موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (33-36)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَآَيَةٌ: أي: عَلامَةٌ، ودليلٌ، وحُجَّةٌ على وحدانيَّةِ الله، وكمالِ قدرتِه، وتُطلَقُ الآيةُ أيضًا على العَجيبةِ، وأصلُ (أيي): النَّظرُ .
وَفَجَّرْنَا: أي: أنْبَعْنا، والفَجْرُ: شَقُّ الشَّيءِ شَقًّا واسعًا، يُقالُ: فَجَرْتُه فانْفَجَر، وفَجَّرْتُه فتَفَجَّرَ، وأصلُ (فجر): يدُلُّ على تفتُّحٍ في الشَّيءِ .
الْأَزْوَاجَ: أي: الأجناسَ والأصنافَ، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى الأدلَّةَ الدَّالَّةَ على وحدانيَّتِه وقدرتِه، فيقولُ: ومِن العَلاماتِ الواضِحةِ لهؤلاء المُشرِكينَ على قُدرتِنا على إحياءِ الموتى: أنَّنا نُنزِّلُ الماءَ على الأرضِ الجَدباءِ، فتَحيا وتُخرِجُ ألوانًا وأصنافًا مِن الحُبوبِ الَّتي يأكُلونَها، وأنَّنا جعَلْنا فيها بَساتينَ مِن النَّخيلِ والأعنابِ، وفجَّرْنا فيها مِن عُيونِ الماءِ؛ لِيأكُلوا مِن الثِّمارِ الَّتي جعَلْناها لهم، ولم تَصنَعْها أيديهم؛ أفلا يَشكُرُ النَّاسُ رَبَّهم الَّذي أوجَدَ لهم تلك النِّعَمَ.
تَنَزَّهَ اللهُ -تعالى- عمَّا لا يَليقُ به؛ الَّذي خلَقَ الأنواعَ والأصنافَ كُلَّها، مِن النَّباتاتِ، ومِن النَّاسِ، وممَّا لا يَعلَمونَه!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس: 32] كان ذلك إشارةً إلى الحَشرِ، فذكَرَ ما يدُلُّ على إمكانِه؛ قَطعًا لإنكارِهم واستِبعادِهم، وإصرارِهم وعِنادِهم، فقال: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا كذلك نُحيي الموتى .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ حالَ المُرسَلينَ وإهلاكَ المكَذِّبينَ، وكان شُغلُهم التَّوحيدَ؛ ذكَرَ ما يدُلُّ عليه، وبدأ بالأرضِ؛ لِكَونِها مكانَهم، لا مُفارقةَ لهم منها عندَ الحَركةِ والسُّكونِ .
وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33).
أي: وعَلامةٌ عَظيمةٌ لكفَّارِ قريشٍ دالَّةٌ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وكَمالِ قُدرتِه على بَعثِ الموتَى، وعلى غيرِ ذلك، وهي إحياءُ اللهِ الأرضَ المُجدِبةَ، وإخراجُه منها أنواعًا مِن الحُبوبِ الَّتي يتغذَّى النَّاسُ عليها .
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34).
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ.
أي: وجعَلْنا في الأرضِ -الَّتي كانت مَيْتةً فأحْيَيْناها- بَساتينَ مِن أشجارِ النَّخيلِ والأعنابِ .
كما قال تعالى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 19] .
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت الجنَّاتُ لا تَصلُحُ إلَّا بالماءِ، وكان مِن طَبعِ الماءِ الغَورُ في التُّرابِ، والرُّسوبُ بشِدَّةِ السَّرَيانِ إلى أسفَلَ؛ فكان فَوَرانُه إلى جِهةِ العُلُوِّ أمرًا باهِرًا للعَقلِ، لا يكونُ إلَّا بقَسرِ قاسرٍ حكيمٍ- قال :
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ.
أي: وفجَّرْنا في الأرضِ مِن عُيونِ الماءِ .
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35).
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ.
أي: لِيَأكُلَ النَّاسُ مِن ثَمَرِه ، وما عَمِلَتْه أيديهم .
أَفَلَا يَشْكُرُونَ.
أي: أفلا يَشكُرُ النَّاسُ رَبَّهم الَّذي أوجَدَ لهم تلك النِّعَمَ ؟
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرهم الله تعالى بالشُّكرِ، وشُكْرُ الله تعالى بالعبادةِ، وهم ترَكوها وعبَدوا غيرَه وأشرَكوا؛ قال تعالى :
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ.
أي: تَنَزَّهَ اللهُ عمَّا لا يَليقُ به مِن الشِّركِ وجَميعِ النَّقائِصِ؛ الَّذي خلَقَ الأصنافَ كلَّها ممَّا تُنبِتُه الأرضُ مِن النَّباتاتِ والزُّروعِ والثِّمارِ والحبوبِ .
كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49].
وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ.
أي: ومِن النَّاسِ أنفُسِهم، فخَلَق منهم ذُكورًا وإناثًا .
كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم: 45، 46].
وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ.
أي: وممَّا لا يَعلَمُه النَّاسُ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَشْكُرُونَ وُجوبُ شُكرِ نِعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ اللهَ وَبَّخَ مَن لا يَشكُرُ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- كلُّ شَيءٍ يَنمو ويَتزايدُ تُسمِّيه العَرَبُ حَيًّا؛ ولذا يُسَمُّونَ النَّباتَ حَيًّا؛ لأنَّه يَنمو، ويُسَمُّونَ اليابِسَ منه -الَّذي لا يَنمو- مَيْتًا، ومِن هنا كانوا يقولون للأرضِ الجَدْبةِ القاحِلةِ: مَيْتةً؛ لأنَّ نباتَها يابِسٌ لا ينمو، فإذا نبَتَ فيها النَّباتُ الأخضَرُ النَّامي سَمَّوها: حيَّةً، كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ .
2- في قَولِه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أنَّه إنْ قُلْنا: إنَّ الآيةَ مَذكورةٌ للاستِدلالِ على جوازِ إحياءِ الموتى، فكان يَكفي قَولُه: أَحْيَيْنَاهَا؛ فما الفائِدةُ من قَولِه تعالى: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا؟
الجوابُ: له فائِدةٌ بالنِّسبةِ إلى بيانِ إحياءِ الموتى؛ وذلك لأنَّه لَمَّا أحيا الأرضَ، وأخرَجَ منها حبًّا، كان ذلك إحياءً تامًّا؛ لأنَّ الأرضَ المُخضَرَّةَ الَّتي لا تُنبِتُ الزَّرعَ ولا تُخرِجُ الحَبَّ دونَ ما تُنبِتُه في الحياةِ؛ فكأنَّه قال تعالى: الَّذي أحيا الأرضَ إحياءً كامِلًا مُنْبِتًا للزَّرعِ: يُحيي الموتى إحياءً كامِلًا .
3- في قَولِه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا الاستِدلالُ بالشَّاهدِ على الغائِبِ؛ فإنَّ إحياءَ الأرضِ بعدَ الموتِ مُشاهَدٌ، ويُستَدَلُّ بها على إحياءِ اللهِ الموتى عندَ بَعثِهم يومَ القيامةِ .
4- في قَولِه تعالى: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ قال عندَ ذِكرِ الحَبِّ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وفي الأشجارِ والثِّمارِ قال: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ؛ وذلك لأنَّ الحَبَّ قُوتٌ لا بدَّ منه؛ فقال: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي: هم آكِلوه، وأمَّا الثِّمارُ فليست كذلك، فكأنَّه تعالى قال: إنْ كُنَّا ما أخرَجْناها كانوا يَبقَون من غيرِ أكلٍ، فأخرَجْناها لِيأكُلوها .
5- في قَولِه تعالى: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ بيانُ حاجةِ العبدِ لربِّه، وكأنَّ هذا الحصرَ فيه إشارةٌ إلى تحدِّي الإنسانِ أنَّه لا يمكنُ أنْ يأكُلَ إلَّا مِن هذا الَّذي أخرجَه اللهُ له -وهذا مِن فوائدِ الحصرِ-، كأنَّه يقولُ: إنْ كنتَ قادرًا فأخرِجْ لِنَفْسِك ما تأكُلُه؛ إنَّك لنْ تأكُلَ إلَّا ممَّا أخرَجْناه لك .
6- في قَولِه تعالى: مِنْ نَخِيلٍ إشارةٌ إلى أنَّه نَفْعٌ كُلُّه؛ خَشَبُه، ولِيفُه، وشُعَبُه، وخُوصُه، وعراجينُه، وثمَرُه؛ طَلْعًا، وجُمَّارًا ، وبُسْرًا، ورُطَبًا، وتَمْرًا؛ ولذلك -واللهُ أعلَمُ- أتَى فيه بصيغةِ جمعِ الكَثرةِ، كـ الْعُيُونِ .
7- قَولُه تعالى: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ خَصَّص النَّخيلَ والأعنابَ بالذِّكرِ مِن سائِرِ الفواكِهِ؛ لأنَّ ألَذَّ المطعومِ الحَلاوةُ، وهي فيها أتَمُّ، ولأنَّ التَّمرَ والعِنَبَ قُوتٌ وفاكِهةٌ، ولا كذلك غيرُهما، ولأنَّهما أعَمُّ نَفعًا؛ فإنَّها تُحمَلُ مِن البلادِ إلى الأماكِنِ البعيدةِ. فإنْ قيل: فقد ذكَرَ اللهُ الرُّمَّانَ والزَّيتونَ في (الأنعامِ)، والقَضْبَ والزَّيتونَ والتِّينَ في مواضِعَ؟
نقول: في (الأنعامِ) وغيرِها المقصودُ ذِكرُ الفواكهِ والثِّمارِ؛ ألا ترَى إلى قَولِه تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ... [الأنعام: 99] ، وإلى قَوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس: 24] ؟ فاستوفى الأنواعَ بالذِّكرِ، وهاهنا المقصودُ ذِكرُ صِفاتِ الأرضِ؛ فاختار منها الألَذَّ الأنفَعَ .
8- في قَولِه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ أنَّ بني آدمَ على أصنافٍ متنوِّعةٍ، كما كان ذلك أيضًا فيما تُنبِتُه الأرضُ، بل وفي الأرضِ نفْسِها؛ قال اللهُ تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ [الرعد: 4] ، فإثباتُ التَّجاوُرِ لها يقتضي أنَّ كلَّ واحدٍ منها يُخالِفُ الآخَرَ؛ لأنَّ الجارَ غيرُ جارِه، وكذلك هنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ يدُلُّ على أنَّ في الأرضِ أصنافًا مُنوَّعةً مِن النَّباتاتِ، كذلك وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ فيما خَلَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن بني آدمَ أصنافًا: ذكرًا وأنثى، أسْوَدَ وأبيضَ، طويلًا وقصيرًا، شقيًّا وسعيدًا، ذكيًّا وبَليدًا، عاقِلًا وسَفيهًا... وهكذا؛ لِيَعتبِرَ الإنسانُ قدرةَ اللهِ عزَّ وجلَّ على خَلقِ هذه الأشياءِ المُتضادَّةِ .
9- قال الله عزَّ وجلَّ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ في قَولِه: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ إشارةٌ إلى أسرارٍ مُودَعةٍ في خَلقِ أنْواعِ الحَيَوانِ وأصْنافِه هي الَّتي ميَّزَتْ أنْواعَه عن بَعضٍ، وميَّزَتْ أصْنافَه وذُكورَه عن إناثِه، وأُودِعَتْ فيه الرُّوحُ الَّذي امتازَ به عن النَّباتِ بتَدبيرِ شُؤونِه على حَسَبِ استِعدادِ كُلِّ نَوعٍ وكُلِّ صِنفٍ، وأشرَفُ أنواعِه هو نَوعُ الإنسانِ، فمَعنى و(مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ): مِمَّا لا يَعلَمونَه تَفصيلًا، وإن كانوا قد يَشعُرونَ به إجمالًا، فإنَّ المتأمِّلَ يَعلَمُ أنَّ في المخلوقاتِ أسرارًا خَفيَّةً لم تصِلْ أفهامُهم إلى إدراكِ كُنْهِها، ومِن ذلك الرُّوحُ؛ فقد قال تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، وقد يَتفاضَلُ النَّاسُ في إدراكِ بَعضِ تلك الخصائِصِ إجمالًا وتفصيلًا، ثمَّ يَستوُونَ في عدَمِ العِلمِ ببَعضِها، وقد يمتازُ بعضُ الطوائِفِ أو الأجيالِ بمعرفةِ شَيءٍ مِن دقائقِ الخَلقِ بسَبَبِ اكتِشافٍ أو تجرِبةٍ أو تَقَصِّي آثارٍ لم يكُنْ يَعرِفُها غيرُ أولئك، ثمَّ يَستوون فيما بَقِيَ تحتَ طَيِّ الخَفاءِ مِن دقائِقِ التَّكوينِ؛ فبهذا الشُّعورِ الإجماليِّ بها وقع عَدُّها في ضِمنِ الاعتِبارِ بآيةِ خَلقِ الأزواجِ مِن جميعِ النَّواحي .
10- قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، ولم يَقُلْ: (الحمدُ لله الَّذي خلق الأزواجَ)، بل قال: سُبْحَانَ؛ لأنَّ كَونَ كُلِّ شَيءٍ يحتاجُ إلى ازدواجيَّةٍ: يدُلُّ على كَمالِ الواحِدِ المتفَرِّدِ الَّذي لا يماثِلُه شَيءٌ مِن مخلوقاتِه؛ فبنو آدَمَ لا بدَّ مِن ازدواجيَّةِ ذكرٍ وأُنثَى .
11- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا إعلامُه بكثرةِ مخلوقاتِه: يدُلُّ على اتِّساعِ مُلكِه، وعِظَمِ قُدرتِه .

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ كلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لإيرادِ آيةٍ على البَعثِ والتَّوحيدِ . وقيل: عَطفٌ على قِصَّةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] ؛ فإنَّه ضرَبَ لهم مَثَلًا لحالِ إعراضِهم، وتَكذيبِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما تَشتمِلُ عليه تلك الحالُ مِن إشراكٍ، وإنْكارٍ للبَعثِ، وأذًى للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعاقِبةِ ذلك كُلِّه، ثم أُعقِبَ ذلك بالتَّفْصيلِ؛ لإبطالِ ما اشتَمَلَتْ عليه تلك الاعتقاداتُ مِن إنْكارِ البَعثِ، ومِن الإشراكِ باللهِ، وابتُدِئَ بدَلالةِ تَقريبِ البَعثِ؛ لمُناسَبةِ الانتِقالِ مِن قَولِه: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 32] ، على أنَّ هذه لا تَخلو مِن دَلالتِها على الانفِرادِ بالتَّصرُّفِ، وفي ذلك إثباتُ الوَحْدانيَّةِ .
- وقيلَ: إنَّ قولَه: وَآَيَةٌ خَبَرٌ مُقدَّمٌ؛ للاهتِمامِ به، وتَنكيرُها للتَّفخيمِ .
- وفي قَولِه: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ... بَدَأَ بالأرضِ؛ لأنَّها مُستَقَرُّهم، حَرَكةً وسُكونًا، حَياةً ومَوتًا .
- وجُملةُ أَحْيَيْنَاهَا في مَوضِعِ الحالِ مِن الْأَرْضُ، وهي حالٌ مُقيِّدةٌ؛ لأنَّ إحْياءَ الأرضِ هو مَناطُ الدَّلالةِ على إمْكانِ البَعثِ بعدَ المَوتِ، أو يَكونُ جُملةُ أَحْيَيْنَاهَا بَيانًا لِجُملةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ؛ لبَيانِ مَوقِعِ الآيةِ فيها، أو بَدَلَ اشتِمالٍ مِن جُملةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ، أو استِئْنافًا بَيانيًّا؛ كأنَّ سائِلًا سَألَ: كيف كانتِ الأرضُ المَيْتةُ ؟
- قَولُه: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ إخراجُ الحَبِّ مِن الأرضِ: هو إخْراجُه مِن نَباتِها، فهو جاءَ منها بواسِطةٍ، وهذا إدْماجٌ للامتِنانِ في ضِمنِ الاستِدلالِ؛ ولذلك فُرِّعَ عليه فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ .
- وتَقديمُ الظَّرفِ فَمِنْهُ على يَأْكُلُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الحَبَّ هو الشَّيءُ الَّذي يَتعلَّقُ به مُعظَمُ العَيشِ؛ فتَقديمُ صِفةِ الأكْلِ تُفيدُ الاختِصاصَ، وقد عُلِم أنَّ المَأْكولَ غَيرُ مُختَصٍّ به، لكنْ قُدِّمَ الحَبُّ لِيَدُلَّ على أنَّه الأصْلُ في الارتِزاقِ، والمَأْكولاتُ تابِعةٌ له، فإنَّه إذا قَلَّ نزَلَ القَحطُ، وإذا حُصِر جاء الهلاكُ؛ فالدَّوَرانُ معه؛ فإرادةُ التَّخْصيصِ على المُبالَغةِ والادِّعاءِ، نحوُ إطلاقِ اسْمِ الجِنسِ على فَردٍ مِن أفرادِه، كحاتِمٍ الجَوادِ. ويجوزُ أنْ يُقدَّمَ رِعايةً للفَواصِلِ .
2- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ - قَولُه: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ أي: مِن أنْواعِ النَّخلِ والعِنبِ؛ ولذلك جُمِعَا دُونَ الحبِّ في قولِه: حَبًّا؛ فإنَّ الدَّالَّ على الجِنسِ مُشعِرٌ بالاختِلافِ، ولا كذلك الدَّالُّ على الأنواعِ . فالجمعُ في النَّخيلٍ والأعنابِ دونَ الحَبِّ فيه دَلالةٌ على كثرةِ اختِلافِ الأصنافِ في النَّوعِ الواحِدِ؛ الموجِبِ للتَّفاوُتِ الظَّاهِرِ في القَدرِ والطَّعمِ وغَيرِ ذلك .
- قَولُه: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ في المواضِعِ التي ذَكَر الله فيها الفواكِهَ لم يَذكُرِ التَّمْرَ إلَّا بلَفظِ شَجَرتِه -وهي النَّخلةُ-، ولم يَذكُرِ العِنبَ بلَفظِ شَجَرتِه، بل ذكَرَه بلَفظِ العِنَبِ والأعنابِ، ولم يَذكُرِ الكَرْمَ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ العِنَبَ شَجَرتُه بالنِّسبةِ إلى ثَمَرتِه حقيرةٌ قليلةُ الفائدةِ، والنَّخلَ بالنِّسبةِ إلى ثمَرتِه عظيمةٌ جَليلةُ القَدرِ، كثيرةُ الجَدوى ، فهو يختصُّ بمَزيدِ النَّفعِ، وآثارِ الصُّنعِ .
3- قولُه تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ
- قَولُه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ مُتعلِّقٌ بـ (جَعَلْنَا)، وتَأخيرُه عن تَفْجيرِ العُيونِ؛ لأنَّه مِن مَبادِئِ الإثْمارِ، أي: وجَعَلْنا فيها جنَّاتٍ مِن نَخيلٍ، ورَتَّبْنا مَبادئَ إثمارِها؛ لِيأكُلوا مِن ثَمَرِ ما ذُكِرَ مِن الجنَّاتِ والنَّخيلِ -على قَولٍ في التَّفسيرِ-؛ بإجراءِ الضَّميرِ مُجرَى اسمِ الإشارةِ ؛ فالثِّمارُ لا تَتِمُّ إلَّا بالأنهارِ، ولا تصيرُ الأشجارُ حامِلةً للثِّمارِ إلَّا بعدَ وُجودِ الأنهارِ؛ فلهذا أُخِّرَ، بيْنَما قال: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، فقال عَقِيبَ ذِكرِ الحَبِّ: (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)؛ وذلك لأنَّ الحَبَّ قُوتٌ، وهو يَتِمُّ وُجودُه بمياه الأمطارِ؛ ولهذا يُرى أكثَرُ البلادِ لا يكونُ بها شَيءٌ مِن الأشجارِ، والزَّرعُ والحِراثةُ لا تَبطُلُ هناك؛ اعتِمادًا على ماءِ السَّماءِ، وهذا لُطفٌ مِن الله؛ حيثُ جَعَل ما يحتاجُ إليه الإنسانُ أعَمَّ وُجودًا .
- قَولُه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ قيلَ: الضَّميرُ في قولِه: ثَمَرِهِ للهِ تَعالى بطريقِ الالتِفاتِ، وأصْلُه: (مِنْ ثَمَرِنَا)، كما قال: وَجَعَلْنَا وَفَجَّرْنَا؛ فنُقِلَ الكَلامُ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيْبةِ على طَريقةِ الالتِفاتِ، والإضافةُ إليه؛ لأنَّ الثَّمَرَ بخَلْقِه، والمَعْنى على ذلك: لِيَأكُلوا ممَّا خلَقَه اللهُ مِن الثَّمَرِ، وممَّا عَمِلَتْه أيْديهم مِن الغَرْسِ والسَّقيِ والتلقيحِ وغَيرِ ذلك مِن الأعمالِ إلى أنْ بلَغَ الثَّمَرُ مُنتهاهُ، يعني: أنَّ الثَّمَرَ في نفْسِه فِعلُ اللهِ وخَلْقُه، وفيه آثارٌ مِن كَدِّ بَني آدَمَ .
- وقيل: إنَّ الضَّميرَ في ثَمَرِهِ عائِدٌ على الماءِ؛ لدَلالةِ العُيونِ عليه، ولكَونِه على حَذْفِ مُضافٍ، أي: مِن ماءِ العُيونِ، وقيلَ: على النَّخيلِ، واكْتُفِيَ به للعِلمِ في اشتِراكِ الأعيانِ فيما عُلِّقَ به النَّخيلُ مِن أكْلِ ثَمَرِه. أو يُرادُ: من ثَمَرِ المْذْكورِ، وهو الجنَّاتُ .
- قَولُه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ يجوزُ أنْ تكونَ (ما) نافيةً، على أنَّ الثَّمَرَ خَلْقُ اللهِ، ولم تَعمَلْه أيْدي النَّاسِ، ولا يَقدِرونَ على خَلْقِه، وهذا أوفَرُ في الامتِنانِ، وأنسَبُ بسياقِ الآيةِ مَساقَ الاستِدلالِ. ويجوزُ أنْ تكونَ (ما) في قَولِه: وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَوصولةً مَعْطوفةً على ثَمَرِهِ، أي: لِيَأكُلوا مِن ثَمَرِ ما أخْرَجْناهُ، ومِن ثَمَرِ ما عَمِلَتْه أيْديهم؛ فيَكونَ إدْماجًا للإرشادِ إلى إقامةِ الجنَّاتِ بالخِدْمةِ، والسَّقيِ، والتَّعهُّدِ؛ لِيَكونَ ذلك أوفَرَ لأغْلالِها، وضَميرُ عَمِلَتْهُ على هذا عائِدٌ إلى اسْمِ المَوْصولِ .
- قولُه: وَمَا عَمِلَتْهُ قِراءةُ الجمهورِ بإثْباتِ هاءِ الضَّميرِ عائِدًا إلى المَذْكورِ مِن الحَبِّ، والنَّخيلِ، والأعْنابِ، وقَرَأَ حَمزةُ والكِسائيُّ وأبو بَكرٍ عن عاصِمٍ وخَلَفٌ: وَمَا عَمِلَتْ بدُونِ هاءٍ ، وكذلك هو مَرْسومٌ في المُصحَفِ الكُوفيِّ، وهو جارٍ على حَذفِ المَفْعولِ إنْ كان مَعْلومًا، ويجوزُ أنْ يكونَ مِن حَذفِ المَفْعولِ لإرادةِ العُمومِ، والتَّقديرُ: وما عَمِلَتْ أيْديهم شيئًا مِن ذلك .
- والاستِفْهامُ في قَولِه: أَفَلَا يَشْكُرُونَ تَقْريعٌ وتَوبيخٌ وإنكارٌ واستقباحٌ لعَدَمِ شُكرِهم للنِّعَمِ المَعْدودةِ، والفاءُ للعَطفِ على مُقدَّرٍ يَقتضيهِ المَقامُ، أي: أَيَرَونَ هذه النِّعَمَ أو أيَتَنعَّمونَ بها، فلا يَشْكُرونَها ؟!
- وفُرِّعَ هذا الاستِفهامُ الإنكاريُّ أَفَلَا يَشْكُرُونَ على قَولِه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ؛ لِبَيانِ عَدَمِ شُكرِهم بأنِ اتَّخذوا للَّذي أوجَدَ هذا الصُّنعَ العَجيبَ أندادًا !
- وجِيءَ بالمُضارعِ يَشْكُرُونَ؛ مُبالَغةً في إنْكارِ كُفرِهم بأنَّ اللهَ حَقيقٌ بأنْ يُكرِّروا شُكرَه، فكيف يَستمِرُّونَ على الإشراكِ به ؟!
4- قولُه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ
- قَولُه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا ... الجُملةُ مُستأْنَفةٌ مَسوقةٌ لِتَنزيهِه تَعالى عمَّا لا يَليقُ به، وعمَّا فَعلوهُ مِن تَركِ شُكرِه على آلائِه المَذْكورةِ، واستِعظامِ ما ذُكِر في حَيِّزِ صِلةٍ مِن بَدائعِ آثارِ قُدرتِه، وأسرارِ حكمتِه، ورَوائعِ نَعْمائِه الموجبةِ للشُّكرِ، وتَخصيصِ العبادةِ به، والتَّعجُّبِ مِن إخلالِهم بذلك والحالةُ هذه .
- وأيضًا قَولُه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا اعتِراضٌ بيْنَ جُمْلةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] وجُمْلةِ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] ؛ أثارَه ذِكرُ إحياءِ الأرضِ، وإخراجِ الحَبِّ والشَّجَرِ منها؛ فإنَّ لذلِكَ أحْوالًا وإبْداعًا عَجيبًا، يُذَكِّرُ بتَعظيمِ مُودِعِ تلك الصَّنائِعِ بحِكمتِه؛ وذلك تَضمَّنَ الاستِدلالَ بخَلقِ الأزواجِ على طَريقةِ الإدْماجِ .
- وسُبْحَانَ عَلَمٌ للتَّسبيحِ الَّذي هو التَّبعيدُ عن السُّوءِ اعتقادًا وقَولًا، أي: اعتقادَ البُعدِ عنه والحُكمَ به، مِنْ سبَحَ في الأرضِ والماءِ؛ إذا أبعَدَ فيهما وأمْعَنَ، ومنه فَرَسٌ سَبُوحٌ، أي: واسِعُ الجرْيِ، وسُبْحَانَ هنا لإنشاءِ تَنزيهِ اللهِ تعالى عن أحوالِ المُشرِكينَ تنزيهًا عن كلِّ ما لا يليقُ بإلهيَّتِه، وأعْظَمُه الإشراكُ به. وانتِصابُه على المصدريَّةِ، ولا يَكادُ يُذكَرُ ناصِبُه، أي: أُسبِّحُ سُبْحانَه، أي: أُنزِّهُه عمَّا لا يَليقُ به عَقْدًا وعَمَلًا، تَنزيهًا خاصًّا به حقيقًا بشَأنِه، وفيه مُبالَغةٌ مِن جِهةِ الاشتِقاقِ مِن السَّبْحِ، ومِن جِهةِ النَّقلِ إلى التَّفعيلِ، ومِن جِهةِ العُدولِ عن المَصدَرِ الدَّالِّ على الجِنسِ إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصَّةً، لا سيَّما العَلَمُ المشيرُ إلى الحَقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ، ومِن جِهةِ إقامتهِ مُقامَ المَصدَرِ مع الفِعلِ. وقيلَ: هو مَصدرٌ كغُفرانٍ، أُريدَ به التَّنزُّهُ التَّامُّ، والتَّباعُدُ الكُلِّيُّ عن السُّوءِ؛ ففيه مُبالَغةٌ مِن جِهةِ إسنادِ التَّنزُّهِ إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ، فالمَعْنى: تَنزَّهَ بذاتِه عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ به تنزُّهًا خاصًّا به؛ فالجُملةُ على هذا إخبارٌ مِن اللهِ تَعالى بتَنزُّهِه وبَراءتِه عن كُلِّ ما لا يَليقُ به مَّما فَعَلوه وما تَرَكوه، وعلى الأوَّلِ حُكمٌ منه عزَّ وجلَّ بذلك، وتَلقينٌ للمُؤمِنينَ أنْ يَقولوهُ ويَعتقِدوا مَضمونَه، ولا يُخِلُّوا به، ولا يَغفُلوا عنه .
- وإجراءُ المَوْصولِ على الذَّاتِ العَلِيَّةِ في قَولِه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا؛ للإيماءِ إلى وجْهِ إنشاءِ التَّنزيهِ والتَّعظيمِ .
- وجِيءَ بضَميرِ جَماعةِ العُقلاءِ في قَولِه: وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ؛ تَغليبًا لنَوعِ الإنسانِ؛ نَظَرًا لكَونِه المَقْصودَ بالعِبْرةِ بهذه الآيةِ، وللتَّخلُّصِ إلى تَخْصيصِه بالعِبْرةِ في قَولِه: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ .
- وفي هذه الآياتِ خَصَّ الحقُّ سُبْحانه بالذِّكرِ أصْنافَ النَّباتِ؛ لأنَّ بها قِوامَ مَعاشِ النَّاسِ ومَعاشِ أنعامِهم ودَوابِّهم، وأصنافَ أنفُسِ النَّاسِ؛ لأنَّ العِبْرةَ بها أقْوى، ثمَّ ذُكِر ما يَعُمُّ المَخْلوقاتِ ممَّا يَعلَمُه النَّاسُ وما لا يَعلَمونه في مُختلِفِ الأقطارِ والأجيالِ والعُصورِ، وقُدِّمَ ذِكرُ النَّباتِ إيثارًا له بالأهمِّيَّةِ في هذا المقامِ؛ لأنَّه أشْبَهُ بالبَعثِ الَّذي أَوْمأَ إليه قَولُه: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 32] . وتَكريرُ حَرفِ (مِن) بعدَ واوِ العَطفِ للتَّوكيدِ .
- وفي قَولِه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالتَّناسُبِ بيْنَ المعاني أو صِحَّةِ التَّفسيرِ ، وقد أتَتْ صِحَّةُ التَّفسيرِ في هذه الآيةِ مُقترِنةً بصِحَّةِ التَّقسيمِ ، واندَمَجَ فيهما التَّرتيبُ والتَّهْذيبُ ؛ فكان فيها أربَعةُ فُنونٍ؛ فقد قدَّمَ سُبحانه النَّباتَ، وانتَقَلَ على طَريقِ البَلاغةِ إلى الأعْلى، فثَنَّى بأشرَفِ الحَيَوانِ، وهو الإنسانُ؛ لِيَستلزِمَ ذِكرُه بقيَّةَ الحَيَوانِ، ثم ثلَّثَ بقَولِه: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، فانتَقَلَ من الخُصوصِ إلى العُمومِ؛ لِيَندرِجَ تحتَ العُمومِ .