موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (85-87)

ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ

المعنى الإجمالي:

ذكر الله تعالى بعضَ الأسئلةِ التي كانت تُوجَّهُ إلى الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: ويَسألُك الكُفَّارُ عن حقيقةِ الرُّوحِ، قلْ لهم: الرُّوحُ مِمَّا استأثَرَ اللهُ بعِلمِه، وما أُعطِيتُم مِن العِلمِ إلَّا شَيئًا قليلًا.
ثمَّ بيَّن سبحانه مظهرًا مِن مظاهرِ قدرتِه، فقال: ولَئِنْ شِئْنا مَحْوَ القُرآنِ مِن قَلبِك لمحَوناه، ثمَّ لا تَجِدُ لنَفسِك ناصِرًا يمنَعُنا مِن فِعْلِ ذلك، أو يَرُدُّ عليك القُرآنَ بعدَ ذَهابِه عنك. لكنْ أثبَتْناه في قَلبِك رحمةً مِنَّا وتفضُّلًا؛ إنَّ فَضْلَه كان عليك عَظيمًا في الدُّنيا والآخِرةِ.

تفسير الآيات:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85).
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ.
مُناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:
لمَّا انجرَّ الكلامُ إلى ذِكرِ الإنسانِ وما جُبِل عليه، ذكَرَ سُبحانَه سؤالَ السَّائلين لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرُّوحِ .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينما أنا أمشي مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَرثٍ ، وهو مُتَّكِئٌ على عَسيبٍ ، إذ مَرَّ بنَفَرٍ مِن اليَهودِ، فقال بَعضُهم لبَعضٍ: سَلُوه عن الرُّوحِ، فقالوا: ما رابَكم إليه، لا يَستَقبِلُكم بشَيءٍ تَكرهونَه، فقالوا: سَلُوه، فقام إليه بَعضُهم فسألَه عن الرُّوحِ، قال: فأَسكَتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، فعَلِمتُ أنَّه يُوحَى إليه، قال: فقُمتُ مكاني، فلمَّا نَزَل الوَحيُ قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)) .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (قالت قُرَيشٌ لليَهودِ: أعطُونا شيئًا نسألُ عنه هذا الرَّجُلَ، فقالوا: سَلُوه عن الرُّوحِ، فسألوه، فنَزَلت: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ.
أي: ويسألُك الكُفَّارُ -يا مُحمَّدُ- عن ماهِيَّةِ الرُّوحِ التي بها الحياةُ؛ ما حَقيقتُها ؟
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: الرُّوحُ مِن شَأنِ رَبِّي، استأثَرَ بعِلمِها؛ فهو الذي خَلَقها، ولا يعلَمُ حَقيقَتَها أحدٌ غيرُ الله .
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: وما آتاكم اللهُ -أيُّها النَّاسُ - مِن العِلمِ إلَّا شَيئًا قَليلًا ممَّا يَعلَمُه سُبحانَه .
عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في قِصَّةِ الخَضِرِ وموسى عليهما السَّلامُ: ((... فلمَّا رَكِبَا في السَّفينةِ جاء عُصفورٌ، فوقعَ على حَرفِ السَّفينةِ فنقرَ في البَحرِ نَقرةً أو نَقرتَينِ، قال لهُ الخَضِرُ: يا موسى، ما نَقَصَ عِلمي وعِلمُكَ مِن علمِ اللهِ إلَّا مِثلَ ما نقَصَ هذا العُصفورُ بمِنقارِه مِن البَحرِ )) .
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأولى أنَّه ما آتاهم مِن العِلمِ إلَّا قَليلًا؛ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه لو شاء أن يأخُذَ منهم ذلك القَليلَ أيضًا لقَدَر عليه، وذلك بأنْ يَمحُوَ حِفظَه من القُلوبِ وكِتابَتَه مِن الكُتُبِ، وهذا وإن كان أمرًا مُخالِفًا للعادةِ إلَّا أنَّه تعالى قادِرٌ عليه .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أنعَمَ به من تنزيلِ القُرآنِ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِفاءً ورَحمةً وقُدرتَه على ذلك؛ ذكَرَ قُدرَتَه على أنَّه لو شاء لذَهَب بما أوحى، ولكِنَّه تعالى لم يشأْ ذلك، والمعنى أنَّا كما نحن قادِرونَ على إنزالِه، فنحن قادِرونَ على إذهابِه .
وأيضًا فالآيةُ مُتَّصلةٌ بقولِه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ...، أفضَتْ إليها المُناسبةُ؛ فإنَّه لمَّا تضمَّنَ قولُه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي تلقينَ كلمةِ علْمٍ جامعةٍ، وتضمَّنَ أنَّ الأُمَّةَ أُوتِيتَ علْمًا ومُنِعَت علْمًا، وأنَّ علْمَ النُّبوَّةِ من أعظَمِ ما أُوتِيَتْه، أعقَبَ ذلك بالتَّنبيهِ إلى الشُّكرِ على نِعْمةِ العلْمِ؛ دفعًا لغُرورِ النَّفسِ؛ لأنَّ العلمَ بالأشياءِ يُكسِبُها إعجابًا بتميُّزِها عمَّن دونها فيه، فأُوقِظَت إلى أنَّ الَّذي منَحَ العلمَ قادرٌ على سلْبِه .
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ.
أي: وأُقسِمُ -يا مُحمَّدُ- لَئِنْ أرَدْنا لنُزيلَنَّ القُرآنَ الذي أوحَيناه إليك مِن قَلْبِك، فلا يبقَى منه شَيءٌ مَحفوظٌ في الصُّدورِ ولا مَكتوبٌ في السُّطورِ؛ فكما قَدَرْنا على إنزالِه نَقدِرُ على إذهابِه .
عن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَدرُسُ الإسلامُ كما يَدرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ ، حتى لا يُدرَى ما صِيامٌ، ولا صَلاةٌ، ولا نُسُكٌ، ولا صَدَقةٌ، ولَيُسرَى على كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في ليلةٍ، فلا يبقى في الأرضِ منه آيةٌ، وتبقى طوائِفُ مِن النَّاسِ: الشَّيخُ الكَبيرُ والعَجوزُ، يقولون: أدرَكْنا آباءَنا على هذه الكَلِمةِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فنحن نَقولُها!) ) .
ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا.
أي: ثمَّ لا تَجِدُ لك -يا مُحمَّدُ- ناصِرًا يَنصُرُك فيَمنَعُنا مِن إزالةِ القُرآنِ مِن صَدرِك، أو يَقومُ برَدِّه إليك بعدَ ذَهابِه عنك .
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87).
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
أي: لكِنَّ رَبَّك -يا مُحمَّدُ- لا يشاءُ أن يُذهِبَ القُرآنَ مِن صَدرِك رَحمةً منه بك وبِعبادِه .
إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا.
أي: لا يَذهَبُ اللهُ بالقُرآنِ -يا مُحمَّدُ- لأنَّ فَضلَ اللهِ عليك كان فَضلًا عَظيمًا في الدُّنيا والآخرةِ؛ بالرِّسالةِ، وإنزالِ القُرآنِ، والمَقامِ المَحمودِ يومَ القيامةِ، وغَيرِ ذلك مِن نِعَمِه عليك، فلا يَحرِمُك الفَضلَ الذي أوحاه إليك .
كما قال تعالى: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا مُتضَمِّنٌ لرَدعِ مَن يسألُ المسائِلَ التي لا يَقصِدُ بها إلَّا التعَنُّتَ والتَّعجيزَ، ويدَعُ السُّؤالَ عن المُهِمِّ، فيسألونَ عن الرُّوحِ التي هي مِن الأمورِ الخَفيَّةِ، التي لا يُتقِنُ وَصفَها وكيفيَّتَها كُلُّ أحدٍ، وهم قاصِرونَ في العِلمِ الذي يَحتاجُ إليه العِبادُ !
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فيه دليلٌ على أنَّ المسؤولَ إذا سُئِلَ عن أمرٍ الأَولى بالسَّائِلِ غَيرُه، أن يُعرِضَ عن جوابِه، ويَدُلَّه على ما يَحتاجُ إليه، ويُرشِدَه إلى ما ينفَعُه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا في هذه الآيةِ ما يَزجُرُ الخائِضينَ في شأنِ الرُّوحِ، المُتكَلِّفينَ لبَيانِ ماهيتِه وإيضاحِ حقيقتِه- أبلَغَ زَجرٍ، ويَردَعُهم أعظَمَ رَدعٍ، وقد أطالوا المقالَ في هذا البَحثِ بما لا يَتِمُّ له المقامُ، وغالِبُه بل كُلُّه من الفُضولِ الذي لا يأتي بنَفعٍ في دينٍ ولا دنيا. وقد حكى بعضُ المُحقِّقينَ أنَّ أقوالَ المُختَلِفينَ في الرُّوحِ بَلَغَت إلى ثمانيةَ عَشرَ ومئةِ قَولٍ، فانظُرْ إلى هذا الفُضولِ الفارِغِ، والتعَبِ العاطِلِ عن النَّفعِ! بعد أن عَلِموا أنَّ اللهَ سُبحانَه قد استأثَرَ بعِلمِه، ولم يُطلِعْ عليه أنبياءَه، ولا أذِنَ لهم بالسُّؤالِ عنه، ولا البَحثِ عن حقيقتِه، فضلًا عن أُمَمِهم المُقتَدينَ بهم، فيا لَلَّهِ العَجَب؛ حيث تَبلُغُ أقوالُ أهلِ الفُضولِ إلى هذا الحَدِّ الذي لم تَبلُغْه ولا بَعضَه في غَيرِ هذه المسألةِ مِمَّا أذِنَ الله بالكلامِ فيه، ولم يستأثِرْ بعِلمِه !!
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فيه دَلالةٌ على أنَّ الرُّوحَ لا يُمكِنُ الإحاطةُ بها، ولا يُمكِنُ تحديدُ ماهيَّتِها أبدًا . فالبَدَنُ مادَّتُه مَعلومةٌ: وهي التُّرابُ، أمَّا الرُّوحُ فمادَّتُها غيرُ مَعلومةٍ، وهذه -واللهُ أعلمُ- من الحِكمةِ في إضافتِها إليه: أنَّها أمرٌ لا يُمكِنُ أن يَصِلَ إليه عِلمُ البشَرِ، بل هي ممَّا استأثَرَ اللهُ بعِلمِه، كسائِرِ العُلومِ العَظيمةِ الكثيرةِ التي لم نُؤتَ منها إلَّا القَليلَ، ولا نُحيطُ بشَيءٍ مِن هذا القَليلِ إلَّا بما شاء اللهُ تبارك وتعالى . لذا تمسَّكَ بالآية مَن قال: إنَّ الرُّوحَ لا يُعلَمُ، وأمسَكَ عن الخَوضِ فيه .
3- إنَّ إبهامَ أمرِ الرُّوحِ في قَولِه تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فيه حِكمةٌ مِن جِهةِ اختبارِ الخَلقِ؛ ليُعَرِّفَهم سُبحانَه بعَجزِهم عن عِلمِ ما لا يُدرِكونَه؛ حتى يَضطرَّهم إلى رَدِّ العِلمِ إليه .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
- قولُه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث قال: قُلِ الرُّوحُ ولم يقُلْ: (قُلْ: إنَّها)؛ إظهارًا لكمالِ الاعتناءِ بشأْنِه .
- وأضاف الروحَ إلى (الأمر) -وإن كانت مِن جملةِ خلقِه- تشريفًا لها، وإشارةً إلى أنَّه لا سببَ مِن غيرِه يتوسَّطُ بينها وبين أمرِه، بل هو يبدعُها مِن العدمِ .
- وإضافةُ ضَميرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الرَّبِّ جَلَّ وعَلا بقولِه: مِنْ أَمْرِ رَبِّي فيها من تَشريفِ المُضافِ ما لا يَخْفى .
2- قولُه تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا خُوطِبَ بذلك النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ علْمَه أعظَمُ علْمٍ، فإذا كان وُجودُ علْمِه خاضعًا لمشيئةِ اللهِ، فما الظَّنُّ بعلْمِ غيرِه؟! تَعريضًا لبقيَّةِ العُلماءِ؛ فالكلامُ صَريحُه تحذيرٌ، وهو كِنايةٌ عن الامتنانِ، كما دَلَّ عليه قولُه بعده: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا، وتعريضٌ بتحذيرِ أهْلِ العلْمِ .
- وفي قولِه: بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ عُبِّرَ عن القُرآنِ بالموصولِ؛ تَفخيمًا لشأنِه، ووصْفًا له بما في حيِّزِ الصِّلةِ ابتداءً، وإعلامًا بحالِه مِن أوَّلِ الأمرِ، وبأنَّه ليس من قَبِيلِ كلامِ المخلوقِ .
3- قوله تعالى: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا
- قولُه: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استدراكٌ على ما اقتضاهُ فعْلُ الشَّرطِ -وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ- مِن توقُّعِ ذلك، أي: لكن رحمةً من ربِّك نفَتْ مَشيئةَ الذَّهابِ بالَّذي أوحَيْنا إليك، فهو باقٍ غيرُ مَذهوبٍ به، وهذا إيماءٌ إلى بقاءِ القُرآنِ وحفْظِه .
- قولُه: ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لأنَّ نفيَ الطَّمعِ في استرجاعِ المسلوبِ أشدُّ على النَّفسِ من سَلْبِه؛ فذِكْرُه أدخَلُ في التَّنبيهِ على الشُّكرِ، والتَّحذيرِ من الغُرورِ .
- قولُه: ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا عُدِّيَ بـ (على)؛ لِمَا فيه من معنى الغَلبةِ، وعُدِّيَ إلى المردودِ بالباءِ؛ لِمَا فيه من معنى التَّعهُّدِ والمُطالَبةِ، أي: مُتعهِّدًا بالَّذي أوحَيْنا إليك. ومعنى التَّعهُّدِ به: التَّعهُّدُ باسترجاعِه؛ لأنَّه في مُقابَلةِ قولِه: لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، ولأنَّ التَّعهُّدَ لا يكونُ بذاتِ شَيءٍ، بل بحالٍ من أحوالِه؛ فجَرى الكلامُ على الإيجازِ .
- قولُه: وَكِيلًا ذكَرَ هنا وَكِيلًا وفي الآيةِ قبلَها نَصِيرًا؛ لأنَّ معنى هذه على فرْضِ سَلْبِ نِعمةِ الاصطفاءِ، فالمُطالبةُ بإرجاعِ النِّعمةِ شفاعةٌ ووكالةٌ عنه، وأمَّا الآيةُ قبلَها فهي في فرْضِ إلحاقِ عُقوبةٍ به، فمُدافعةُ تلك العُقوبةِ أو الثَّأرُ بها نَصرٌ .
- ومَوقعُ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا موقعُ التَّعليلِ للاستثناءِ المُنقطِعِ، وزيادةُ فعْلِ (كان) فيه لتَوكيدِ الجُملةِ؛ زيادةً على تَوكيدِها بحرفِ التَّوكيدِ المُستعمَلِ في معنى التَّعليلِ والتَّفريعِ .