موسوعة التفسير

سورةُ المعارجِ
الآيات (1-7)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غريب الكلمات:

الْمَعَارِجِ: أي: الدَّرَجاتِ، أو المصاعِدِ؛ لأنَّ العُرُوجَ: ذَهابٌ في صُعودٍ، أو السَّمَواتِ؛ لأنَّ الملائِكةَ تَعرُجُ فيها، وأصلُ (عرج): يدُلُّ على سُمُوٍّ وارتقاءٍ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 485)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/302)، ((البسيط)) للواحدي (22/205)، ((المفردات)) للراغب (ص: 557). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ
- قَولُه تعالى: سَأَلَ فيه وَجهانِ؛ أحدُهما: أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى «دعا»؛ فلذلك تعدَّى بالباءِ؛ مِنْ قولِك: دعا بكَذا: إذا استَدْعاه وطَلَبه، ومنه قَولُه تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ [الدخان: 55] ، والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ. والثَّاني: أَنْ يكونَ على أصلِه، والباءُ بمعنى (عن).
- قولُه تعالى: لِلْكَافِرِينَ: فيه أوجهٌ؛ أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بـ سَأَلَ مُضَمَّنًا معنى «دَعا»، أي: دعا للكافِرينَ بعَذابٍ واقعٍ. الثَّاني: أَنْ يتعلَّقَ بـ وَاقِعٍ، واللَّامُ للعِلَّةِ، أي: نازِلٍ مِن أجْلِهم، أو تكونُ اللَّامُ بمعنى «على»، أي: واقعٍ على الكافِرينَ. الثَّالثُ: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ثانيةً لـ «عَذَابٍ»، أي: كائنٍ للكافِرينَ. الرَّابعُ: أَنْ يكونَ جوابًا للسَّائلِ، فيكونَ خبرَ مُبتدَأٍ محذوفٍ، أي: هو للكافِرينَ.
- قوله: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ فيه أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنْ يكونَ نعتًا آخَرَ لـ «عذابٍ». الثَّاني: أنْ يكونَ مُستأنَفًا. الثَّالثُ: أنْ يكونَ حالًا مِن «عذابٍ»؛ لتخصُّصِه بالعملِ أو الصِّفةِ.
- قَولُه: مِنَ اللَّهِ: في تعَلُّقِه وَجهانِ؛ أحَدُهما: أنْ يتعلَّقَ بـ دَافِعٌ، بمعنى: ليس له دافِعٌ مِنْ جهتِه تعالى إذا جاء وَقتُه. الثَّاني: أنْ يتعلَّقَ بـ وَاقِعٍ، أي: واقِعٍ مِن عندِه تعالى [6] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1239)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/445 - 449)، ((تفسير الألوسي)) (15/62)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (29/77). قال ابن جُزَي: (مِنَ اللَّهِ يحتَمِلُ أن يتعلَّقَ بـ وَاقِعٍ أي: واقِعٍ مِن عِندِ اللهِ، أو بـ دَافِعٌ أي: ليس له دافِعٌ مِن عندِ اللهِ، أو يكونُ صِفةً للعَذابِ، أو مُستأنَفًا). ((تفسير ابن جزي)) (2/409). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى في مَطلَعِ هذه السُّورةِ الكريمةِ مبيِّنًا جهْلَ المعاندينَ، واستعجالَهم لعذابِ الله: دعا داعٍ مِنَ الكُفَّارِ بعَذابِ اللهِ مُتعَجِّلًا له، وهو واقِعٌ بالكُفَّارِ لا محالةَ! وليس له دافعٌ يَدفَعُه عنهم، وهذا العذابُ واقعٌ عليهم مِنَ اللهِ ذي العلُوِّ والدَّرجاتِ والفواضِلِ والنِّعَمِ، فلا يمكِنُ لأحَدٍ دَفْعُه. تَصعَدُ الملائِكةُ وجِبريلُ عليهم السَّلامُ إليه سُبحانَه وتعالى في يومٍ قَدْرُه خمسونَ ألْفَ سَنَةٍ!
 فاصبِرْ -يا محَمَّدُ- على تكذيبِ المُشرِكينَ بك صَبرًا جَميلًا؛ إنَّ الكافِرينَ يَرَونَ عَذابَ الآخِرةِ بعيدًا وُقوعُه؛ لعَدَمِ إيمانِهم بالبَعثِ بعدَ المَوتِ، ونحن نَراه قريبَ الوُقوعِ؛ فكلُّ آتٍ قَريبٌ!

تفسير الآيات:

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: سَالَ بالألِفِ مِن غيرِ هَمزٍ، قيل: هو مِن السَّيَلانِ، على معنى: جرى وادٍ في جهنَّمَ بعَذابٍ واقِعٍ [7] قرأ بها نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/390). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 352)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/88)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 720، 721). ، وقيل: (سَالَ) بمعنى (سَأَلَ)، تُرِكت الهَمزةُ تَخفيفًا، فتكونُ القِراءتانِ بمعنًى واحدٍ [8] قال الأزهري: (وجائِزٌ أن يكونَ سَالَ غيرَ مهموزٍ، ويكونَ بمعنى «سأل»، فَخُفِّفَ همزُه. وهو أحَبُّ إلَيَّ من قَولِ مَن ذهب به إلى سَيْلِ الوادي؛ لتتَّفِقَ القِراءتانِ). ((معاني القراءات)) (3/88). .
2- قِراءةُ: سَأَلَ بهمزةٍ مَفتوحةٍ؛ مِنَ السُّؤالِ، على معنى: دعا داعٍ بعَذابٍ واقِعٍ، أي: طَلَبه. وقيل: المعنى: سأل سائِلٌ عن عذابٍ واقِعٍ [9] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/390). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 352)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/88)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 721). .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1).
أي: دعا داعٍ مِنَ الكُفَّارِ بعَذابِ اللهِ مُتعَجِّلًا له، وهو واقِعٌ بالكُفَّارِ لا محالةَ [10] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/183)، ((تفسير ابن كثير)) (8/220)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قوله: سَأَلَ اختُلِف فيه على قولَينِ: أحدُهما: أن يكونَ السُّؤالُ بمعنَى الدُّعاءِ، أي: دعا داعٍ بعذابٍ واقِعٍ. والآخَرُ: أن يكونَ السُّؤالُ بمعنَى الاستِخبارِ، أي: سألَ سائلٌ عن عذابٍ واقعٍ، والباءُ على هذا بمعنَى (عن). يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/409). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (6/89)، ((تفسير السمعاني)) (6/44). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: الزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، والواحدي، والزمخشري، والبيضاوي، وجلال الدين المحلي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، والسعدي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/219)، ((تفسير السمرقندي)) (3/494)، ((الوسيط)) للواحدي (4/350)، ((تفسير الزمخشري)) (4/608)، ((تفسير البيضاوي)) (5/244)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 764)، ((تفسير أبي السعود)) (9/29)، ((تفسير الشوكاني)) (5/344)، ((تفسير الألوسي)) (15/62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قال ابن جُزَي: (وقد تكونُ الإشارةُ إلى قولِ الكفَّارِ: «أَمْطِرْ علينا حِجارةً مِن السَّماءِ»، وكان الَّذي قالها النَّضرُ بنُ الحارثِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/409). وقال ابن الجوزي: (قال المفسِّرون: نزلَت في النَّضرِ بنِ الحارثِ حينَ قال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ [الأنفال: 32] ، وهذا مذهبُ الجمهورِ؛ منهم ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ. وقال الرَّبيعُ بنُ أنسٍ: هو أبو جهلٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/335). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ أي أنَّ السُّؤالَ بمعنى الاستخبارِ: ابنُ جرير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/248)، ((تفسير العليمي)) (7/154). قال ابن جُزَي: (وتكونُ الإشارةُ إلى قولِه: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ، وغيرِ ذلك). ((تفسير ابن جزي)) (2/409). وقال ابن كثير: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ فيه تضمينٌ دلَّ عليه حرفُ الباءِ، كأنَّه مقدَّر: يَستَعجِلُ سائلٌ بعذابٍ واقعٍ، كقولِه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج: 47] ، أي: وعذابُه واقعٌ لا مَحالةَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/220). وقال الرازي: (قال بعضُهم: هذا السَّائلُ هو رسولُ الله، استعجَل بعذابِ الكافِرين، فبَيَّن اللهُ أنَّ هذا العذابَ واقعٌ بهم، فلا دافِعَ له. قالوا: والَّذي يدُلُّ على صحَّةِ هذا التَّأويلِ قولُه تعالى في آخِرِ الآيةِ: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج: 5] ، وهذا يدُلُّ على أنَّ ذلك السَّائلَ هو الَّذي أمَره بالصَّبرِ الجميلِ). ((تفسير الرازي)) (30/637). وقال ابن عاشور: (كان كفَّارُ قُرَيشٍ يَستَهزِئون فيَسألونَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: متى هذا العذابُ الَّذي تَتَوعَّدُنا به؟ ويَسألونَه تعجيلَه؛ قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] ، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [الحج: 47] ، وكانوا أيضًا يَسألونَ اللهَ أن يوقِعَ عليهم عذابًا إن كان القرآنُ حقًّا مِن عندِه؛ قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] . وقيل: إنَّ السَّائلَ شخصٌ معيَّنٌ، هو النَّضرُ بنُ الحارِثِ، قال: إِنْ كَانَ هَذَا أي: القرآنُ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] . وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَسألُ اللهَ أن يُعِينَه على المشركينَ بالقَحطِ، فأشارت الآيةُ إلى ذلك كلِّه، ولذلك فالمرادُ بـ سَائِلٌ فريقٌ أو شخصٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/153). !
لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2).
أي: ليس للعَذابِ الواقعِ على الكافِرينَ أيُّ دافعٍ يَدفَعُه عنهم [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/250)، ((تفسير ابن جزي)) (2/409)، ((تفسير ابن كثير)) (8/220). قال السعدي: (أي: ليس لهذا العذابِ الَّذي استعجَلَ به مَنِ استعجلَ مِن مُتمَرِّدي المشركينَ أحدٌ يَدفَعُه قبْلَ نُزولِه، أو يَرفَعُه بعدَ نُزولِه... فالعذابُ لا بدَّ أن يقَعَ عليهم مِن الله؛ فإمَّا أن يُعَجَّلَ لهم في الدُّنيا، وإمَّا أنْ يُؤخَّرَ عنهم إلى الآخِرةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 885). .
كما قال تعالى: فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الملك: 28] .
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3).
أي: وهذا العذابُ واقعٌ مِنَ اللهِ ذي العلُوِّ والدَّرجاتِ والفواضِلِ والنِّعَمِ، فلا يمكِنُ لأحَدٍ دَفْعُه [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/250)، ((تفسير ابن كثير)) (8/220)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قال ابن الجوزي: (قوله عزَّ وجلَّ: ذِي الْمَعَارِجِ فيه قولانِ؛ أحدُهما: أنَّها السَّمواتُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ. وقال مجاهدٌ: هي مَعارِجُ الملائكةِ. قال ابنُ قُتَيْبةَ: وأصلُ «المعارج» الدَّرَجُ، وهي مِن عَرَجَ: إذا صَعِدَ. قال الفرَّاءُ: لَمَّا كانت الملائكةُ تَعْرُجُ إليه، وصَف نفْسَه بذلك). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/336). ويُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 485)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/184). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بـ ذِي الْمَعَارِجِ: ذو السَّمَواتِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والسمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/435)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1131)، ((تفسير السمعاني)) (6/45). قال السمعاني: (وسُمِّيت السَّمواتُ مَعارِجَ؛ لأنَّ الملائكةَ يَعْرُجونَ إليها). ((تفسير السمعاني)) (6/45). وممَّن قال في الجملةِ: إنَّ المرادَ بقولِه: ذِي الْمَعَارِجِ: أي: ذي المَصاعِدِ: ابنُ أبي زَمَنِين، والزمخشريُّ، والرَّسْعَني، والنَّسَفي، وابنُ جُزَي، والنيسابوري، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والشوكانيُّ، وعبَّر بعضُهم بقولِه: مَصاعِدِ الملائكةِ، وبعضُهم قال: المَراقي إلى السَّماءِ، وبعضُهم قال: الدَّرجاتِ الَّتي تَصعَدُ فيها الملائكةُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/34)، ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((تفسير الرسعني)) (8/275)، ((تفسير النسفي)) (3/535)، ((تفسير ابن جزي)) (2/409)، ((تفسير النيسابوري)) (6/356)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 765)، ((تفسير العليمي)) (7/155)، ((تفسير الشوكاني)) (5/345). وقال ابن جرير: (قولُه: ذِي الْمَعَارِجِ يعني: ذا العُلوِّ والدَّرَجاتِ، والفواضِلِ والنِّعَمِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/250). وقال السعدي: (ذو العُلوِّ والجَلالِ والعَظَمةِ، والتَّدبيرِ لسائرِ الخَلقِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قال ابنُ كثيرٍ: (... عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه: ذِي الْمَعَارِجِ قال: ذو الدَّرَجاتِ. وقال عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ: ذِي الْمَعَارِجِ يعني: العلو والفواضل. وقال مجاهدٌ: ذِي الْمَعَارِجِ مَعارِجِ السَّماءِ. وقال قَتادةُ: ذي الفواضِلِ والنِّعَمِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/220). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/250، 251)، ((تفسير الماوردي)) (6/90). .
كما قال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر: 15] .
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4).
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ.
أي: تَصعَدُ الملائِكةُ وجِبريلُ عليهم السَّلامُ إليه سُبحانَه وتعالى [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/251)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1131)، ((تفسير القرطبي)) (18/281)، ((تفسير ابن عادل)) (19/354). قال ابنُ كثير في «الرُّوحِ»: (يحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ به جِبريلَ، ويكونَ مِن بابِ عَطفِ الخاصِّ على العامِّ، ويحتَمِلُ أن يكونَ اسمَ جِنسٍ لأرواحِ بني آدمَ؛ فإنَّها إذا قُبِضَت يُصعَدُ بها إلى السَّماءِ كما دَلَّ عليه حديثُ البَراءِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/221). وممَّن ذهب إلى أنَّ الرُّوحَ هنا جِبريلُ عليه السَّلامُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والقرطبي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/435)، ((تفسير ابن جرير)) (23/251)، ((تفسير السمرقندي)) (3/494)، ((تفسير الثعلبي)) (10/36)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1131)، ((تفسير القرطبي)) (18/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/157). قال ابنُ عطيَّة: (الرُّوحُ عندَ جُمهورِ العُلَماءِ: هو جِبريلُ عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/365). ونسَبَه ابنُ الجَوزيِّ للأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/336). وممَّن ذهب إلى أنَّ الرُّوحَ اسمُ جِنسٍ لأرواحِ بني آدمَ: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 885). وذكر الماوَرْديُّ عن قَبِيصةَ بنِ ذُؤَيْبٍ أنَّ المرادَ: رُوحُ الميِّتِ حينَ يُقبَضُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/90). قال القرطبي: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ أي: تَصعَدُ في المعارجِ الَّتي جعَلَها اللهُ لهم). ((تفسير القرطبي)) (18/281). وقال العُلَيمي: (تَعْرُجُ أي: تَصعَدُ الْمَلَائِكَةُ الحَفَظةُ بأعمالِ بني آدمَ كُلَّ يومٍ). ((تفسير العليمي)) (7/155). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 192، 193].
وقال سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4].
فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
أي: في يومٍ واحدٍ قَدْرُه خمسونَ ألْفَ سَنةٍ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/251)، ((تفسير الماتريدي)) (10/198)، ((تفسير ابن كثير)) (8/221)، ((تفسير الشوكاني)) (5/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886). قال ابن جُزَي: (اختُلِف في هذا اليومِ على قولَينِ؛ أحدُهما: أنَّه يومُ القيامةِ، والآخَرُ: أنَّه في الدُّنيا). ((تفسير ابن جزي)) (2/410). وقال ابن الجَوزيِّ: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّه يومُ القيامةِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، وقَتادةُ، والقُرَظيُّ، وهذا هو مِقدارُ يومِ القيامةِ مِن وقتِ البَعثِ إِلى أن يُفصَلَ بيْن الخَلقِ... وقيل: بل لو وَلِيَ حِسابَ الخَلقِ سِوى اللهِ عزَّ وجلَّ لم يَفرُغْ منه في خمسينَ ألْفَ سَنةٍ! والحقُّ يَفرُغُ منه في ساعةٍ مِن نهارٍ. وقال عطاءٌ: يَفرُغُ اللهُ مِن حِسابِ الخَلقِ في مِقدارِ نِصفِ يومٍ مِن أيَّامِ الدُّنيا. فعلى هذا يكونُ المعنى: ليس له دافِعٌ مِنَ اللهِ في يومٍ كان مِقدارُه خمسينَ ألْفَ سَنةٍ... والثَّاني: أنَّه مِقدارُ صُعودِ الملائكةِ مِن أسفَلِ الأرضِ إلى العَرشِ لو صَعِدَه غيرُهم قَطَعه في خمسينَ ألْفَ سنةٍ. وهذا معنى قولِ مُجاهِدٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/337). ونسَبَ الرَّسْعَنيُّ إلى جمهورِ المفسِّرينَ أنَّه يومُ القيامةِ. ثمَّ قال: (وهذا مِقْدارُ ما بيْن البَعثِ إلى الفَصلِ بيْن الخلائقِ، وإلَّا فهو يومٌ لا آخِرَ له، فعلى هذا القولِ: يتعلَّقُ قولُه: فِي يَوْمٍ بقولِه: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج: 2] ، أي: ليس له دافِعٌ مِن الله في ذلك اليومِ. أو بقولِه: بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج: 1] ، على معنى: سأل سائلٌ بعذابٍ واقِعٍ في ذلك اليومِ). ((تفسير الرسعني)) (8/ 276، 277). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: مِقدارُ يومِ القيامةِ على الكافِرِ: القرطبيُّ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/282)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 765). قال ابن جُزُي: (اختُلِف هل مِقْدارُه [أي: اليومِ] خمسونَ ألْفَ سنةٍ حقيقةً؟ وهذا هو الأظهَرُ، أو هل وُصِف بذلك لشِدَّةِ أهوالِه؟ كما يُقالُ: يومٌ طويلٌ، إذا كان فيه مَصائبُ وهُمومٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/410). وقال القرطبي: (قيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: سأل سائلٌ بعذابٍ واقِعٍ للكافِرينَ ليس له مِن الله دافِعٌ، في يومٍ كان مِقْدارُه خمسينَ ألْفَ سنةٍ تَعرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليه. وهذا القولُ هو معنى ما اختَرْناه). ((تفسير القرطبي)) (18/283). وممَّن قال بأنَّ المرادَ أنَّه لو وَلِيَ حِسابَ الخَلقِ أحدٌ سِوى الله عزَّ وجلَّ لم يَفرُغْ منه إلَّا في خمسينَ ألْفَ سَنةٍ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ أبي زَمَنِين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/436)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/34). ويُنظر أيضًا: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) لأحمد بن حنبل (ص: 71). وممَّن قال بأنَّ مِقدارَ صُعودِ الملائكةِ مِن أسفَلِ الأرضِ إلى العَرشِ مَسافةُ خَمسينَ ألْفَ سَنةٍ لو قطَعَها غيرُهم: ابنُ جريرٍ، والبغويُّ، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/251)، ((تفسير البغوي)) (5/151)، ((تفسير العليمي)) (7/156)، ((تفسير الشوكاني)) (5/346). قال العُلَيمي: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِن سِنِي الدُّنيا، لو صَعِد فيه غيرُ المَلَكِ؛ لأنَّ المَلَكَ يَصعَدُ مِن مُنتهى أمرِ الله مِن أسفلِ السُّفلِ إلى منتهى أمرِه مِن فَوقِ السَّماءِ السَّابعةِ في يومٍ واحدٍ، ولو صَعِد فيه بنو آدَمَ لَصَعِدوه في خمسينَ ألْفَ سَنةٍ). ((تفسير العليمي)) (7/156). وقال السعدي: (ذكَرَ المسافةَ الَّتي تَعرُجُ إلى اللهِ فيها الملائكةُ والأرواحُ، وأنَّها تَعرُجُ في يومٍ بما يسَّر لها مِن الأسبابِ، وأعانها عليه مِن اللَّطافةِ والخِفَّةِ وسرعةِ السَّيرِ، مع أنَّ تلك المسافةَ على السَّيرِ المُعتادِ مِقْدارُ خمسينَ ألْفَ سَنةٍ، مِن ابتِداءِ العُروجِ إلى وُصولِها ما حُدَّ لها، وما تَنتهي إليه مِن المَلأِ الأعلى). ((تفسير السعدي)) (ص: 886). وقيل: المرادُ بذلك: مُدَّةُ بقاءِ الدُّنيا منذُ خلَقَ اللهُ هذا العالَمَ إلى قيامِ السَّاعةِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/222). قال ابن جُزَي: (إذا قُلْنا: إنَّه [أي: اليومَ] في الدُّنيا، فالمعنى: أنَّ الملائكةَ والرُّوحَ يَعرُجونَ في يومٍ لو عرَج فيه النَّاسُ لَعَرَجوا في خمسينَ ألْفَ سَنةٍ، وقيل: الخَمسونَ ألْفَ سَنةٍ هي مُدَّةُ الدُّنيا، والملائكةُ تَعرُجُ وتَنزِلُ في هذه المُدَّةِ. وهذا كلُّه على أن يكونَ قولُه: فِي يَوْمٍ يتعلَّقُ بـ تَعْرُجُ. ويحتملُ أن يكونَ فِي يَوْمٍ صِفةً للعذابِ، فيتعيَّن أن يكونَ اليومُ يومَ القيامةِ، والمعنى على هذا مستقيمٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/410). !
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنها حَقَّها إلَّا إذا كان يومُ القيامةِ صُفِّحَت له صفائِحُ [15] صُفِّحَت له صفائِحُ: أي: جُعِلَت لِصاحبِها (صَفائحَ)، أي: كأمثالِ الألواحِ، جمْع صَفيحةٍ، وهي ما طُبِعَ عَريضًا. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (6/9). مِن نارٍ، فأُحمِيَ عليها في نارِ جَهنَّمَ، فيُكوى بها جَنْبُه وجَبينُه وظَهرُه، كُلَّما بَرُدَت أُعيدَت له في يَومٍ كان مِقدارُه خَمسينَ ألْفَ سَنةٍ، حتَّى يُقضَى بيْن العِبادِ، فيَرى سَبيلَه؛ إمَّا إلى الجنَّةِ، وإمَّا إلى النَّارِ )) [16] رواه مسلم (987). .
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الكفَّارُ قد سألوا استِعجالَ العذابِ، وكان السُّؤالُ على سبيلِ الاستهزاءِ والتَّكذيبِ، وكانوا قد وُعِدوا به؛ أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّبرِ [17] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/273). .
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5).
أي: فاصبِرْ -يا محَمَّدُ- على تكذيبِ المُشرِكينَ بك، وأذاهم لك، صَبرًا جَميلًا لا جَزَعَ فيه ولا شِكايةَ، ولا قِلَّةَ رِضًا ولا تعجُّلَ؛ فلا تَستعجِلْ عَذابَهم والنَّصرَ عليهم، وتحمَّلْ مَشاقَّ دَعوتِهم إلى اللهِ بلا ضَجَرٍ ولا مَلَلٍ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/255)، ((تفسير ابن عطية)) (5/366)، ((تفسير القرطبي)) (18/284)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير ابن كثير)) (8/224)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886). !
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6).
أي: إنَّ الكافِرينَ يَرَونَ عَذابَ الآخِرةِ غَيرَ كائنٍ وُقوعُه؛ لعَدَمِ إيمانِهم بالبَعثِ بعدَ المَوتِ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/255)، ((تفسير ابن عطية)) (5/366)، ((تفسير القرطبي)) (18/284)، ((تفسير ابن كثير)) (8/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/158). .
وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7).
أي: ونحن نَرى العذابَ النَّازِلَ بهم قريبَ الوُقوعِ؛ لأنَّ ما أخبَرَ اللهُ بوُقوعِه فهو آتٍ لا محالةَ، وكلُّ آتٍ قَريبٌ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/255)، ((تفسير ابن عطية)) (5/366)، ((تفسير القرطبي)) (18/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886). .
كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] .

الفوائد التربوية:

أمَرَ الله تعالى نَبيَّه بالهجْرِ الجميلِ، والصَّفحِ الجَميلِ، والصَّبرِ الجَميلِ؛ فالهجْرُ الجميلُ هجْرٌ بلا أذًى، والصَّفحُ الجَميلُ صَفحٌ بلا عِتابٍ، والصَّبرُ الجميلُ صَبْرٌ بلا شَكوَى [21] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/666). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ قد يُدفعُ العذابُ عن المسلمينَ مِن وُجوهٍ: إمَّا برحمةِ الله تعالى، أو بشفاعةِ الرُّسلِ والأخيارِ، وإمَّا بحسناتٍ سبَقت منهم، تُوجِبُ تكفيرَ سَيِّئاتِهم. فأمَّا الكفَّارُ فلا تَنالُهم رحمتُه، ولا شفاعةُ أحدٍ مِن الخلائقِ، وليست لهم حسناتٌ تُكفِّرُ سيِّئاتِهم، فليس لهم ما يَدفَعُ عنهم العذابَ [22] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/196). .
2- في قَولِه تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ دليلٌ على أنَّ اللهَ جلَّ جَلالُه بنَفْسِه في السَّماءِ؛ لأنَّ «الهاءَ» في «إليه» راجِعةٌ على اللهِ ذي المَعارِجِ، فلو كان معهم في الأرضِ -كما يَزعُمونَ ويَفتَرونَ به عليه- ما كان لِذِكْرِ العُروجِ إليه معنًى [23] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/399). !
3- قَولُ اللهِ تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فيه سؤالٌ: كيف الجَمعُ بيْن هذه الآيةِ وبيْن قَولِه تعالى في سورة (السجدة): فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] ؟
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ آيةَ السَّجدةِ في الدُّنيا؛ فإنَّه سبحانه وتعالى يُدَبِّرُ الأمرَ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، ثُمَّ يَعرُجُ إليه في يومٍ كان مِقدارُ هذا اليَومِ الَّذي يَعرُجُ إليه الأمرُ ألْفَ سَنةٍ ممَّا نَعُدُّ، لكِنَّه يكونُ في يومٍ واحدٍ، ولو كان بحسَبِ ما نَعُدُّ مِن السِّنينَ لَكان عنْ ألْفِ سَنَةٍ، فإذا نَزَلَ مِن السَّماءِ ثُمَّ عَرَجَ مِن الأرضِ فهذا ألْفُ سَنَةٍ، وأمَّا الآيةُ الَّتي في سورةِ (المعارجِ) فإنَّ ذلك يومُ القيامةِ -على قولٍ-، وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ [24] أخرجه مسلم (987). مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه في قِصَّةِ مانعِ الزَّكاةِ: أنَّه يُحْمَى عليها في نارِ جهنَّمَ، ((فيُكوى بها جنْبُه وجَبينُه وظَهْرُه، كُلَّما بَرُدَتْ أُعِيدَتْ في يومٍ كان مِقْدارُه خمسينَ ألْفَ سَنَةٍ ))، فتبيَّن بهذا أنَّه ليس بيْن الآيتَينِ شَيءٌ مِن التَّعارُضِ؛ لاختِلافِ مَحَلِّهما [25] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/360). .
الثَّاني: أنَّ الأيَّامَ مُختَلِفةٌ؛ ففي سورةِ (المعارج): هو يومُ عُروجِ الرُّوحِ والملائِكةِ، وفي سورةِ (السَّجْدةِ): هو يومُ عُروجِ الأمرِ؛ فلا مُنافاةَ [26] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/267). .
الثَّالثُ: يحتَمِلُ أنَّه مِن أسفَلِ العالَمِ إلى أعلى العَرشِ مسافةُ خَمسينَ ألْفَ سَنةٍ، ومِن أعلى سماءِ الدُّنيا إلى الأرضِ مسافةُ ألْفِ سَنةٍ؛ لأنَّ عَرضَ كُلِّ سَماءٍ خَمسُمِئةٍ، وما بيْن أسفَلَ إلى قرارِ الأرضِ خَمسُمئةٍ، فقَولُه: فِي يَوْمٍ، أي: مِن أيَّامِ الدُّنيا، وهو مِقدارُ ألْفِ سَنةٍ لو صَعِدوا فيه إلى سماءِ الدُّنيا، ومِقدارُ خَمسينَ ألْفَ سَنةٍ لو صَعِدوا إلى أعلى العَرشِ [27] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/382). .
4- قال تعالى: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ليس في أمرِ الله تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّبرِ الجميلِ على أذَى المشركينَ ما يُوجِبُ أن يكونَ ذلك أمرًا منه له به في بعضِ الأحوالِ، بل كان ذلك أمرًا مِن الله له به في كلِّ الأحوالِ؛ لأنَّه لم يَزَلْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن لَدُنْ بعَثه الله إلى أنْ اخترمه في أذًى منهم، وهو في كلِّ ذلك صابرٌ على ما يلقَى منهم مِن أذًى قبْلَ أن يأذَنَ الله له بحربِهم، وبَعْدَ إذْنِه له بذلك [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/255). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
- قولُه: سَأَلَ سَائِلٌ بمَنزلةِ (سُئِلَ)؛ لأنَّ مَجيءَ فاعلِ الفِعلِ اسمَ فاعلٍ مِن لَفظِ فِعلِه لا يُفيدُ زِيادةَ عِلمٍ بفاعلِ الفِعلِ ما هو؛ فالعُدولُ عن أنْ يقولَ: (سُئِلَ بعَذابٍ) إلى قولِه: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ لزِيادةِ تَصويرِ هذا السُّؤالِ العجيبِ [29] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/608)، ((تفسير البيضاوي)) (5/244)، ((تفسير أبي حيان)) (10/271)، ((تفسير أبي السعود)) (9/29)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/155). .
- والسُّؤالُ مُستعمَلٌ في معْنى الاستِفهامِ عن شَيءٍ، والدُّعاءِ، على أنَّ استِفهامَهم مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ والتَّعجيزِ، ومِن بَلاغةِ القرآنِ تَعديةُ سَأَلَ بالباءِ؛ ليَصلُحَ الفعلُ لمعْنى الاستفهامِ والدُّعاءِ والاستعجالِ؛ لأنَّ الباءَ تَأتي بمعْنى (عن)، وهو مِن مَعاني الباءِ الواقعةِ بعْدَ فِعلِ السُّؤالِ [30] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/608)، ((تفسير البيضاوي)) (5/244)، ((تفسير أبي حيان)) (10/271)، ((تفسير أبي السعود)) (9/29)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/154، 155). .
- ووَصْفُ العَذابِ بأنَّه واقعٌ، وما بعْدَه مِن أوصافِه إلى قولِه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا [المعارج: 6] ، إدْماجٌ [31] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المَسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). مُعترِضٌ؛ ليُفيدَ تَعجيلَ الإجابةِ عمَّا سَأَل عنه سائلٌ بكِلا مَعْنيَي السُّؤالِ؛ لأنَّ السُّؤالَ لم يُحْكَ فيه عَذابٌ مُعيَّنٌ، وإنَّما كان مُجمَلًا لأنَّ السَّائلَ سأَلَ عن عَذابٍ غيرِ مَوصوفٍ، أو الدَّاعيَ دَعا بعَذابٍ غيرِ مَوصوفٍ، فحُكِيَ السُّؤالُ مُجمَلًا؛ ليُرتَّبَ عليه وَصْفُه بهذه الأوصافِ والتَّعلُّقاتِ، فيُنتقَلَ إلى ذِكرِ أحوالِ هذا العذابِ وما يَحُفُّ به مِن الأهوالِ. وقد طُوِيَت في مَطاوي هذه التَّعلُّقاتِ جُمَلٌ كثيرةٌ، كان الكلامُ بذلك إيجازًا؛ إذ حَصَل خِلالَها ما يُفهَمُ منه جَوابُ السَّائلِ، واستجابةُ الدَّاعي، والإنباءُ بأنَّه عَذابٌ واقعٌ عليهم مِن اللهِ، لا يَدفَعُه عنهم دافعٌ، ولا يَغُرُّهم تَأخُّرُه. وهذه الأوصافُ مِن قَبيلِ الأُسلوبِ الحكيمِ [32] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مُرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأَولى بحالِه وبالسُّؤالِ عنه، وهو مِن خلافِ مقتضَى الظَّاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). ؛ لأنَّ ما عُدِّدَ فيه مِن أوصافِ العذابِ وهَولِه ووَقْتِه، هو الأَولى لهم أنْ يَعلَموه؛ ليَحذَروه، دونَ أنْ يَخوضوا في تَعيينِ وَقْتِه، فحصَلَ مِن هذا كلِّه معْنى: أنَّهم سَأَلوا عن العَذابِ الَّذي هُدِّدوا به عن وَقتِه ووَصْفِه سُؤالَ استهزاءٍ، ودَعَوُا اللهَ أنْ يُرسِلَ عليهم عذابًا إنْ كان القرآنُ حقًّا؛ إظهارًا لقِلَّةِ اكتِراثِهم بالإنذارِ بالعذابِ، فأعْلَمَهم أنَّ العذابَ الَّذي استَهْزؤوا به واقعٌ، لا يَدفَعُه عنهم تَأخُّرُ وقْتِه، فإنْ أرادوا النَّجاةَ فلَيحْذَروه [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/155، 156). .
2- قولُه تعالَى: لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ
- قولُه: لِلْكَافِرينَ قيل: مُتعلِّقٌ بـ سَأَلَ، مُضمَّنًا معنَى: دعا، أي: دعا لهم. وقيل: مُتعلِّقٌ بـ وَاقِعٍ، واللَّامُ للعِلَّةِ، أي: نازلٌ مِن أجْلِهم. ويجوزُ أن تكونَ اللَّامُ بمعنى (على)، أي: واقِعٍ على الكافِرين [34] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/209). . واللَّامُ في قولِه: لِلْكَافِرينَ لِشِبْهِ المِلْكِ، أي: عَذابٌ مِن خَصائصِهم [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/155). .
- وقولُه: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ... قيل: هو استِئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ وُقوعِ المسؤولِ عنهُ لا مَحالةَ [36] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/30). . وقيل: هو نعتٌ ثانٍ لـ(عَذَابٍ)، أو حالٌ من (عَذَابٍ)؛ لأنَّه وصْفٌ [37] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/209). . وقيل: قولُه: مِنَ اللَّهِ مُتعلِّقٌ بقولِه: وَاقِعٍ، وقولُه: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ جُملةُ اعتراضٍ بيْن العاملِ والمعمولِ [38] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/272). .
- وإجْراءُ وَصْفِ ذِي الْمَعَارِجِ على اسمِ الجَلالةِ؛ لاستِحضارِ عَظَمةِ جَلالِه، ولإدماجِ الإشعارِ بكَثرةِ مَراتبِ القُربِ مِن رِضاهُ وثَوابِه؛ فإنَّ المَعارجَ مِن خَصائصِ مَنازلِ العُظَماءِ؛ قال تعالَى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف: 33] ، ولكلِّ دَرجةٍ من المَعارجِ قومٌ عَمِلوا لنَوالِها؛ قال تعالَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] ، وليَكونَ مِن هذا الوصْفِ تَخلُّصٌ إلى ذِكرِ يومِ الجزاءِ الَّذي يكونُ فيه العذابُ الحقُّ للكافِرين [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/156). .
3- قولُه تعالَى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
- قولُه: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ المرادُ به يومُ القيامةِ -على قولٍ-، واستِطالتُه إمَّا لأنَّه كذلكَ في الحقيقةِ -وهو ظاهر الآيةِ-، أو لشِدَّتِه على الكفَّارِ، أوْ لكَثرةِ ما فيهِ مِن الحالاتِ والمُحاسَباتِ، وأيًّا ما كانَ فذلكَ في حقِّ الكافرِ، وأمَّا في حقِّ المؤمنِ فلا [40] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((تفسير البيضاوي)) (5/244)، ((تفسير أبي حيان)) (10/273)، ((تفسير أبي السعود)) (9/30). .
- والرُّوحُ: هو جِبريلُ عليه السَّلامُ، وتَخصيصُه بالذِّكرِ؛ لتَمييزِه بالفضْلِ على الملائكةِ، وتشريفًا [41] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((تفسير ابن عطية)) (5/365)، ((تفسير البيضاوي)) (5/244)، ((تفسير أبي حيان)) (10/272)، ((تفسير أبي السعود)) (9/29)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/157). .
4- قولُه تعالَى: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا اعتِراضٌ مُفرَّعٌ: إمَّا على ما يُومِئُ إليه سَأَلَ سَائِلٌ [المعارج: 1] مِن أنَّه سُؤالُ استِهزاءٍ؛ فهذا تَثبيتٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وإمَّا على سَأَلَ سَائِلٌ بمعْنى: دعا داعٍ؛ فالفاءُ لتَفريعِ الأمرِ بالصَّبرِ على جُملةِ سَأَلَ سَائِلٌ إذْ كان ذلك السُّؤالُ بمَعْنيَيه استهزاءً وتَعريضًا بالتَّكذيبِ، فشَأنُه ألَّا تَصبِرَ عليه النُّفوسُ في العُرفِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/157، 158). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/10)، ((تفسير أبي حيان)) (10/273)، ((تفسير أبي السعود)) (9/30). .
5- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا تَعليلٌ لجُملتَيْ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج: 1] ، ولجُملةِ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج: 5] ، أي: سَأَلوا استهزاءً؛ لأنَّهم يَرَونه مُحالًا، وعليك بالصَّبرِ؛ لأنَّا نَعلَمُ تَحقُّقَه، أي: وأنتَ تَثِقُ بأنَّه قريبٌ، أي: مُحقَّقُ الوقوعِ، وأيضًا هو تَجهيلٌ لهم؛ إذ اغتَرُّوا بما هم فيه مِن الأمْنِ ومُسالَمةِ العرَبِ لهم، ومِن الحياةِ النَّاعمةِ، فرَأَوُا العذابَ الموعودَ بعيدًا؛ إنْ كان في الدُّنيا فلِأَمْنِهم، وإنْ كان في الآخرةِ فلإنْكارِهم البعثَ، والمعْنى: وأنت لا تُشبِهُ حالَهم، وذلك يُهوِّنُ الصَّبرَ عليك، فهو مِن بابِ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة: 48] ، وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [43] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/158). [الكهف: 28] .
- وبَعِيدًا هنا كِنايةٌ عن معْنى الإحالةِ؛ لأنَّهم لا يُؤمِنون بوُقوعِ العذابِ الموعودِ به، ولكنَّهم عبَّروا عنه بـ (بَعيدٍ)؛ تَشكيكًا للمؤمنينَ [44] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/273)، ((تفسير أبي السعود)) (9/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/158). .
- واستُعمِلَ بَعِيدًا كِنايةً عن تَحقُّقِ الوقوعِ على طَريقِ المُشاكَلةِ [45] المُشاكَلة: هي ذِكرُ الشَّيءِ بلَفظِ غيرِه لوُقوعِه في صُحبتِه تَحقيقًا أو تقديرًا. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/1737)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 424)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/322، 323)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 309)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 324، 325). التَّقديريَّةِ، والمبالَغةِ في التَّحقُّقِ، وبينَ بَعِيدًا وقَرِيبًا محسِّنُ الطِّباقِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/158). الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ معَ مراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِن الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، طابَق بيْنَ الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقونَ. ومنه: طباق ظاهرٌ، وهو ما كان وجْهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خَفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متوهَّمةٌ، فتبدو المُطابَقةُ خفيَّةً؛ لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يقابلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ، كقولِه تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخالَ النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ، ومنه قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القصاصِ: القتلُ، فصار القتْلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أملَحِ الطِّباقِ وأخفاه. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 111)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) للبهاء السبكي (2/225)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 566). .