موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (56 - 58)

ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات :

أَهْوَاءَكُمْ: جمْعُ هوًى، وهو مَيْلُ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، وأصلُه: الخلوُّ والسُّقوطُ؛ ولذلك يقال للآراءِ الزائفةِ: أهواءٌ [938] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/491)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 211). .
بَيِّنَةٍ: أي: بصيرةٍ ودَلالةٍ ويقينٍ وحُجَّةٍ وبُرهانٍ، وأصْلُ (بَيَنَ): الانكشافُ [939] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/327)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 160)، ((تفسير القرطبي)) (6/438)، ((تفسير ابن كثير)) (3/264). .
الْفَاصِلِينَ: جمْع فاصِلٍ، وهو مَن يُبيِّنُ ويميِّزُ بين المُحقِّ والمبطِل، والفصلُ: إبانةُ أحد الشَّيئين من الآخَرِ، حتى يكون بينهما فُرجةٌ، وأصل (فصل): يدلُّ على تمييزِ الشَّيءِ من الشَّيءِ وإبانتِه عنه [940] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/279)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/505)، ((المفردات)) للراغب (ص: 638). .

المعنى الإجمالي :

يأمرُ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُخبِرَ المشركينَ أنَّه نُهي عن عِبادةِ جميعِ ما يعبدونَ مِن دونِ الله تعالى، وأن يقولَ لهم: إنَّه لا يتَّبِعُ أهواءَهم الباطلةَ؛ فإنَّه إنِ اتَّبَعَها فقد ضلَّ عن طريقِ الحَقِّ، وما هو من المُهتدينَ إن فعَل ذلك.
وأمَرَه أنْ يُخبِرَهم أنَّه على بيِّنةٍ وبصيرةٍ من ربِّه، بينما هم قد كذَّبوا بالحقِّ الذي جاء مِن عندِ الله، وأنْ يخبِرَهم أيضًا أنَّه ليس بِيَدِه ما يَستعجلونَ به مِن العذابِ.
فالحكمُ لله تعالى وحدَه، إنْ شاء عجَّلَ لكم ما سأَلْتُموه من العذابِ، وإنْ شاء أَنْظَرَكم وأجَّلَكم، بِحَسَب ما تقتضيه حِكْمَتُه، وكلُّ ما يتلوه عزَّ وجلَّ في كتابِه هو الحقُّ الواضِحُ، وهو سبحانه خيرُ من يَفْصِلُ في القضايا، فيُبَيِّن المُحِقَّ من المُبْطِل.
وأَمَرَه أنْ يقولَ لهم: إنَّه لو كان بِيَدِه ما يَستعجلونَه من العذابِ، لعاجَلَهم بإيقاعِ ما يستحقُّونَه منه، لكنْ أمْرُ ذلك إلى اللهِ، وهو أعلمُ بالظَّالمين ومتى يُمْهِلُهم، وأعلمُ بالوقت الذي يُوقِع عليهم فيه العذابَ.

تفسير الآيات :

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا كان محطُّ حالِهم في السُّؤالِ طرْدَ الضُّعفاءِ؛ قَصْدَ اتِّباعِ أهوائِهم- أمَرَه تعالى بأنْ يُخْبِرَهم أنَّه مبايِنٌ لهم- لِمَا بيَّنَ له بالبيانِ الواضِحِ من سوءِ عاقبَةِ سَبيلِهم- مُبايَنةً لا يُمكِنُ معها اتِّباعُ أهوائهم، وهي المُبايَنَة في الدِّين [941] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/132). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى في الآيةِ المتقدِّمةِ ما يدلُّ على أنَّه يُفَصِّلُ الآياتِ؛ ليَظْهَر الحقُّ، وليَسْتَبينَ سبيلُ المُجْرمينَ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ أنَّه تعالى نهى عن سُلُوكِ سَبيلِهم [942] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/8) يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/530). ، فقال تعالى:
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ.
قل- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المشركينَ الذين يَدْعونَ مع اللهِ آلهةً أخرى: إنَّ رَبِّي نهاني عن عِبادةِ جميعِ المعبوداتِ التي تعبدونَها وتلجؤونَ إليها مِن دُونِه سبحانه [943] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 258)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/261-262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/361-363). قال ابن عاشور: (ومعنى تَدْعُونَ تعبدون وتلجؤون إليهم في المهمَّات، أي: تدْعونهم، ومِنْ دُونِ اللهِ حالٌ من المفعول المحذوف، فعامِلُه تَدْعُونَ، وهو حكايةٌ لِمَا غلَب على المشركين من الاشتغال بعِبادة الأصنام ودُعائهم، عن عِبادة الله ودُعائه، حتى كأنَّهم عبدوهم دون الله، وإنْ كانوا إنَّما أشركوهم بالعبادة مع اللهِ، ولو في بعض الأوقات). ((تفسير ابن عاشور)) (7/262). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر: 65-66] .
قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ.
أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ-: لا أتَّبِع أهواءَكم الباطلةَ في عبادةِ غيرِ الله تعالى، والإشراكِ به، ولا أوافِقُكم على ذلك [944] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/278)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/363-364). .
قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
أي: فإنِ اتَّبعتُ أهواءَكم فقد خرجتُ عن طريقِ الهدى، وصِرْتُ مِثْلَكم على غيرِ استقامةٍ [945] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 258)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/364). .
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا نفَى أنْ يكون الهوى مُتَّبعًا؛ نبَّه على ما يَجِبُ اتِّباعُه [946] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/8، 9). .
وأيضًا لَمَّا انتهى تعالى من إبطالِ الشِّرْك بدليلِ الوحيِ الإلهيِّ، المؤيِّدِ للأدلَّة السَّابقةِ في قوله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ..- انتقلَ إلى إثباتِ صِدْقِ الرِّسالةِ بدليلٍ من الله، مُؤَيِّدٍ للأدلَّةِ السَّابقةِ أيضًا؛ لِيَيْئَسوا من محاولةِ إرجاعِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلام- عن دَعوتِه إلى الإسلامِ، وتَشكيكِه في وَحْيِه بقولِهم: ساحِرٌ، مجنونٌ، شاعرٌ، أساطيرُ الأوَّلينَ، وَلِيَيْئَسوا أيضًا من إدخالِ الشَّكِّ عليه في صِدْقِ إيمانِ أصحابِه، وإلقاءِ الوَحشَةِ بينه وبينهم، بما حاولوا مِن طَرْدِه أصحابَه عن مجلِسِه حين حضورِ خُصُومِه، فأمَرَه الله أن يقولَ لهم إنَّه على يقينٍ مِن أمْرِ ربِّه، لا يتزعزعُ [947] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/264، 265). ؛ قال تعالى:
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي.
أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاء: إنِّي على بصيرةٍ، وحُجَّةٍ قاطعةٍ، قد أبانت بيقينٍ صِحَّةَ توحيدِ ربِّي مِن غيرِ إشراكِ شيءٍ به، وأوضَحَتْ صِحَّةَ شريعَتِه التي أوحاها إليَّ [948] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/278-279)، ((تفسير ابن كثير)) (3/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 258)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/365). .
وَكَذَّبْتُم بِهِ.
أي: ولكنَّكم- أيُّها المُشركونَ- كذَّبْتُم بالحَقِّ الذي جاءَني مِن عند الله تعالى، وهو لا يَستحِقُّ هذا منكم، ولا يليقُ به إلَّا الإيمانُ [949] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 258)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/366). وقيل: المرادُ: وكذبتُم بالله، وهذا اختيارُ ابنِ جريرٍ في ((تفسيره)) (9/279). .
مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.
مناسَبَتُها لما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر بيِّنَتَه وتكذيبَهم به، قفَّى بِرَدِّ شُبهةٍ تخطُر عند ذلك بالبالِ، ومن شأنِها أنْ يقعَ عنها منهم السُّؤالُ، وهي أنَّ اللهَ أنذَرَهم عذابًا يَحُلُّ بهم إذا أصرُّوا على عنادِهم وكُفْرِهم، ووَعَدَ بأنْ يَنصُرَ رسولَه عليهم، وقد استعجلوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك، فكان عَدَمُ وقوعِه شبهةً لهم على صِدْق القرآنِ؛ لجَهْلِهم بسُنَنِ الله تعالى في شُؤونِ الإنسانِ، فأمَرَ اللهُ تعالى رسولَه أن يقولَ لهم [950] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/379). :
مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.
أي: ليس الذي تَتعجَّلونَه مِن عذابِ الله تعالى بيَدِي، ولا أنا على ذلك بقادرٍ [951] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/279)، ((تفسير ابن كثير)) (3/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 258)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/366). .
كما حَكَى اللهُ تعالى عنهم أنَّهم قالوا: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] .
وقال عنهم: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.
أي: إنَّما يرجِعُ أمْرُ ذلك إلى الله تعالى، فإنْ شاء عجَّلَ لكم ما سأَلْتُموه من العذابِ، وإنْ شاء أَنْظَرَكم وأجَّلَكم، بِحَسَب ما تقتضيه حِكْمَتُه، فالحكمُ الكونيُّ، والحُكم الشرعيُّ لله تعالى وحْدَه [952] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/279)، ((تفسير ابن كثير)) (3/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 258)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/369). .
يَقُصُّ الْحَقَّ.
القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ قِراءتان:
1- يَقُصُّ من القَصَصِ، فالمعنى: أنَّ جميعَ ما أنبَأَ به اللهُ تعالى أو أمَرَ به؛ فهو مِنَ أقاصيصِ الحَقِّ [953] قرأ بها المدنيَّان وابنُ كثيرٍ وعاصمٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 233). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (9/279)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 254). .
2- يَقْضِ [954] وحُذِفَتِ الياءُ خَطًّا تَبعًا لِلَّفْظِ؛ لالتقاءِ السَّاكنينِ؛ كما في تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5]، وكحذف الواو في سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق: 18] وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ [الشورى: 24] ، ونُصِبَ الحَقَّ بعدَه على أنَّه صِفَةٌ لمصدْرٍ محذوفٍ؛ أي: يَقضِي القَضَاءَ الحَقَّ، أو على إسقاطِ الباءِ؛ أي: يَقضِي بالحَقِّ؛ ووَقَفَ عليه يعقوبُ بالياءِ. ينظر: ((إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر)) للبناء (ص: 264). مِنْ: قضَى يقضي: إذا حَكَم وفَصَل؛ فالمعنى: أنَّ اللهَ تعالى يقضي القَضَاءَ الحقَّ [955] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 233). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/359)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 254). .
يَقُصُّ الْحَقَّ.
أي: يتْلو علينا في كتابِه الحقَّ الواضِحَ، الذي لا لبْسَ فيه، والذي تنقَطِعُ به حُجَجُهم [956] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 258)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/368). .
وعلى قِراءةِ (يَقْضِ الحَقَّ) يكونُ المعنى: يَقضِي القَضاءَ الحقَّ، الذي لا جوْرَ فيه ولا حَيْفَ، بيني وبينكم [957] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/279-280)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/368). .
وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ.
أي: وهو خَيْرُ مَن فَصَلَ القضايا، فبَيَّن وميَّز بين المحِقِّ والمبْطِل، وحَكَم بين عِبادِه؛ فأنْصَفَ بينهم، وأحقَّ الحَقَّ سبحانه وتعالى [958] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/279)، ((تفسير ابن كثير)) (3/264)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/369). .
قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58).
قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
أي: قلُ- يا محمَّدُ- لهؤلاء المُستعجلينَ بالعذابِ؛ جهلًا منهم وعنادًا وظلمًا: لو أنَّ بِيَدِي ما تتعجَّلونَه من العذاب لعاجَلْتُكم بإيقاعِ ما تستحقُّونه منه [959] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/281)، ((تفسير ابن كثير)) (3/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ.
أي: ولكنَّ ذلك الأمرَ بِيَدِ الله، الذي هو أعلمُ بوقْتِ إرسالِه على الظَّالمينَ الذين يَضَعونَ عبادتَهم- التي لا تَنبغي أنْ تكونَ إلَّا للهِ- في غَيرِ مَوضِعها، فيَعبدونَ مَن دُونَه، وهو أعلمُ بوقْتِ الانتقامِ منهم، ولا يَخفَى عليه شيءٌ مِن أحوالِهم، فيُمْهِلُهم ولا يُهْمِلُهم عزَّ وجلَّ [960] يُنظر: ((تفسيره ابن جرير)) (9/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .

الفوائد التربوية :

قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، في قوله: (أهواءكم) تنبيهٌ على السببِ الذي حصَل منه الضَّلالُ، وتنبيهٌ لمن أرادَ اتِّباعَ الحقِّ، ومجانبةَ الباطلِ [961] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/530). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- بُنِي الفعلُ نُهِيتُ لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ للاستغناءِ عن ذِكْرِ الفاعِلِ؛ لظُهُورِ المرادِ، أي: نهاني اللهُ [962] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/262). .
2- قوله تعالى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ فيه تأكيدٌ لقَطْعِ أَطماعِهم، وإشارةٌ إلى الموجِبِ للنَّهيِ، وعلَّةِ الامتناعِ عن متابعَتِهم، وبيانٌ لمبدأ ضلالِهم، والسَّبَبِ الذي منه وقَعُوا في الضَّلالِ وأنَّ ما هم عليه هوًى، وليس بهُدًى، وتنبيهٌ لِمَن تحرَّى الحقَّ على أنْ يتَّبعَ الحُجَّة، ولا يُقلِّد؛ لذا قال: لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ دون (لا أتَّبِعُكم)؛ للإشارةِ إلى أنَّهم في دِينِهم تابعونَ للهَوى، نابذونَ لدليلِ العَقلِ، وفي هذا تجهيلٌ لهم في إقامةِ دِينِهِم على غيرِ أصلٍ مَتينٍ [963] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/30)، ((تفسير البيضاوي)) (2/164)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/262). .
3- إنْ قيلَ: فما الجَمْعُ بين قوله في هذه الآيةِ: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ، وبين ما ثَبَتَ في الصَّحيحَينِ مِن قوْلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَلَك الجبالِ حين استأمَرَه ليُطْبِقَ على من آذاه الأَخْشَبينِ، فقال له: ((بَلْ أَرجُو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يَعْبُدُ اللهَ، لا يُشْرِكُ به شيئًا )) [966] أخرجه البخاري (3231)، ومسلم (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها. ، فقد عَرَضَ عليه عذابَهم واستئصالَهم، فاسْتَأْنَى بهم، وسألَ لهم التأخيرَ؛ لعلَّ اللهَ أن يُخرِجَ مِن أصلابِهم مَن لا يُشْرِكُ به شيئًا؟
فالجوابُ- واللهُ أعلمُ-: أنَّ هذه الآيَةَ دلَّتْ على أنَّه لو كان إليه وقوعُ العذابِ الذي يطلبونَه حالَ طَلَبِهم له؛ لأَوْقَعَه بهم، وأمَّا الحديثُ، فليس فيه أنَّهم سألوه وقوعَ العذابِ بهم، بل عَرَضَ عليه مَلَكُ الجبالِ أنَّه إن شاء أطْبَقَ عليهِمُ الأَخْشَبَينِ- وهما جَبَلا مكَّةَ اللَّذانِ يكتنفانِها جنوبًا وشمالًا- فلهذا استأنى بهم وسألَ الرِّفْقَ لهم [967] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/264). .
4- قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فيه دلالةٌ على أنَّ العَبدَ لا يَقدِرُ على أمرٍ من الأمور إلَّا إذا قضاه اللهُ، فيَمتنِعُ منه فِعلُ الكُفرِ إلَّا إذا قضَى اللهُ وحَكَم به، وكذلك في جميعِ الأفعالِ؛ لأنَّ قولَه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يُفيد القَصْرَ؛ ففيه ردٌّ على المعتزلةِ الذين يقولون: لا يشاءُ الله تعالى الكُفرَ مِن الكافِرِ، ولا المعصيةَ مِن العاصِي [968] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/9)، ((تفسير ابن عادل)) (8/184). .
5- في قوله: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أُسْنِدَ الفعلُ إلى المفعولِ؛ إشارةً إلى أنَّه لو كان عندَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يَستعجلونَ به وقُضِيَ؛ لَمَا قُضِيَ إلَّا بمشيئةِ اللهِ تعالى وقُدْرتِه [969] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/380). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ استئنافٌ ابتدائيٌّ عاد به الكلامُ إلى إبطالِ الشِّرْك بالتبرِّي من عبادةِ أصنامِهم، بطريقةٍ أخرى لإبطالِ عِبادةِ الأصنامِ- بعدَ أنْ أبطلَ إلهيةَ الأصنامِ بطريقِ الاستدلالِ- وهي أنَّ اللهَ نهى رسولَه عليه الصَّلاة والسَّلام عن عِبادتِها، وعن اتِّباعِ أهواءِ عَبَدتِها [970] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/261). .
- وأُجْرِيَ على الأصنامِ في قولِه: الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسمُ الموصولِ الموضوعِ للعُقلاءِ؛ لأنَّهم عامَلوهم معاملةَ العُقلاءِ، فأتَى لهم بما يَحكي اعتقادَهم، أو لأنَّهم عَبَدوا الجِنَّ وبعضَ البَشَر، فغُلِّبَ العُقلاءُ من معبوداتِهم [971] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/261) .
- قوله: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ استئنافٌ آخرُ ابتدائيٌّ، وأُعيدَ الأمرُ بالقولِ قُلْ زيادةً في الاهتمامِ بالاستئنافِ واستقلالِه؛ ليكونَ هذا النفيُ شاملًا للاتِّباعِ في عبادةِ الأصنامِ، وفي غيرِها من ضلالَتِهم [972] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/262). . أو كرَّر الأمرَ بقوله: قُلْ مع قُرْبِ العهدِ؛ اعتناءً بشأنِ المأمورِ به، أو إيذانًا باختلافِ المَقولينِ؛ من حيثُ إنَّ الأوَّلَ مِن قَوْلِه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حكايةٌ لِمَا مِن جِهَتِه تعالى من النَّهيِ، والثاني من قوله: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ حكايةٌ لِمَا مِن جِهَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من الانتهاءِ عمَّا ذُكِرَ من عبادة ما يعبدونَه [973] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/141). .
- قوله: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ استئنافٌ مؤكِّدٌ لانتهائه عمَّا نُهِيَ عنه، مُقَرِّرٌ لكونِهم في غايةِ الضَّلالِ والغَوايةِ، أي: إنِ اتَّبعتُ أهواءَكم فقدْ ضلَلْتُ [974] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/141). .
- وفيه تعريضٌ بأنَّهم ليسوا مِن المُهتدين [975] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/30)، ((تفسير البيضاوي)) (2/164). .
- وقوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ مُؤَكِّد لِقَولِه: قَدْ ضَلَلْتُ، والتعبيرُ بالجُملة الاسميَّة في قوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ؛ للدَّلالة على الثُّبوتِ والدَّوامِ والاستمرارِ، أي: دوامِ النَّفْي واستمرارِه، لا نفْي الدَّوامِ والاستمرار، وجاءتْ جملةُ قَدْ ضَلَلْتُ فِعْليَّةً؛ لتدُلَّ على التجدُّدِ؛ فحَصلَ نَفْيُ تجدُّدِ الضَّلالِ وثُبوته [976] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/530)، ((تفسير أبي السعود)) (3/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/263). .
- وقدْ أُتي بالخَبرِ بالجارِّ والمجرور، فقيل: مِنَ الْمُهْتَدِينَ، ولم يقُلْ: (وما أنا مهتدٍ)؛ لأنَّ المقصودَ نفيُ الجملةِ التي خبَرُها مِنَ الْمُهْتَدِينَ؛ فإنَّ التَّعريفَ في الْمُهْتَدِينَ تعريفُ الجِنسِ، فإخبارُ المتكلِّمِ عن نفْسِه بأنَّه مِن المهتدين يُفيد أنَّه واحدٌ من الفِئة التي تُعرَف عندَ الناسِ بفِئة المهتدين؛ فيُفيد أنَّه مهتدٍ إفادةً بطريقةٍ تُشبه طريقةَ الاستدلالِ؛ فهو مِن قَبيلِ الكنايةِ التي هي إثباتُ الشَّيءِ بإثباتِ مَلزومِه، وهي أبلغُ مِن التَّصريحِ [977] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/263). .
2- قوله: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ استئنافٌ ابتدائيٌّ مَسوقٌ مَسَاقَ التَّعريضِ بالمُشْركينَ في أنَّهم على اضطرابٍ مِن أمْرِ آلهَتِهِم، وعلى غيرِ بصيرةٍ [978] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/263، 266). .
- وتنكيرُ لفظةِ بَيِّنَةٍ للتفخيم [979] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/142). .
- قوله: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الباءُ التي عُدِّيَ بها فِعلُ كَذَّبْتُمْ هي لتأكيدِ لُصوقِ معنى الفعلِ بمفعولِه؛ كما في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ [المائدة: 6] ؛ فلذلك يدُلُّ فعْلُ التكذيبِ إذا عُدِّيَ بالباءِ على معنى الإنكارِ، أي: التكذيبِ القَوِيِّ [980] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/266). وقال ابن عاشور: (ولعلَّ الاستعمالَ أنَّهم لا يُعَدُّونَ فِعلَ التكذيبِ بالباءِ إلَّا إذا أُريدَ تكذيبُ حجَّةٍ أو برهانٍ مِمَّا يُحْسَبُ سببَ تصديقٍ؛ فلا يُقالُ: كذَّبْتُ بفلانٍ، بل يقال: كذَّبتُ فلانًا، قال تعالى: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُل [الفرقان: 37] ، وقال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر: 23]). .
- قوله: ما عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ حالَهم في الإصرارِ على التَّكذيبِ، مِمَّا يزيدُهم عِنادًا عندَ سَماعِ تَسْفيهِ أحلامِهم، وتنقُّصِ عقائِدِهم [981] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/266). .
- قوله: وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقَرِّرٌ لمضمونِ ما قبله، مشيرٌ إلى أنَّ قَصَّ الحقِّ هاهنا بطريقٍ خاصٍّ هو الفصلُ بين الحَقِّ والباطِلِ، هذا هو الذي تستدعيه جزالةُ التَّنزيلِ [982] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/142). .
3- قوله: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يُثيرُ سؤالًا في نفس السامِعِ؛ أن يقول: فلو كان بِيَدِك إنزالُ العذابِ بهم، ماذا تصنعُ؟ فأجيب بقوله: لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ... [983] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/269). .
- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ تذييلٌ، أي: اللهُ أعلمُ منِّي ومِن كلِّ أحدٍ بحكمةِ تأخيرِ العذابِ، وبوقْتِ نزولِهِ؛ لأنَّه العليمُ الخبيرُ، الذي عنده ما تستعجلونَ به [984] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/270). ، وهو في معنى الاستدراكِ؛ كأنه قال: ولكنَّ الأمْرَ إلى الله سبحانه وتعالى، وهو أعلمُ بمن ينبغي أن يُؤخَذَ وبِمَن ينبغي أن يُمْهَلَ منهم [985] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/165). .
- والتعبيرُ بالظَّالمينَ في قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ إظهارٌ في مقامِ ضميرِ الخطاب، والمعنى: (واللهُ أعلمُ بكم)؛ فوُضِعَ الظَّاهِرُ المُشعِرُ بوصْفِهِم بالظُّلم موضعَ المضمَر؛ لإشعارِهم بأنَّهم ظالمونَ في شِرْكِهم؛ إذِ اعتَدَوْا على حقِّ الله، وظالمونَ في تكذيبِهم؛ إذ اعتَدَوْا على حقِّ اللهِ ورسولِه، وظالمونَ في معامَلَتِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [986] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/532)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/270). .