موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (23-27)

ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات:

وَالْأَفْئِدَةَ: جمْعُ فؤادٍ، وهو القلبُ؛ سمِّيَ بذلك لحرارَتِه، أو لتَوقُّدِه، وأصلُ (فأد): يدُلُّ على حُمَّى وشِدَّةِ حرارةٍ [380] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/469)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646). .
ذَرَأَكُمْ: أي: خلَقَكم وكَثَّرَكم، والذَّرْءُ: بَثُّ الخَلقِ وتَكثيرُه، وأصلُ (ذرأ) هنا: يدُلُّ على بَذْرٍ وزَرعٍ [381] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 229)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/352)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 122)، ((تفسير القرطبي)) (12/144)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 213)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 464). .
زُلْفَةً: أي: قَريبًا، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على تَقدُّمٍ في قُربٍ إلى شَيءٍ [382] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 475)، ((تفسير ابن جرير)) (12/606)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 408)، ((تفسير القرطبي)) (18/220). .
سِيئَتْ: أي: ظهَر فيها السُّوءُ لما حلَّ بها، وقبُحَتْ بالسَّوادِ وأثرِ الكآبةِ، يُقالُ: ساء الشيءُ يسوءُ، فهو سيِّئٌ: إذا قبُح، وسِيء يُساءُ: إذا قبُح، والسُّوءُ: كلُّ ما يغمُّ الإنسانَ مِن الأمورِ الدُّنيويَّةِ، والأُخرويةِ، وأصلُ السُّوءِ: القُبحُ [383] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/113)، ((البسيط)) للواحدي (22/62)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 441)، ((تفسير ابن عطية)) (5/343)، ((تفسير ابن جزي)) (2/397). .
تَدَّعُونَ: أي: تَطلُبونَ وتَستعجِلونَ؛ (تفتعلونَ) مِن الدُّعاءِ، أو تَدَّعونَ أن لا بعثَ، فهو مِن الدَّعوَى، وأصلُ (دعو) أنْ تُميلَ الشَّيءَ إليكَ بصَوتٍ وكَلامٍ يَكونُ مِنكَ [384] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/201)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/279)، ((تفسير البيضاوي)) (5/232)، ((تفسير ابن جزي)) (2/397). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مذكِّرًا بنِعَمِه، ومبيِّنًا أنَّه المعبودُ وحْدَه، وداعيًا عِبادَه إلى شُكرِه، وإفرادِه بالعبادةِ: قُلْ -يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ المكَذِّبينَ: اللهُ وَحْدَه هو مَنْ أوجَدَكم مِنَ العَدَمِ، وجعَلَ لكم السَّمعَ والأبصارَ والأفئِدةَ، قليلًا ما تَشكُرونَ اللهَ تعالى على ما آتاكم!
قُلْ -يا محمَّدُ-: اللهُ هو الَّذي نشَرَكم في أقطارِ الأرضِ وأرجائِها، وإليه وَحْدَه تُجمَعونَ.
ثُمَّ يخبِرُ الله تعالى عن الكفَّارِ المُنكِرينَ للمَعادِ، المُستبعِدينَ وُقوعَه، فيقولُ: ويقولُ المُشرِكونَ تكذيبًا واستِهزاءً: متى يكونُ ما تَعِدُونَنا به مِنَ الحَشرِ إلى اللهِ إنْ كُنتُم صادِقينَ؟ قُلْ لهم: إنَّما عِلْمُ ذلك عِندَ اللهِ وَحْدَه، وما أنا إلَّا مُنذِرٌ لكم عَذابَ اللهِ!
ثمَّ يذكرُ حالَهم عندَما يرَونَ العذابَ، فيقولُ: فلمَّا رأى أولئك الكافِرونَ ما وُعِدُوا به قريبًا منهم وعايَنوه، ساءهم وأفزَعَهم؛ فتغيَّرَت وُجوهُهم وقَبُحَت، وقِيلَ لهم يومَ القيامةِ تَوبيخًا: هذا هو العَذابُ الَّذي كُنتُم تَطلُبونَه وتَسألُونَ تَعجيلَه في الدُّنيا!

تفسير الآيات:

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أورد البُرهانَ أوَّلًا مِن حالِ سائِرِ الحيواناتِ، وهو وُقوفُ الطَّيرِ في الهواءِ؛ أورد البُرهانَ بَعْدَه مِن أحوالِ النَّاسِ، وهو هذه الآيةُ، وذكَرَ مِن عجائِبِ ما فيه حالَ السَّمعِ والبَصَرِ والفُؤادِ [385] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/595). .
وأيضًا لَمَّا كان العرَبُ المَوعوظونَ بهذا الذِّكْرِ يَتغالَونَ في التَّفاخُرِ بالهدايةِ في الطُّرُقِ المحسوسةِ، وعدَمِ الإخلالِ بشُكرِ المعروفِ لِمُسْديه ولو قَلَّ، فنفَى عنهم الأوَّلَ بقِيامِ الأدِلَّةِ على خَطَئِهم الفاحِشِ في كُلِّ ما خالَفوا فيه الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن طريقِهم المعنويِّ الَّذي اتَّخَذوه دِينًا؛ فهو أشرَفُ مِن الطَّريقِ المحسوسِ- أتْبَعَه بيانَ انسِلاخِهم مِنَ الثَّاني مع التأكيدِ؛ لانسلاخِهم مِنَ الأوَّلِ [386] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/258، 259). .
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ المكَذِّبينَ: اللهُ وَحْدَه هو مَنْ أوجَدكم مِنَ العَدَمِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/134)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878). .
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ.
أي: وهو الَّذي جعَلَ لكم السَّمعَ لِتَسمَعوا آياتِ اللهِ تعالى، والأبصارَ لِتَنظُروا خَلْقَ اللهِ عزَّ وجلَّ، والأفئِدةَ لِتَتفَكَّروا وتَعتَبِروا فيما سَمِعتُم وشاهَدتُم [388] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/134)، ((تفسير السمرقندي)) (3/478)، ((تفسير البيضاوي)) (5/231)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/259، 260)، ((تفسير أبي السعود)) (9/9)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/47). .
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
أي: قليلًا ما تَشكُرونَ اللهَ تعالى على ما آتاكم مِنَ السَّمعِ والأبصارِ والأفئِدةِ [389] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/134)، ((تفسير القرطبي)) (18/219)، ((تفسير النسفي)) (3/516)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182). قال النسفي: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ هذه النِّعَمَ؛ لأنَّكم تُشرِكونَ باللهِ، ولا تُخلِصونَ له العِبادةَ). ((تفسير النسفي)) (3/516). وقال ابنُ كثير: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ أي: ما أقَلَّ ما تَستَعمِلونَ هذه القُوى الَّتي أنعَمَ اللهُ بها عليكم في طاعتِه، وامتِثالِ أوامِرِه وتَركِ زَواجِرِه!). ((تفسير ابن كثير)) (8/182). .
قال تعالى: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] .
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى استدَلَّ بأحوالِ الحيَواناتِ أوَّلًا، ثمَّ بصِفاتِ الإنسانِ ثانيًا، وهي السَّمعُ والبصَرُ والعَقلُ، ثمَّ بحُدوثِ ذاتِ هذا الإنسانِ ثالثًا، وهو قَولُه [390] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/595). :
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ-: اللهُ هو الَّذي نشَرَكم في أقطارِ الأرضِ وأرجائِها [391] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/134)، ((تفسير القرطبي)) (18/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878). .
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: وإلى اللهِ تُجمَعونَ بعْدَ هذا التَّفرُّقِ والشَّتاتِ، فيَبعَثُكم مِن قُبورِكم للحِسابِ والجَزاءِ [392] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/134)، ((تفسير النسفي)) (3/516)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878). .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25).
أي ويقولُ المُشرِكونَ: متى يكونُ ما تَعِدُونَنا مِنَ الحَشرِ إلى اللهِ إنْ كُنتُم صادِقينَ في وَعْدِكم هذا [393] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/134)، ((تفسير القرطبي)) (18/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878). ؟
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26).
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاءِ السَّائِلينَ: إنَّما عِلْمُ وقتِ مجيءِ القيامةِ عِندَ اللهِ وَحْدَه، لا يَعلَمُه أحدٌ سِواه [394] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/135)، ((تفسير القرطبي)) (18/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/263). .
كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] .
وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أي: وما أنا إلَّا مُنذِرٌ لكم عَذابَ اللهِ إنْ كفَرْتُم إنذارًا بيِّنًا واضِحًا تُقامُ به الحُجَّةُ عليكم [395] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/135)، ((تفسير القرطبي)) (18/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/264، 265)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/48). .
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27).
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: فلمَّا رأى أولئك الكافِرونَ ما وُعِدُوا به شَديدَ القُربِ منهم وعايَنوه، ساءهم وأفزَعَهم، وأقلَقَ أفئِدتَهم؛ فتغيَّرَت وُجوهُهم وقَبُحَت، وعَلَتْها الكآبةُ [396] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/135)، ((الوسيط)) للواحدي (4/330، 331)، ((تفسير القرطبي)) (18/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/50). قال البغوي: (فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني: العذابَ في الآخرةِ، على قولِ أكثرِ المفسِّرينَ. وقال مجاهدٌ: يعني: العذابَ ببَدرٍ). ((تفسير البغوي)) (5/127). !
قال الله تبارك وتعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 44، 45].
وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ تَدْعُونَ أي: هذا هو العَذابُ الَّذي كُنتُم تَدْعُون اللهَ لِيَأتيَكم به [397] قرأ بها يعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/389). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/201)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/81). .
2- قِراءةُ تَدَّعُونَ: أي: تَطلبونَ، وقيل: المعنى: هذا هو العَذابُ الَّذي كُنتُم به تُكَذِّبونَ، فتَدَّعونَ أنَّكم إذا مُتُّم لا تُبعَثونَ. وقيل: معنى تُدْعَوْنَ: تَمْتَرونَ. وقيل: المعنى: تتَمَنَّونَ. وقيل: القِراءتانِ بمعنًى واحدٍ، وهو الدُّعاءُ [398] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/389). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/394)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/201)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/81)، ((تفسير الماوردي)) (6/57)، ((تفسير أبي حيان)) (10/229). .
وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ.
أي: وقِيلَ لهم يومَ القيامةِ تَقريعًا وتَوبيخًا: هذا هو العَذابُ الَّذي كُنتُم تَطلُبونَه وتَسألُونَ تَعجيلَه؛ تكذيبًا واستِبعادًا لوُقوعِه [399] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/136)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 955)، ((تفسير القرطبي)) (18/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/265، 266). قال الماوَرْدي: (في قَولِه: كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أربعةُ أوجُهٍ: أحَدُها: تَمتَرونَ فيه وتختَلِفونَ. قاله مقاتِلٌ. الثَّاني: تَشُكُّونَ في الدُّنيا وتَزعمونَ أنَّه لا يكونُ. قاله الكَلْبيُّ. الثَّالثُ: تَستَعجِلونَ مِن العَذابِ. قاله زيدُ بنُ أسْلَمَ. الرَّابعُ: أنَّه دُعاؤُهم بذلك على أنفُسِهم، وهو افتِعالٌ مِن الدُّعاءِ. قاله ابنُ قُتيبةَ). ((تفسير الماوردي)) (6/57). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/394)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 475). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: تَطلُبون وتَستعجِلونَ به: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، وابنُ جُزَي، وأبو السعود، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/136)، ((تفسير الزمخشري)) (4/582)، ((تفسير ابن جزي)) (2/397)، ((تفسير أبي السعود)) (9/10)، ((تفسير الشوكاني)) (5/316). قال القرطبي: (قال الفرَّاءُ: «تَدَّعُونَ تَفْتَعِلونَ مِن الدُّعاءِ». وهو قولُ أكثرِ العُلماءِ، أي: تَتمَنَّونَ وتَسألونَ). ((تفسير القرطبي)) (18/220). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (3/171). وقال الزجاج: (أمَّا تَدَّعُونَ فجاء في التَّفسيرِ: تُكَذِّبونَ. وتأويلُه في اللُّغةِ: هذا الَّذي كنتم مِن أجْلِه تَدَّعُونَ الأباطيلَ والأكاذيبَ، أي: تَدَّعونَ أنَّكم إذا مِتُّم وكنتُم تُرابًا وعِظامًا أنَّكُم لا تُخرَجُونَ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/201). قال البِقاعي: (تَدَّعُونَ أي: تَطلُبون وتُوقِعونَ الطَّلبَ له طلبًا شديدًا، تَبلُغون فيه غايةَ الجهدِ على وجهِ الاستعجالِ أن يَستنزِلَ بكم مَكروهَه فِعلَ مَن لا يبالي به بوجهٍ، وتُكرِّرون ذلك الطَّلبَ، وتَعودون إليه في كلِّ وقتٍ مُعرِضينَ عن السَّعيِ في الخلاصِ فيه مِن عدوانِ العذابِ، ونَيلِ الوعدِ الحسَنِ بجزيلِ الثَّوابِ؛ لبيانِ قوَّةِ طلَبِهم له، وتَداعيهم إليه استِهزاءً به، حتَّى كأنَّهم لا مطلوبَ لهم غيرُه). ((نظم الدرر)) (20/266). وقال الواحديُّ: (معناه: كنتُم به تستعجِلونَ، وتَدْعونَ الله بتعجيلِه). ((البسيط)) (22/63). وممَّن قال بأنَّ المعنى: تُكَذِّبونَ: السعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 878)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/50). قيل: قائِلُ هذا هو اللهُ سبحانَه. ومِمَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/136)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7606). وقيل: القائِلُ هم خَزَنةُ جَهنَّمَ. ومِمَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، والماوَرْدي، والبَغَوي، والزمخشري، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/394)، ((تفسير الثعلبي)) (9/361)، ((تفسير الماوردي)) (6/57)، ((تفسير البغوي)) (5/128)، ((تفسير الزمخشري)) (4/582)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 757). وقال ابنُ عاشور: (القائِلُ لهم: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ: ملائِكةُ المحشَرِ، أو خَزَنةُ جَهنَّمَ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/50، 51). !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يكونَ شُكرُه على حَسَبِ النِّعمةِ؛ ففي السَّمعِ: يَستعمِلُ السَّمعَ فيما يُقَرِّبُ إلى اللهِ، ويَمنَعُه عمَّا حَرَّمَ اللهُ، وكذلك في البَصَرِ، أمَّا القَلبُ: فيَجِبُ عليه أنْ يُعرِضَ بقَلبِه عن كُلِّ ما حَرَّمَ اللهُ، وأنْ يُقْبِلَ بقَلبِه على كُلِّ ما أَمَرَ اللهُ به [400] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 50). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ في ذِكرِ السَّمعِ والبَصَرِ والفُؤادِ هاهنا تَنبيهٌ على دقيقةٍ لَطيفةٍ، كأنَّه تعالى قال: أعطيتُكم هذه الإعطاءاتِ الثَّلاثةَ، معَ ما فيها مِن القُوى الشَّريفةِ، لكِنَّكم ضيَّعتُموها، فلم تَقبَلوا ما سَمِعتُموه، ولا اعتبَرْتُم بما أبصَرْتُموه، ولا تأمَّلْتُم في عاقبةِ ما عَقَلْتُموه، فكأنَّكم ضيَّعتُم هذه النِّعَمَ، وأفسَدْتُم هذه المَواهِبَ؛ فلهذا قال: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ؛ وذلك لأنَّ شُكرَ نِعمةِ اللهِ تعالى هو أن يَصرِفَ تلك النِّعمةَ إلى وَجهِ رِضاه، وأنتم لَمَّا صَرَفتُم السَّمعَ والبَصَرَ والعَقلَ لا إلى طَلَبِ مَرضاتِه، فأنتم ما شكَرْتُم نِعمتَه البتَّةَ [401] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/595). !
3- في قَولِه تعالى: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ذَمُّ مَن لا يَشكُرُ [402] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 50). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ بيانُ نِعمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى على الإنسانِ بجَعلِ السَّمعِ والأبصارِ والأفئدةِ الَّتي بها إدراكُ المعقولِ وعَقْلُه؛ فإدراكُ المعقولِ بالسَّمعِ والبَصَرِ، وعقْلُه بالقَلبِ ووَعيُه [403] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 50). .
2- قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ الأفئدةُ: القُلوبُ، وقد ذكَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ طريقَ الفَهْمِ ومكانَ الفَهمِ؛ فطريقُ الفَهمِ هو السَّمعُ والبَصَرُ، ومَحَلُّ الفَهمِ والوَعيِ هو القلبُ؛ ولهذا يكونُ السَّمعُ والبصَرُ كقَناتَينِ تَصُبَّانِ في القَلبِ، فيَتلقَّى ما يُسمَعُ أو يُبصَرُ، ثمَّ يَصُبَّانِ في القَلبِ، وهو محلُّ الوَعيِ والإدراكِ [404] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 47). .
3- في قَولِه تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بيانُ الأساليبِ الَّتي يقومُ بها دُعاةُ الباطلِ؛ حيثُ يَتَحَدَّونَ أهلَ الحقِّ بمِثْلِ هذا التَّحَدِّي، مع العِلمِ بأنَّ الوَعيدَ بالعَذابِ أو نَحوِه هو كالآياتِ تمامًا، والآياتُ عندَ اللهِ تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [العنكبوت: 50] ، وكذلك العَذابُ الَّذي وَعَدَتْ به الرُّسُلُ ليس هو بأيديهم حتَّى يقولوا: أرُونا العَذابَ! وإنَّما العَذابُ عندَ اللهِ تعالى؛ ولهذا كان جوابُ الرُّسُلِ بأمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ: قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 30] ، فالأمرُ ليس كُلَّما طلَبْتُم أعطَيْناكم، وإنَّما اللهُ عزَّ وجلَّ هو الَّذي يُقَدِّرُ هذه الأشياءَ، فكما أنَّ المشركينَ إذا طَلَبوا آياتٍ يُقالُ لهم: إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [العنكبوت: 50] ، فإذا طلبوا نُزولَ العَذابِ نقولُ: قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: 30] ، وليس الأمرُ إلينا، وهم لا يقولون ذلك إلَّا تمويهًا على النَّاسِ وتغريرًا بالعامَّةِ، فيقولون: انظرْ هؤلاء يتَوعَّدونَنا إذا كَفَرنا بهم بالعَذابِ، فأين العذابُ؟! فيُؤخَذُ مِن ذلك: بيانُ أساليبِ دُعاةِ الضَّلالِ حيث يُنَوِّعونَها بكلِّ ما يستطيعونَ مِن الشِّدَّةِ لإضلالِ الخَلْقِ [405] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 197). .
4- في قَولِه تعالى: وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنَّه لا يَجِبُ على مَن بَلَّغَ عنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا الإنذارُ؛ فأهلُ العِلمِ الَّذين هم وَرَثةُ الأنبياءِ لا يَملِكونَ هدايةَ الخَلْقِ، لكنْ عليهم الإنذارُ والتَّبليغُ [406] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 290). .
5- في قَولِه تعالى: وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وظيفتُه الإنذارُ لا الهِدايةُ [407] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 289). !
6- في قَولِه تعالى: وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ المنْقَبةُ للمُنْذِرِ إذا كان مُبِينًا في إنذارِه، فيَكونُ فيه مَدْحٌ للفَصاحةِ والبلاغةِ، وقد قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّ مِن البَيانِ لَسِحْرًا)) [408] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 290). والحديث أخرجه البخاريُّ (5767) من حديثِ عبدِ الله بنِ عُمرَ رضيَ الله عنهما. وأخرجه مسلمٌ (869) مطوَّلًا من حديثِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضيَ الله عنهما. .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ هذا انتِقالٌ مِن تَوجيهِ اللهِ تعالَى الخِطابَ إلى المشرِكينَ للتَّبصيرِ بالحُجَجِ والدَّلائلِ، وما تَخلَّلَ ذلك مِن الوعيدِ أو التَّهديدِ؛ إلى خِطابِهم على لِسانِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يقولَ لهم ما سيُذكَرُ؛ تَفنُّنًا في البَيانِ، وتَنشيطًا للأذهانِ، حتَّى كأنَّ الكلامَ صَدَرَ مِن قائلَينِ، وتَرفيعًا لقدْرِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإعطائِه حظًّا مِن التَّذكيرِ مَعه. والانتقالُ هنا إلى الاستِدلالِ بفُروعِ المخلوقاتِ بعْدَ الاستدلالِ بأُصولِها، ومِن الاستِدلالِ بفُروعِ أعراضِ الإنسانِ بعْدَ أصْلِها، ومِن الاستِدلالِ بخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ والموتِ والحياةِ إلى الاستِدلالِ بخلْقِ الإنسانِ ومَداركِه، وقد أُتبِعَ الأمرُ بالقولِ بخَمْسةٍ مِثلِه بطَريقةِ التَّكريرِ بدُونِ عاطفٍ؛ اهتِمامًا بما بعْدَ كلِّ أمْرٍ مِن مَقالةٍ يُبلِّغُها إليهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [409] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/46، 47). .
- وإنَّما أُفرِدَ السَّمعُ ولم يُجمَعْ كما جُمِعَ الأفئدةُ والأبصارُ؛ إمَّا لأنَّه أُرِيدَ منه المَصدرُ الدَّالُّ على الجِنسِ؛ إذ لا يُطلَقُ على الآذانِ سمْعٌ؛ ألَا تَرى أنَّه جَمَعَ لَمَّا ذَكَرَ الآذانَ في قولِه: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ [البقرة: 19] وقولِه: وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، فلمَّا عبَّرَ بالسَّمعِ أُفرِدَ؛ لأنَّه مَصدرٌ، بخِلافِ الأفئدةِ والأبصارِ؛ فإنَّ الأفئدةَ مُتعدِّدةٌ، والأبصارَ جمْعُ بَصَرٍ الَّذي هو اسمٌ لا مَصدرٌ، وإمَّا لتَقديرِ مَحذوفٍ، أي: حواسَّ سَمْعِهم أو جَوارحَ سَمْعِهم. وقد تكونُ في إفرادِ السَّمعِ لَطيفةٌ رُوعِيَت مِن جُملةِ بَلاغةِ القرآنِ؛ هي أنَّ الأفئدةَ كانت مُتفاوِتةً، واشتِغالَها بالتَّفكُّرِ في أمْرِ الإيمانِ والدِّينِ مُختلِفٌ باختلافِ وُضوحِ الأدِلَّةِ، وبالكثرةِ والقِلَّةِ، وتَتلقَّى أنواعًا كثيرةً مِن الآياتِ، فلِكُلِّ عقْلٍ حظُّه مِن الإدراكِ، وكانت الأبصارُ أيضًا مُتفاوِتةَ التَّعلُّقِ بالمَرئيَّاتِ الَّتي فيها دَلائلُ الوَحدانيَّةِ في الآفاقِ، وفي الأنفُسِ الَّتي فيها دَلالةٌ، فلِكُلِّ بصَرٍ حَظُّه مِن الالتِفاتِ إلى الآياتِ المُعجِزاتِ والعِبَرِ والمواعظِ، فلمَّا اختَلَفَت أنواعُ ما تَتعلَّقانِ به جُمِعَت. وأمَّا الأسماعُ فإنَّما كانت تَتعلَّقُ بسَماعِ ما يُلْقى إليها مِن القرآنِ، فالجماعاتُ إذا سَمِعوا القرآنَ سَمِعوه سَماعًا مُتساويًا، وإنَّما يَتفاوَتون في تَدبُّرِه، والتَّدبُّرُ مِن عمَلِ العقولِ، فلمَّا اتَّحَدَ تَعلُّقُها بالمسموعاتِ جُعِلَت سَمْعًا واحدًا [410] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/255، 256) و(29/47). . فوحَّدَ السَّمْعَ لقِلَّةِ التَّفاوُتِ فيه؛ لِيَظهَرَ سِرُّ تصَرُّفِه سُبحانَه في القُلوبِ بغايةِ المُفاوَتةِ، مع أنَّه أعظَمُ الطُّرُقِ المُوصِلةِ للمَعاني إليها، وجمَعَ الأبصارَ والأفئِدةَ لكَثرةِ التَّفاوُتِ في نُورِ الأبصارِ، وإدراكِ الأفكارِ [411] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/260). .
- قَولُه: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ بَدَأَ بالسَّمعِ لأنَّه أشمَلُ وأعمُّ؛ لأنَّك تَسمَعُ ما لا تَراه، ولَمَّا كان أشمَلَ وأعمَّ كان الابتِلاءُ به -والحمدُ للهِ- أقلَّ، لو نَسَبْتَ الصُّمَّ إلى العُمْيِ لَوجدْتَ النِّسبةَ قليلةً؛ لأنَّ الصَّمَمَ أشدُّ، فوُجودُ السَّمعِ أهمُّ. ولم يَذْكُرْ سُبحانَه «الشَّمَّ والذَّوقَ واللَّمْسَ»؛ لأنَّ الاتِّعاظَ بالآياتِ يكونُ بالسَّمعِ والبَصَرِ [412] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 47). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المسنَدِ إليه والمسنَدِ في قولِه: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ إلى آخِرِه قصْرُ إفرادٍ [413] القَصرُ أو الحَصرُ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ. ويَنقسِمُ القَصرُ أو الحَصرُ باعتبارٍ آخَرَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قصْرُ إفرادٍ، وقصْرُ قَلْبٍ، وقَصْرُ تعيينٍ؛ فالأوَّل: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ الشَّرِكةَ؛ نحو: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل: 51] ، خُوطِبَ به مَن يَعتقدُ اشتِراكَ اللهِ والأصنامِ في الأُلوهيَّةِ. والثَّاني: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ إثباتَ الحُكمِ لغيرِ مَن أثبتَه المُتكلِّمُ له؛ نحو: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، خُوطِبَ به نَمرودُ، الَّذي اعتَقد أنَّه هو المحيي المميتُ دون اللهِ. والثَّالثُ: يُخاطَبُ به مَن تَساوَى عندَه الأمْران، فلمْ يَحكُمْ بإثباتِ الصِّفةِ لواحدٍ بعَيْنِه، ولا لواحدٍ بإحْدى الصِّفتَينِ بعَيْنِها. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقَزْويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ بتَنزيلِ المخاطَبين -لشِرْكِهم- مَنزِلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ الأصنامَ شارَكَت اللهَ في الإنشاءِ، وإعطاءِ الإحساسِ والإدراكِ [414] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/47). .
- قولُه: قَلِيلًا نَعتٌ لمحذوفٍ، و(ما) مَزيدةٌ لتأْكيدِ القِلَّةِ، أي: شُكرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا تَشْكرونَ. أو استُعمِلَ قَلِيلًا في معْنى النَّفيِ والعدَمِ، وهذا الإطلاقُ مِن ضُروبِ الكِنايةِ والاقتصادِ في الحكْمِ على طَريقةِ التَّمليحِ القَريبِ مِن التَّهكُّمِ [415] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/229)، ((تفسير أبي السعود)) (9/9)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/47)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/160). .
2- قولُه تعالَى: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
- إعادةُ فِعلِ قُلْ مِن قَبيلِ التَّكريرِ المُشعِرِ بالاهتمامِ بالغرَضِ المَسوقةِ فيه تلك الأقوالُ [416] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/48). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المسنَدِ إليه والمسنَدِ في قولِه: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ قصْرُ إفرادٍ بتَنزيلِ المخاطَبين -لشِرْكِهم- مَنزلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ الأصنامَ شارَكَتَ اللهَ في ذَرْءِ الخَلْقِ في الأرضِ [417] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/47، 48). .
- قولُه: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، قيل: المعنى: بعْدَ أنْ أكثَرَكم في الأرضِ، فهو يُزِيلُكم بمَوتِ الأجيالِ، فكُنِّيَ عن الموتِ بالحشرِ؛ لأنَّهم قد عَلِموا أنَّ الحشرَ الَّذي أُنذِروا به لا يكونُ إلَّا بعْدَ البعثِ، والبعثُ بعدَ الموتِ، فالكِنايةُ عن الموتِ بالحشْرِ بمَرتبتَينِ مِن الملازَمةِ، وقد أُدمِجَ في ذلك تَذكيرُهم بالموتِ الَّذي قدْ عَلِموا أنَّه لا بُدَّ منه، وإنذارُهم بالبعثِ والحشْرِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/48). .
- قولُه: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على عامِلِه للحصرِ [419] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (3/213)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/412). . وقيل: تَقديمُ المعمولِ في وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للاهتِمامِ، والرِّعايةِ على الفاصلةِ، وليس للاختِصاصِ؛ لأنَّهم لم يَكونوا يَدَّعون الحشْرَ أصلًا، فضْلًا عن أنْ يَدَّعوه لغيرِ اللهِ [420] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/48). .
3- قولُه تعالَى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ لَمَّا لم تكُنْ لهم مُعارَضةٌ للحُجَّةِ الَّتي في قولِه: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الملك: 23] إلى هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الملك: 24] ؛ انحصَرَ عِنادُهم في مَضمونِ قولِه: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك: 24] ؛ فإنَّهم قدْ جَحَدوا البعثَ وأعْلَنوا بجَحْدِه، وتَعجَّبوا مِن إنذارِ القرآنِ به، وقال بَعضُهم لبعضٍ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7، 8]، وكانوا يَقولون: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، واستَمرُّوا على قولِه؛ فلذلك حكاهُ اللهُ عنهم بصِيغةِ المضارعِ المُقتضيةِ للتَّكريرِ [421] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/48). .
- والاستِفهامُ بقولِهم: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ؛ لأنَّ مِن عادتِهم أنْ يَستهزِئوا بذلك، وأَتَوا بلَفظِ الْوَعْدُ استنجازًا له؛ لأنَّ شأْنَ الوعدِ الوفاءُ [422] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/49). .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ جَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ، أي: إنْ كنتُم صادِقينَ فيما تُخبِرونَه مِن مَجيءِ السَّاعةِ والحشرِ، فبيِّنُوا وقتَهُ [423] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/10)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/161). .
- قولُه: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أمَرَ اللهُ رسولَه بأنْ يُجِيبَ سُؤالَهم بجُملةٍ على خِلافِ مُرادِهم، بلْ على ظاهرِ الاستِفهامِ عن وقْتِ الوعدِ على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ [424] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مُرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأَولى بحالِه وبالسُّؤالِ عنه، وهو مِن خلافِ مقتضَى الظَّاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). ؛ بأنَّ وقْتَ هذا الوعدِ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، فقولُه: قُلْ هنا أمْرٌ بقولٍ يَختَصُّ بجَوابِ كَلامِهم، وفُصِلَ دونَ عطْفٍ لجريانِ المَقولِ في سِياقِ المُحاوَرةِ، فلم يُعطَفْ فِعلُ (قُل) بالفاءِ جرْيًا على سَننِ أمثالِه الواقعةِ في المُجاوَبةِ والمحاوَرةِ [425] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/49). .
- ولامُ التَّعريفِ في الْعِلْمُ للعهْدِ، أي: العِلمُ بوقْتِ هذا الوعدِ، وهذه هي اللَّامُ الَّتي تُسمَّى عِوَضًا عن المُضافِ إليه، وهذا قصْرٌ حَقيقيٌّ [426] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/49). القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). .
- والقصْرُ في قولِه: وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ قصْرٌ إضافيٌّ [427] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: ما أنا إلَّا نَذيرٌ بوُقوعِ هذا الوعدِ، لا أتجاوَزُ ذلك إلى كَوني عالِمًا بوقْتِه [428] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/49). .
4- قولُه تعالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الفاءُ فَصيحةٌ؛ لأنَّها اقتَضَت جُملةً مَحذوفةً تَقديرُها: فحلَّ بهم الوعدُ، فلمَّا رَأَوه... إلخ. أو جُملتَينِ مُقدَّرتينِ، كأنَّه قِيل: وقدْ أتاهم ما وُعِدوا به، فرَأَوه، فلمَّا رَأَوه... [429] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/49)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/161). .
- وفِعلُ رَأَوْهُ مُستعمَلٌ في المُستقبَلِ، وجِيءَ به بصِيغةِ الماضي لشَبَهِه بالماضي في تَحقُّقِ الوُقوعِ؛ لأنَّه صادرٌ عمَّن لا إخلافَ في أخبارِه، وأصلُ المعْنى: فإذا يَرَونه تُساءُ وُجوهُ الَّذين كَفَروا... إلخ، فعُدِلَ عن ذلك إلى صَوغِ الوعيدِ في صُورةِ الإخبارِ عن أمْرٍ وقَعَ، فجِيءَ بالأفعالِ الماضيةِ [430] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/49، 50). .
- وقولُهُ: زُلْفَةً حالٌ مِن مَفعولِ رَأَوْهُ؛ إمَّا بتَقديرِ المُضافِ، أيْ: ذا زُلفةٍ وقُرْبٍ، أو على أنَّه مَصدرٌ بمعْنى الفاعلِ، أي: مُزدَلِفًا، أو على أنَّه مَصدرٌ نُعِتَ بهِ مُبالَغةً، أي: رَأَوه شَديدَ القُربِ منهم، أي: أخَذَ يَنالُهم، أو ظَرْفٌ، أيْ: رَأَوهُ في مكانٍ ذِي زُلفةٍ [431] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/582)، ((تفسير أبي حيان)) (10/229)، ((تفسير أبي السعود)) (9/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/50). .
- قولُه: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أُسنِدَ حُصولُ السُّوءِ إلى الوُجوهِ؛ لتَضمينِه معْنى (كَلَحَت)، أي: لأنَّه سُوءٌ شديدٌ تَظهَرُ آثارُ الانفعالِ منه على الوُجوهِ [432] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/50). .
- قولُه: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أي: سِيئَتْ وُجُوهُهم، ووُضِعَ الموصولُ مَوضعَ ضَميرِهِم؛ لذمِّهِم بالكُفرِ، وتَعليلِ المَساءةِ بهِ [433] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/10). .
- وقد حُذِفَ مَفعولُ تَدَّعُونَ؛ لظُهورِه مِن قولِه: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الملك: 25] ، أي: تَدَّعون أنَّه لا يكونُ، وذلك على قولٍ. والجارُ والمجرورُ بِهِ مُتعلِّقٌ بفِعلِ تَدَّعُونَ؛ لأنَّه ضُمِّن معْنى (تُكذِّبون)؛ فإنَّه إذا ضُمِّن عاملٌ معْنَى عاملٍ آخَرَ يُحذَفُ مَعمولُ العاملِ المذكورِ، ويُذكَرُ مَعمولُ ضِمْنِه؛ لِيَدُلَّ المذكورُ على المحذوفِ، وذلك ضرْبٌ مِن الإيجازِ [434] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/50). .
- وتَقديمُ المجرورِ على العاملِ؛ للاهتمامِ بإخطارِه، وللرِّعايةِ على الفاصلةِ [435] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/50). .
- قولُه: وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ عُدِلَ عن تَعيينِ القائلِ؛ إذ المقصودُ المقولُ دونَ القائلِ، فحذْفُ القائلِ مِن الإيجازِ [436] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/51). .
- والقصْرُ المستفادُ مِن تَعريفِ جُزأيِ الإسنادِ هَذَا الَّذِي تَعريضٌ بهم بأنَّهم مِن شِدَّةِ جُحودِهم بمَنزِلةِ مَن إذا رَأَوُا الوعدَ حَسِبوه شيئًا آخَرَ [437] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/51). .