موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (59 - 62)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات :

جَرَحْتُمْ: أي: كَسَبْتُم، والاجتراحُ: اكتسابُ الإِثْمِ، وأصلُ (جَرَحَ): الكسْبُ، وشقُّ الجِلْد [987] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 154)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 174)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/451)، ((المفردات)) للراغب (ص: 191). .
تَوَفَّتْهُ: أي: بالموتِ؛ يقال: توفَّيْتُ الشَّيءَ واستوفيتُه، إذا أخَذْتَه كُلَّه حتَّى لم تتركْ منه شيئًا، ومنه يُقال للميِّت: تَوفَّاه اللهُ، وأصلُ (وفى) يدلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ،  ومنه الوفاءُ: تمامُ الشَّيء، وإتمامُ العَهدِ، والقيامُ بمقتضاه، وإكمالُ الشَّرطِ [988] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 24)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 878). .
لَا يُفَرِّطُونَ: أي: لا يُضَيِّعون ما أُمِروا به، ولا يُقَصِّرونَ فيه، وأصل (فرط): يدلُّ على إزالةِ شيءٍ من مكانِه، وتنحيتِه عنه [989] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 531)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/490)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 191)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 987). .

مشكل الإعراب :

قوله تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
وَرَقَةٍ: فاعل تَسْقُطُ وهو مجرورٌ لفظًا، مرفوعٌ محلًّا بضمَّة مُقدَّرة؛ لاشتغالِ مَحلِّها بحركةِ حرْفِ الجرِّ الزَّائد، ومِنْ زائدةٌ للتأكيدِ، أفادتِ العمومَ، وقوله: إِلَّا يَعْلَمُهَا حالٌ من وَرَقَةٍ، وجاءتِ الحالُ مِن النَّكرةِ؛ لاعتمادِها على النَّفيِ، والتقدير: ما تَسقطُ مِن ورقةٍ إلَّا عالِمًا هو بها. ويجوزُ أنْ تكونَ الجملةُ نعتًا لورقةٍ.
وَلَا حَبَّةٍ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ: كلُّها مجرورةٌ، عَطفًا على لفْظِ وَرَقَةٍ.
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ: استثناءٌ جارٍ مجرَى التوكيدِ، وهو بدلٌ مِن الاستثناءِ الأوَّلِ إِلَّا يَعْلَمُهَا بدلَ الكلِّ- على أنَّ الكتابَ الْمُبِينَ عِبارةٌ عن عِلمِه تعالى- أو بدلَ الاشتمالِ على أنَّه عبارةٌ عن اللَّوحِ المحفوظِ. وقد قُرِئ الأخيرانِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ بالرَّفعِ، عطفًا عَلى محلِّ وَرَقَةٍ. وقيل: رفْعُهما بالابتداءِ، والخبرُ حينئذٍ قولُه: إِلَّا فِي كتاب مُّبِينٍ [990] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/255)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/502)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/661)، ((إعراب القرآن)) للدعاس (1/309). .

المعنى الإجمالي :

يُخبرُ تعالى أنَّ عنده خزائنَ الغيبِ لا يعلَمُها إلَّا هو سبحانه، ويعلمُ ما في البَرِّ والبحر، وما مِن ورقةِ شَجَرٍ تسقطُ إلَّا وهو يعلَمُها، ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرضِ، ولا شيءٍ رَطْبٍ ولا يابسٍ إلَّا وهو مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ.
وهو تعالى الذي يَقْبِضُ أرواحَ الخلْقِ باللَّيلِ عند النَّومِ، ويَعلمُ ما كَسَبوا من أعمالٍ بالنهارِ، ثم يُوقِظُهم مِن منامِهِم؛ ليقْضِيَ اللهُ الأجَلَ الذي حدَّدَه لحياتِهم، ثُمَّ إليه وَحْدَه عزَّ وجلَّ مرجِعُهم يومَ القيامةِ، ثم يُخبِرُهم بما كانوا يَعملونَه في حياتِهم.
وهو عزَّ وجلَّ القاهرُ فوقَ عبادِه، الذي خضَعَ له كلُّ شيءٍ، وهو الذي يُرسِلُ على العبادِ حفَظَةً من الملائكةِ؛ حتى إذا جاء أحدًا من العبادِ الموتُ، تَوَفَّتْه رسلُ اللهِ من الملائكةِ، وهم لا يُفَرِّطونَ.
ثمَّ بعدَ الموتِ يُرَدُّون إلى اللهِ مولاهُمُ الحَقِّ، هو وحْدَه مَن له الحُكْم، فيتولَّى الحُكْمَ بينهم بالعَدْلِ، وهو أسرَعُ الحاسبينَ.

تفسير الآيات :

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وقال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ بعد قَولِه: مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، انتَقل من خاصٍّ إلى عامٍّ، وهو عِلْمُ اللهِ بجَميعِ الأمورِ الغيبيَّةِ؛ فقال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ؛ فاندرَجَ في هذا العامِّ ما استعجلوا وقوعَه وغَيْرُه [991] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/534). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ الله تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُبَيِّنَ للمشركينَ أنَّه على بَيِّنةٍ من رَبِّه فيما بلَّغَهم إيَّاه من رسالَتِه، وأنَّ ما يَستعجلونَ به من عذابِ اللهِ ونَصْرِه عليهم- تعجيزًا أو تهكُّمًا أو عنادًا- ليس عنده، وإنَّما هو عند الله، الذي قَضَتْ سُنَّتُه أن يكون لكُلِّ شيءٍ أجَلٌ وموعِدٌ، لا يَتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ عنه، وأنَّه تعالى هو الذي يَقضي الحَقَّ، ويقُصُّه على رسولِه، وبِيَدِه تنفيذُ وَعْدِه ووعيدِه- قفَّى على ذلك ببيانِ كونِ مفاتحِ الغيبِ عنده، وكونِ التصرُّفِ في الخَلْق بِيَدِه، وكونِه هو القاهِرَ فوقَ عِبادِه، لا يُشارِكُه أحدٌ مِن رُسُلِه ولا غيرُهم في ذلك حتى يصِحَّ أن يُطالِبُوا به [992] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/381). ، فقال عزَّ وجلَّ:
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ.
أي: وعندَه خزائنُ الغيبِ، فيعلَمُ جميعَ ما غاب عن خَلْقِه، فلم يَطَّلِعوا عليه، وأعلَمُ المخلوقاتِ- وهم الرُّسُلُ والملائكةُ- لا يَعلمونَ من الغيبِ إلَّا ما عَلَّمَهم اللهُ تعالى، وهو تعالى يُعَلِّم رسُلَه مِن غَيْبِه ما شاء [993] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/282-283)، ((تفسير ابن كثير)) (3/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/481-482). .
كما قال سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران: 179] .
وقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26-27] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مفاتيحُ الغيبِ خَمسٌ، لا يَعلمُها إلَّا اللهُ: لا يَعلمُ ما في غَدٍ إلَّا اللهُ، ولا يَعلمُ ما تَغيضُ الأرحامُ إلَّا اللهُ، ولا يَعلمُ متى يأتي المطرُ أحدٌ إلَّا اللهُ، ولا تَدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، ولا يعلمُ متى تقومُ السَّاعةُ إلَّا اللهُ )) [994] رواه البخاري (4697). .
وعن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، أنَّها قالت: ((... ومَن زعمَ أنَّه- أي النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم- يُخبرُ بما يَكونُ في غدٍ، فقد أعظمَ علَى اللهِ الفِرْيَةَ، واللهُ يقولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] )) [995] رواه مسلم (177). .
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
أي: ويَعلمُ أيضًا مع ذلك جميعَ ما يعلَمُه النَّاسُ، فعِلمُه مُحيطٌ بجميعِ الموجوداتِ، بَرِّيِّها وبَحْرِيِّها؛ لا يَخفى عليه من ذلك شيءٌ، فيَعلمُ ما في البَراري والقِفَار؛ من الحيواناتِ والأشجارِ، والرِّمالِ والحَصَى والتُّراب، وغيرِ ذلك، وما في البحارِ؛ مِن حيواناتِها ومعادِنِها وصَيْدِها، وغير ذلك [996] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/283)، ((تفسير ابن كثير)) (3/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا.
أي: وما مِن ورقةِ شَجَرٍ تقَعُ في أيِّ مكانٍ من الأرض إلَّا واللهُ عزَّ وجلَّ يَعْلَمُها، فهو سبحانَه يعلمُ الحركاتِ حتى مِن الجماداتِ [997] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/283)، ((تفسير ابن كثير)) (3/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/272). .
وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.
أي: وَلا حَبَّةٍ من حبوبِ الثِّمارِ والزُّروعِ، وحبوبِ البُذورِ التي يَبْذُرها الخَلْقُ؛ وبُذورِ النَّوابِتِ البَرِّيَّة التي يُنشئُ منها أصنافَ النَّباتاتِ، مظروفةٍ في ظُلُماتِ الأَرْضِ؛ لا تحولُ بينها وبين رؤيةِ الله تعالى لها وعِلْمِه بها، وكذا كلُّ شيءٍ آخَرَ من رطْبٍ أو يابسٍ؛ قد أُثْبِتَ في اللَّوحِ المحفوظِ، مكتوبًا فيه عدَدُه ومَبْلَغُه، والوَقْتُ الذي يوجَدُ فيه، والذي يَفنى فيه، وغير ذلك، واللَّوحُ المحفوظُ يُبِينُ عن صِحَّة ما أُثبتَ فيه بوجودِ الشَّيءِ في الواقع، كما أُثبِتَ من قبلُ [998] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/283-284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/273)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/189-190). .
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ذكر تعالى استئثارَه بالعِلْم التامِّ للكليَّاتِ والجزئيَّاتِ؛ ذكَرَ استئثارَه بالقُدرةِ التامَّةِ؛ تنبيهًا على ما تختصُّ به الإلهيَّةُ، وذَكَرَ شيئًا محسوسًا قاهرًا للأنام، وهو التوفِّي باللَّيلِ، والبَعْثُ بالنَّهارِ وكِلاهما ليس للإنسان فيه قُدرةٌ، بل هو أمرٌ يُوقِعُه اللهُ تعالى بالإنسانِ [999] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/537) ، فقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ.
أي: واللهُ هو الذي يتوفَّى أرواحَكم باللَّيلِ وفاةَ النَّومِ، فيَقبِضُها من أجسادِكم [1000] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/284)، ((تفسير ابن كثير)) (3/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر: 42] .
وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ.
أي: ويعلمُ ما كَسَبْتُم من الأعمالِ بالنَّهارِ [1001] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/284)، ((تفسير ابن كثير)) (3/266). .
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى.
أي: ثم يُوقِظُكم مِنْ منامِكم في النَّهارِ؛ ليقضِيَ اللهُ الأجَلَ الذي حدَّده لحياتِكم، فيَبْلُغَ مدَّتَه ونهايَتَه [1002] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/286-287)، ((تفسير ابن كثير)) (3/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذَكَر تعالى أنَّه يُنيمُهم أولًا، ثمَّ يُوقظُهم ثانيًا؛ كان ذلك جاريًا مجْرَى الإحياءِ بعدَ الإماتةِ؛ لا جَرَمَ استدلَّ بذلِك على صِحَّةِ البعثِ والقِيامة، فقال [1003] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/193). :
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ.
أي: ثمَّ إلى الله وَحْدَه معادُكم ومصيرُكم يومَ القيامةِ [1004] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/287)، ((تفسير ابن كثير)) (3/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: ثم يُخبِرُكم بما كنتُم تَعملونَه في حياتِكم الدُّنيا، ويُجازيكم بذلك، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ [1005] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/287)، ((تفسير ابن كثير)) (3/266). .
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى في الآيةِ السابقةِ النَّومَ والموتَ، وهو سبحانَه خلَقَهما، فغَلَبَا شِدَّةَ الإنسانِ كيفَما بلغَتْ- بَيَّنَ عَقِبَ ذِكْرِهما أنَّ الله هو القادِرُ الغالِبُ دونَ الأصنامِ، فالنَّومُ قهْرٌ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يُريدُ ألَّا ينامَ فيغْلِبُه النَّومُ، والموْتُ قهْرٌ، وهو أظْهَرُ [1006] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/277). ، فقال تعالى:
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ.
أي: واللهُ تعالى هو الذي قَهَر كلَّ شيءٍ، وخضَعَ له كلُّ شيءٍ، الغالِبُ خَلْقَه بقُدرَتِه، العالي عليهم بتذليلِه لهم، وخلقِه إيَّاهم، النافذةُ فيهم مَشيئَتُه؛ فليسوا يَملِكونَ مِن الأَمرِ شيئًا، ولا يَتحرَّكون أو يَسكُنونَ إلَّا بإذْنِه سبحانَه [1007] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/288)، ((تفسير ابن كثير)) (3/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً.
أي: وَقد وكَّلَ بكم حَفَظةً من الملائكةِ؛ يحفظونَكم، ويَحفظونَ عليكم أعمالَكم ويُحْصُونها [1008] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/289)، ((تفسير ابن كثير)) (3/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] .
وقال سبحانه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10- 12].
حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ.
أي: إنَّ ربَّكم يحفَظُكم وأعمالَكم في حياتِكم، بالملائِكَةِ الموَكَّلين بكم، إلى أنْ يَحْضُرَكم الموتُ، فإذا جاء ذلك أحدَكم تَوفَّتْه ملائكَتُنا الموَّكلونَ بقَبْضِ الأرواح، لا يَزيدونَ ساعةً ممَّا قَدَّرَه اللهُ وقَضَاه، ولا يَنْقُصونَ، ولا يُنَفِّذونَ ذلك إلَّا بحَسَب التقاديرِ الرَّبانيَّةِ، ولا يُفرِّطون أيضًا في حِفْظ رُوحِ المتوفَّى، بل يحفظونَها ويُنْزِلونَها حيثُ شاءَ الله تعالى، فإنْ كان مِن الأبرارِ فهو في عِلِّيِّينَ، وإنْ كان مِن الفُجَّار فهو في سِجِّينٍ [1009] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/289-290)، ((تفسير ابن كثير)) (3/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62).
ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ.
أي: ثمَّ بعدَ الموتِ والحياةِ البَرزَخِيَّة يُرَدُّ العبادُ المُتَوفَّونَ بالموتِ، فيَرْجِعون يومَ القيامةِ إلى الله سَيِّدِهم، الذي تولَّى أمورَهم بحُكْمِه القَدَريِّ، فنَفَّذَ فيهم ما شاءَ مِن تَدبيرِه، وتولَّاهم بحُكْمِه الشَّرعيِّ، فأَرْسَل إليهم الرُّسُلَ، وأنزَلَ عليهم الكُتُبَ، وتولَّى رَزْقَهم وبَعْثَهم وغيرَ ذلك، وهو سبحانه الحقُّ الذي ليس بباطلٍ [1010] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/281)، ((تفسير ابن عطية)) (2/301)، ((تفسير القرطبي)) (7/7)، ((تفسير ابن كثير)) (3/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/279). .
أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ.
أي: رُدُّوا إليه؛ ليتولَّى الحُكمَ فيهم بالعَدْلِ، فيُثِيبَهم على ما قدَّموا من الخيراتِ، ويُعاقِبَهم على ما اكتْسَبُوا من السيِّئاتِ؛ فله سبحانه وَحْدَه الحُكمُ والقَضاءُ دون مَن سواه مِن جميعِ خَلْقِه [1011] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/293-294)، ((تفسير ابن كثير)) (3/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ.
أي: وهو أسرَعُ مَن حَسَب عَددَكم وأعمالَكم وآجالَكم، وغيرَ ذلك من أمورِكم- أيُّها النَّاسُ- وأحصاها وعَرَفَ مَقاديرَها ومَبَالِغَها، لا يَخفَى عليه منها خافيةٌ؛ لكمالِ عِلْمِه وحِفْظِه لأعمالِكم [1012] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). قال السعديُّ: (فإذا كان تعالى هو المنفردَ بالخَلْق والتَّدبير، وهو القاهِر فوقَ عِباده، وقد اعْتَنى بهم كلَّ الاعتناء في جميع أحوالهم، وهو الذي له الحُكم القَدَريُّ والحُكم الشَّرعيُّ والحُكم الجزائي؛ فأين للمُشركين العدولُ عن مَن هذا وصفُه ونعتُه إلى عِبادةِ مَن ليس له مِن الأمْر شيءٌ، ولا عِندَه مِثقالُ ذرَّة مِن النَّفع، ولا له قُدرة وإرادة؟) ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .

الفوائد التربوية :

1- قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ذِكْرُه تعالى للورقةِ والحَبَّةِ فيه تنبيهٌ للمُكَلَّفينَ على أمْرِ الحِسابِ، وإعلامٌ بأنَّه لا يَفوتُه مِن كُلِّ ما يَصنعونَ في الدُّنيا شيءٌ؛ لأنَّه إذا كان لا يُهْمِلُ من الأحوالِ التي ليس فيها ثوابٌ وعقابٌ وتكليفٌ، فبأَلَّا يُهْمِلَ الأحوالَ المشتمِلَةَ على الثَّوابِ والعقابِ أَوْلى [1013] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/12). .
2- قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ في الإخبارِ أنَّه عزَّ وجلَّ يَعلمُ ما يقَعُ في النَّهارِ تَحذيرٌ مِن اكتِسابِ ما لا يَرْضَى اللهُ باكتِسابِه بالنِّسبةِ للمُؤمنينَ، وتهديدٌ للمُشركينَ [1014] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/276). .
3- في قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً التَّحذيرُ مِن ارتِكابِ المعاصي [1015] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/278). .
4- قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، فقوله: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ يَتضمَّنُ وعدًا ووعيدًا؛ لأنَّه لَمَّا أُتِيَ بِحَرْف المُهْلَةِ في الجمَل المتقدِّمةِ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ..، وكان المُخاطَبونَ فريقَينِ: فريقٌ صالِحٌ، وفريقٌ كافِرٌ، وذَكَرَ أنَّهم إليه يُرجَعونَ؛ فالصَّالحونَ لا يُحِبُّون المُهلَةَ، والكافِرونَ بعَكْسِ حالِهِم، فعُجِّلَتِ المَسَرَّةُ للصَّالحين، والمَسَاءَةُ للمُشركينَ بقوله: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [1018] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/280). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ هذه الآيةُ دلَّتْ على عِلْمِه المحيطِ بجميعِ الأشياءِ؛ الذي لا يَنِدُّ عنه شيءٌ في الزَّمانِ ولا في المكانِ، في الأَرْضِ ولا في السَّماءِ، في البَرِّ ولا في البَحرِ، في جوفِ الأرضِ ولا في طِباقِ الجَوِّ، من حيٍّ ومَيِّتٍ ويابسٍ ورَطْبٍ، كما أفادتْ أيضًا عُمومَ عِلمِه تعالى بالكليَّاتِ والجُزئيَّاتِ، وفي هذا إبطالٌ لقولِ جمهورِ الفلاسفةِ أنَّ اللهَ يعلمُ الكليَّاتِ خاصَّةً، ولا يَعلَمُ الجزئيَّاتِ [1019] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259).
2- في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ... دقيقةٌ جليلةٌ، وهي: أنَّ قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ لما كان قضيَّةً عقليَّةً محضة مجردة، ذَكَر بعده مِثالًا من الأمورِ المحسوسةِ الداخلةِ تحتَ القضيَّةِ العقليَّةِ الكليَّةِ المحضةِ المجرَّدة؛ ليصيرَ ذلك المعقولُ- بمعاونةِ هذا المثالِ المحسوسِ- مفهومًا لكلِّ أحد؛ فقال أولًا: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، ثمَّ أكَّد هذا المعقولَ الكليَّ المجرَّدَ بجزئيٍّ محسوسٍ فقال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛ وذلك لأنَّ أحدَ أقسامِ مَعلوماتِ اللهِ هو جميعُ دوابِّ البَرِّ والبَحرِ، والحسُّ والخيالُ قد وقَفَ على عظمةِ أحوالِ البَرِّ والبحرِ، فذِكْرُ هذا المحسوسِ يَكشِفُ عن حقيقةِ عظمةِ ذلك المعقولِ [1020] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/10، 11). .
3- في قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ الحكمةُ مِن تَخصيصِ هذه الأشياءِ بالذِّكْرِ: أنَّ المعلومَ أو ما يتعلَّقُ به العِلْمُ: إمَّا موجودٌ، وإمَّا معدومٌ، والموجودُ إمَّا حاضِرٌ مشهودٌ، وإمَّا غائِبٌ في حُكم المفقودِ، وليس في الوجودِ شيءٌ غائِبٌ عن اللهِ تعالى، فعِلْمُه تعالى بالأشياءِ إمَّا عِلْمُ غيبٍ، وهو عِلْمُه بالمعدومِ، وإمَّا عِلْمُ شهادةٍ، وهو عِلْمُه بالموجودِ، وأمَّا أهلُ العِلم مِن الخَلْقِ فمِنَ الموجوداتِ ما هو حاضِرٌ مشهودٌ لدَيهم، ومنها ما هو حاضِرٌ غيرُ مشهودٍ؛ لأنَّه لم يَخْلُق لهم آلَةً للعِلم به؛ كعالَم الجِنِّ والملائكةِ مع الإنس، ومنها ما هو غائِبٌ عن شُهودِهم، وهم مستعِدُّونَ لإدراكِه، لو كان حاضرًا، وما هو غائبٌ وهم غيرُ مستعِدِّينَ لإدراكِه لو حضَر، فكلُّ ما خُلِقوا غيرَ مستعدِّينَ لإدراكِه من موجودٍ ومعدومٍ؛ فهو غيبٌ حقيقيٌّ بالنِّسبةِ إليهم، وكلُّ ما خُلِقوا مُستعَدِّينَ لإدراكِه دائمًا أو في بعضِ الأحوال فهو- إنْ غاب عنهم- غيبٌ إضافيٌّ، وقد بيَّنَ اللهُ تعالى لنا في هذه الآيةِ أنَّ خزائِنَ عالَمِ الغَيبِ كلَّها عنده، وعنده مفاتيحُها وأسبابُها المُوصِلَة إليها، وأنَّ عنده مِن عِلْمِ الشَّهادة ما ليس عند غيرِه، وذَكَرَ على سَبيلِ المَثَل عِلْمَه بكلِّ ما في البرِّ والبحرِ مِن ظاهِرٍ وخفيٍّ، ثم خَصَّ بالذِّكْرِ ثلاثةَ أشياءَ مِمَّا في البرِّ: إحاطة عِلْمِه بكلِّ ورقةٍ تَسقُط مِن نَبْتَةٍ، وكلِّ حبَّة تسقُطُ في ظلماتِ الأرضِ، وكُلِّ رَطْبٍ ويابسٍ؛ فهذه الأشياءُ مِن عالَم الشَّهادةِ تدخُلُ في عالَم الغيبِ، ثم تَبْرُز في عالَم الشَّهادةِ، وعِلْمُ اللهِ تعالى محيطٌ بكلِّ شيءٍ منها على كَثرَتِها، ودِقَّةِ بعضِها وصِغَرِه، وتنقُّلُه في أطوارِ الخَلْقِ والتَّكوينِ، وما يَتْبَعُهما من الصُّوَر والمَظاهِرِ، وحَسْبُكَ هذا الإيماءُ مِن حِكمةِ تخصيصِها بالذِّكْرِ [1021] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/382) .
4- قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ لَمَّا جاءَ القُرآنُ العظيمُ بأنَّ الغيبَ لا يَعلمُه إلَّا اللهُ، كان جميعُ الطُّرُق التي يُرادُ بها التوصُّل إلى شيءٍ من عِلْمِ الغيب- غيرَ الوَحْيِ- مِنَ الضَّلالِ المُبِينِ، وبعضٌ منها يكون كُفْرًا؛ ولذا ثبَتَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: ((مَنْ أتى عَرَّافًا فسأَلَه عن شيءٍ، لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أربعينَ ليلة )) [1022] أخرجه مسلم (2230) من حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ، ولا خِلافَ بين العُلماء في مَنْعِ العِيافَةِ [1023] العِيافة: زَجرُ الطَّيرِ، والتَّفَاؤُل بأسْمائِها وأصْوَاتها ومَمرِّها. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/330)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/440). ، والكَهَانةِ [1024] الكَهانة: ادِّعاءُ عِلمِ الغَيبِ. ينظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (36/81). ، والعِرَافةِ [1025] العِرافة: حِرفةُ العرَّافِ: وهو الذي يستدِلُّ على الأمورِ بأسبابٍ ومُقَدِّماتٍ يَدَّعي مَعرِفَتَها بها. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/223). ، والطَّرْقِ [1026] الطَّرْقُ: الضَّربُ بالحَصَى، وهو ضَربٌ مِنَ التكهُّنِ، وقِيل: هو الخطُّ في الرَّمْل. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/121)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 190). ، والزَّجْرِ [1027] الزَّجْرُ: هُو العِيافَةُ أيضًا، وهو ضَربٌ مِنَ التكهُّنِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 135). ، والنُّجومِ [1028] هو ما يدَّعيه أهلُ التَّنجيمِ مِن علمِ الكَوائِنِ والحوادثِ التي لم تقع وستقَعُ في مستقبَلِ الزَّمان، كأخبارهم بأوقات هُبوبِ الرِّياح، ومجيءِ المَطَر، وظهورِ الحرِّ والبَردِ، وتغيُّرِ الأسعارِ، وما كان في معانيها من الأمور، يزعمونَ أنَّهم يُدركون معرفَتَها بسيرِ الكواكب في مجاريها، وباجتماعِها واقترانِها، ويدعون أنَّها تتصَرَّفُ على أحكامِها، وتجري على قضايا مُوجِباتِها. ينظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/229-230). ، وكلُّ ذلك يدخُلُ في الكَهانة؛ لأنَّها تَشمَلُ جميعَ أنواعِ ادِّعاءِ الاطِّلاعِ على عِلْمِ الغَيبِ، وقد سُئِلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الكُهَّانِ، فقال: ((لَيْسُوا بِشَيْءٍ)) [1029] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/482). وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَيْسوا بشَيءٍ)) أخرجه البخاريُّ (6213)، ومسلم (2228) من حديث عائشة رضي الله عنها. .
5- قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ دلَّ على إثباتِ عِلْمِ اللهِ تعالى، دون نَفْيِ عِلْمِ غيرِه، وذلك عِلْمُ الأمورِ الظَّاهرة، وقد عُطِفَ على جُملةِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، أو على جملةِ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ المشتملَتَينِ على إثباتِ عِلْمٍ لله ونَفْي عِلْمٍ عن غيره؛ لإفادةِ تعميمِ عِلْمِه تعالى بالأشياءِ الظَّاهِرَة المتفاوِتَةِ في الظُّهورِ، بعدَ إفادَةِ عِلْمِه بما لا يَظهَرُ للنَّاسِ [1030] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/272). .
6- لَمَّا كَشَف الله عن عظمةِ قَوْلِه: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ بِذْكر البَرِّ والبحر في قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ- كشَفَ عن عظمةِ البَرِّ والبحر بقوْلِه: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا؛ وذلك لأنَّ العقلَ يستحضِرُ جميعَ ما في وَجْهِ الأرض من المُدُن والقرى، والمفاوِزِ والجبالِ والتِّلالِ، ثم يَستحضِرُ كَمْ فيها من النَّجْم والشَّجَر، ثم يَستحضرُ أنَّه لا يتغيَّرُ حالُ ورقةٍ إلَّا والحقُّ سبحانه يعلَمُها، ثمَّ يتجاوَزُ من هذا المثال إلى مثالٍ آخَرَ أشَدَّ هيئةً منه، وهو قوله: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ؛ وذلك لأنَّ الحبَّةَ في غاية الصِّغَر، وظُلُمات الأرضِ موضِعٌ يَبْقى أكبرُ الأجسامِ وأعظَمُها مَخفيًّا فيها، فإذا سمع أنَّ تلك الحبَّةَ الصغيرة المُلْقاةَ في ظلماتِ الأرض، على اتِّساعها وعَظَمتِها، لا تخرجُ عن عِلْم الله تعالى البتَّةَ، صارتْ هذه الأمثلة منبهةً على عظمةٍ عظيمةٍ، وجلالةٍ عاليةٍ من المعنى المشار ِإليه بقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ بحيث تتحيَّرُ العقولُ فيها، وتتقاصرُ الأفكارُ والألبابُ عن الوصولِ إلى مباديها، ثم إنَّه تعالى لَمَّا قَوَّى أمْرَ ذلك المعقولِ المَحْضِ المجرَّد بذِكر هذه الجزئيَّاتِ المحسوسَةِ- فبَعْدَ ذِكْرِها عاد إلى ذِكر تلك القضيَّةِ العقليَّة المحضةِ المجرَّدةِ بعبارةٍ أخرى فقال: وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وهو عينُ المذكورِ في قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [1031] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/11). .
7- في قولِه تعالى: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، قد يقولُ قائلٌ: ما وَجْهُ إثباتِه تعالى في اللَّوحِ المحفوظِ والكتابِ الْمُبينِ ما لا يَخْفَى عليه، وهو بجَميعِه عالِمٌ لا يُخافُ نِسيانُه؟ قيل: للهِ تعالى فِعْلُ ما شاء. وجائِزٌ أنْ يكونَ كان ذلك منه امتحانًا منه لِحَفَظَته، واختبارًا للمُتَوِكِّلينَ بكتابةِ أعمالهم؛ فإنَّهم فيما ذُكِرَ مأمورونَ بكتابةِ أعمالِ العبادِ، ثم بِعَرْضِها على ما أثْبَتَه اللهُ من ذلك في اللَّوح المحفوظِ، حتى أثبَتَ فيه ما أثبتَ كلَّ يومٍ. وقيل: إنَّ ذلِك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] ، وجائزٌ أنْ يكونَ ذلك لغيرِ ذلك ممَّا هو أعلمُ به، إمَّا بحُجَّةٍ يحتجُّ بها على بعضِ ملائِكَتِه، وإمَّا على بَني آدَمَ، وغير ذلك [1032] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/283- 284). .
8- في قولِه: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أَسْنَدَ اللهُ عزَّ وجلَّ التوفِّي إلى ذَاتِه المقدَّسةِ؛ لأنَّه لا يُنفَرُ منه هنا؛ إذِ المرادُ به النومُ، وهو وسيلةٌ للدَّعةِ والرَّاحةِ، وأَسْنَدَه إلى غَيرِه في قوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، وقوله: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] ؛ لأنَّه يُنفَر منه، إذ المرادُ به الموتُ [1033] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4 /537)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/663)، ((تفسير ابن عادل)) (8/191). .
9- إنَّما قال: فَوْقَ عِبَادِهِ؛ لأنَّه وصَفَ نَفسَه تعالى بقَهرِه إيَّاهم، ومِن صِفَةِ كُلِّ قاهِرٍ شيئًا، أن يكونَ مُستعلِيًا عليه [1034] ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/180). .
10- قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ذَكَر العلماءُ في الفائدةِ مِن جَعْل الملائكةِ مُوكَّلينَ على بَني آدَمَ يَكتُبون أعمالَهم وُجوهًا؛ منها: أنَّ المكلَّفَ إذا عَلِمَ أنَّ الملائكةَ- وهم الكرامُ الكاتبون- مُوكَّلونَ به؛ يُحصُونَ عليه أعمالَه، ويكتبونها في صحائف تُعرَضُ على رُؤوسِ الأشهادِ في مواقفِ القِيامة؛ فإذا عَلِم أنَّ أعمالَه تُكتَب عليه وتُعرَضُ على رؤوس الأشهاد، كان هذا أَزْجرَ له عن القبائحِ والمعاصِي، وأنَّ العبدَ إذا وَثِق بلُطفِ سَيِّدِه، واعتمَدَ على عَفْوِه وسَتْرِه، لم يَحتشِمْ منه احتشامَه مِن خَدَمِه المطَّلعين عليه. ومنها: أنَّه يحتملُ في الكتابةِ أنْ يكونَ الفائدةُ فيها أنْ تُوزَنَ تلك الصَّحائفُ يومَ القيامةِ. ومنها: أنَّ الله تعالى يَفعلُ ما يشاءُ ويَحكُمُ ما يُريد، ويجِبُ علينا الإيمانُ بكلِّ ما ورَدَ به الشرعُ، سواء عقَلَنْا الوجهَ فيه أو لم نعقِلْ [1035] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/15)، ((تفسير البيضاوي)) (2/166)، ((تفسير أبي حيان)) (4/539). .
11- في قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ دليلٌ على ثُبُوتِ عِصْمَةِ الملائكةِ على الإطلاقِ، كما قال تعالى: لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ [1036] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/16). .
12- الجَمْعُ بين قولِه هنا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، وقولِه: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] ، وقولِه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] أنَّ المُتَوَفِّي في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى، فإذا حضَرَ أجَلُ العبدِ أَمَرَ اللهُ تعالى ملَكَ الموتِ أن يقبِضَ رُوحَه، ولِمَلَكِ الموتِ أعوانٌ من الملائكةِ، يأمُرُهم بِنَزْع رُوحِ ذلك العبدِ مِن جَسَدِه، فإذا وَصَلَتْ إلى الحُلقومِ تَوَلَّى قَبْضَها مَلَكُ الموتِ بِنَفْسِه، فحصل الجمعُ بين الآياتِ [1037] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/426). قال ابنُ جرير: (فإنْ قال قائل: أوَلَيسَ الذي يَقبضُ الأرواحَ ملَكُ الموت؛ فكيف قيل: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، والرُّسلُ جملةٌ وهو واحد؟ أوَليس قد قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] ؟ قيل: جائزٌ أنْ يكون اللهُ تعالى أعان ملَكَ الموتِ بأعوانٍ من عنده، فيتولَّوْن ذلك بأمْر ملَك الموت، فيكون (التوفِّي) مضافًا- وإنْ كان ذلك من فِعل أعوان ملَك الموتِ- إلى ملَك الموت؛ إذ كان فِعلُهم ما فعلوا من ذلك بأمْره، كما يُضاف قتْلُ مَن قتَلَ أعوانُ السلطان ،وجَلْد مَن جلدوه بأمْر السلطان، إلى السُّلطان، وإنْ لم يكُن السلطان باشرَ ذلك بنفسه ولا وَلِيَه بيده. وقد تأوَّل ذلك كذلك جماعةٌ من أهل التأويل). ((تفسير ابن جرير)) (9/290). .
13- وَصْفُ الاسمِ الكريم بـ(مولاهم الحَقِّ) في قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ يدلُّ على أنَّ رَدَّهُم إليه حَتْمٌ؛ لأنَّه هو سيِّدُهم الحقُّ الذي يتولَّى أمورَهم، ويَحْكُم بينهم بالحَقِّ [1038] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/405). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
- قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ... عطْفٌ على جملةِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ على طَريقةِ التخلُّصِ، والمناسبةُ في هذا التخلُّص هي الإخبارُ بأنَّ اللهَ أعلَمُ بحالةِ الظَّالمينَ؛ فإنَّها غائبةٌ عن أعيُنِ النَّاسِ، فاللهُ أعلمُ بما يناسِبُ حالَهم من تَعجيلِ الوعيدِ أو تأخيرِه، وهذا انتقالٌ لبيانِ اخْتِصاصِه تعالى بعلمِ الغيبِ، وسَعَةِ عِلمِه، ثُمَّ سَعَةِ قدرتِه، وأنَّ الخلقَ في قبضَةِ قدرتِه [1039] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/270). .
- وتقديمُ الظَّرفِ وَعِنْدَهُ؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: عِندَه لا عِنْدَ غيرِه [1040] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/270). .
- قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قُدِّمَ ذِكْرُ البَرِّ؛ لأنَّ الإنسانَ قد شاهَدَ أحوالَ البَرِّ، وكثرةَ ما فيه من المُدُنِ والقُرى والمَفاوِز والجبالِ والتِّلالِ، وكثرةَ ما فيها من الحيوانِ والنَّباتِ والمعادِن. وأمَّا البحرُ فإحاطةُ العَقلِ بأحوالِه أقَلُّ إلَّا أنَّ الحِسَّ يدلُّ على أنَّ عجائِبَ البِحارِ في الجملةِ أكثرُ، وطُولُها وعَرْضُها أعظمُ، وما فيها من الحيواناتِ وأجناسِ المخلوقاتِ أعجَبُ. فإذا استحضَرَ الخَيالُ صورةَ البحرِ والبَرِّ على هذه الوجوهِ، ثمَّ عَرَفَ أنَّ مجموعَها قِسْمٌ حقيرٌ من الأقسامِ الدَّاخِلةِ تحت قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ فيصيرُ هذا المثالُ المحسوسُ مُقَوِّيًا ومُكَمِّلًا للعظمةِ الحاصِلَةِ تحت قولِه: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [1041] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/11). . أو قُدِّم ذِكرُ البَرِّ على البَحرِ على طريقةِ الترقِّي مِن الأدْنَى إلى ما هو أعظمُ منه؛ فإنَّ قِسمَ البَحرِ من الأرضِ أعظمُ مِن قِسم البَرِّ، وخفاياه أكثرُ وأعظمُ [1042] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/381). .
- قوله: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عطْفٌ على جملةِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛ لقَصْدِ زيادةِ التَّعميمِ في الجزئيَّاتِ الدَّقيقةِ؛ فإحاطَةُ العِلْمِ بالخفايا مع كونِها مِن أضْعَفِ الجزئيَّاتِ مؤذِنٌ بإحاطَةِ العِلْمِ بما هو أعظَمُ وأَوْلى به [1043] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/272). .
- وزيادةُ حرفِ مِنْ؛ لتأكيدِ النَّفْيِ؛ ليفيدَ العمومَ نصًّا [1044] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/272). .
- قوله: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ فيه تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله، وإيذانٌ بأنَّ المرادَ هو الاختصاصُ من حيثُ العلمُ، لا مِن حيثُ القدرةُ، أي: إنَّ ما تستعجلونَه من العذابِ ليس مقدورًا لي حتى أُلْزِمَكم بتعجيلِه، ولا معلومًا لدَيَّ لِأُخبِرَكم وقتَ نزولِه، بل هو مِمَّا يختصُّ به تعالى قدرةً وعلمًا، فيُنْزِلُه حَسَبما تقتضيه مشيئَتُه المَبنِيَّة على الحِكَم والمصالِحِ [1045] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/143). .
- وفي الآية حُسْنُ ترتيبٍ لهذه المعلوماتِ؛ فبدَأَ أولًا بأمْرٍ معقولٍ لا نُدرِكُه نحن بالحِسِّ، وهو قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ، ثم ثانيًا بِأَمرٍ نُدرِكُ كثيرًا منه بالحِسِّ، وهو وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وفيه عمومٌ، ثمَّ ثالثًا بجُزْأَينِ لطيفينِ؛ أحدُهما عُلويٌّ: وهو سقوطُ وَرقةٍ مِن عُلْوٍ إلى أسفَلَ، والثاني سُفْلِيٌّ: وهو اختفاءُ حبَّةٍ في بطن الأَرضِ [1046] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/536). .
2- قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ صيغةُ قَصْرٍ؛ لتعريفِ جُزْأَيِ الجُملةِ، أي: هو الذي يتوفَّى الأنفُسَ دون الأصنامِ؛ فإنَّها لا تَملِكُ موتًا ولا حياةً [1047] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/275). .
- وفيه إطلاقُ التَّوفِّي على النَّوْمِ؛ لشَبَهِ النَّومِ بالمَوتِ في انقضاءِ الإدراكِ والعَمَلِ؛ لِمَا بينهما من المشاركَةِ في زَوالِ الإحساسِ والتَّمييزِ؛ فإنَّ أصْلَ التوفِّي قبضُ الشَّيء بتمامِه. وفائدته: التقريبُ لكيفيَّةِ البَعْثِ يومَ القيامة؛ فالمراد بقوله: يَتَوَفَّاكُمْ يُنِيمُكم بقرينةِ قوله: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ، أي في النَّهار [1048] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/165)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/275). .
- وتخصيصُ التوفِّي باللَّيلِ والجَرْح بالنَّهارِ، مع تحقُّقِ كُلٍّ منهما فيما خُصَّ بالآخَرِ؛ للجَرْيِ على سَنَنِ العادةِ [1049] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/144). ، فوَقَع الاقتصارُ على الإخبارِ بِعِلْمِه تعالى ما يَكسِبُ النَّاسُ في النَّهار دون الليل؛ رَعْيًا للغالِبِ؛ لأنَّ النهارَ هو وقتُ أكثرِ العملِ والاكتسابِ [1050] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/276). .
- وتوسيطُ قولِه: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ بينَ قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وقوله: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ؛ لقَصْدِ الامتنانِ بنِعمةِ الإمهالِ، أي: ولولا فَضْلُه لَمَا بَعَثَكم في النَّهارِ؛ مع عِلْمِه بأنَّكم تكتسبونَ في النَّهارِ عبادةَ غَيرِه، ويكتسِبُ بعضُكم بعضَ ما نهاهُم عنه؛ كالمؤمنين [1051] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/144)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/276). .
- وصِيغةُ الماضي في قوله: جَرَحْتُمْ؛ للدَّلالةِ على التحقُّق [1052] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/144). .
3- قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ
- قوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً: وَيُرْسِلُ عَطْفٌ عَلَى الْقاهِرُ فيدلُّ على التَّخصيصِ بقَرينةِ المقامِ، أي: هو الذي يُرسِلُ عليكم حَفَظةً دونَ غَيرِه، والقَصْرُ هنا حقيقيٌّ، فلا يستدعي رَدَّ اعتقادِ مخالِفٍ، والمقصودُ الإعلامُ بهذا الخَبَر الحقِّ؛ ليَحْذَرَ السَّامعونَ من ارتكاب المعاصي [1053] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/278). .
- وفيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْكُمْ على المفعولِ الصَّريحِ حَفَظَةً؛ للاعتناءِ بالمقَدَّمِ، والتشويقِ إلى المؤَخَّرِ [1054] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/144). .
- ولفظَةُ (على) في قوله: عَلَيْكُمْ مُشعِرَةٌ بالعُلُوِّ والاستعلاء؛ لتَمَكُّنِ الحَفَظةِ منَّا جُعِلوا كأنَّ ذلك علينا، ويَحتملُ أن يكون متعلِّقًا بِـحفَظَةً أي: ويُرسِلُ حفَظَةً عليكم، أي: يَحفظون عليكم أعمالَكم، كما قال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [الانفطار: 10]، كما تقول: حَفِظْتُ عليك ما تَعْمَل [1055] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/538)، وينظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (7/278). .
4- قوله: أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ فيه تقديمُ المجرورِ في قوله: لَهُ الْحُكْمُ للاختصاصِ، أي: له لا لغَيرِه، فإنْ كان المرادُ مِن الحُكْمِ جِنْسَ الحُكْم فقَصْرُه على الله؛ إمَّا حقيقيٌّ للمبالَغَةِ؛ لعدمِ الاعتدادِ بحُكْم غيرِه، وإمَّا إضافيٌّ للرَّدِّ على المشركين، أي: ليس لأصنامِكم حُكْمٌ معه. وإنْ كان المرادُ مِن الحُكْم الحِسابَ، أي: الحُكم المعهود يومَ القيامةِ، فالقصْرُ حقيقيٌّ، وربَّما تَرجَّحَ هذا الاحتمالُ بقوله عَقِبَه: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، أي: ألَا له الحِسَاب، وهو أسرعُ من يحاسِبُ، فلا يتأخَّر جزاؤُه [1056] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/280). .
- قوله: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ تذييلٌ؛ ولذلك ابتُدِئَ بأداةِ الاستفتاحِ المؤْذِنَةِ بالتَّنبيه إلى أهميَّةِ الخَبَر [1057] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/279). .