موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (28-30)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات:

يُجِيرُ: أي: يَمنَعُ ويُغيثُ، يُقالُ: أجَرْتُ فُلانًا: أي: حَميتُه ومنَعْتُه [438] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/493)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 252)، ((تفسير القرطبي)) (12/145)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 991). .
غَوْرًا: أي: غائِرًا ذاهِبًا في الأرضِ لا تَنالُه الدِّلاءُ، وأصلُ (غور): يدُلُّ على خُفوضٍ في الشَّيءِ وانحِطاطٍ [439] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 476)، ((تفسير ابن جرير)) (15/267)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 351)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/401)، ((تفسير القرطبي)) (18/222). .
مَعِينٍ: أي: جارٍ ظاهِرٍ على وَجهِ الأرضِ، يُقالُ: مَعَنَ الماءُ: إذا جرى. والمَعينُ: السَّهلُ الَّذي يَنقادُ ولا يَعتاصُ (يصعبُ إخراجُه)، ومُعنانُ الماءِ: مَسايِلُه ومَجاريه، وأصلُ (معن): يدُلُّ على سُهولةٍ في جَرَيانٍ، وقيل: هو مشتقٌّ مِن العينِ، ووزنُه مفعولٌ، فالميمُ زائدةٌ [440] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 427)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/335)، ((البسيط)) للواحدي (15/599، 600)، ((المفردات)) للراغب (ص: 599)، ((تفسير ابن جزي)) (1/43)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 419). وقال النَّحَّاس: (مَعِينٍ يكونُ فَعيلًا مِن مَعَنَ الماءُ إذا كثُر، ويجوزُ أن يكونَ مفعولًا، ويكونَ الأصل فيه مَعْيونًا، مثل مَبِيعٍ، ويكونَ معناه على هذا: الماءُ يُرى بالأعيُنِ). ((إعراب القرآن)) (4/311). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (15/599). وقال ابن عطية: (المَعِين: فَعيلٌ مِن مَعَنَ الماءُ إذا كثُر، أو مفعولٌ من العَينِ، أي: جارٍ كالعَينِ، أصلُه مَعْيونٌ، وقيل هو مِن العَينِ، لكنْ مِن حيثُ يُرى بعينِ الإنسانِ، لا مِن حيثُ يُشبَّهُ بالعَينِ الجاريةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/344). وقال الأصبهاني: (المَعِينُ: الَّذي تَراه العُيونُ، وقيل المَعِينُ: الجاري، وهو قولُ قَتادةَ والضَّحَّاكِ؛ فعلى القولِ الأوَّلِ يكونُ مفعولًا مِن العَينِ، كمَبِيعٍ مِن البَيعِ ومَكيلٍ مِن الكَيلِ، وعلى القولِ الثَّاني يكونُ في تقديرِ الفاعلِ، وتكونُ ميمُه أصليَّةً، ويكونُ مِن الإمعانِ في الجَريِ. ويجوزُ أن يكونَ في معنَى مفعولٍ، فتكونَ الميمُ زائدةً، كأنّه قد أُجريَ عُيونًا). ((إعراب القرآن)) (ص: 458). .

المعنى الإجمالي:

يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يرُدَّ على ما كان المشركونَ يَتمَنَّوْنَه بالنِّسبةِ له ولأصحابِه، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء الكافِرينَ: أرأَيْتُم إن أماتَنيَ اللهُ ومَن مَعيَ مِن المؤمِنينَ بعذابٍ أو بغيرِه أو رَحِمَنا؛ فمَن يُجيرُكم أنتم مِن عَذابِه الأليمِ ما دُمتُم مُصِرِّينَ على الكُفرِ به؟!
قُلْ لهم: هو ربُّنا الرَّحمنُ آمَنَّا به، وعليه وَحْدَه اعتمَدْنا، فستَعلَمونَ عِندَ مَجيءِ العَذابِ مَن هو في ذَهابٍ بيِّنٍ عن الحَقِّ!
ثمَّ يخبرُ تعالى عن انفِرادِه بالنِّعَمِ، ومنها نِعمةُ الماءِ الَّذي يَشرَبونَه، فيقولُ: وقُلْ لهم: أَرأيتُم إن أصبَحَ ماؤُكم غائِرًا في الأرضِ، فمَن يأتيكم بماءٍ ظاهرٍ جارٍ على وَجْهِ الأرضِ؟!

تفسير الآيات:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن بَذاءةِ المشرِكين أنْ يَجهَروا بتَمنِّي هَلاكِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهلاكِ مَن معه مِن المسلمينَ، وكانوا يَتآمَرون على قتْلِه؛ أمَرَه اللهُ بأنْ يُعرِّفَهم حَقيقةً تَدحَضُ أمانِيَّهم، وهي أنَّ موتَ أحدٍ أو حياتَه لا يُغْني عن غيرِه ما جرَّه إليه عمَلُه، وقد جرَّت إليهم أعمالُهم غضَبَ اللهِ ووَعيدَه، فهو نائلُهم حَيِيَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو بادَرَه المَنونُ [441] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/583)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/51). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء الَّذين يتضَجَّرونَ مِنك، ويَتمَنَّونَ هَلاكَك والمؤمِنينَ معك: أرأيتُم إن أماتَنيَ اللهُ ومَن معيَ مِن المؤمِنينَ بعَذابٍ أو غيرِه، أو رَحِمَنا [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/137)، ((الوسيط)) للواحدي (4/331)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/267، 268)، ((تفسير الشوكاني)) (5/316)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/52). قال ابن جُزَي: (الهلاكُ هنا يحتملُ أن يُرادَ به الموتُ أو غيرُه). ((تفسير ابن جزي)) (2/397). وقال الشَّوكاني: (أخبِروني إن أهلَكنيَ الله بموتٍ أو قتلٍ، ومَن مَعيَ مِن المؤمنينَ، أو رَحِمَنا بتأخيرِ ذلك إلى أجَلٍ. وقيل: المعنى: إنْ أهلَكنيَ اللهُ ومَن معي بالعذابِ، أو رَحِمَنا فلمْ يُعَذِّبْنا). ((تفسير الشوكاني)) (5/316). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالإهلاكِ: الإماتةُ، وبالرَّحمةِ: التَّأخيرُ في الأجَلِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والقرطبي، والبيضاوي، والنَّسَفي، والعُلَيمي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/137)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7608)، ((تفسير القرطبي)) (18/221)، ((تفسير البيضاوي)) (5/232)، ((تفسير النسفي)) (3/517)، ((تفسير العليمي)) (7/119)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/52). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالإهلاكِ: العذابُ، وبالرَّحمةِ: عدمُ العذابِ -وبعضُهم قال: المغفرةُ-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، وابن الجوزي، وابن كثير، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/394)، ((تفسير السمرقندي)) (3/479)، ((تفسير الثعلبي)) (9/361)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/317)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 757). وقال البِقاعي: (إِنْ أَهْلَكَنِيَ أي: أماتَني بعذابٍ أو غيرِه، ... أَوْ رَحِمَنَا بالنُّصرةِ وإظهارِ الإسلامِ كما نرجو، فأنجانا بذلك مِن كلِّ سوءٍ، ووَقانا كلَّ مَحذورٍ، وأنالَنا كلَّ سرورٍ). ((نظم الدرر)) (20/268). .
فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
أي: لا يَنفَعُكم وُقوعُ ما تَتمَنَّونَ لنا مِنَ الهَلاكِ؛ فسَواءٌ أهلَكَنا اللهُ أو رَحِمَنا، فلا نجاةَ لكم مِن عَذابِه الأليمِ ما دُمتُم مُصِرِّينَ على الكُفرِ به [443] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/137)، ((الوسيط)) للواحدي (4/331)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/268، 269)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878). .
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29).
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا.
أي: قُلْ لهم -يا محمَّدُ-: هو ربُّنا الرَّحمنُ آمَنَّا به، وعليه وَحْدَه اعتمَدْنا [444] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/138)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182، 183). .
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: فستَعلَمونَ عِندَ مَجيءِ العَذابِ مَن هو في خَطَأٍ واضِحٍ وذَهابٍ بيِّنٍ عن الحَقِّ: أنحن أم أنتم [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/138)، ((تفسير السمرقندي)) (3/479)، ((الوسيط)) للواحدي (4/331). ؟!
قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه: 135] .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه يَجِبُ أن يُتوكَّلَ عليه لا على غَيرِه؛ ذكَرَ الدَّليلَ عليه [446] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/597). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى العَذابَ، وهو مُطلَقٌ؛ ذكَرَ فَقْدَ ما به حياةُ النُّفوسِ، وهو الماءُ، وهو عذابٌ مَخصوصٌ [447] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/230). .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا.
أي: قُلْ لهم -يا محمَّدُ-: أَرأيتُم إن أصبَحَ ماؤُكم غائِرًا في الأرضِ بحيثُ لا تَقدِرونَ على تناوُلِه أو استِخراجِه [448] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/138)، ((تفسير الرازي)) (30/597)، ((تفسير القرطبي)) (18/222)، ((تفسير ابن كثير)) (8/183)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/272). .
قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 18] .
فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ.
أي: فمَن يأتيكم إذَنْ بماءٍ ظاهرٍ جارٍ على وَجْهِ الأرضِ تراه العُيونُ؟! لا يَقدِرُ على ذلك أحدٌ غيرُ اللهِ عزَّ وجلَّ [449] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/138)، ((تفسير القرطبي)) (18/222)، ((تفسير ابن كثير)) (8/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/56). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ بقولِه: مَعِينٍ أي: ظاهِرٍ تَراه العُيونُ، وتَنالُه الأيدي والدِّلاءُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبي، ومكِّي، والواحديُّ -ونسَبَه لقولِ المفسِّرينَ-، والبَغَويُّ، وابن الجوزي، والرازي، والرَّسْعَني، والخازن، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/394)، ((تفسير ابن جرير)) (23/138)، ((تفسير السمرقندي)) (3/479)، ((تفسير الثعلبي)) (9/362)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7609)، ((الوسيط)) للواحدي (4/331)، ((البسيط)) للواحدي (22/65)، ((تفسير البغوي)) (5/128)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/317)، ((تفسير الرازي)) (30/ 597)، ((تفسير الرسعني)) (8/211)، ((تفسير الخازن)) (4/321)، ((تفسير الشوكاني)) (5/316)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/56). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ معنى مَعِينٍ: ظاهرٌ: سعيدُ بنُ جُبَيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/139). وممَّن اختار أنَّ معنى مَعِينٍ جارٍ: النَّسَفيُّ. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/517). وممَّن قال به مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/139). وقال جلال الدين المحلِّي: (جارٍ تَنالُه الأيدي والدِّلاءُ). ((تفسير الجلالين)) (ص: 757). وقال ابن كثير: (مَعِينٍ أي: نابعٌ سائحٌ جارٍ على وجهِ الأرضِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/183). وقال العُلَيمي: (مَعِينٍ جارٍ ظاهرٍ تَراه العُيونُ، وتَنالُه الأيدي). ((تفسير العليمي)) (7/120). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا، فإذا كانت هذه حالَ الرَّسولِ وحالَ مَنِ اتَّبعَه، وهي الحالُ الَّتي تتعيَّنُ للفلاحِ، وتتوقَّفُ عليها السَّعادةُ، وحالةُ أعدائِه بضِدِّها، فلا إيمانَ لهم ولا توَكُّلَ؛ عُلِم بذلك مَن هو على هدًى، ومَن هو في ضلالٍ مبينٍ [450] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 878). .
2- عن صالحِ بنِ أحمَدَ، قال: (كان أبي لا يَدَعُ أحدًا يَستقي له الماءَ لِوُضوئِه إلَّا هو، وكان إذا خَرجَت الدَّلوُ مَلْأَى، قال: الحمدُ لله! قُلتُ: يا أبَتِ، أيُّ شَيءٍ الفائِدةُ في هذا؟! فقال: يا بُنيَّ، أمَا سَمِعتَ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ؟!) [451] يُنظر: ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 382). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فيه إفرادُ الله تعالى بالتَّوكُّلِ، ويُؤخَذُ مِن تقديمِ المعمولِ على عامِلِه؛ لأنَّ تقديمَ ما حقُّه التَّأخيرُ يُفيدُ الحصرَ، وهذه قاعِدةٌ، فلا يجوزُ التَّوكُّلُ إلَّا على اللهِ، كما قال تعالى أيضًا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم: 12] ، وقال عزَّ وجلَّ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [452] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/164)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/382). [آل عمران: 122، 160].
2- قال تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا التَّوكُّلُ هو الحامِلُ للأعمالِ كُلِّها، فلا تُوجَدُ ولا تَكمُلُ إلَّا به، قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: (التَّوكُّلُ على اللهِ جِماعُ الإيمانِ) [453] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 315). وأثرُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ أخرجه ابنُ أبي شيبةَ في ((المصنف)) (36490)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/274). .
3- قال تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا إنَّ التَّوكُّلَ مِن لوازِمِ الإيمانِ ومُقتَضياتِه، وإنَّ قوَّةَ التَّوكُّلِ وضَعْفَه بحسَبِ قوَّةِ الإيمانِ وضَعفِه، وكلَّما قَويَ إيمانُ العبدِ كان تَوكُّلُه أقوى، وإذا ضَعُفَ الإيمانُ ضعُف التَّوكُّلُ، وإذا كان التَّوكُّلُ ضعيفًا فهو دليلٌ على ضَعفِ الإيمانِ ولا بُدَّ، واللهُ تعالى يَجمَعُ بيْنَ التَّوكُّلِ والإيمانِ، كما في قولِه أيضًا: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23]، وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [454] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 255). [آل عمران: 122، 160].
4- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ، لَمَّا افتتَح -سُبحانَه- السُّورةَ بعظيمِ بَرَكَتِه، وتمامِ قُدرتِه، وتفرُّدِه في مملكتِه، ودلَّ على ذلك بتفرُّدِه بالإماتةِ والإحياءِ، ختَم بمثلِ ذلك: بالماءِ الَّذي وُجودُه هو سببٌ للحياةِ، وعدمُه سببٌ للموتِ [455] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/271). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
- الاستِفهامُ في أَرَأَيْتُمْ إنكاريٌّ؛ أنكَرَ اندفاعَهم إلى أُمنيَّاتٍ ورغائبَ لا يَجتَنون منها نفْعًا، ولكنَّها ممَّا تُمْلِيه عليهم النُّفوسُ الخبيثةُ مِن الحقدِ والحسَدِ. والرُّؤيةُ عِلميَّةٌ، وفِعلُها مُعلَّقٌ عن العملِ؛ فلذلك لم يَرِدْ بعْدَه مَفعولاهُ، وهو مُعلَّقٌ بالاستِفهامِ الَّذي في جُملةِ جَوابِ الشَّرطِ، فتَقديرُ الكلامِ: أرأَيْتُم أنفُسَكم ناجينَ مِن عذابٍ أليمٍ إنْ هلَكْتُ وهلَكَ مَن معي؟! فهَلاكُنا لا يَدفَعُ عنكمُ العذابَ المُعَدَّ للكافِرين، وأُقحِمَ الشَّرطُ بيْن فِعلِ الرُّؤيةِ وما سدَّ مَسدَّ مَفعولَيْه [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/52). .
- قولُه: إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ، قيل: أي: أماتَنِي، والإهلاكُ: الإماتةُ، والتَّعبيرُ عنه بالإهلاكِ لِما كانُوا يَدْعون عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى المؤمنينَ بالهلاكِ، وعلى هذا القولِ فمُقابَلةُ أَهْلَكَنِيَ بـ رَحِمَنَا يدُلُّ على أنَّ المرادَ: أو رَحِمَنا بالحياةِ، فيُفيدُ أنَّ الحياةَ رحمةٌ، وأنَّ تأْخيرَ الأجَلِ مِن النِّعَمِ [457] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/52). . وأيضًا على هذا القولِ إنَّما سمَّى الحياةَ رحمةً للرَّسولِ ولِمَن معه؛ لأنَّ في حَياتِه نِعمةً له وللنَّاسِ ما دام اللهُ مُقدِّرًا حياتَه، وحياةُ المؤمنِ رحمةٌ؛ لأنَّه تَكثُرُ له فيها بَرَكةُ الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ [458] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/52). .
- والاستفهامُ بقولِه: فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ إنكاريٌّ، أي: لا يُجِيرُهم منه مُجيرٌ، أي: أظنَنْتُم أنْ تَجِدوا مُجيرًا لكم إذا هَلَكْنا؟! فذلك مُتعذِّرٌ، فماذا يَنفَعُكم هَلاكُنا [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/53)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/162). ؟!
- والمرادُ بالكافِرين جميعُ الكافرينَ، فيَشملُ المُخاطَبينَ. والكلامُ بمَنزِلةِ التَّذييلِ، وفيه حذْفٌ، تَقديرُه: مَن يُجِيرُكم مِن عذابٍ؛ فإنَّكم كافِرون، ولا مُجيرَ للكافِرين. وذُكِرَ وصْفُ الكافرين؛ لِما فيه مِن الإيماءِ إلى عِلَّةِ الحكْمِ؛ لأنَّه وصْفٌ إذا عُلِّقَ به حكْمٌ أفاد تَعليلَ ما منه اشتقاقُ الوصْفِ [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/53). .
وقيل: قولُه: فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، أي: فمَن يُجِيرُكم، ووُضِعَ الْكَافِرِينَ مَوضِعَ ضَميرِهم؛ للتَّسجيلِ عليهِم بالكفرِ، وتَعليلِ نَفيِ الإنجاءِ به [461] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/10). .
- وتَنكيرُ عَذَابٍ للتَّهويلِ [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/53). .
2- قولُه تعالَى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
- قولُه: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا جاء الأمرُ بقولٍ يَقولُه لهم بمُناسَبةِ قولِه: أَوْ رَحِمَنَا [الملك: 28] ؛ فإنَّه بعْدَ أنْ سوَّى بيْن فرْضِ إهلاكِ المسلمينَ وإحيائِهم في أنَّ أيَّ الحالينِ فُرِضَ لا يُجِيرُهم معه أحدٌ مِن العذابِ؛ أعقَبَهُ بأنَّ المسلمينَ آمَنوا بالرَّحمنِ، فهم مَظِنَّةُ أنْ تَتعلَّقَ بهم هذه الصِّفةُ، فيَرحَمَهم اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ، فيَعلَمَ المشرِكون عِلمَ اليقينِ أيُّ الفريقينِ في ضَلالٍ حينَ يَرَون أثَرَ الرَّحمةِ على المسلمينَ، وانتِفاءَه عن المشرِكين في الدُّنيا، وخاصةً في الآخرةِ، وضَميرُ هُوَ عائدٌ إلى اللهِ تعالَى الواقعِ في الجُملةِ قبْلَه، أي: اللهُ هو الَّذي وَصْفُه الرَّحمنُ فهو يَرحَمُنا، وإنَّكم أنْكَرْتُم هذا الاسمَ، فأنتم أحرياءُ بأنْ تُحرَموا آثارَ رَحمتِه، ونحن تَوكَّلْنا عليه دونَ غيرِه، وأنتم غَرَّكم عِزُّكم، وجعَلْتُم الأصنامَ مُعتمَدَكم ووُكلاءَكم. وبهذه التَّوطئةِ يقَعُ الإيماءُ إلى الجانبِ المهْتدي والجانبِ الضَّالِّ مِن قولِه: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؛ لأنَّه يَظهرُ بَداءَ تأمُّلٍ أنَّ الَّذين في ضَلالٍ مُبينٍ هم الَّذين جَحَدوا وصْفَ الرَّحمنِ، وتَوكَّلوا على الأوثانِ [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/54). .
- وخَصَّ اللهُ التَّوكُّلَ مِن بيْنِ سائرِ الأعمالِ، معَ أنَّه داخِلٌ في الإيمانِ، ومِن جُملةِ لَوازِمِه؛ لأنَّ وُجودَ الأعمالِ وكَمالَها مُتوَقِّفٌ على التَّوكُّلِ [464] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 878). .
- وتَقديمُ مَعمولِ تَوَكَّلْنَا عليه؛ لإفادةِ الاختِصاصِ، أي: تَوكَّلْنا عليه دونَ غيرِه؛ تَعريضًا بمُخالَفةِ حالِ المشركينَ؛ إذ تَوكَّلوا على أصنامِهم، وأشْرَكوها في التَّوكُّلِ مع اللهِ، أو نَسُوا التَّوكُّلَ على اللهِ باشتغالِ فِكرتِهم بالتَّوجُّهِ إلى الأصنامِ. وإنَّما لم يُقدَّمْ مَعمولُ آَمَنَّا عليه، فلم يُقَلْ: (به آمَنَّا)؛ لمُجرَّدِ الاهتمامِ إلى الإخبارِ عن إيمانِهم باللهِ؛ لوُقوعِه عقِبَ وصْفِ الآخَرينَ بالكفْرِ في قولِه: فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الملك: 28] ؛ فإنَّ هذا جوابٌ آخَرُ عن تَمنِّيهم له الهلاكَ سُلِكَ به طَريقُ التَّبكيتِ، أي: هو الرَّحمنُ يُجِيرُنا مِن سُوءٍ تَرُومُونه لنا؛ لأنَّنا آمَنَّا به، ولم نَكفُرْ به كما كفَرْتُم، فلمْ يكُنِ المقصودُ في إيرادِه نفْيَ الإشراكِ وإثباتَ التَّوحيدِ؛ إذ الكلامُ في الإهلاكِ والإنجاءِ المعبَّرِ عنه بـ رَحِمَنَا [الملك: 28] ، فجِيءَ بجُملةِ آَمَنَّا على أصلِ مُجَرَّدِ معْناها دونَ قصْدِ الاختصاصِ، بخِلافِ قولِه: وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا؛ لأنَّ التَّوكُّلَ يَقْتضي مُنجِيًا وناصرًا، والمشرِكون مُتوكِّلون على أصنامِهم وقوَّتِهم وأموالِهم، فقيل: نحنُ لا نتَّكِلُ على ما أنتُم مُتَّكِلون عليه، بلْ على الرَّحمنِ وحْدَه تَوكَّلْنا [465] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/583)، ((تفسير البيضاوي)) (5/232)، ((تفسير أبي السعود)) (9/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/54، 55)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/162). .
- قولُه: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (مَن) مَوصولةٌ، وماصَدَقَ [466] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو الموصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يُقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). (مَن) فريقٌ مُبهَمٌ مُتردِّدٌ بيْن فَريقَينِ تَضمَّنَهما قولُه: إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ [الملك: 28] ، وقولُه: فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ [الملك: 28] ؛ فأحدُ الفريقَينِ فريقُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن معه، والآخرُ فريقُ الكافِرين، أي: فسَتعْلَمون اتِّضاحَ الفريقِ الَّذي هو في ضَلالٍ مُبينٍ [467] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/54). .
- قولُه: فَسَتَعْلَمُونَ قُرِئَ بياءِ الغائبِ [468] وهي قِراءةُ الكِسائيِّ، وقرأها الباقونَ بالتَّاءِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/389). ، على أنْ يكونَ إخبارًا مِن اللهِ لرسولِه بأنَّه سيُعاقِبُهم عِقابَ الضَّالِّينَ [469] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/55). .
3- قولُه تعالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ هذا إيماءٌ إلى أنَّهم يَترقَّبُهم عَذابُ الجُوعِ بالقحْطِ والجَفافِ؛ فإنَّ مكَّةَ قَليلةُ المياهِ، ولم تكُنْ بها عُيونٌ ولا آبارٌ قبْلَ زَمزمَ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/55). .
- وأصْلُ الغَورِ: ذَهابُ الماءِ في الأرضِ، مَصدرُ: غار الماءُ؛ إذا ذهَبَ في الأرضِ، والإخبارُ به عن الماءِ مِن بابِ الوصْفِ بالمصدَرِ للمُبالَغةِ [471] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/56). .
- والاستِفهامُ في قولِه: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ استفهامٌ إنكاريٌّ، أي: لا يأْتِيكم أحدٌ بماءٍ مَعينٍ، أي: غيرُ اللهِ، واكْتُفِيَ عن ذِكرِه؛ لظُهورِه مِن سِياقِ الكلامِ، ومِن قولِه قبْلَه: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ [الملك: 20] الآيتَينِ [472] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/56). .