موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (24-30)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَجْرَمْنَا: أي: اكتَسَبْنا، والجُرْمُ: الذَّنبُ العظيمُ، وأصلُ (جرم): يدُلُّ على قَطعٍ؛ لأنَّ الذَّنْبَ كَسْبٌ، والكَسبَ اقتِطاعٌ .
يَفْتَحُ: أي: يَحكُمُ ويَقضي، ويُسمَّى الحاكِمُ فتَّاحًا، والفَتْحُ: إزالةُ الإغلاقِ والإشكالِ، وأصلُ (فتح): يدُلُّ على خِلافِ الإغلاقِ .
كَافَّةً: أي: عامَّةً، وهو اسْمٌ للجملةِ، مِن الكَفِّ، كأنَّهم كفُّوا باجتماعِهم عن أن يخرُجَ مِنْهُم أحدٌ، ومعنى كافَّةً: الإحاطةُ، ويُقالُ للجماعةِ: الكافَّةُ، وقيل: أي: تَكُفُّهم وتَردَعُهم، وقيل: أي: كافًّا لهم عن المعاصي، والهاءُ فيه للمُبالَغةِ، وأصلُ الكَفِّ: المنعُ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن يَرزُقُكم مِنَ السَّمَواتِ والأرضِ؟ قُلِ: اللهُ وَحْدَه، فلِمَ تَعبُدونَ معه مَنْ لا يَرزُقُكم شَيئًا؟! وإنَّ أحَدَ الفَريقينِ مِنَّا مُهتَدٍ، والآخَرَ في ضلالٍ مُبينٍ.
قُلْ لهم -يا محمَّدُ: لا تُسأَلونَ عن ذُنوبِنا، ولا نُسأَلُ عن أعمالِكم. قُلْ: يَجمَعُ بيْنَنا ربُّنا ثمَّ يَقضي بيْنَنا وبيْنَكم بالعَدلِ، واللهُ هو الحاكِمُ بيْنَ عبادِه، العليمُ بأعمالِهم وأحوالِهم.
قُلْ -يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ: أرُونيَ الَّذين صَيَّرتُموهم شُرَكاءَ لله، كلَّا! فليس الأمرُ كما زعَمتُم، بل هو اللهُ المستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له، العزيزُ الغالِبُ القاهِرُ، الحكيمُ في شَرعِه وأفعالِه وأقوالِه.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى وظيفةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: ولقد أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ أجمعينَ مُبَشِّرًا مَن أطاعك، ومُنذِرًا مَن عصاك، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ.
ويَعرِضُ شُبهةً مِن شُبهاتِ المشركينَ، ويرُدُّ عليها، فيقولُ: ويقولُ المُشرِكونَ: متى يجيءُ هذا الوَعدُ إنْ كُنتُم صادِقينَ؟ قُلْ لهم -يا محمَّدُ: لكم ميعادُ يومٍ يَجيئُكم في وقتِه، فإذا جاء لا يُؤخَّرُ ساعةً ولا يُقدَّمُ.

تَفسيرُ الآياتِ:

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه انتِقالٌ مِن دَمْغِ المشركينَ بضَعفِ آلهتِهم، وانتفاءِ جَدواها عليهم في الدُّنيا والآخرةِ، إلى إلْزامِهم بُطلانَ عِبادتِها بأنَّها لا تَستحِقُّ العِبادةَ؛ لأنَّ مُستحِقَّ العِبادةِ هو الَّذي يَرزُقُ عِبادَه؛ فإنَّ العِبادةَ شُكرٌ، ولا يَستحِقُّ الشُّكرَ إلَّا المُنعِمُ .
وأيضًا لَمَّا سلَبَ الله تعالى عن شركائِهم أنْ يَملِكوا شيئًا مِن الأكوانِ، وأثبَت جميعَ الملكِ له وحْدَه؛ أمَره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يُقرِّرَهم بما يَلزَمُ منه ذلك، فقال :
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن يَرزُقُكم مِنَ السَّمَواتِ بإنزالِه المطَرَ، وتسخيرِه الشَّمسَ والقَمَرَ والنُّجومَ وغيرَها؛ لِمَنافِعِكم، ويَرزُقُكم مِنَ الأرضِ بإخراجِه منها أنواعَ النَّباتِ والثِّمارِ، والمياهِ والمعادِنِ، وغَيرِها ممَّا فيه مَصالِحُكم ؟
قُلِ اللَّهُ.
أي: قُلِ: اللهُ وحْدَه مَن يَرزُقُكم مِنَ السَّمواتِ والأرضِ، فهو إذَنْ مَن يجبُ أن يُعبَدَ وحْدَه؛ فلِمَ تَعبُدونَ معه مَن لا يَرزُقُكم شَيئًا ؟!
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: ما نحن وأنتم على أمرٍ واحدٍ؛ فأحدُ الفريقَينِ مِنَّا مُهتَدٍ، والآخَرُ ضالٌّ ضلالًا مُبينًا .
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25).
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: لا تُسأَلونَ عن ذُنوبِنا .
كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] .
وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: ولا نُسأَلُ نحن عن أعمالِكم .
ثمَّ حذَّرهم وأنذَرهم عاقبةَ أمرِهم؛ إذْ أمَر رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ لهم :
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها أكَّدَتْ ما يُوجِبُ النَّظرَ والتَّفكُّرَ؛ فإنَّ مجرَّدَ الخطأِ والضَّلالِ واجبُ الاجتِنابِ، فكيف إذا كان يومَ عَرْضٍ وحسابٍ، وثوابٍ وعذابٍ ؟!
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ.
أي: قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: يَجمَعُ بيْنَنا ربُّنا ثمَّ يَقضي بيْنَنا وبيْنَكم بالعَدلِ، فيَتبيَّنُ المُهتدي مِنَّا والضَّالُّ، ويُثيبُ اللهُ المُستَحِقَّ للثَّوابِ، ويُعاقِبُ المُستَحِقَّ للعِقابِ .
وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ.
أي: واللهُ هو الحاكِمُ بيْنَ عبادِه بالعَدلِ والحَقِّ، العليمُ بأعمالِهم وأحوالِهم؛ فلا تخفَى عليه منهم خافيةٌ .
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المُشرِكون قد أنكروا البَعثَ، ودَلَّ على قُدرتِه تعالى عليه بما نَصَب مِنَ الأدِلَّةِ الَّتي شاهَدوها مِن أفعالِه بالبَصَرِ أو البصيرةِ، إيجادًا وإعدامًا، وأقام الحُجَّةَ على صِحَّةِ الدَّعوةِ، وبُطلانِ ما هم عليه، ثمَّ تهدَّدَهم بالفَصلِ يومَ الجَمعِ، وختَمَ بصِفةِ العِلمِ المحيطِ المُستلزِمِ للقُدرةِ الشَّامِلةِ، وكانت القُدرةُ لا تكونُ شامِلةً إلَّا عندَ الوحدانيَّةِ- أمَرَه بما يوجِبُ لهم القطعَ بوحدانيَّتِه، وشُمولِ قُدرتِه .
وأيضًا لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّه لا يُعبَدُ غَيرُه لِدَفعِ الضَّررِ؛ إذ لا دافِعَ للضَّررِ غَيرُه، بقَولِه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... [سبأ: 22] ، وبيَّن أنَّه لا يُعبَدُ غَيرُ الله لتوقُّعِ المنفعةِ، بقَولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سبأ: 24] - بيَّن هاهنا أنَّه لا يُعبَدُ أحَدٌ لاستِحقاقِه العِبادةَ غيرُ اللهِ، فقال :
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: أرونيَ الَّذين صيَّرتُموهم لله شُرَكاءَ في العبادةِ بزَعمِكم .
كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر: 40] .
كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: ارتَدِعوا وانزَجِروا؛ فليس الأمرُ كما زَعمتُم مِن أنَّ لله شُرَكاءَ، بل هو المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له، العزيزُ في انتِقامِه ممَّن أشرك به، الغالِبُ القاهِرُ لكُلِّ شَيءٍ، الممتنعُ عليه كلُّ عيبٍ ونقصٍ، وهو الحَكيمُ في شَرعِه وأفعالِه وأقوالِه وتدبيرِ خَلقِه؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به، فكيف يكونُ له شريكٌ مَن هو متَّصِفٌ بهاتينِ الصِّفَتينِ المنافيَتَينِ لذلك ؟!
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى مسألةَ التَّوحيدِ؛ شرَعَ في الرِّسالةِ، فقال :
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28).
أي: أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ أجمَعينَ مِنَ العَرَبِ وغَيرِهم، مُبَشِّرًا مَن أطاعك، ومُنذِرًا مَن عصاك وخالَفَك، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ .
كما قال اللهُ تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158].
وقال سُبحانَه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [الكهف: 2 - 4] .
وقال عزَّ وجَلَّ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِي اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطِيتُ خَمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا، فأيُّما رجُلٍ مِن أمَّتي أدركَتْه الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ، وأُحِلَّت ليَ المغانِمُ ولم تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلي، وأُعطيتُ الشَّفاعةَ، وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً، وبُعِثتُ إلى النَّاسِ عامَّةً )) .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن أعظَمِ ما أنكَرُوه ممَّا جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القِيامةُ والبعثُ؛ عَقَّبَ إبطالَ قَولِهم في إنكارِ الرِّسالةِ بإبطالِ قَولِهم في إنكارِ البعثِ .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29).
أي: ويَقولُ المُشرِكونَ مِن جَهلِهم: متى يجيءُ هذا الوَعدُ إنْ كنتم صادِقينَ في دَعواكم ؟
كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 18] .
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ المُشرِكينَ لَمَّا طَلَبوا الاستِعجالَ، بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّه لا استِعجالَ فيه كما لا إمهالَ، وهذا يُفيدُ عِظَمَ الأمرِ، وخَطَرَ الخَطْبِ؛ وذلك لأنَّ الأمرَ الحَقيرَ إذا طلبَه طالِبٌ مِن غَيرِه، لا يؤخِّرُه ولا يُوقِفُه على وَقتٍ، بخِلافِ الأمرِ الخَطيرِ .
وأيضًا لَمَّا تبيَّنَ مِن سُؤالِ المُشرِكينَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ أنَّه لم يكُنْ للاستِرشادِ، وأنَّهم بالَغوا به في التَّكذيبِ والاستِهزاءِ بعدَ الإبلاغِ في إقامةِ الأدِلَّةِ- أمَرَه بأن يُجيبَهم بما يَصلُحُ للمُعانِدِ مِن صادِعِ التَّهديدِ .
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30).
أي: قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: لكم ميعادُ يَومٍ يَجيئُكم في وَقتِه المحدَّدِ بلا زيادةٍ ولا نَقصٍ، فإذا جاء لا يُؤخَّرُ ساعةً ولا يُقدَّمُ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هذا إرشادٌ مِن الله لِرَسولِه إلى المناظَراتِ الجاريةِ في العُلومِ وغَيرِها؛ وذلك لأنَّ أحدَ المتناظِرَينِ إذا قال للآخَرِ: (هذا الَّذي تقولُه خطأٌ، وأنت فيه مخطئٌ) يُغضِبُه، وعندَ الغَضَبِ لا يبقَى سَدادُ الفِكرِ، وعندَ اختلالِه لا مَطمَعَ في الفَهمِ، فيَفوتُ الغَرَضُ؛ وأمَّا إذا قال له: إنَّ أحَدَنا لا يُشَكُّ في أنَّه مخطئٌ، والتَّمادي في الباطلِ قَبيحٌ، والرُّجوعُ إلى الحَقِّ أحسَنُ الأخلاقِ، فنَجتهِدُ ونُبصِرُ أيُّنا على الخطأِ لِيَحترِزَ؛ فإنَّه يجتهِدُ ذلك الخَصمُ في النَّظرِ، ويَترُكُ التَّعصُّبَ، وذلك لا يوجِبُ نقصًا في المنزلةِ؛ لأنَّه أوهَمَ بأنَّه في قَولِه شاكٌّ، ويدُلُّ عليه قَولُ الله تعالى لِنَبيِّه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ، مع أنَّه لا يَشُكُّ في أنَّه هو الهادي، وهو المُهتدي، وهم الضَّالُّونَ والمُضِلُّونَ !
2- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هذه الجملةُ تضمَّنَت الإنصافَ واللُّطفَ في الدَّعوةِ إلى اللهِ ، والتَّلطُّفَ مع الخَصمِ، والتَّنزُّلَ معه؛ للوُصولِ إلى الإقرارِ بالحقِّ ؛ فأوَّلًا: وصَفْنا عمَلَنا بأنَّه إجرامٌ. وثانيًا: وصَفْناه بالفعلِ الماضي الدَّالِّ على الوُقوعِ: عَمَّا أَجْرَمْنَا. وفي الخَصمِ قُلْنا أوَّلًا: وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ وليس (عمَّا تُجرِمون)! وكلُّ هذا مِن بابِ التَّلطُّفِ، واللهُ يَعلَمُ مَنِ المجرمُ مِن غيرِه، لكنْ لأجْلِ أنْ نُقيمَ الحُجَّةَ على هؤلاء بأنَّنا عامَلْناهم بأكمَلِ العدلِ والإنصافِ، بل بما ظاهِرُه الغَضاضةُ علينا. وثانيًا: أنَّه قال تعالى: عَمَّا تَعْمَلُونَ ولم يَقُلْ: عمَّا عَمِلتُم، ومعلومٌ أنَّ الماضيَ مُحَقَّقُ الوُقوعِ، والمضارعَ قد يقعُ وقد لا يقعُ، فـ عَمَّا تَعْمَلُونَ يعني: ما عَمِلْتم .
3- في قَولِه تعالى: لَا تُسْأَلُونَ إثباتُ السُّؤالِ عن العملِ؛ لأنَّ قولَه تعالى: لَا تُسْأَلُونَ أفاد أنَّ كلَّ إنسانٍ مَسؤولٌ عن عملِه، ولو كان السُّؤالُ منتفيًا مطلقًا ما صحَّ أنْ يُقالَ: لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا! وقد قال اللهُ تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ، وقال: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] ، وما دامَ الإنسانُ يُؤْمِنُ بذلك -بأنَّه سيُسألُ عن عملِه- فسوف يَحْرِصُ غايةَ الحرصِ على أنْ يكونَ عمَلُه موافقًا لشرعِ اللهِ تعالى .
4- مِن آدابِ المناظَرةِ سلوكُ التَّحدِّي فيما يُعلَمُ امتناعُه مِن الخَصمِ؛ لأنَّك إذا تَحدَّيتَه في أمرٍ لا يمكنُه، وظهَرَ عجْزُه، تَبَيَّنَ بُطلانُ دَعْواه، بخِلافِ ما إذا تَحدَّيتَه بأمرٍ يمكِنُه أنْ يفعَلَه، يقولُ الله تعالى: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ يعني: أعْلِموني ماذا خَلَقوا؟ ماذا نَفَعوا؟ الجوابُ: لم يَخلقوا شيئًا، ولم ينفعوا شيئًا، ولم يَدفعوا ضررًا .
5- في قولِه: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ... قاعدةٌ شَريفةٌ وأدَبٌ جَميلٌ في آدابِ المُجادَلةِ، وقَمْعِ شُبهةِ الخَصمِ الألَدِّ الأبِيِّ؛ فإنَّه يَنْبغي أنْ يُرْخَى عِنانُ الكلامِ معه أوَّلًا، ويُجارَى معه على سَنَنٍ يَبعَثُه على التَّفكُّرِ والنَّظرِ في أحوالِ نفْسِه؛ لِيَعثُرَ حيثُ يُرادُ تَبكيتُه عندَ إيرادِ الحُجَّةِ البالغةِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ أنَّه ينبغي أنْ يُستدَلَّ بالأوضحِ والأبْيَنِ في بابِ المناظرةِ؛ فإنَّ الرِّزقَ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ أمرٌ معلومٌ، لا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يقولَ عن نفْسِه: إنَّه يُنزِلُ المطرَ، أو إنَّه يُنبِتُ النَّباتَ! وهذه طريقةُ القرآنِ .
2- قَولُه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ هذا احتِجاجٌ بالدَّليلِ النَّظَريِّ؛ لأنَّ الاعتِرافَ بأنَّ اللهَ هو الرَّزَّاقُ يَستلزِمُ انفرادَه بإلَهِيَّتِه؛ إذ لا يَجوزُ أنْ يَنفرِدَ ببَعضِ صِفاتِ الإلهيَّةِ ويُشارَكَ في بَعضٍ آخَرَ؛ فإنَّ الإلهيَّةَ حَقيقةٌ لا تَقبَلُ التَّجزئةَ والتَّبعيضَ .
3- في قَولِه تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ جوازُ مُحاجَّةِ الخَصمِ بما يُعرَفُ عندَ علماءِ المناظرةِ والجَدَلِ بالسَّبْرِ والتَّقسيمِ ، فإذا تَتبَّعْنا الحالَ وجَدْنا أنَّ حالَ كلٍّ مِنَّا لا تخرُجُ عن حالَينِ: إمَّا هدًى؛ وإمَّا ضلالٌ، وهي إمَّا لنا؛ وإمَّا لكم، وليس هناك شَيءٌ ثالثٌ .
4- في قَولِه تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أنَّه لا يُوجَدُ مَنزِلةٌ بين مَنزِلتَينِ، كما تذهبُ إليه المُعتَزِلةُ في فاعلِ الكبيرةِ: أنَّه خَرَجَ مِن الإيمانِ، ولم يَدْخُلْ في الكُفرِ !
5- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَصَفَ الضَّلالَ بالمُبينِ، ولم يَصِفِ الهُدى؛ لأنَّ الهدى هو الصِّراطُ المُستقيمُ المُوصِلُ إلى الحَقِّ، والضَّلالُ خِلافُه، لكِنَّ المستقيمَ واحِدٌ، وما هو غيرُه كُلُّه ضَلالٌ، وبَعضُه بيِّنٌ مِن بَعضٍ؛ فميَّزَ البَعضَ عن البَعضِ بالوَصفِ .
6- قال الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هذا اللَّونُ من الكلامِ يُسمَّى الكلامَ المنصِفَ الَّذي كلُّ مَن سمِعَه مِن مُوالٍ أو مُنافٍ قال لِمَن خُوطِبَ به: قد أنصَفَك صاحِبُك! وهو: ألَّا يَترُكَ المجادِلُ لخَصمِه مُوجِبَ تغيُّظٍ واحتِدادٍ في الجِدالِ؛ لجَرَيانِه على سَنَنِ الإنصافِ المُسكِتِ للخَصمِ الألَدِّ، ويُسمَّى في علمِ المناظرَةِ: إرخاءَ العِنانِ للمُناظِرِ، ومع ذلك فقرينةُ إلزامِهم الحُجَّةَ قرينةٌ واضحةٌ .
7- في قَولِه تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا تهديدُ المُناظَرِ بالجزاءِ المجزومِ به؛ لأنَّ هذا يتضمَّنُ التَّهديدَ؛ لأنَّنا نعلمُ أنَّ اللهَ إذا فَتَحَ بيْنَهم فسيَكونُ الحقُّ مع المسلِمينَ، وبهذا عرَفْنا التَّرديدَ في قَولِه تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أنَّ الَّذين على الهُدى هم المُسلِمونَ، وأنَّ أولئك على الضَّلالِ؛ لأنَّه لو قال قائِلٌ: الآيةُ فيها ترديدٌ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى، وما عرَفْنا مَن الَّذي على الهدى! الجوابُ: هم الَّذين يَفتَحُ اللهُ تعالى عليهم، ويَنصُرُهم على أعدائِهم بالحَقِّ .
8- في قَولِه تعالى: ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ إثباتُ ما قَرَّرَه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ مِن أنَّ اسمَ اللهِ تعالى إذا كان مُتعدِّيًا لم يَتِمَّ الإيمانُ به إلَّا بالإيمانِ بكَونِه اسمًا، وبما تضَمَّنَه مِن صفةٍ، وبما تضَمَّنه مِن أثَرٍ وحُكمٍ؛ لِقَولِه: يَفْتَحُ بَيْنَنَا، ثمَّ قال بعدَ ذلك: وَهُوَ الْفَتَّاحُ؛ فدلَّ على أنَّ أسماءَ اللهِ عزَّ وجلَّ المُتعدِّيةَ تتضمَّنُ الأحكامَ والآثارَ المترتِّبةَ على ذلك .
9- قَولُ الله تعالى: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ فيه سؤالٌ: ما معنى قَولِه: أَرُونِيَ، وكان يَراهم ويَعرِفُهم؟
الجوابُ: أراد بذلك أن يُريَهم الخطَأَ العظيمَ في إلحاقِ الشُّرَكاءِ باللهِ، وأن يُقايِسَ على أعيُنِهم بيْنَه وبينَ أصنامِهم؛ ليُطلِعَهم على إحالةِ القياسِ إليه، والإشراكِ به .
10- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إثباتُ أفعالِ اللهِ تعالى الاختياريَّةِ؛ لأنَّ هذا فِعلٌ مِن الأفعالِ المتعلِّقةِ بمشيئتِه سُبحانه وتعالى .
11- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا إقامةُ الحُجَّةِ على الخَلْقِ، فلم يَبْقَ لأحدٍ حُجَّةٌ على اللهِ بعدَ الرُّسُلِ، ويُؤخَذُ منها عُذرُ مَن لم تَبلُغْه الرِّسالةُ؛ لأنَّ مَن لم تَبلُغْه الرِّسالةُ لم تتحصَّلْ له بِشارةٌ ولا نِذارةٌ .
12- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا هذه الآيةُ دليلٌ على فضلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الأنبياءِ بعمومِ الرِّسالةِ للإنسِ والجنِّ .
13- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا في هذه الآيةِ إثباتُ رسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مُنْكريها مِن العربِ، وإثباتُ عُمومِها على مُنْكريها مِن اليهودِ؛ فإنَّ كَافَّةً مِن ألْفاظِ العُمومِ .
14- في قَولِه تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أنَّ الأكثريَّةَ لا يَلزَمُ أنْ يكونَ الصَّوابُ معها! لأنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعْلَمونَ؛ فهُم في جهلٍ .
15- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ فيه سؤالٌ: كيف انطبَقَ هذا جوابًا عن سؤالِهم: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟
الجوابُ: أنَّهم ما سألوا عن ذلك وهم مُنكِرونَ له إلَّا تعنُّتًا لا استِرشادًا، فجاء الجوابُ على طريقِ التَّهديدِ مُطابقًا لمجيءِ السُّؤالِ على سبيلِ الإنكارِ والتَّعَنُّتِ، وأنَّهم مُرصَدونَ بيومٍ يفاجِئُهم، فلا يَستَطيعونَ تأخُّرًا عنه، ولا تقَدُّمًا عليه .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
- قولُه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ أُعِيدَ الأمْرُ بالقولِ قُلْ؛ لِزِيادةِ الاهتِمامِ بالمَقولِ؛ فإنَّ أصلَ الأمْرِ بالقولِ في مَقامِ التَّصدِّي للتَّبليغِ دالٌّ على الاهتمامِ، وإعادةُ ذلك الأمْرِ زِيادةٌ في الاهتمامِ .
- ومَنْ استِفهامٌ؛ للتَّنبيهِ على الخطأِ؛ ولذلك أُعقِبَ بالجوابِ مِن طَرَفِ السَّائلِ بقولِه: قُلِ اللَّهُ؛ لِتَحقُّقِ أنَّهم لا يُنكِرون ذلك الجوابَ، أو للإشعارِ بأنَّهم مُقِرُّون به بقُلوبِهم، إلَّا أنَّهم رُبَّما أبَوا أنْ يَتكلَّموا به؛ لأنَّ الَّذي تَمكَّنَ في صُدورِهم مِن العِنادِ وحُبِّ الشِّركِ قد ألْجَم أفواهَهم عن النُّطقِ بالحقِّ مع عِلْمِهم بصِحَّتِه، ولأنَّهم إنْ تَفَوَّهوا بأنَّ اللهَ رازِقُهم لَزِمَهم أنْ يُقالَ لهم: فما لَكمْ لا تَعبُدون مَن يَرزُقُكم، وتُؤْثِرون عليه مَن لا يَقدِرُ على الرِّزقِ ؟!
- وقولُه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ عُطِفَ على الاستِفهامِ إبرازُ المَقصدِ بطَريقةٍ خَفيَّةٍ، تُوقِعُ الخَصمَ في شَرَكِ المَغْلوبيَّةِ؛ وذلك بتَرديدِ حالتَيِ الفَريقَينِ بيْنَ حالةِ هُدًى وحالةِ ضَلالٍ؛ لأنَّ حالةَ كلِّ فَريقٍ لَمَّا كانت على الضِّدِّ مِن حالِ الفَريقِ الآخَرِ بيْن مُوافقةِ الحقِّ وعَدمِها؛ تَعيَّنَ أنَّ أمْرَ الضَّلالِ والهُدى دائرٌ بيْن الحالتَينِ لا يَعدُوانِهما؛ ولذلك جِيءَ بحَرْفِ أَوْ المُفيدِ للتَّرديدِ المُنتزَعِ مِن الشَّكِّ .
- ومِن اللَّطائفِ البلاغيَّةِ في قولِه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أنَّه اشتمَلَ على إيماءٍ إلى تَرجيحِ أحدِ الجانبَينِ في أحَدِ الاحتمالَينِ بطَريقِ مُقابَلةِ الجانبَينِ في تَرتيبِ الحالتَينِ باللَّفِّ والنَّشْرِ المُرتَّبِ ، وهو أصْلُ اللَّفِّ؛ فإنَّه ذكَرَ ضَميرَ جانبِ المُتكلِّمِ وجَماعتِه وجانبِ المُخاطَبينَ، ثمَّ ذكَرَ حالَ الهُدى وحالَ الضَّلالِ على تَرتيبِ ذِكرِ الجانبينِ؛ فأشار إلى أنَّ الأوَّلِينَ مُوجَّهون إلى الهُدى، والآخِرينَ مُوجَّهون إلى الضَّلالِ المُبينِ، لا سيَّما بعْدَ قَرينةِ الاستِفهامِ، وهذا أيضًا مِن التَّعريضِ، وهو أوقَعُ مِن التَّصريحِ، لا سيَّما في استنزالِ طائرِ الخَصمِ. وفيه أيضًا تَجاهُلُ العارفِ؛ فقد الْتأَمَ في هذه الجُملةِ ثلاثةُ مُحسِّناتٍ مِن البَديعِ، ونُكتةٌ مِن البَيانِ؛ فاشتملتْ على أربعِ خُصوصيَّاتٍ .
- وخُولِفَ بيْن حَرفَيِ الجرِّ الدَّاخلَينِ على الحقِّ والضَّلالِ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؛ فجِيءَ في جانبِ الحقِّ بحرْف (علَى)؛ للإشعارِ بكَونِ السَّالكِ على هذا الصِّراطِ على هُدًى لِما فيه مِنِ استِعلائِه وعُلُوِّه بالحقِّ والهُدى، مع ثباتِه عليه، واستِقامتِه إليه، فكان في الإتيانِ بأداةِ (على) ما يدُلُّ على عُلوِّه وثُبوتِه واستِقامتِه، وهذا بخِلافِ الضَّلالِ؛ فإنَّه جيءَ فيه بأداةِ (في) الدَّالَّةِ على انغِماسِ صاحِبِه، وانقِماعِه وتدسُّسِه فيه، فـ (في) للظَّرفيَّةِ، ومعلومٌ أنَّ الظَّرفَ محيطٌ بالمظروفِ؛ فالضَّلالُ محيطٌ به قد أعمى بصيرتَه، فطريقُ الحقِّ تأخُذُ عُلُوًّا صاعِدةً بصاحِبِها إلى العليِّ الكبيرِ، وطريقُ الضَّلالِ تأخُذُ سُفْلًا، هاويةً بسالِكِها في أسفَلِ سافِلينَ، فالَّذي على هُدًى هو على جادَّةٍ بَيِّنةٍ، عُلْيَا واضِحةٍ، وصاحبُ الضَّلالِ مُنْغَمِسٌ في ضلالِه تائهٌ حائرٌ، ليس له حقٌّ مِن العلوِّ، بل هو مغمورٌ بالجهلِ بكلِّ جانبٍ .
- وقدَّم الهدَى على الضَّلالِ؛ لأنَّه كان وصْفَ المؤمنينَ المذكورينَ بقولِه: (إنَّا)، وهو مقدَّمٌ في الذِّكرِ .
2- قَولُه تعالى: قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
- قولُه: قُلْ أُعِيدَ الأمْرُ بأنْ يقولَ لهم مَقالًا آخَرَ إعادةً؛ لِزِيادةِ الاهتِمامِ، واستِدعاءً لأسماعِ المُخاطَبينَ بالإصغاءِ إليه، ولَمَّا كان هذا القولُ يَتضمَّنُ بَيانًا للقولِ الَّذي قبْلَه، فُصِلَت جُملةُ الأمْرِ بالقولِ عن أُخْتِها؛ إذ لا يُعطَفُ البَيانُ على المُبيَّنِ بحَرْفِ النَّسقِ؛ فإنَّه لَمَّا ردَّدَ أمْرَ الفريقَينِ بيْن أنْ يكونَ أحدُهما على هُدًى والآخَرُ في ضَلالٍ، وكان الضَّلالُ يأتي بالإجرامِ؛ اتُّسِعَ في المُحاجَّةِ فقيل لهم: إذا نحنُ أجَرْمَنا فأنتم غيرُ مُؤاخَذينَ بجُرْمِنا، وإذا عَمِلْتُم عمَلًا فنحن غيرُ مُؤاخَذينَ به. وأيضًا فُصِلَت؛ لتَكونَ هذه الجُملةُ مُستقِلَّةً بنَفْسِها؛ لِيَخُصَّها السَّامعُ بالتَّأمُّلِ في مَدلولِها، فيجوزُ أنْ تُعتبَرَ استئنافًا ابتدائيًّا، وهي مع ذلك اعتراضٌ بَيِّنٌ أثناءَ الاحتجاجِ .
- قولُه: قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا إسنادُ الإجرامِ إلى جانبِ المُتكلِّمِ ومَن معه مَبْنيٌّ على زَعْمِ المُخاطَبينَ؛ قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ [المطففين: 32] ، كان المُشرِكون يُؤنِّبون المؤمنينَ بأنَّهم خاطِئون في تَجنُّبِ عِبادةِ أصنامِ قَومِهم. وهذه نُكتةُ صَوغِه في صِيغةِ الماضي؛ لأنَّه مُتحقِّقٌ على زَعمِ المُشركينَ. وصِيغَ ما يَعمَلُ المُشرِكونَ في صِيغةِ المُضارِعِ؛ لأنَّهم يَنتظِرون منهم عمَلًا؛ تَعريضًا بأنَّهم يَأتُون عمَلًا غيرَ ما عَمِلوه، أي: يُؤمِنون باللهِ بعدَ كُفرِهم. وهذا ضَرْبٌ مِن المُتارَكةِ والمُوادَعةِ؛ لِيَخْلُوا بأنفُسِهم فيَنظُروا في أمْرِهم، ولا يُلْهِيهم جِدالُ المؤمنينَ عن استِعراضِ أنفُسِهم ومُحاسَبتِها. وفيه زِيادةُ إنصافٍ؛ إذ فرَضَ المؤمِنونَ الإجرامَ في جانبِ أنفُسِهم، وأسنَدُوا العمَلَ على إطلاقِه في جانبِ المُخاطَبينَ؛ لأنَّ النَّظَرَ والتَّدبُّرَ بعدَ ذلك يَكشِفُ عن كُنْهِ كِلَا العَمَلَينِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ، فلمْ يَذكُرْ هنا (كُنتم) كما قالَه في غَيرِه؛ وذلك لأنَّ قولَه هنا: تَعْمَلُونَ وقَعَ في مُقابَلةِ أَجْرَمْنَا في قولِه: قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا، أي: أذنَبْنا، وضَميرُ أَجْرَمْنَا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمُرادُ غيرُه، وغيرُه صَدَر منه ذنْبٌ؛ فعُبِّرَ عنه بالماضي. والمُخاطَبُ في تَعْمَلُونَ الكُفَّارُ، وكُفرُهم واقعٌ في الحالِ، وفي المُستقبَلِ ظاهرًا، فعُبِّرَ عنه بالمُضارِعِ، فلا يُناسِبُه (كُنتم)، مع أنَّ الخِطابَ في ذلك واقعٌ في الدُّنيا، والخِطابُ في غَيرِه -نحو: ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام: 60] - واقعٌ في الآخرةِ؛ فناسَبه التَّعبيرُ بـ كُنْتُمْ .
3- قَولُه تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ
- قولُه: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ فيه إعادةُ فِعلِ (قُل)؛ لزِيادةِ الاهتمامِ بهذه المُحاجَّاتِ؛ لِتَكونَ كلُّ مُجادَلةٍ مُستقِلَّةً غيرَ مَعطوفةٍ؛ فتكون هذه الجُملةُ استئنافًا ابتِدائيًّا. وأيضًا فهذه الآيةُ بمَنزِلةِ البَيانِ للَّتي قبْلَها؛ لأنَّ نفْيَ سُؤالِ كلِّ فَريقٍ عن عمَلِ غيرِه يَقْتضي أنَّ هنالك سُؤالًا عن عمَلِ نفْسِه، فبَيَّنَ أنَّ الَّذي يَسأَلُ النَّاسَ عن أعمالِهم هو اللهُ تعالى يومَ القِيامةِ الَّذي همْ مُنكِروه؛ فما ظَنُّك بحالِهم يومَ تَحقُّقِ ما أنكَرُوه؟! وهنا تَدرَّجَ الجَدلُ مِن الإيماءِ إلى الإشارةِ القَريبةِ مِن التَّصريحِ؛ لِمَا في إثباتِ يومِ الحِسابِ والسُّؤالِ مِن المُصارَحةِ بأنَّهم الضَّالُّون. ويُسمَّى هذا التَّدرُّجُ عندَ أهلِ الجَدلِ بالتَّرقِّي .
- وجُملةُ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ تَذييلٌ بوَصفِه تعالى بكَثرةِ الحُكْمِ وقُوَّتِه وإحاطةِ العِلمِ، وبذلك كان تَذييلًا لجُملةِ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ المُتضَمِّنةِ حُكمًا جُزْئيًّا؛ فذُيِّلَ بوَصفٍ كُلِّيٍّ. وإنَّما أُتبِعَ الفتَّاحُ بـ الْعَلِيمُ؛ للدَّلالةِ على أنَّ حُكمَه عَدْلٌ مَحضٌ؛ لأنَّه عليمٌ لا تَحُفُّ بحُكمِه أسبابُ الخَطأِ والجَورِ النَّاشئةُ عن الجَهلِ والعَجزِ، واتِّباعُ الضَّعفِ النَّفسانيِّ النَّاشئُ عن الجَهلِ بالأحوالِ والعَواقبِ .
- قولُه: الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ صِيغَتَا مُبالَغةٍ، وهذا فيه تَهديدٌ وتَوبيخٌ .
4- قَولُه تعالى: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أُعِيدَ الأمْرُ بالقَولِ لِمَزيدِ الاهتمامِ، وهو رُجوعٌ إلى طريقِ الاحتجاجِ على بُطلانِ الشِّركِ، فهو كالنَّتيجةِ لِجُملةِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [سبأ: 24] . والأمرُ في قولِه: أَرُونِيَ مُستعمَلٌ في تَعجيزِ المُشركينَ عن إبْداءِ حُجَّةٍ لإشراكِهم، وهو انتقالٌ مِن الاحتجاجِ على بُطلانِ إلَهيَّةِ الأصنامِ بدَليلِ النَّظرِ في قولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ إلى إبطالِ ذلك بدَليلِ البَداهةِ . وقد سُلِكَ مِن طُرُقِ الجَدلِ طَريقُ الاستِفسارِ، والمُصطلَحُ عليه عندَ أهْلِ الجَدلِ أنْ يكونَ الاستِفسارُ مُقدَّمًا على طَرائقِ المُناظَرةِ ، وإنَّما أُخِّرَ هنا؛ لأنَّه كان مُفْضيًا إلى إبطالِ دَعوَى الخَصمِ بحَذافيرِها، فأُرِيدَ تأْخيرُه؛ لئلَّا يَفُوتَ افتضاحُ الخَصمِ بالأدلَّةِ السَّابقةِ تَبْسيطًا لبِساطِ المُجادَلةِ؛ حتَّى يكونَ كلُّ دَليلٍ مُناديًا على غَلطِ الخُصومِ وباطلِهم. وافتِضاحُ الخَطأِ مِن مَقاصِدِ المُناظِرِ الَّذي قامَتْ حُجَّتُه .
- والتَّعبيرُ عن المَرْئيِّ بطَريقِ المَوصوليةِ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ؛ لِتَنبيهِ المُخاطَبينَ على خَطئِهم في جَعْلِهم إيَّاهم شُركاءَ للهِ تعالى في الرُّبوبيَّةِ. وفي جَعْلِ الصِّلةِ أَلْحَقْتُمْ إيماءٌ إلى أنَّ تلك الأصنامَ لم تكُنْ مَوصوفةً بالإلهيَّةِ وَصفًا ذاتيًّا حقًّا، ولكنَّ المشرِكينَ ألْحَقوها باللهِ تعالى؛ فتلك خُلعةٌ خَلَعَها عليهم أصحابُ الأهواءِ، وتلك حالةٌ تُخالِفُ صِفةَ الإلهيَّةِ؛ لأنَّ الإلهيَّةَ صِفةٌ ذاتيَّةٌ قَديمةٌ .
- قولُه: كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَمَّا أعرَضَ عن الخَوضِ في آثارِ الإراءةِ، عُلِمَ أنَّهم مُفتضَحون عندَ تلك الإراءةِ، فقُدِّرتْ حاصلةً، وأُعقِبَ طَلبُ تَحصيلِها بإثباتِ أثَرِها، وهو الرَّدعُ عن اعتقادِ إلهيَّتِها، وإبطالُها عنْهم بإثباتِها للهِ تعالى وَحْدَه؛ فلذلك جُمِعَ بيْنَ حَرفيِ الرَّدْعِ والإبطالِ، ثمَّ الانتقالِ إلى تَعيينِ الإلهِ الحقِّ. والجُملةُ بعْدَه تَفسيرٌ لِمَعنى الشَّأنِ، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبرانِ، أي: بلِ الشَّأنُ المُهِمُّ اللهُ العزيزُ الحكيمُ لا آلهتُكم؛ ففي الجُملةِ قَصرُ العِزَّةِ والحُكمِ على اللهِ تعالى؛ كِنايةً عن قَصْرِ الإلهيَّةِ عليه تعالى قَصْرَ إفرادٍ ، وهذا إثباتٌ لافتِقارِ أصنامِهم، وانتفاءِ العِلمِ عنها .
- وكَلَّا رَدْعٌ لهم عن مَذهبِهم بعدَ ما كسَرَه بإبطالِ المُقايَسةِ، وقد نبَّه على تَفاحُشِ غَلَطِهم، وأن لم يَقدُروا اللهَ حقَّ قَدْرِه بقولِه: هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ كأنَّه قال: أيْن الَّذين ألحَقْتُم به شُركاءَ مِن هذه الصِّفاتِ؟ وهُوَ راجعٌ إلى اللهِ وَحْدَه، أو ضميرُ الشَّأنِ .
5- قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ انتقالٌ مِن إبطالِ ضَلالِ المشرِكينَ في أمْرِ الرُّبوبيَّةِ إلى إبطالِ ضَلالِهم في شأْنِ صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وغُيِّرَ أُسلوبُ الكلامِ مِن الأمْرِ بمُحاجَّةِ المشرِكينَ إلى الإخبارِ برِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تَشريفًا له بتَوجيهِ هذا الإخبارِ بالنِّعمةِ العظيمةِ إليه، ويَحصُلُ إبطالُ مَزاعمِ المُشركينَ بطَريقِ التَّعريضِ .
- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا أي: وما أرسَلْناك للنَّاسِ إلَّا كافَّةً؛ فقُدِّمَ الحالُ كَافَّةً على صاحِبِه لِلنَّاسِ؛ للاهتمامِ بها؛ لأنَّها تَجمَعُ الَّذين كَفَروا برِسالَتِه كلَّهم .
- وأفادَ تَركيبُ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ قَصْرَ حالةِ عُمومِ الرِّسالةِ على كافِ الخِطابِ في قولِه: أَرْسَلْنَاكَ، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ ، أي: دونَ تَخصيصِ إرسالِك بأهْلِ مكَّةِ، أو بالعرَبِ، أو بمَن يَجِيئُك يَطلُبُ الإيمانَ والإرشادَ، فالرِّسالُة عامَّةٌ للنَّاسِ، مُحيطةٌ بهم؛ لأنَّها إذا شَمِلَتهم فقد كَفَتْهم أنْ يَخرُجَ منها أحدٌ منهم، ويَقْتضي ذلك إثباتَ رِسالتِه بدَلالةِ الاقتضاءِ؛ إذ لا يَصدُقُ ذلك القَصرُ إلَّا إذا ثبَتَ أصْلُ رِسالتِه؛ فاقْتَضَى ذلك الرَّدَّ على المُنكِرين كلِّهم، سواءٌ مَن أنكَرَ رِسالتَه مِن أصْلِها، ومَن أنكَرَ عُمومَها، وزعَمَ تَخصيصَها . وقيل: إنَّ حالَ الإرسالِ مَحْصورٌ في العُمومِ؛ للغرَضِ الَّذي ذُكِرَ مِن التَّدرُّعِ لِحَمْلِ المَشاقِّ، لا في النَّاسِ؛ فإنَّه لو أُرِيدَ ذلك لَقُدِّموا فقِيل: (إلَّا للنَّاسِ كافَّةً) .
- ومَوقعُ الاستِدراكِ بقولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ رفْعُ ما يُتوهَّمُ مِنِ اغترارِ المُغترِّينَ بكَثرةِ عدَدِ المُنكِرين رِسالةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ كَثرتَهم تَغُرُّ المُتأمِّلَ؛ لأنَّهم لا يَعلَمون .
- ومَفعولُ يَعْلَمُونَ مَحذوفٌ؛ لِدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: لا يَعلَمون ما بَشَّرْت به المؤمِنينَ، وما أنْذَرْتَ به الكافرينَ، أي: يَحسَبون البِشارةَ والنِّذارةَ غيرَ صادقتَينِ، على قولٍ في التَّفسيرِ. ويجوزُ أنْ يكونَ فِعلُ يَعْلَمُونَ مُنزَّلًا مَنزلةَ اللَّامِ، مَقصودًا منه نَفْيُ صِفةِ العِلمِ عنهم، أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ جاهِلون قَدْرَ البِشارةِ والنِّذارةِ .
6- قولُه تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- صِيغةُ المُضارِعِ في (يَقُولُونَ) تُفِيدُ التَّعجُّبَ مِن مَقالتِهم، مع إفادتِها تَكرُّرَ ذلك القولِ منهم وتَجدُّدَه. واسمُ الإشارةِ في هَذَا الْوَعْدُ؛ للاستِخفافِ والتَّحقيرِ .
7- قَولُه تعالى: قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ جُملةٌ مَسوقةٌ مَساقَ الجوابِ عن مَقالتِهم؛ ولذلك فُصِلَتْ ولم تُعطَفْ على طَريقةِ حِكايةِ المُحاوَراتِ في القُرآنِ . وهذا الجَوابُ جَرَى على طَريقةِ الأُسلوبِ الحَكيمِ، أي: أنَّ الأهمَّ للعُقلاءِ أنْ تَتوجَّهَ هِمَمُهم إلى تَحقُّقِ وُقوعِ الوَعدِ في الوقتِ الَّذي عيَّنَه اللهُ له، وأنَّه لا يُؤخِّرُه شَيءٌ ولا يُقدِّمُه، وحسَّنَ هذا الأُسلوبَ أنَّ سُؤالَهم إنَّما أرادوا به الكِنايةَ عن انتفاءِ وُقوعِه. وفي هذا الجَوابِ تَعريضٌ بالتَّهديدِ، فكان مُطابِقًا للمَقصودِ مِن الاستفهامِ، ولذلك زِيدَ في الجوابِ كَلمةُ لَكُمْ؛ إشارةً إلى أنَّ هذا المِيعادَ مُنصرِفٌ إليهم ابتداءً .
- وفي هذا الجوابِ مِن المُبالَغةِ في التَّهديدِ ما لا يَخْفى؛ حيثُ جُعِلَ الاستئخارُ في الاستحالةِ كالاستقدامِ المُمتنِعِ عقْلًا. ويجوزُ أنْ يكونَ نفْيُ الاستئخارِ والاستقدامِ غيرَ مُقيَّدٍ بالمُفاجأةِ، فيكونَ وصْفُ المِيعادِ بذلك لِتَحقيقِه وتَقريرِه .
- وخُولِفَ مُقْتضى الظَّاهرِ في الجوابِ مِن الإتيانِ بضَميرِ الوَعدِ الواقعِ في كَلامِهم إلى الإتيانِ باسمٍ ظاهرٍ، وهو مِيعَادُ يَوْمٍ؛ لِمَا في هذا الاسمِ النَّكرةِ مِن الإبهامِ الَّذي يُوجِّهُ نُفوسَ السَّامعينَ إلى كلِّ وَجهٍ مُمكِنٍ في مَحمَلِ ذلك، وهو أنْ يكونَ يومَ البعثِ أو يومًا آخَرَ يَحِلُّ فيه عذابٌ على أئمَّةِ الكُفرِ وزُعماءِ المشرِكينَ، وهو يومُ بَدْرٍ، ولعلَّ الَّذين قُتِلوا يومَئذٍ همْ أصحابُ مَقالةِ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وأفاد تَنكيرُ يَوْمٍ تَهويلًا وتَعظيمًا؛ بقَرينةِ المَقامِ .
- والاستِئخارُ والاستقدامُ مُبالَغةٌ في التَّأخُّرِ والتَّقدُّمِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ، وقُدِّمَ الاستئخارُ على الاستِقدامِ إيماءً إلى أنَّه مِيعادُ بأْسٍ وعَذابٍ عليهم مِن شأْنِه أنْ يَتمنَّوا تأخُّرَه، ويكونُ وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ تَتميمًا ؛ لِتَحقُّقِه عندَ وَقتِه المُعيَّنِ في عِلمِ اللهِ .
- والسَّاعةُ: حِصَّةٌ مِن الزَّمنِ، وتَنكيرُها للتَّقليلِ بمَعونةِ المَقامِ .