موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (12-16)

ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ

غريب الكلمات:

ذُو الْأَوْتَادِ: أي: صاحِبُ البِناءِ المُحكَمِ والمُلكِ الثَّابِتِ، والعَرَبُ تَقولُ: هم في عزٍّ ثابِتِ الأوتادِ، ومُلكٍ ثابتِ الأوتادِ، يُريدونَ أنَّه دائِمٌ شَديدٌ. وقيلَ: صاحِبُ القُوَّةِ والبَطشِ والجُنودِ والجُموعِ الكثيرةِ الَّذين يُقَوُّونَ أمْرَه، ويَشُدُّونَ مُلكَه، كما يقوِّي الوَتِدُ [150] الوَتِدُ: ما ثُبِّتَ في الأرضِ أو الحائِطِ من خَشَبٍ ونَحوِه. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/646)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 324)، ((المعجم الوسيط)) (2/1009)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (3/2394). الشَّيءَ، فأصلُ هذا أنَّ بيوتَ العربِ كانت تُثبَّتُ بالأوتادِ، وقيل غيرُ ذلك [151] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 377)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 371)، ((تفسير البغوي)) (4/55)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326). .
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ: هم قَومُ شُعَيبٍ، والأيْكةُ: الشَّجَرُ المُلتَفُّ المُجتمِعُ، وأصلُ (أيك): يدُلُّ على اجتِماعِ شَجَرٍ [152] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 377)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 72)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/165)، ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص: 225). .
فَوَاقٍ: أي: رُجوعٍ وارتدادٍ، وقيل: راحةٍ لا يُفيقونَ فيها، كما يُفيقُ المريضُ والمَغْشيُّ عليه. وفُواق -بضمِّ الفاءِ- أي: انتِظار. وقيل: الفواقُ بضمِّ الفاءِ وفتحِها بمعنًى واحدٍ، وهو ما بيْنَ الحَلْبتَينِ، وأصلُ (فوق) هنا: يدُلُّ على أَوْبةٍ ورُجوعٍ [153] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 377)، ((تفسير ابن جرير)) (20/34)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 365)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/461)، ((تفسير القرطبي)) (15/156)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 358). .
قِطَّنَا: أي: عذابَنا ونَصيبَنا وحِسابَنا، ويُقالُ لكِتابِ الحِسابِ: قِطٌّ، واشتِقاقُه مِن القَطِّ: وهو القَطعُ، وكذلك النَّصيبُ هو القِطعةُ مِن الشَّيءِ [154] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 378)، ((تفسير ابن جرير)) (13/617)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/12)، ((الغريبين)) للهروي (5/1560)، ((المفردات)) للراغب (ص: 676). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا ممَّا أصاب الأُممَ السَّابقةَ مِن العذابِ والنَّكالِ حينَ كذَّبتْ رُسلَها؛ حتَّى يَعتبِرَ المشركونَ، فيقولُ: كذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ قَومُ نُوحٍ، وعادٌ قَومُ هُودٍ، وفِرعَونُ صاحِبُ الأوتادِ، وثمودُ قَومُ صالحٍ، وقَومُ لوطٍ، وأصحابُ الأشجارِ المُلتَفَّةِ الَّذين أُرسِلَ إليهم شُعَيبٌ؛ أولئك الأحزابُ الَّذين تَحزَّبوا على الكُفرِ والتَّكذيبِ، كُلُّ هؤلاء الأحزابِ كَذَّب رُسُلَ اللهِ؛ فوجَبَ عليهم عِقابُ اللهِ.
وما يَنتَظِرُ مُشرِكو قُرَيشٍ إلَّا نَفخةً واحدةً يَنفُخُها إسرافيلُ في الصُّورِ ليس لها مِن رجوعٍ ولا إمهالٍ.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى ما كان عليه هؤلاء المشركونَ مِن جهالةٍ وسَفَهٍ، حيثُ تعجَّلوا العِقابَ قبْلَ وُقوعِه بهم، فيقولُ: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ تكذيبًا واستِهزاءً: يا رَبَّنا عَجِّلْ لنا نَصيبَنا مِنَ العَذابِ قبْلَ يومِ القيامةِ.

تفسير الآيات:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر في الجوابِ عن شُبهةِ القَومِ أنَّهم إنَّما تَوانَوا وتكاسَلوا في النَّظَرِ والاستِدلالِ لأجْلِ أنَّهم لم يَنزِلْ بهم العَذابُ؛ بيَّنَ تعالى في هذه الآيةِ أنَّ أقوامَ سائِرِ الأنبياءِ هكذا كانوا، ثمَّ بالآخرةِ نَزَل ذلك العِقابُ، والمقصودُ منه تخويفُ أولئك الكُفَّارِ الَّذين كانوا يُكَذِّبونَ الرَّسولَ في إخبارِه عن نُزولِ العِقابِ عليهم [155] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/371). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه أهلَكَ قبْلَ قُرَيشٍ قُرونًا كثيرةً لَمَّا كَذَّبوا رُسُلَهم؛ سَرَد منهم هنا مَن لهم تعلُّقٌ بعِرفانِه [156] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/140). .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12).
أي: كذَّبَتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ قَومُ نُوحٍ، وعادٌ قَومُ هُودٍ، وفِرعَونُ صاحِبُ الأوتادِ [157] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 377)، ((تفسير ابن جرير)) (20/30)، ((تفسير البغوي)) (4/55)، ((تفسير القرطبي)) (15/154)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). واختلَف المفسِّرون في معنى الأوتادِ على أقوالٍ؛ منها: أنَّها الأوتادُ المعروفةُ؛ فكان فِرعَونُ يَتَّخِذُها إمَّا لتعذيبِ النَّاسِ، وإمَّا لأنَّه كان يُلعَبُ له بها. وممَّن قال بهذا القولِ: ابنُ جرير. ((تفسير ابن جرير)) (20/31). وممَّن قال مِن المفسِّرينَ: إنَّها كانت تُستخدَمُ للتَّعذيبِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وجلال الدين المحلي، والشربيني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/638)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 599)، ((تفسير الشربيني)) (3/402). قال الواحدي: (قال المُفسِّرونَ: كانت له أوتادٌ يُعَذِّبُ النَّاسَ عليها). ((الوسيط)) (3/541). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ، ومقاتلُ بنُ حَيَّانَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/30)، ((تفسير الثعلبي)) (8/181). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّها ملاعبُ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، وعطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/30)، ((تفسير الثعلبي)) (8/181). وقيل: الأوتادُ: هي البناياتُ العظيمةُ العاليةُ. وممَّن اختار هذا القولَ في الجملةِ: ابنُ عطية، والغزنوي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/495)، ((باهر البرهان)) للغزنوي (2/1231)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/221). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ البُنيانُ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والضَّحَّاكُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/31)، ((تفسير الثعلبي)) (8/180). وقيل: ذُو الْأَوْتَادِ: أي: ذو الملكِ الثَّابتِ الشَّديدِ. وممَّن اختار هذا القولَ: السمرقنديُّ، والواحدي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/160)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 920)، ((تفسير أبي السعود)) (7/217). وقيل: المرادُ بالأوتادِ: ما لديه مِن الأسبابِ الموجِبةِ لِثَباتِ المُلكِ وتَقويتِه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي، والسعدي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/341)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 65). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (23/220). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] .
وقال سُبحانَه: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [الفجر: 10] .
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13).
أي: وكذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ ثَمودُ قَومُ صالحٍ، وقَومُ لوطٍ، وأصحابُ الأشجارِ المُلتَفَّةِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/31)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). قال الشنقيطي: (العلماءُ مختلِفونَ: هل أصحابُ الأيْكةِ هم مَدْيَنُ أنفُسُهم، فيكون شُعيبٌ أُرسِلَ إلى أُمَّةٍ واحدةٍ، أو مَدْيَنُ أُمَّةٌ وأصحابُ الأيْكةِ أمَّةٌ أخرى، فيكون شعيبٌ قد أُرسِلَ إلى أُمَّتَيْنِ؟ هذا خلافٌ معروفٌ بَيْنَ العلماءِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ، كانوا يعبدونَ أيْكةً، أي: شجرًا مُلْتَفًّا، وأنَّ اللهَ سمَّاهم مرَّةً بنسَبِهم «مدين»، ومرَّةً أضافهم إلى الأيْكةِ الَّتي يَعبُدونَها. وجزَمَ بصحَّةِ هذا ابنُ كثيرٍ في تاريخِه وتفسيرِه، ومِمَّنِ اشتهر عنه أنَّهم أُمَّتَانِ: قَتادةُ وجماعةٌ، وهو خلافٌ معروفٌ. والَّذين قالوا: إنَّهما أُمَّتانِ قالوا: في «مدين» قال: إنَّه أخوهم، حيث قال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف: 85] ، أمَّا أصحابُ الأيْكةِ فلم يَقُلْ: إنَّه أخوهم، بل قال: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [الشعراء: 176، 177]، ولم يقلْ: أخوهم شعيبٌ. وأُجِيبَ عن هذا بأنَّه لَمَّا ذَكَر مَدْيَنَ ذَكَر الجَدَّ الَّذي يَشملُ القبيلةَ ومِنْ جُملتِها شعيبٌ، ذكَر أنَّه أخوهم مِن النَّسَبِ. أمَّا قولُه: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فمعناه: أنَّهم يَعبُدونها، ولَمَّا ذَكَرهم في مقامِ الشِّركِ وعبادةِ غيرِ اللهِ لم يُدْخِلْ معهم شُعَيبًا في ذلك وهم أُمَّةٌ واحدةٌ. هكذا قاله بعضُهم، واللهُ أعلَمُ). ((العذب النمير)) (3/572). والقولُ بأنَّ أصحابَ الأيْكةِ هم أهلُ مَدْيَنَ هو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، واختاره ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ، وممَّن ذهب إليه مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/633)، ((تفسير ابن كثير)) (6/158)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/438). وذهب قَتادةُ -كما في ((تفسير ابن جرير)) (17/637)- ومقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ عاشورٍ إلى أنَّ مَدْيَنَ غيرُ أصحابِ الأيْكةِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/183). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/347). الَّذين أُرسِلَ إليهم شُعَيبٌ، أولئك الأحزابُ الَّذين تَحزَّبوا على الكُفرِ باللهِ، وتكذيبِ رُسُلِه، ورَدِّ الحَقِّ [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/31، 32)، ((تفسير ابن عطية)) (4/495)، ((تفسير الرازي)) (26/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/221، 222)، ((تفسير سورة ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 67، 68). قال السمرقندي: (سُمُّوا أحزابًا؛ لأنَّهم تحزَّبوا على أنبيائِهم، أي: تجمَّعوا). ((تفسير السمرقندي)) (3/160). وقال الشربيني: (وقيل: المعنى: أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ مُبالَغةً في وَصفِهم بالقُوَّةِ، كما يُقالُ: فُلانٌ هو الرَّجُلُ، أي: أولئك الأحزابُ مع كمالِ قُوَّتِهم لَمَّا كان عاقِبَتُهم هي الهلاكَ والبَوارَ، فكيف حالُ هؤلاء الضُّعَفاءِ المَساكينِ إذا نزَل عليهم العذابُ، وفي الآيةِ زَجرٌ وتَخويفٌ للسَّامِعينَ). ((تفسير الشربيني)) (3/402). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى [الحج: 42 - 44].
وقال سُبحانَه: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء: 176، 177].
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14).
أي: كُلُّ تلك الأحزابِ قد وقَعَت في تَكذيبِ رُسُلِ اللهِ؛ فوجَبَ عليهم عِقابُ اللهِ؛ فلْيَحذَرِ المكَذِّبونَ بمُحمَّدٍ أن يُعاقَبوا كما عُوقِبَ مَن قَبْلَهم [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/32)، ((تفسير القرطبي)) (15/155)، ((تفسير ابن كثير)) (7/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 68-70). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12 - 14].
وقال سُبحانَه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر: 5] .
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قولِه: فَوَاقٍ قراءاتانِ:
1- قراءةُ فُوَاقٍ بضمِّ الفاءِ، أي: تأخيرٍ، وتوقُّفٍ مِقدارَ فُواقِ ناقةٍ، وهي ما بيْنَ حَلْبَتي اللَّبنِ، وقيل: رجوعٍ، وقيل: تَردادٍ [161] قرأ بها حمزةُ والكِسائيُّ وخَلَف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/361). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/325)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 613)، ((تفسير ابن جزي)) (2/203)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/363). .
2- قراءةُ فَوَاقٍ بفتحِ الفاءِ، أي: راحةٍ، وقيل: رجوعٍ، وقيل: تَردادٍ، وقيل: القراءتانِ بمعنًى واحدٍ، فالفتحُ والضمُّ لُغتانِ [162] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/361). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/325)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 613)، ((تفسير ابن جزي)) (2/203)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/363). قال ابنُ عاشور: (جمهورُ أهلِ اللُّغةِ على أنَّ الفَتحَ والضَّمَّ فيه سواءٌ، وذهب أبو عُبَيدةَ والفَرَّاءُ إلى أنَّ بيْنَ المفتوحِ والمضمومِ فَرقًا). ((تفسير ابن عاشور)) (23/224). قال ابنُ جرير: (والصَّوابُ مِن القَولِ في ذلك أنَّهما لُغتانِ؛ وذلك أنَّا لم نَجِدْ أحدًا مِن المُتقَدِّمينَ على اختلافِهم في قراءتِه يُفَرِّقون بيْن معنى الضَّمِّ فيه والفتحِ، ولو كان مُختَلِفَ المعنى باختِلافِ الفَتحِ فيه والضَّمِّ لقد كانوا فرَّقوا بيْن ذلك في المعنى). ((تفسير ابن جرير)) (20/36). .
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه بيَّن عِقابَ كفَّارِ قريشٍ إثرَ بيانِ عِقابِ أضرابِهم، فقال [163] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (23/103). :
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15).
أي: وما يَنتَظِرُ المُشرِكونَ مِن قُرَيشٍ إلَّا سَماعَ النَّفخةِ الأُولى في الصُّورِ، وهي نَفخةٌ ما لها مِن رجوعٍ ولا إمهالٍ [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/33)، ((تفسير القرطبي)) (15/155- 157)، ((تفسير ابن كثير)) (7/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 73-75). قال ابنُ عاشور: (تَتبَّعتُ اصطِلاحَ القُرآنِ فوَجَدْتُه إذا استعمل «هَؤُلَاءِ» ولم يكُنْ معه مُشارٌ إليه مذكورٌ: أنَّه يريدُ به المُشرِكينَ مِن أهلِ مَكَّةَ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/223). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالصَّيحةِ: النَّفخةُ الأُولى في الصُّورِ: ابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، والرسعني، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/33)، ((تفسير السمرقندي)) (3/160)، ((الهداية)) لمكي (10/2610)، ((تفسير الرسعني)) (6/457)، ((تفسير ابن كثير)) (7/56)، ((تفسير العليمي)) (6/11)، ((تفسير الشوكاني)) (4/486). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (23/224). قال الشوكاني: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً أي: ما يَنتَظِرونَ إلَّا صَيحةً، وهي النَّفخةُ الكائِنةُ عندَ قيامِ السَّاعةِ. وقيل: هي النَّفخةُ الثَّانيةُ. وعلى الأوَّلِ: المرادُ مَن عاصَرَ نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الكُفَّارِ، وعلى الثَّاني: المرادُ كُفَّارُ الأُمَمِ المذكورةِ، أي: ليس بيْنَهم وبيْن حُلولِ ما أعَدَّ الله لهم مِن عذابٍ إلَّا أن يُنفَخَ في الصُّورِ النَّفخةُ الثَّانيةُ. وقيل: المرادُ بالصَّيحةِ: عذابٌ يَفجَؤُهم في الدُّنيا). ((تفسير الشوكاني)) (4/486). واختُلِف في معنى قولِه: مِنْ فَوَاقٍ؛ فقيل: المعنى: ما لتلك الصَّيحةِ مِن فُتورٍ ولا انقِطاعٍ ولا تَردادٍ، فهي مُمتدَّةٌ لا تقطيعَ فيها. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/33)، ((الهداية)) لمكي (10/6210)، ((تفسير القرطبي)) (15/156، 157). وقيل: المعنى: ما لَها مِن توقُّفٍ مِقدارَ فَواقٍ، فإذا جاء وقتُها لم يُمهلْ هذا القَدر. وممَّن اختار هذا المعنى: النيسابوري، وأبو السعود، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (5/585)، ((تفسير أبي السعود)) (7/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/224). وقيل: المعنى: ليس بعدَها رجوعٌ إلى الدُّنيا ولا مَرَدٌّ. وممَّن اختار هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/638)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/323)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 920)، ((تفسير الخازن)) (4/33)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 599)، ((تفسير العليمي)) (6/11)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). قال الشوكاني: (ومعنى الآيةِ: أنَّ تلك الصَّيحةَ هي ميعادُ عَذابِهم، فإذا جاءت لم تَرجِعْ، ولا تُرَدُّ عنهم، ولا تُصرَفُ منهم، ولا تتوقَّفُ مِقدارَ فَواقِ ناقةٍ، وهي ما بيْنَ حَلْبَتَيِ الحالِبِ لها). ((تفسير الشوكاني)) (4/486). وقال ابنُ عثيمين: (ويمكِنُ أن نقولَ: إنَّ القِراءتَينِ تَجمَعانِ المَعنيَينِ؛ فيَكونُ معنى مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ أي: ما لها مِن رُجوعٍ ولا إمهالٍ). يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 75). وذكَرَ البِقاعي احتِمالاتٍ أخرى في معنى الآيةِ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/345، 346). .
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16).
مناسبة الآية لما قبلها:
هذا الأصلُ الثَّالِثُ مِن أُصولِ كُفرِ المُشرِكينَ، وهو إنكارُ البَعثِ والجَزاءِ؛ فهو عَطفٌ على وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] ، فذكَرَ قَولَهم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] ، ثمَّ ذكَرَ قَولَهم: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8] وما عَقَبَه من عواقِبِ مِثلِ ذلك القَولِ؛ فأفضَى القَولُ إلى أصلِهم الثَّالِثِ [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/225). .
وأيضًا لَمَّا عَجَّب منهم بما مضَى، وأبطَلَ شُبَهَهم، وعَرَّفهم أنَّهم قد عَرَّضوا أنفُسَهم للهلاكِ تَعريضًا قَريبًا؛ أتْبَع ذلك تَعجيبًا أشَدَّ مِن الأوَّلِ، فقال [166] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/347). :
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16).
أي: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ استِهزاءً وتَكذيبًا: يا رَبَّنا عجِّلْ لنا نَصيبَنا الَّذي تُوُعِّدْنا به مِن العذابِ قبْلَ يومِ القيامةِ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/496)، ((تفسير القرطبي)) (15/157، 158)، ((تفسير ابن كثير)) (7/56، 57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/225)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/338)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 74، 75). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فيه الاعتبارُ بالأغلَبِ، وأنَّ الكُلَّ قد يُطلَقُ على الأغلَبِ؛ لأنَّ قَومَ نوحٍ عليه السَّلامُ لم يُكَذِّبوا كلُّهم؛ قال اللهُ تعالى: وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] ، وكذلك عادٌ؛ قال اللهُ تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 58] ، وكذلك لُوطٌ عليه السَّلامُ؛ آمَنَ معه مَن آمَنَ مِن أهلِه، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 35]، كذلك فِرعَونُ لم يُؤْمِنْ إلَّا حينَما أدرَكَه الغَرَقُ إيمانًا لا يَنفَعُه، وكذلك صالحٌ عليه السَّلامُ آمَنَ معه مَن آمَنَ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 73). .
2- في قَولِه تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ أنَّ تكذيبَ الرُّسُلِ سَبَبٌ للعُقوبةِ، و(الفاءُ) هنا سَبَبيَّةٌ، وهي عاطِفةٌ تدُلُّ على التَّرتيبِ والتَّعقيبِ، ففيها سَبَبيَّةٌ وتَعقيبٌ، وأنَّ العِقابَ حلَّ بهم وهم ما زالوا على تَكذيبِهم [169] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 73). .
3- في قَولِه تعالى: فَحَقَّ عِقَابِ يُؤخَذُ منه فائِدةٌ، وهي شِدَّةُ هذه العُقوبةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أضافَها إلى نَفْسِه، وقد قال سُبحانَه وتعالى عن نَفْسِه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [170] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 73). [المائدة: 98] .
4- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا اعترافُ المُشرِكينَ بالرُّبوبيَّةِ، فهم مُقِرُّون بالرُّبوبيَّةِ، ومُقِرُّونَ بانفِرادِ اللهِ تعالى بها؛ قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 78). [لقمان: 25] .
5- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا أنَّ الإقرارَ بالرُّبوبيَّةِ لا يُخرِجُ الإنسانَ مِن الكُفرِ إذا كان لم يُقِرَّ بتَوحيدِ الألوهيَّةِ؛ لأنَّ هؤلاء مُقِرُّون بالرُّبوبيَّةِ، وأنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازقُ، والمُنفَرِدُ بالخَلقِ والرزقِ، لكِنَّهم يُشرِكونَ به في العِبادةِ؛ يَعبُدونَ معه غيرَه، فلم يُدْخِلْهم ذلك في الإسلامِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 78). .
6- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا بُطلانُ ما ذَهَبَ إليه كثيرٌ مِن المتكلِّمِين في تفسيرِ التَّوحيدِ؛ حيث قالوا في تفسيرِ التَّوحيدِ: «أنْ تؤمِنَ بأنَّ اللهَ واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، واحِدٌ في أفعالِه لا شَريكَ له، واحِدٌ في صفاتِه لا شَبيهَ له»؛ هذا هو التَّوحيدُ عندَ عامَّةِ المُتكَلِّمِينَ، ولم يَتعَرَّضوا فيه لِذِكرِ الألوهيَّةِ إطلاقًا! فما ذكروه لم يَدخُلْ فيه توحيدُ الألوهيَّةِ الَّذي جاءتِ الرُّسُلِ بتَحقيقِه وإثباتِه والقِتالِ عليه، لم يَقولوا: واحِدٌ في ألوهيَّتِه لا يُعبَدُ غيرُه [173] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 78). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ استِئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه ببيانِ أحوالِ العُتاةِ الطُّغاةِ الَّذينَ هؤلاءِ جُندٌ ما مِن جُنودِهم، ممَّا فَعَلوا مِنَ التَّكذيبِ، وفُعِل بهم مِنَ العِقابِ [174] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/217)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/337). .
- ولَمَّا كان قَولُه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [ص: 11] تَسليةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووعْدًا له بالنَّصرِ، وتَعريضًا بوَعيدِ مُكذِّبيهِ؛ جيءَ بما هو كالبَيانِ لهذا التَّعريضِ، والدَّليلِ على المَصيرِ المَقصودِ على طريقةِ قياسِ المُساواةِ [175] القياسُ: تقدَّمَ تعريفُه عندَ الأصوليِّينَ (ص: 21)، وهو عندَ أهلِ المنطقِ: قولٌ مؤلَّفٌ مِن قضايا إذا سَلِمَتْ لزِم عنها لِذَاتِها قولٌ آخَرُ؛ كقولِنا: «العالَمُ متغيِّرٌ، وكلُّ متغيِّرٍ حادثٌ»؛ فإنَّه قولٌ مرَكَّبٌ مِن قضيَّتَينِ، إذا سَلِمتَا لَزِم عنهما لِذاتِهما: العالَمُ حادِثٌ. وقياسُ المُساواةِ: هو كلُّ قياسٍ مرَكَّبٍ مِن قضيتَينِ يكونُ مُتعلقُ محمولِ الصُّغرى موضوعًا في الكبرى؛ فإنَّ استِلزامَه لا بالذَّاتِ، بل بواسطةِ مقدمةٍ أجنبيَّةٍ، حيثُ تَصدُقُ يَتحقَّقُ الاستِلزامُ؛ كقولِنا: (أ) مساوٍ لـ (ب)، و (ب) مساوٍ لـ (ج)؛ فإنَّه يلزمه (أ) مساوٍ لـ (ج)، ولكن لا لنفْسِه، بل بواسطةِ مقدمةٍ أجنبيَّةٍ، أي: مقدمةٍ غيرِ لازِمةٍ لإحدى مقدمتَيِ القياسِ. وحيث لا تصدُقُ لا يَتحقَّقُ، كقولِنا: (أ) نصفٌ لـ (ب)، و (ب) نصفٌ لـ (ج)؛ فلا يصدقُ (أ) نصفٌ لـ (ج)؛ إذ نصْفُ النِّصفِ ليس بنصفٍ، بل هو ربعٌ. يُنظر: ((بيان المختصر)) للأصفهاني (1/36)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (1/21)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 181، 182)، ((كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم)) للتهانوي (2/1350). ، وهو قولُه هنا: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/220). .
- قَولُه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ حُذِف مَفعولُ كَذَّبَتْ؛ لأنَّه سيَرِدُ ما يُبَيِّنُه في قَولِه: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/220). .
- قَولُه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ خُصَّ فِرعونُ بإسنادِ التَّكذيبِ إليه دُونَ قَومِه؛ لأنَّ اللهَ أرسَلَ موسى عليه السَّلامُ إلى فِرعونَ لِيُطْلِقَ بَني إسرائيلَ، فكَذَّبَ موسى، فأمَرَ اللهُ موسى بمُجادَلةِ فِرعونَ لإبطالِ كُفرِه، فتَسَلْسَلَ الجِدالُ في العقيدةِ، ووجَبَ إشهارُ أنَّ فِرعونَ وقَومَه في ضَلالٍ؛ لِئلَّا يَغتَرَّ بَنو إسرائيلَ بشُبُهاتِ فِرعونَ، ثمَّ كان فِرعونُ عَقِب ذلك مُضمِرًا أذَى موسى عليه السَّلامُ ومُعلِنًا بتَكذيبِه [178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/220). .
- ووُصِف فِرعونُ بأنَّه ذُو الْأَوْتَادِ؛ لعَظَمةِ مُلكِه وقوَّتِه، فلمْ يكُنْ ذلك لِيَحولَ بيْنَه وبيْن عَذابِ اللهِ. وعُبِّر بالأوتادِ هنا عن ثَباتِ المُلكِ والعِزِّ، ورُسوخِ السَّلطنةِ واستِقامةِ الأمْرِ، مِن ثَباتِ البَيتِ المُطنَّبِ بأوتادٍ، أو المعنى: ذُو الجُموعِ الكثيرةِ؛ سُمُّوا بذلك لأنَّ بعضَهم يَشُدُّ بعضًا، كالوتِدِ يَشُدُّ البِناءَ [179] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/217)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/220)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/338-340). . وقيل غيرُ ذلك.
- وفي قَولِه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ إلى قَولِه: فَحَقَّ عِقَابِ مُناسَبَةٌ حسَنةٌ، حيثُ ختَمَ أواخِرَ آياتِه هنا بما قبْلَ آخِرِه ألْفٌ، وختَمَ آياتِ قَولِه في سورةِ (ق): كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى قَولِه: فَحَقَّ وَعِيدِ بما قبْلَ آخِرِه ياءٌ أو واوٌ؛ موافَقةً لبَقيَّةِ فَواصِلِ السُّورتَينِ [180] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 487). .
2- قولُه تعالَى: وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ
- جُملةُ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ وجُملةِ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، واسمُ الإشارةِ مُستعمَلٌ في التَّعظيمِ، أي: تَعظيمِ القوَّةِ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/221). .
- وقُصِد بهذه الإشارةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ الإعلامُ والتَّأكيدُ، والتَّنبيهُ بأنَّ الأحزابَ الَّذينَ جُعِل الجُندُ المَهزومُ منهم هُمْ هُمْ، وأنَّهم هُمُ الَّذينَ وُجِد مِنهمُ التَّكذيبُ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ إشارةً إلى جميعِ الأحزابِ؛ لاستِحضارِهم بالذِّكرِ، أو لأنَّهم كالحُضورِ عِندَ اللهِ [182] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/76، 77)، ((تفسير البيضاوي)) (5/25)، ((تفسير أبي السعود)) (7/217). .
- والتَّعريفُ في الْأَحْزَابُ استِغراقٌ ادِّعائيٌّ، وهو المُسمَّى بالدَّلالةِ على معنَى الكَمالِ، مِثلُ: هُمُ القَومُ، وأنت الرَّجُلُ. والحَصرُ المُستفادُ مِن تعريفِ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليه حَصْرٌ ادِّعائيٌّ [183] القَصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ حيثُ قُصِر وصْفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و (3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/162). ، قُصِرَتْ صِفةُ الأحزابِ على المُشارِ إليهم بـ أُولَئِكَ بادِّعاءِ الأُمَمِ، وأنَّ غَيْرَهم لَمَّا يَبلُغوا مَبلَغَ أنْ يُعَدُّوا مِنَ الأحزابِ؛ فظاهِرُ القَصرِ ولامُ الكَمالِ لتأكيدِ معنَى الكَمالِ، والمعنَى: أولئك المَذْكورونَ هُمُ الأُمَمُ، لا تُضاهِيهم أُمَمٌ في القُوَّةِ والشِّدَّةِ، وهذا تعريضٌ بتَخويفِ مُشرِكي العرَبِ مِن أنْ يَنزِلَ بهم ما نزَلَ بأولئكَ [184] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/221، 222). .
3- قولُه تعالَى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
- قَولُه: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ استِئنافٌ جيءَ به تَقريرًا لتَكذيبِهم، وبيانًا لكَيْفيَّتِه، وتَمهيدًا لِما يَعقُبُه [185] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/217). .
- وجُملةُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ مؤكِّدةٌ لجُملةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ إلى قَولِه وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ؛ أَخبَرَ أوَّلًا عنهم بأنَّهم كَذَّبوا، وأكَّدَ ذلك بالإخبارِ عنهم بأنَّهم ليسوا إلَّا مُكذِّبينَ على وَجهِ الحَصرِ، كأنَّهم لا صِفةَ لهم إلَّا تَكذيبُ الرُّسلِ؛ لِتَوَغُّلِهم فيها، وكَونِها هِجِّيراهُم [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/222). .
- وفي قَولِه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ذكَرَ تكذيبَ الأحزابِ أوَّلًا في الجُملةِ الخَبريَّةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ على وَجهِ الإبهامِ، ثمَّ جاء بالجُملةِ الاستِثنائيَّةِ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فأوْضَحَه فيها بأنَّ كلَّ واحِدٍ مِنَ الأحزابِ كَذَّبَ جميعَ الرُّسلِ؛ لأنَّهم إذا كَذَّبوا واحدًا منهم فقد كَذَّبوهم جميعًا.
وقيل: ما كلُّ حِزبٍ إلَّا كَذَّب رسولَه على نَهجِ مُقابَلةِ الجَمعِ بالجَمعِ. وفي تَكريرِ التَّكذيبِ، وإيضاحِه بعْدَ إبهامِه، والتَّنويعِ في تَكريرِه بالجُملةِ الخَبريَّةِ أوَّلًا وبالاستِثنائيَّةِ ثانيًا، وما في الاستِثنائيَّةِ مِنَ الوَضعِ على وَجهِ التَّوكيدِ والتَّخصيصِ: أنواعٌ مِنَ المُبالَغةِ المُسَجِّلةِ عليهم باستِحقاقِ أشَدِّ العِقابِ وأَبْلَغِه، ثمَّ قال: فَحَقَّ عِقَابِ أي: فوجَبَ لذلك أنْ أُعاقِبَهم حَقَّ عِقابِهم [187] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/76، 77)، ((تفسير البيضاوي)) (5/25)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/244)، ((تفسير أبي السعود)) (7/217). .
وجيءَ بالمُسنَدِ فِعلًا في قَولِه: كَذَّبَ الرُّسُلَ؛ ليُفيدَ تَقديمُ المُسنَدِ إليه عليه تَخصيصَ المُسنَدِ إليه بالمُسنَدِ الفِعليِّ، فحصَلَ بهذا النَّظمِ تأكيدُ الحَصرِ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/222). .
- وقد حصَلَ تَسجيلُ التَّكذيبِ عليهم بفُنونٍ مِن تَقويةِ ذلك التَّسجيلِ؛ وهي إبهامُ مَفعولِ كَذَّبَتْ في قَولِه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ، ثم تَفصيلُه بقَولِه: إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ وما في قَولِه: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الحَصرِ، وما في تأكيدِه بالمُسنَدِ الفِعليِّ في قَولِه: إِلَّا كَذَّبَ، وما في جَعلِ المُكَذَّبِ به جميعَ الرُّسلِ، فأنتَجَ ذلك التَّسجيلُ استِحقاقَهم عَذابَ اللهِ في قَولِه: فَحَقَّ عِقَابِ أي: عِقابي، فحُذِفتْ ياءُ المُتكلِّمِ؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ، وأُبقيَتِ الكَسرةُ في حالةِ الوَصلِ [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/222، 223)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/338). .
- وتَعديةُ كَذَّبَ إلى الرُّسُلَ بصِيغةِ الجَمعِ -مع أنَّ كلَّ أُمَّةٍ إنَّما كذَّبَتْ رَسولَها- مَقصودٌ منه تَفظيعُ التَّكذيبِ؛ لأنَّ الأُمَّةَ إنَّما كذَّبَتْ رَسولَها مُستَنِدةً لحُجَّةٍ سُفِسْطائيَّةٍ [190] السُفِسْطائيّةُ: فرقةٌ يونانيّةٌ قديمةٌ، وهم أصنافٌ ثلاثةٌ: فمِنهم الَّذين ينفون حقائقَ الاشياءِ كلَّها، ومنهم الَّذين شكُّوا فى وجودِ الحقائقِ، ومنهم مَن ذهَب إلى أنَّ حقائقَ الاشياءِ تابِعَةٌ للاعتقادِ، وصحَّحوا جميعَ الاعتقاداتِ معَ تضادِّها وتنافيها. يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 311)، ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (1/14)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (2/ 1073). والسَّفْسَطَةُ: هي قياسٌ مركَّبٌ مِن الوهميَّاتِ، والغرضُ منه تغليطُ الخصمِ وإسكاتُه. وهي كلمةٌ يونانيَّةٌ معناها: الغلطُ، والحِكمةُ المُمَوَّهَةُ. والغلطُ يقعُ بوجوهٍ كثيرةٍ: مِن جهةِ اللفظِ، أو مِن جهةِ المعنَى، أو مِن طريقِ الحذفِ والإضمارِ، أو في تركيبِ المقدِّماتِ الوهميَّةِ مكانَ القطعيَّةِ إلى غيرِ ذلك. يُنظر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 149)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 118)، ((تاج العروس)) للزبيدي (19/353). هي استِحالةُ أنْ يَكونَ واحدٌ مِنَ البشَرِ رَسولًا مِنَ اللهِ، فهذه السَّفْسَطةُ تَقتَضي أنَّهم يُكَذِّبونَ جميعَ الرُّسلِ [191] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/217)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/222). .
- وقَولُه: فَحَقَّ عِقَابِ أي: تَحقَّقَ وكان حَقًّا؛ لأنَّه اقتَضاهُ عظيمُ جُرمِهم. والعِقابُ: هو ما حَلَّ بكلِّ أُمَّةٍ منهم مِنَ العَذابِ، وهو الغرَقُ والتَّمزيقُ بالرِّيحِ، والغرَقُ أيضًا، والصَّيحةُ، والخَسفُ، وعَذابُ يَومِ الظُّلَّةِ. وفي هذا تَعريضٌ بالتَّهديدِ لِمُشرِكي قُرَيشٍ بعَذابٍ مِثلِ عَذابِ أولئك؛ لاتِّحادِهم في مُوجِبِه [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/223). .
4- قولُه تعالَى: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ
- قَولُه: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ ... كَلامٌ مُستأنَفٌ أيضًا مَسوقٌ لتَقريرِ عِقابِ كُفَّارِ مَكَّةَ بعْدَ بَيانِ عِقابِ مَن سَبَقوهم في الغَوايةِ، وأَضرابِهم مِنَ الأحزابِ الَّذينَ أُخبِرَ فيما سبَقَ بأنَّهم جُندٌ حَقيرٌ مِنهم مَهزومٌ عن قَريبٍ؛ فإنَّ ذلكَ ممَّا يُوجِبُ انتِظارَ السَّامِعِ وتَرَقُّبَه إلى بَيانِه قَطْعًا. وفي الإشارةِ إليهم بـ هَؤُلَاءِ تَحقيرٌ لشأنِهم، وتَهوينٌ لأمرِهم [193] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/218)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/338). .
- قَولُه: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ هَؤُلَاءِ إشارةٌ إلى كُفَّارِ قُرَيشٍ؛ لِأنَّ تَجدُّدَ دَعوَتِهم ووَعيدَهم وتَكذيبَهم يَومًا فيَومًا جَعَلَهم كالحاضِرينَ؛ فكانتِ الإشارةُ مَفهومًا منها أنَّها إليهم، ولِمَا أنَّ أسماءَ الإشارةِ تَقتَضي أنْ يَكونَ المُشارُ إليه مَحسوسًا، أو في حُكمِ المَحسوسِ، أشارَ إليهم باسمِ الإشارةِ هَؤُلَاءِ؛ لاستِحضارِهم بالذِّكرِ، أو لِأنَّهم كالحُضورِ عِندَ اللهِ، مع ما في اسمِ الإشارةِ مِن تَحقيرٍ لهم، فـ هَؤُلَاءِ مُشارٌ به إلى الَّذين أدبَروا عنكَ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص: 2] ، وغايةُ جهدِهم أنْ يَكونوا مِنَ الأحزابِ الَّذين تَحزَّبوا على جُندِنا، فأخَذْناهم بما هو مَشهورٌ مِن وَقائِعِنا ومَعروفٌ مِن أيَّامِنا بأصنافِ العَذابِ، ولم تُغنِ عنهم كَثرَتُهم ولا قُوَّتُهم شَيئًا، ولم يَضُرَّ جُندَنا ضَعفُهم ولا قِلَّتُهم [194] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/76، 77)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/244)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/367)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/223). .
- قَولُه: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فيه وَصْفُ الصَّيحةِ بواحِدةٍ؛ إشارةً إلى أنَّ الصَّاعِقةَ عظيمةٌ مُهلِكةٌ، أو أنَّ النَّفخةَ واحِدةٌ، وهي نَفخةُ الصَّعقِ [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/224). .
- وأُسنِدَ الانتِظارُ إليهم بقولِه: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ في حِينِ أنَّهم غافِلونَ عن ذلك ومُكَذِّبونَ بظاهِرِه؛ فإنَّهم يَنتظِرُ بهم ذلك المُسلِمونَ المَوعودونَ بالنَّصرِ، أو يَنتظِرُ بهمُ المَلائكةُ المُوَكَّلونَ بحَشرِهم عِندَ النَّفخةِ، فلمَّا كانوا مُتعلَّقَ الانتِظارِ أُسنِدَ فِعلُ يَنْظُرُ إليهم؛ لِمُلابَسةِ المَفعوليَّةِ، على نَحوِ: فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة: 21] [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/224). [القارعة: 7] .
- ولَمَّا أَشعَرَ قَولُه: فَحَقَّ عِقَابِ [ص: 14] بتَهديدِ مُشرِكي قُرَيشٍ بعَذابٍ يَنتظِرُهم جَرْيًا على سُنَّةِ اللهِ في جزاءِ المُكذِّبينَ رُسُلَه؛ عُطِف على جُملةِ الإخبارِ عن حُلولِ العَذابِ بالأحزابِ السَّابِقينَ جُملةُ تَوَعُّدٍ بعِذابِ الَّذينَ ماثَلوهم في التَّكذيبِ، وهي قَولُه: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/223). .
- قَولُه: مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ الفَواقُ هي المُدَّةُ الَّتي بيْنَ الحَلْبتَينِ، وهي ساعةٌ قَليلةٌ، والمُرادُ بقَولِه: مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ أنَّه ليس بعدَها إمهالٌ بقَدرِ الفَواقِ، وعَبَّرَ بذلك عن سُرعةِ الأخْذِ وعَدَمِ الإمهالِ، ولو لِمُدَّةٍ يَسيرةٍ، فإذا جاءَ وَقتُها لم تَستَأخِرْ هذا القَدْرَ مِنَ الزَّمانِ، كقَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً [الأعراف: 34] . وقيل غيرُ ذلك [198] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/77)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/367)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/224). .
5- قولُه تعالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ كلامٌ مستأنَفٌ مَسوقٌ لسَردِ أَنماطٍ مِن تَمَحُّلِهم واستِهزائِهم بعْدَ أنْ نزَلَ قولُه تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وحكايةٌ لحالةِ استِخفافِ الكافِرينَ بالبَعثِ والجَزاءِ وتَكذيبِهم ذلك، وتَكذيبِهم بوَعيدِ القُرآنِ إيَّاهُم، فلمَّا هَدَّدَهمُ القُرآنُ بعَذابِ اللهِ قالوا: ربَّنا عَجِّلْ لنا نَصيبَنا مِنَ العَذابِ في الدُّنيا قبْلَ يَومِ الحِسابِ؛ إظهارًا لعدَمِ اكتِراثِهم بالوَعيدِ وتَكذيبِه؛ لِئلَّا يَظُنَّ المُسلِمونَ أنَّ استِخفافَهم بالوَعيدِ لأنَّهم لا يؤْمِنونَ بالبَعثِ، فأبانُوا لهم أنَّهم لا يُصَدِّقونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في كلِّ وعيدٍ حتَّى الوَعيدِ بعَذابِ الدُّنيا الَّذي يَعتَقِدونَ أنَّه في تَصرُّفِ اللهِ. فالقَولُ هذا قالُوه على وَجهِ الاستِهزاءِ، وحُكيَ عنهم هنا؛ إظهارًا لرَقاعَتِهم وتَصلُّبِهم في الكُفرِ. وتَسميتُهم يَومَ الحِسابِ أيضًا مِنَ التَّهكُّمِ؛ لأنَّهم لا يؤْمِنونَ بالحِسابِ [199] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/77)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير أبي السعود)) (7/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/224- 226)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/341). .
- وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ في قَولِه: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ؛ للإمعانِ في الاستِهزاءِ، كأنَّهم يَدْعُون ذلك بكَمالِ الرَّغبةِ والابتِهالِ [200] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/218). .