلِ ثَمَرِه. أو يُرادُ: من ثَمَرِ المْذْكورِ، وهو الجنَّاتُ [360] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/64). .
- قَولُه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ يجوزُ أنْ تكونَ (ما) نافيةً، على أنَّ الثَّمَرَ خَلْقُ اللهِ، ولم تَعمَلْه أيْدي النَّاسِ، ولا يَقدِرونَ على خَلْقِه، وهذا أوفَرُ في الامتِنانِ، وأنسَبُ بسياقِ الآيةِ مَساقَ الاستِدلالِ. ويجوزُ أنْ تكونَ (ما) في قَولِه: وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَوصولةً مَعْطوفةً على ثَمَرِهِ، أي: لِيَأكُلوا مِن ثَمَرِ ما أخْرَجْناهُ، ومِن ثَمَرِ ما عَمِلَتْه أيْديهم؛ فيَكونَ إدْماجًا للإرشادِ إلى إقامةِ الجنَّاتِ بالخِدْمةِ، والسَّقيِ، والتَّعهُّدِ؛ لِيَكونَ ذلك أوفَرَ لأغْلالِها، وضَميرُ عَمِلَتْهُ على هذا عائِدٌ إلى اسْمِ المَوْصولِ [361] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/15)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/14). .
- قولُه: وَمَا عَمِلَتْهُ قِراءةُ الجمهورِ بإثْباتِ هاءِ الضَّميرِ عائِدًا إلى المَذْكورِ مِن الحَبِّ، والنَّخيلِ، والأعْنابِ، وقَرَأَ حَمزةُ والكِسائيُّ وأبو بَكرٍ عن عاصِمٍ وخَلَفٌ: وَمَا عَمِلَتْ بدُونِ هاءٍ [362] يُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/306)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 598)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/353). ، وكذلك هو مَرْسومٌ في المُصحَفِ الكُوفيِّ، وهو جارٍ على حَذفِ المَفْعولِ إنْ كان مَعْلومًا، ويجوزُ أنْ يكونَ مِن حَذفِ المَفْعولِ لإرادةِ العُمومِ، والتَّقديرُ: وما عَمِلَتْ أيْديهم شيئًا مِن ذلك [363] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/14، 15). .
- والاستِفْهامُ في قَولِه: أَفَلَا يَشْكُرُونَ تَقْريعٌ وتَوبيخٌ وإنكارٌ واستقباحٌ لعَدَمِ شُكرِهم للنِّعَمِ المَعْدودةِ، والفاءُ للعَطفِ على مُقدَّرٍ يَقتضيهِ المَقامُ، أي: أَيَرَونَ هذه النِّعَمَ أو أيَتَنعَّمونَ بها، فلا يَشْكُرونَها [364] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/268)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/44)، ((تفسير أبي السعود)) (7/167)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/197). ؟!
- وفُرِّعَ هذا الاستِفهامُ الإنكاريُّ أَفَلَا يَشْكُرُونَ على قَولِه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ؛ لِبَيانِ عَدَمِ شُكرِهم بأنِ اتَّخذوا للَّذي أوجَدَ هذا الصُّنعَ العَجيبَ أندادًا [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/15). !
- وجِيءَ بالمُضارعِ يَشْكُرُونَ؛ مُبالَغةً في إنْكارِ كُفرِهم بأنَّ اللهَ حَقيقٌ بأنْ يُكرِّروا شُكرَه، فكيف يَستمِرُّونَ على الإشراكِ به [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/15). ؟!
4- قولُه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ
- قَولُه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا ... الجُملةُ مُستأْنَفةٌ مَسوقةٌ لِتَنزيهِه تَعالى عمَّا لا يَليقُ به، وعمَّا فَعلوهُ مِن تَركِ شُكرِه على آلائِه المَذْكورةِ، واستِعظامِ ما ذُكِر في حَيِّزِ صِلةٍ مِن بَدائعِ آثارِ قُدرتِه، وأسرارِ حكمتِه، ورَوائعِ نَعْمائِه الموجبةِ للشُّكرِ، وتَخصيصِ العبادةِ به، والتَّعجُّبِ مِن إخلالِهم بذلك والحالةُ هذه [367] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/167). .
- وأيضًا قَولُه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا اعتِراضٌ بيْنَ جُمْلةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] وجُمْلةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] ؛ أثارَه ذِكرُ إحياءِ الأرضِ، وإخراجِ الحَبِّ والشَّجَرِ منها؛ فإنَّ لذلِكَ أحْوالًا وإبْداعًا عَجيبًا، يُذَكِّرُ بتَعظيمِ مُودِعِ تلك الصَّنائِعِ بحِكمتِه؛ وذلك تَضمَّنَ الاستِدلالَ بخَلقِ الأزواجِ على طَريقةِ الإدْماجِ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/15). الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). .
- وسُبْحَانَ عَلَمٌ للتَّسبيحِ الَّذي هو التَّبعيدُ عن السُّوءِ اعتقادًا وقَولًا، أي: اعتقادَ البُعدِ عنه والحُكمَ به، مِنْ سبَحَ في الأرضِ والماءِ؛ إذا أبعَدَ فيهما وأمْعَنَ، ومنه فَرَسٌ سَبُوحٌ، أي: واسِعُ الجرْيِ، وسُبْحَانَ هنا لإنشاءِ تَنزيهِ اللهِ تعالى عن أحوالِ المُشرِكينَ تنزيهًا عن كلِّ ما لا يليقُ بإلهيَّتِه، وأعْظَمُه الإشراكُ به. وانتِصابُه على المصدريَّةِ، ولا يَكادُ يُذكَرُ ناصِبُه، أي: أُسبِّحُ سُبْحانَه، أي: أُنزِّهُه عمَّا لا يَليقُ به عَقْدًا وعَمَلًا، تَنزيهًا خاصًّا به حقيقًا بشَأنِه، وفيه مُبالَغةٌ مِن جِهةِ الاشتِقاقِ مِن السَّبْحِ، ومِن جِهةِ النَّقلِ إلى التَّفعيلِ، ومِن جِهةِ العُدولِ عن المَصدَرِ الدَّالِّ على الجِنسِ إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصَّةً، لا سيَّما العَلَمُ المشيرُ إلى الحَقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ، ومِن جِهةِ إقامتهِ مُقامَ المَصدَرِ مع الفِعلِ. وقيلَ: هو مَصدرٌ كغُفرانٍ، أُريدَ به التَّنزُّهُ التَّامُّ، والتَّباعُدُ الكُلِّيُّ عن السُّوءِ؛ ففيه مُبالَغةٌ مِن جِهةِ إسنادِ التَّنزُّهِ إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ، فالمَعْنى: تَنزَّهَ بذاتِه عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ به تنزُّهًا خاصًّا به؛ فالجُملةُ على هذا إخبارٌ مِن اللهِ تَعالى بتَنزُّهِه وبَراءتِه عن كُلِّ ما لا يَليقُ به مَّما فَعَلوه وما تَرَكوه، وعلى الأوَّلِ حُكمٌ منه عزَّ وجلَّ بذلك، وتَلقينٌ للمُؤمِنينَ أنْ يَقولوهُ ويَعتقِدوا مَضمونَه، ولا يُخِلُّوا به، ولا يَغفُلوا عنه [369] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/15). .
- وإجراءُ المَوْصولِ على الذَّاتِ العَلِيَّةِ في قَولِه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا؛ للإيماءِ إلى وجْهِ إنشاءِ التَّنزيهِ والتَّعظيمِ [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/15). .
- وجِيءَ بضَميرِ جَماعةِ العُقلاءِ في قَولِه: وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ؛ تَغليبًا لنَوعِ الإنسانِ؛ نَظَرًا لكَونِه المَقْصودَ بالعِبْرةِ بهذه الآيةِ، وللتَّخلُّصِ إلى تَخْصيصِه بالعِبْرةِ في قَولِه: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [371] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/16). .
- وفي هذه الآياتِ خَصَّ الحقُّ سُبْحانه بالذِّكرِ أصْنافَ النَّباتِ؛ لأنَّ بها قِوامَ مَعاشِ النَّاسِ ومَعاشِ أنعامِهم ودَوابِّهم، وأصنافَ أنفُسِ النَّاسِ؛ لأنَّ العِبْرةَ بها أقْوى، ثمَّ ذُكِر ما يَعُمُّ المَخْلوقاتِ ممَّا يَعلَمُه النَّاسُ وما لا يَعلَمونه في مُختلِفِ الأقطارِ والأجيالِ والعُصورِ، وقُدِّمَ ذِكرُ النَّباتِ إيثارًا له بالأهمِّيَّةِ في هذا المقامِ؛ لأنَّه أشْبَهُ بالبَعثِ الَّذي أَوْمأَ إليه قَولُه: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 32] . وتَكريرُ حَرفِ (مِن) بعدَ واوِ العَطفِ للتَّوكيدِ [372] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/17). .
- وفي قَولِه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالتَّناسُبِ بيْنَ المعاني أو صِحَّةِ التَّفسيرِ [373] هو أنْ يأتِيَ المُتكلِّمُ في أوَّلِ كلامِه بمعنًى لا يَستقِلُّ الفَهمُ بمَعرفةِ فَحواهُ؛ إمَّا أنْ يكونَ مُجْمَلًا يحتاجُ إلى تَفصيلٍ، أو مُوجَّهًا يَفتقِرُ إلى تَوجيهٍ، أو مُحتملًا يحتاجُ المُرادُ منه إلى تَرجيحٍ لا يَحصُلُ إلَّا بتَفسيرِه وتَبْيينِه، ويقعُ التَّفسيرُ بعدَ الشَّرطِ أو بعدَ ما فيه معنَى الشَّرطِ، أو بعدَ الجارِّ والمجرورِ، أو بعدَ المُبتدأِ الَّذي التَّفسيرُ خبَرُه. يُنظر: ((تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر)) لابن أبي الإصبع (ص: 185)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/370)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/631). ، وقد أتَتْ صِحَّةُ التَّفسيرِ في هذه الآيةِ مُقترِنةً بصِحَّةِ التَّقسيمِ [374] التَّقسيمُ الصَّحيحُ أو صحَّةُ الأقسامِ: هو استيفاءُ المُتكلِّمِ أقسامَ المعنى الَّذي هو آخِذٌ فيه، بحيث لا يُغادِرُ منه شيئًا، أو: أن يُقسِّمَ الكلامَ قِسمةً مستويةً تحتوي على جميعِ أنواعِه، ولا يَخرُجُ منها جِنسٌ مِن أجناسِه. يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) للعسكري (ص: 341)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الأصبع (ص: 173)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/355، 457). ، واندَمَجَ فيهما التَّرتيبُ [375] التَّرتيبُ الَّذي تستدعيه البلاغةُ هو الانتقالُ في نَظْمِ الكلامِ ورَصْفِه مِن الأدنى إلى الأعلى. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 176)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (9/54). والتَّهْذيبُ [376] لأنَّ مُفرداتِ ألفاظِها مَوصوفةٌ بصِفاتِ الحُسنِ، وكلَّ لَفظةٍ سهلةُ مخارجِ الحروفِ، سَلِمَتْ مِن المحذورِ الَّذي يَقتضي تهذيبَها؛ كالتَّنافُرِ والغرابةِ ومُخالَفةِ القياسِ، بل وُضِعَتْ على أصحِّ ترتيبٍ، وأسهلِ تهذيبٍ، وحصَل التَّهذيبُ في نَظْمِها بحُصولِ حُسنِ التَّرتيبِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 401)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 318)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/368) و(6/378) و(9/45). ؛ فكان فيها أربَعةُ فُنونٍ؛ فقد قدَّمَ سُبحانه النَّباتَ، وانتَقَلَ على طَريقِ البَلاغةِ إلى الأعْلى، فثَنَّى بأشرَفِ الحَيَوانِ، وهو الإنسانُ؛ لِيَستلزِمَ ذِكرُه بقيَّةَ الحَيَوانِ، ثم ثلَّثَ بقَولِه: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، فانتَقَلَ من الخُصوصِ إلى العُمومِ؛ لِيَندرِجَ تحتَ العُمومِ [377] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/197، 198). .